خلاصة الموقف من المرويات
الحكمة والسنة
الحكمة والسنة
الحكمة هي أصلًا مصطلح قرءاني، والقرءان هو المصدر الأوحد لأمور الدين الكبرى، ومنها بالضرورة المصطلحات القرءانية، لذلك يجب التماس معناها في القرءان الكريم.
يحاول سدنة الدين الأعرابي الأموي وعبيد الآثار والأسلاف أن يزعموا أن الحكمة هي المرويات الظنية، مع أن الحكمة بالأصالة هي سمة إلهية مثلها مثل العلم والقدرة مثلا، ولله تعالى من منظومات أسمائه منظومة أسماء الحكمة، وهي تتضمن الأسماء: الْمَلِك الْقُدُّوس الْعَزِيز الْحَكِيم، الحكيم العليم، الحكيم الخبير، الحكيم الحميد، العزيز الحكيم، العليّ الحكيم، العليم الحكيم، التواب الحكيم، الواسع الحكيم، الحكيم، أحكم الحاكمين، خير الحاكمين.
والحكمة سارية في كل أقوال الله تعالى وأفعاله وكلامه، لذلك كان القرءان حكيما وعليا حكيما: {تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ} لقمان2، {وَالْقرءان الْحَكِيمِ} يس2، {وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ} الزخرف4.
والحكمة أيضا هي ملكة سامية وكمالات زائدة ومعارف راقية يمنّ بها الله تعالى على من شاء من عباده مثلها مثل العلم، قال تعالى: {فَهَزَمُوهُم بِإِذْنِ اللّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ وَلَوْلاَ دَفْعُ اللّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَـكِنَّ اللّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ }البقرة251، {يُؤتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاءُ وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ }البقرة269، {وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ }آل عمران48، {ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ}النحل125، {ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَلاَ تَجْعَلْ مَعَ اللّهِ إِلَهاً آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُوماً مَّدْحُوراً} الإسراء39، هذه الآية تصف التشريعات والأخلاق وقواعد السلوك المذكورة قبلها بالحكمة، وقال: {وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَن يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ }لقمان12، {وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ} ص20، {وَلَمَّا جَاء عِيسَى بِالْبَيِّنَاتِ قَالَ قَدْ جِئْتُكُم بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُم بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ}الزخرف63
وبذلك يتضح أن محاولة الزعم بأن السنة (ويقصدون بها المرويات الظنية) هي الحكمة هي الباطل المحض، وإلزام الناس بطاعة الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ لا تستلزم تحريف معنى مصطلح قرءاني كالحكمة، ذلك لأن الإيمان بالنبيّ الخاتم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ وتعظيم قدره والصلاة والسلام عليه وطاعته من أركان دين الحق، كما أن الحكمة سارية بالفعل في سنته الحقيقية التي هي سنة الله المنصوص عليها في الكتاب العزيز ولكنها ليست سارية بالضرورة في كل ما نسبه الرواة إليه بعد ما لحق بالمرويات ما لحقها.
إنه يجب العلم بأن سنة الرسول الحقيقية هي عين الحكمة العملية، أما المرويات الظنية فهي في أمس الحاجة إلى قرائن وبراهين شرعية ليمكن اعتبارها كمصادر للمعلومات والأمور الدينية.
*******
قال الشافعي: "سمعت من أرضى من أهل العلم بالقرءان يقول الحكمة سنة رسول الله"، ولقد تلقف عبيد المرويات الظنية هذا القول تلقف الغريق الذي يريد أن يتعلق بقشَّة كما يقولون، وهكذا استنادا إلى مجهول مرضي عند الشافعي، ولا يعلمه إلا الشافعي، وبناء على اعتقاده الشخصي فيه زعموا أن السنة -والتي لا تعنى عندهم إلا المرويات الظنية- هي الحكمة المذكورة في القرءان، ذلك لأنهم لم يجدوا نصا قطعي الدلالة في الكتاب العزيز يذكر شيئا عن السنة كما اصطلحوا هم عليها، ولم يجدوا فيه أيضا ما يلزمهم باتباعها.
وكان عليهم أن يعلموا أن عطف الحكمة على الكتاب لا ينفى عنها معناها المعلوم بل يعنى أنها متضمنة فيه، ولقد وصف الله كتابه نفسه بأنه قرءان حكيم وبأنه علي حكيم، {وَالْقرءان الْحَكِيمِ }يس2، {وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ }الزخرف4، ولقد كان الرسول يتلقاه من الله من حيث أنه هو الحكيم العليم: {وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقرءان مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ}النمل6.
فالحكمة سارية في كل آياته بل إن آياته هي عين الحكمة، ولذلك إذا تليت آيات الكتاب فلقد تليت الحكمة، فالحكمة هي آيات الكتاب، وهي فحوى هذه الآيات.
وثمة آيات سماها الله تعالى بآيات الحكمة، وهي موجودة في سورتي الإسراء ولقمان، وثمة سور في القرءان أعلن الله تعالى أنها آيات الكتاب الحكيم مثل سورة يونس وسورة لقمان {الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ} يونس1، {تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ} لقمان2.
والنص المنسوب إلى هذا المرتضى المجهول –الذي رضي عنه الشافعي- ليس بقطعي الدلالة على أن سنتهم (المرويات الظنية) هي الحكمة، ولكنه يعني أن العمل بمقتضي الحكمة هو سنة الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ.
وإلزام الناس بطاعة الرسولصَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ لا تستلزم تحريف معنى مصطلح قرءاني كالحكمة، ذلك لأن الإيمان بالنبي الخاتم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ وتعظيم قدره والصلاة والسلام عليه وطاعته من أركان دين الحق، كما أن الحكمة سارية بالفعل في سنته الحقيقية التي هي سنة الله المنصوص عليها في الكتاب العزيز ولكنها ليست سارية بالضرورة في كل ما نسبه الرواة إليه بعد ما لحق بالمرويات ما لحقها.
إن عطف الحكمة علي الكتاب في بعض آيات القرءان لا يدل على أنها هي السنة التي اصطلحوا عليها ولكنها هي الحكمة التي تتضمنها آيات الكتاب أو التي يدل عليها فحوي خطابه، ولقد نص الكتاب علي أن آيات معينة منه هي الحكمة التي أوحاها الله إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ومن ذلك ما ورد في سورة الإسراء، والحق هو أن محاولة متبعي مذهب المرويات الزعم بأن الحكمة هي السنة ليدل علي المأزق الذي وجدوا أنفسهم فيه وارتياب الناس في أمرهم، ومحاولاتهم التماس دليل من القرءان علي صحة مزاعمهم هو إقرار منهم بأن القرءان هو الأصل فلماذا يحاولون الحكم والقضاء علي الأصل بالفرع؟ ورغم إقرارهم ذلك فلقد رفض شياطينهم حديث معاذ الذي يجعل (السنة) أصلا ثانيا بعد القرءان!!
*******
قال تعالى: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلاَلٍ مُّبِين} [الجمعة:2]
إن عطف الحكمة على الكتاب يعنى الحكمة المنصوص عليها فيه أو التي يتضمنها فحوى خطابه أو يمكن استنباطها منه، وهى أيضا الأنماط السلوكية المترتبة على وجود تلك الصفة لدى الإنسان أو تيقظها عنده والكثير من هذه الحكمة مذكور في سورتي الإسراء ولقمان، فليست الحكمة أمرا آخر مغايرا للكتاب العزيز، وليس كل عطف فيه للمغايرة المطلقة، والآثار المنسوبة إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ إن صحت فإنها تشير إلى سنته وحكمته الباعثة على تلك السنن أو التي تتضمنها السنن ولا بد لها من أصل في الكتاب العزيز، فإن كان ثمة سنة أو حكمة ثبتت بالكتاب الذي هو نص قطعي الثبوت فلا مجال لأن يخالفها أثر منسوب إلى الرسول، فتلك المخالفة إذًا هي من علامات عدم صحة الأثر، ولقد كان من مهام الرسول العظمى أن يتلو عليهم آيات الكتاب ويعلمهم إياها ويعلمهم ما فيها من الحكمة ويزكيهم بها، فكل عمل الرسول أو قوله كان في إطار الرسالة التي حملها للعالمين وهى الكتاب العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
*******
من السنن الكبرى أي من أركان الدين والتي هي أيضا ركن واجب على أولى الأمر إعمال الشورى، لذلك كان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ يعتمد الشورى ويأخذ بها حتى في بعض أموره الخاصة، أما إذا لم يأخذ بها أحيانا فلا بد أنه كان ثمة أمر إلهي أتاه عن طريق الوحي كما كان يثبت دائما، فلا يمكن استشارة الناس في أمر إلهي جلي جاء عن طريق الوحي، وبالمثل لا يجوز لأحد أن يستشير الناس مثلا في أمر إقامة الصلاة مثلا أو صيام رمضان أو في ضرورة الاتصاف بمكارم الأخلاق …. الخ.
*******
يحاول المغضوب عليهم والضالون أن يضربوا بالمصطلحات القرءانية عرض الجدار في سبيل إنقاذ ضلالات أسلافهم، ومن ذلك أنهم يحاولون إلغاء المصطلحات القرءانية الآتية مثل "الحكمة" و"السنة" أو تحريف معانيها، ففي سبيل إنقاذ مروياتهم الظنية وإعطائها الشرعية زعموا أن الحكمة هي السنة هي المرويات الظنية هي الوحي الثاني، وهذا تدليس منقطع النظير وكفر بآيات القرءان لا يمكن أن ينطلي إلا على مغفل أو جاهل أو من هم كالأنعام بل أضل سبيلا، ولذلك يلزم العلم بأن الحكمة هي السمة التي يتم بها إدراك الأمور المحكمة القابلة للتفصيل أو الأمور المجردة المستخلصة من التفاصيل، وهى أيضا سمة جامعة للعلم المثمر النافع وإتقان التدبير وحسن التقدير ووضع كل شيء موضعه ومراعاة المقاصد والغايات والمآلات، فلفظ الحكمة يطلق على السمة وعلى مجال وجماع آثار ومقتضيات تلك السمة.
والحكمة هي التي تحيط بحقائق الأشياء أي بالكيانات الأمرية المحكمة قبل تفصيلها وبعد إتمامها أي قبل تحققها باقترانها بالكيانات الخلقية أو بعد استخلاصها من تلك الكيانات أو من آثار وجودها، أما العلم فهو السمة التي تحيط بالشيء علي ما هو عليه، فهو يحيط أيضا بالأشياء والكائنات من حيث تحققها وتميزها وصدور الآثار عنها، فمعلومات هذا العلم هي نفس الأشياء والكائنات الغيرية بكل لوازمها وتفاصيلها ومقتضياتها وأفعالها، والمجال الأساسي لسمة العلم هو الأمور المفصلة، ووحدة الذات واتسامها بأسماء منظومة الحكمة المقترنة بالعلم أو غيره من السمات تقتضي أن تحيط الحكمة بالكيان المتحقق فتجعل الحقيقة التي أوجبت وجوده هي عين المقصد من إيجاده.
إن السنة هي سنة الله تعالى بالأصالة وهو الذي نسبها إلى العباد من حيث إنهم محال ظهورها ومجال عملها، وهذا هو المعنى القرءاني للسنن، فهي الأحكام والقوانين والقواعد والأسس والسلوكيات والمنطق الذي تتم به معالجة الأمور على المستويات الكونية والإنسانية، فمنها القوانين الحاكمة على الأفراد والمجتمعات والأمم، ومنها السنن الدينية، وهي تختلف عن الحكمة وإن تلاقيا، ذلك لأن العمل بالتوافق مع السنن هو الحكمة العملية، والمصدر الأوحد للمصطلحات الدينية هو الكتاب العزيز.
فمعنى كل مصطلح ديني شرعي إنما يستمد من المصدر الأعلى للمعرفة الدينية وهو الكتاب العزيز
*******
إن سنة الرسول هي العمل بمقتضى ما ورد في آيات الكتاب، فهي تدور مع الكتاب حيث دار، فسنته هي تعليم الناس آيات الكتاب وما تتضمنه من الحكمة والعلوم وتزكية الناس بها والاستجابة لما ورد فيها من الأوامر، والوثائق الباقية من عصره وهي بعض رسائله إلي عظماء عصره كانت استجابة للآية القرءانية: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلا نَعْبُدَ إِلا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ(64)} (آل عمران)، ولم تتضمن إلا تلك الآية؛ أي كانت محض استجابة لها وعمل بها، ولقد زعم بعضهم أن السنة (ويقصد بها ما ورد في كتب المرويات) قد دونت بين يدي الرسول وهذا ما لم يحدث، وهو لم يملِ عليهم إلا آيات الكتاب ورسائله إلي عظماء أقوامهم يدعوهم إلي الإسلام.
*******
إن السنن التي كان يلتزم بها الرسول هي عمله بمقتضى الأوامر القرءانية، أما ما يسمي بالسنن أو النوافل أو الزوائد فهي في الحقيقة أنماط سلوكية وأفعال ثانوية لا إلزام فيها، فالفرق بين ما يسمونه بالفرض وبين ما يسمونه بالسنة هو في درجة الإلزام، فالفرض هو سنة واجبة أو ملزمة، وفي كل الأحوال فإن الإنسان غير مكلف إلا بما هو في وسعه وهو المسئول الأول عن نفسه، كما أن الإلزام أمر نسبي فرُبَّ سنة غير ملزمة تصبح ملزمة لإنسان ما لأنها من لوازم ركن تزكية النفس بالنسبة إليه.
ولذلك أيضا فإن تعريفهم للسنة بأنها هي أقوال الرسول وأفعاله وسيرته وخَلْقه وخُلُقه ثم جعل كل ذلك مرادفا للمرويات الظنية هو أمر متناقض ومتهافت فلماذا استبعدوا القرءان إذًا من حيث الدلالة على السنن؟ إن القرءان أدل على سنة الرسول من المرويات الظنية التي نسبوها إليه وصححها بعض الأفراد المعدودين نتيجة إعمال مقاييسهم ومجهوداتهم البشرية المحدودة.
ولقد قال الله تعالى في كتابه العزيز بعد أن ذكر مجموعة من الأوامر الشرعية {يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ(26)} (النساء)، وهذا نص قطعي الثبوت والدلالة على أن الكتاب العزيز هو مصدر السنن، وكذلك تبين آيات سورة الإسراء إلى الآية رقم 39 أن الكتاب العزيز هو مصدر الحكمة، قال تعالي {ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنْ الْحِكْمَةِ وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَدْحُورًا(39)}، وبذلك يكون المتكسبون الرسميون بالدين هم الذين كفروا بقصرهم السنة على المرويات الظنية الواردة في كتب جامعيها وكذلك بزعمهم أن الحكمة هي السنة التي هي المرويات الظنية وبإنكارهم ما هو معلوم بالضرورة من أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ حمل إلى العالمين كتاب الله العزيز وألزمهم بالتمسك به وألزمهم بالعمل بمقتضيات ما يتضمنه من السنن، وهم لم يكفروا فقط وإنما تمادوا وتصدوا لكل من حاول رد الاعتبار إلى كتاب الله العزيز ورموه بالمروق من الجماعة والملة واتباع غير سبيل المؤمنين وإنكار ما هو معلوم من الدين وخلع الربقة إلي آخر تلك القائمة التي يجيدونها والتي تفوقوا بها علي الهجائين الرسميين والرداحين المأجورين الذين تميزت بهم تلك الأمة وتفوقت علي سائر الأمم، وهم لم يتقوا الله في تلك الأمة التي أوصلوها بتمسكهم بصياغة المغضوب عليهم إلى هذا الحضيض المعلوم والمشهود وقضوا على كل آمالها في أن تسترد مكانتها أو حتى أن تحافظ على كرامتها، وما ذلك إلا بسبب اختزالهم الدين وتحريفه وعدم العمل بأركانه الجوهرية مثل تزكية النفس وبسبب حرصهم على أن يتكسبوا بدينهم وأن يتقمصوا شخصية الكهنوت دون أن يتلقوا الإعداد اللازم لذلك.
إنه بسبب إعراض الناس عن القرءان الكريم وهجرهم له اختلت الموازين وتضخمت الأمور الثانوية الجزئية على حساب الأمور الرئيسية الكلية، وهكذا صارت أمور كاستعمال السواك وارتداء الجلباب القصير وارتداء المرأة لما يسمى بالنقاب والحرص على الدخول بالقدم اليمنى أعز عليهم من القيام بالقسط والحكم بالعدل وذكر الله وتقوى الله وتزكية النفس والإنفاق في سبيل الله والانتهاء عن كبائر الإثم والفواحش والتصدي لأهل البغي واحترام حقوق وكرامة الإنسان.
ولقد شعر بعضهم بحاجة مزاعمهم ومصطلحاتهم إلى إثبات قرءاني فعزَّ عليهم ذلك فزعم بعضهم أن السنة هي الحكمة المذكورة في القرءان، وحاول بعضهم ليَّ عنق بعض الآيات واستنطاقها بما اصطلحوا عليه، وهذا بالفعل هو التفسير بالرأي أو بالهوى الذي نهوا عنه، أما البعض الآخر فقد لجأ إلى الغش والإدراج والتزوير مثلما فعل من أضاف كلمة (وسنتي) إلى خطاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ في حجة الوداع والتي أعلن فيها للناس كافة أنه ترك فيهم ما إن تمسكوا به فإنهم لن يضلوا أبدا وهو كتاب الله وحده.
ولكن لماذا كان حرصهم على المرويات الظنية ولماذا عضوا عليها بالنواجذ ودافعوا عنها بشراسة قادتهم إلى ما هو قريب من الكفر أو الشرك؟ لقد شعروا دائما بضعف حجتهم وحرج موقفهم خاصة وأن آيات الكتاب كانت تدحض مزاعمهم وتقف بالمرصاد لهم ولم يجرؤوا على أن يبدلوا منها شيئا أو أن يحرفوا فيها؛ فهم لم يستطيعوا أبدا الارتقاء إلى المستوى القرءاني بعد انقضاء عصر النبوة، لذلك وجدوا أن المرويات الظنية تتيح لهم فرصة التملص من الإلزامات القرءانية التي لا تتفق مع أهوائهم وتقاليدهم وتتيح لهم فرصة صياغة الدين كما يحلو لهم، أما الفريق الأكثر تقوى فوجدوا في المرويات ظنية ما يتيح لهم صياغة الدين بحيث يمكن الناس من التعايش مع النظم الطاغوتية المجرمة التي تسلطت على أمور الأمة بعد انتهاء عصر الخلافة والتي أبت إلا أن يتجمع في أيديها من السلطات والأموال ما يفوق ما كان لدى كسري وقيصر وفرعون وهامان وقارون مجتمعين، أما هؤلاء المتسلطون على الأمر فوجدوا ضالتهم في تلك الصياغة التي استخلصها لهم الكهنوت من المرويات الظنية، فلقد تكفلت تلك الصياغة بإخضاع الناس لهم خضوعا مطلقا بل وبالدعاء لهم مهما فعلوا وبالطبع لم يكن هؤلاء مسؤولين أمام شعوبهم، وأحلتهم الصياغة من كل ذلك وحملت الناس وهم الضحايا مسؤولية الجرائم التي يرتكبها هؤلاء المتسلطون في حقهم ومسؤولية إفسادهم في الأرض.
وهكذا اختزل الدين الذي أُنزل بالحق والميزان ليقوم الناس بالقسط والذي يأمر بالعدل والإحسان وتم تحريفه ليكون مجردأداة لترسيخ القهر والظلم والاستبداد وللقضاء على أمل الأمة في أي إصلاح مرتقب وصار أقصي ما تطمع فيه هو انتظار المهدي ليملأها عدلا بعد أن ملئت ظلما وجورا أو انتظار نزول المسيح ليكسر الصليب وليقتل الخنزير وليبيد كل أعداء المسلمين وكل الملل والنحل الأخرى وليلغي القبول بالجزية وليخير الناس بين أمرين فقط: الإسلام أو السيف، وصار كل ما هو مطلوب من المسلم هو مجرد التلفظ بالشهادة ليضمن بذلك لنفسه الجنة مهما اقترف من كبائر الإثم فلقد ادخرت لمثله الشفاعة، أما الذي يريد المزيد فغاية المراد منه أن يقوم بالأداء الشكلي للشعائر المعلومة وأن يضرب أرقاماً قياسية في القيام بها، أما المتسلطون على الأمر فلقد صار يوصف أحدهم بالتقوى إذا ما استخدم بعض أموال الأمة التي نهبها لحفر بعض الآبار في طريق الحجيج أو لبناء مسجد.
ولقد وجد الأعراب في الدولة الأموية التجسيد الحي لمطامعهم ومنظومتهم المعنوية والثقافية، فلم يكن من الممكن أن يقبل هؤلاء بالتخلي عن عاداتهم وتقاليدهم ولم يكونوا ليقبلوا أبدا بأن يتساووا مع أهالي البلاد المفتوحة حتى وإن أسلموا، فالأعرابي كان يحتقر الحِرف؛ الزراعة والصناعة والبناء ... الخ ويتركها للأعاجم أو من أسموهم بالعلوج وكان يحتكر لنفسه أمور التجارة والإدارة والحرب والسطو على نتاج عمل الغير وسفك الدماء وسبي النساء والإفساد في الأرض.
إن الإسلام أُنزل ليقوم الناس بالقسط وليحكموا فيما بينهم بالعدل وليؤدوا الأمانات إلى أهلها ولكيلا يتخذ بعضهم بعضا أربابا من دون الله تعالى، ولهذا كانت تلك الأمة التي أخرجت للناس، فالإسلام لم ينزل والأمة الخيرة لم تُخرج للناس لتستبدل بكسرى فارسي أو بقيصر روماني من هو شر منهما من العرب أو من قريش التي كان منها أيضًا أئمة الكفر والشرك.
*******
1