top of page

المسيح الحقيقي

دحض خرافة عودة المسيح في نقاط محددة

1. العقيدة لا تثبت إلا بنص محكم قطعي الثبوت والدلالة، ولا يوجد في القرءان أي نصٍّ محكم قطعي الدلالة يقول بأن المسيح قد رُفع بجسمه حيا إلى السماء، ولا أنه لم يمت، ولا أنه حي بجسمه الآن عند ربه، ولم يجمع المفسرون أبدًا على ذلك، وحتى من يعبدونه من النصارى يقرون بأنه مات ثم قام من بين الأموات، أما اليهود فالمسيح عندهم لم يُولد بعد، وينفرد فقط المحسوبون على الإسلام عن العالمين بالإيمان بعقيدة كهذه، فهم الطائفة الوحيدة التي تؤمن بأن المسيح لم يمت، وبأنه رُفِع بجسمه حيا إلى السماء!! فهم قد تفوقوا هاهنا في الضلال على العالمين، وهذه العقيدة تجعلهم تلقائيا مجسمين مشبهين ومقيدين لربهم بالمكان والزمان؛ فهي تقوض إيمانياتهم، وتضربهم بالخلل في التصور والإدراك.

2. ولا يوجد في القرءان أي نص قطعي الدلالة يقول بأن المسيح سينزل إلى الأرض ليحقق السلام التام وليلغي كل الأديان فلا يبقى إلا الإسلام وليغير النظام الكوني الذي قدَّره الرحمن، وإنما هم يحاولون عبثا ليّ عنق آيتين قرءانيتين لتقولا بذلك، وذلك هو زيغ المبطلين، ولم يكن القرءان ليطالب الناس بالإيمان بأمرٍ هائل كهذا بدون أن يذكره صراحة كما حدث في شأن يأجوج ومأجوج.

3. مروية نزول المسيح متعارضة أصلًا مع عقيدة إيمانية راسخة هي عقيدة ختم النبوة، ولا يوجد في المروية أي قول بأنه لن يكون رسولا نبيا، بل يوجد ما يؤكد أنه سيكون كذلك وأكبر من ذلك، فالمروية تنسب إليه أفعالا نبوية بل إلهية، فهو لن يغير فقط شرائع دينية بل سيغير قوانين وسننا كونية، ألن يُلغي حرية الإيمان؟ ألن يلغي الجزية بمعنى أنه سيقتل من أبى الإسلام؟ ألن يغير قوانين الوجود وسننه؟ فلا معنى للقول بعد ذلك بأنه لن يكون نبيا بصفة مؤقتة، هو نبي ويقوم بأفعال نبوية بل إلهية؛ فكيف لا يكون نبيا؟ وما يقدمونه من تفسير من أنه لن يكون نبيا إنما هو قول مختلق لمحاولة تمرير المروية الكفرية المتناقضة مع عقيدة ختم النبوة القرءانية، فلا قيمة لقولهم، فالمروية متعارضة مع أصل قرءاني راسخ، لذلك لا يجوز إقحامها في الدين الإسلامي أصلا.

4. ولو بطلت عقيدة ختم النبوة لكان الناس ملزمين بالبحث الجدي في دعاوى كل من ادعى النبوة مثل الباب والبهاء والقادياني .... الخ.

5. مروية نزول المسيح متعارضة أصلا مع نصوص قرءانية قطعية الدلالة تمنع إكراه الناس على الإيمان وتقرر حرية الإنسان في ذلك وتبين أن الفصل فيما يتعلق بهذا الأمر لن يحدث إلا في يوم الدين؛ يوم الفصل، فالمروية تنص على أنه لن يقبل (الجزية) من اليهود والنصارى، وسيقضي على اليهودية والنصرانية.

6. مروية نزول المسيح تقول إنه سيقتل الخنزير ويكسر الصليب، ودين الحق يمنع الإفساد في الأرض ويمنع إهانة رموز الآخرين الدينية، ولا يوجد بين المسلمين وبين الخنزير ثأر شخصي ليصبح قتله أمنية يتمنون أن ينزل المسيح ليحققها! كل ما في الأمر أن أكلها محرم عليهم، وهذا في صالح الخنازير على أية حال، وعلى العموم فمصر في عهد مبارك قضت على كل خنازير مصر بضربة واحدة رغم احتجاجات بريجيت باردو وجمعيات الرفق بالحيوان، ولم يخلق الله تعالى أي شيء بما في ذلك الخنازير عبثا، وليس من حق أحد بعد ختم النبوة إبطال شريعة دين الحق، أما إذا قالوا إنه سيفعل بصفته نبيا يوحى إليه فإنهم يكونون قد كفروا بعقيدة ختم النبوة.

7. مروية نزول المسيح تستعمل مصطلح الجزية بالمعنى الذي كان مستعملا في العصور الوسطى والذي أخذ به المسلمون من بعد العصر النبوي، وهذا المعنى لا علاقة له بالمعنى القرءاني، فالجزية هي غرامة حربية يدفعها المعتدون على المسلمين مقابل إنهاء القتال، ولا تؤخذ من الناس مقابل تركهم على دينهم، فهذا حق من حقوقهم قرره الله لهم، ولا يجوز لأحد أن ينهب أموال الناس مقابل تركهم يمارسون حقا قرره الله لهم، أما تنظيم التعايش بين المسلمين وبين غيرهم في كيانٍ واحد فهو أمر آخر يخضع لعقد مرتضى من الجميع ومتفق عليه يعبر عن قيم الإسلام العليا التي هي أيضا القيم الإنسانية العليا مثل الحكم بالعدل والقيام بالقسط وأداء الأمانات إلى أهلها والبر والتواصي بالحق والتعاون البناء المثمر.

8. مروية نزول المسيح مرتبطة بقصة المسيح الدجال، وما ورد فيها كافٍ تمامًا لتقويضها، ومن سخرية واضع المروية بالمحسوبين على الإسلام وثقته بسذاجتهم وضحالتهم أن أعطاهم علامة حتى يميزوا ربهم عن المسيح الدجال، وهي أنه ليس بأعور!!!!!!!؟؟؟؟؟؟!!!!!!! وهذا القول يتضمن تسليم المروية والمسلمين بأن الإله شخص مثل البشر!!!!!!! وأنه يتميز عن الدجال بأن عيونه سليمة!!!!!!!!!!!!!!!!!

9. ولا يوجد في القرءان أي نص قطعي الدلالة يقول بأن المسيح سيعود لينسخ بعض أحكام الرسالة الخاتمة ولا ليغير النظام الكوني وليحقق السلام والسعادة على الأرض، حتى ترعى الوحوش آكلات اللحم مع آكلات العشب ويلعب الصبية بالحيات، وآيات القرءان تدحض بقوة هذا الزعم وكل ما يترتب عليه، هذا مع العلم بأنه لا يوجد رابط ضروري بين عودة المسيح وبين رفعه بجسمه حيا إلى السماء، وهذه العقيدة تتنافى مهما دجَّلوا مع عقيدة ختم النبوة وتتضمن ترجيح تدبير بشري على السنن الإلهية الكونية، ومن المعلوم أن كل ذلك مأخوذ مع بعض التحريف من سفر أشعيا.

10. مروية نزول المسيح تزعم أنه لن يكون في عهده إلا المسلمون، من بعد أن يهلك غيرهم، والحق أن الأمر سيكون الأمر كما قال الله تعالى:

{وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118) إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (119)} هود، {وَلَوْ شِئْنَا لآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِين} [السجدة:13]، ولن يتم الفصل بين الناس إلا في يوم الفصل، {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيد} [الحج:17]،

ولن يتحقق عالم الأمن والسلام إلا للمؤمنين المخلصين في الجنة.

11. وسنن الله لا تبديل لها ولا تحويل، والقرءان ينص على ذلك، قال تعالى:

{سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً} [الأحزاب:62]، {سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً} [الفتح:23]، {...فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلاً} [فاطر:43]،

والنظام الكوني الذي وضعه وقدَّره ثابت، وعلى كل من يقول بخلاف ذلك أن يأتي بالبرهان والدليل، ولا برهان بالطبع ولا دليل.

12. من أسباب وضع هذه العقيدة أن تحلّ الناس من الالتزامات الثقيلة، إن المحسوبين على  الإسلام بدلاً من أن يبحثوا عن أفضل السبل للقيام بأركان دينية كبرى مثل أداء الأمانات إلى أهلها والحكم بالعدل والقيام بالقسط والانتصار من أهل البغي فإنهم استناموا إلى هذه العقيدة الوهمية، فأوكلوا كل ما يجب أن يقوموا به من أوامر الدين الكبرى إلى مسيح منتظر مزود بآيات لم يسبق لها مثيل، يحكم الناس ويحقق السلام ويرعى في عهده الأسد مع الإبل والذئب مع الغنم ويلعب الصبية بالحيات ويظهر من الآيات ما لم يأت به خاتم النبيين نفسه، هذا مع أن الله تعالى قد أبى أن ينزل في العصر النبوي على الناس مِن السَّمَاء آيَةً تظل أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِين، ومن يقرأ القرءان يدرك جيدا أنه نسخ عملية تأييد الدين بمعجزات حسية مادية بعد أن تبين الرشد من الغي واكتمل الدين وأن آيات القرءان هي البينات الكافية لمن أراد الحق.

13. والقرءان هو المصدر الأوحد للغيب الذي يجب الإيمان به، وقد ذكر كل الأمور الغيبية التي يجب الإيمان بها بطريقة بيِّنة لا لبس فيها ولا غموض، ولم يرد فيها أي ذكر لنزول المسيح من السماء إلى الأرض، ولقد حاول الضالون والمبطلون دائما، ولكن عبثا، ليّ عنق الآيات لاستنطاقها بموضوع نزول المسيح، والحق هو أن الآيات التي حاولوا معها ذلك لها معانيها المحكمة الأخرى، ولا يمكن أن تدل بطريقة قطعية على ما يريدونه منها، والدليل إذا تطرق إليه الاحتمال بطل به الاستدلال.

14. موضوع نزول المسيح عليه السلام مقترن بالزعم بأنه رُفع بجسمه حيًّا إلى السماء وأنه لم يذق الموت أبدا، هذا رغم أن ربه توفاه كما ذكر في القرءان، وهذا الزعم منهم يتضمن كفرا بآيات القرءان التي تنص على أن الله تعالى قد توفَّاه ورفعه إليه، وهذا ما يحدث مع كل الأنبياء والرسل، فالله سبحانه يتوفى الأنفس أي يستوفيها ويقبضها ويستخلصها من جسمها، هذا التوفي هو الذي يترتب عليه الموت لا محالة، والله تعالى عندما يقول إني متوفيك إنما ينسب إلى نفسه أفعال الملائكة الموكلين بذلك باعتبارهم آلاتِه وأدواتِه، ولذلك يُضاف الفعل إليهم أحيانا، قال تعالى:

{وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُم حَفَظَةً حَتَّىَ إِذَا جَاء أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لاَ يُفَرِّطُون}[الأنعام: 6 [،{قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُون} [السجدة:11]،

لاحظ اقتران مجيء الموت بالتوفي، فالتوفي والموت مقترنان ما لم يأت ما يخصص التوفي بأنه مؤقت.

15. والرفع إلى الله سبحانه ليس له أية دلالة مكانية، فهو سبحانه ليس مقيدا بمكانٍ ما، والأعمال الصالحة مثلا تُرفع إليه، فليس للرفع إلى الله ولا للهجرة إلى الله ولا للذهاب إلى الله أية دلالات مكانية، ومن ظن أن للرفع أية دلالة مكانية فقد أساء الظن بربه وقيده بالمكان، ولله سبحان العلو والتعالي المطلق فوق كل الأطر المكانية الزمانية وفوق كل المفاهيم والتصورات المستخلصة من هذا العالم المادي، ومنها مفهوم المكان، ولم ترد كلمة "السماء" في النص لكي يقولوا إن الرفع قد حدث إليها، والرفع له معانٍ عديدة، قال تعالى:

{أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضاً سُخْرِيّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ}الزخرف32،{وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَك}[الشرح:4]،

أما إسناد أحرف الجر إلى الله تعالى فليس كمثله إسنادها إلى غيره، قال تعالى فيما يقصه عن إبراهيم ولوط عليهما السلام:

{وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِين} [الصافات:99]، {فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيم}[العنكبوت:26]،

فهما هاجرا من مكانٍ إلى مكان كما ذكر القرءان، فهما هاجرا إلى الأرض التي بارك الله فيها للعالمين، ولا يعني ذلك بالطبع أن الله سبحانه محصور في المكان الذي هاجرا إليه.

16. ورغم أن الآيات تقول:

{إِذْ قَالَ اللّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُون} [آل عمران:55]، {بَل رَّفَعَهُ اللّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا} [النساء:158]

فهم مصرون على أن المعنى هو أن المسيح حيٌّ بجسمه الآن في السماء، وهذا يعني أنهم يعتبرون أن السماء مكان، وأن الله فيه، والحق هو إن الإنسان يمكن أن يكون بجسمه في الأرض وهو مع الله وعند الله، هذا مع العلم بأن كلًّا من المعية والعندية عامة، وخاصة، فلله تعالى الإحاطة التامة بالمكانة وبالمكان، مع العلو المطلق عليهما في الآن، وهم بالطبع لا يعرفون ماذا تعني هذه السماء، والجسم الطيني للإنسان لا يمكن أن يوجد إلا في ظروف مشابهة لهذه الأرض، ويحتجون بأن الرسول قد التقى عيسى في السماء أثناء المعراج، وهذه حجة عليهم، فلا توجد خصوصية لعيسى في ذلك، فقد التقى أنبياء كثيرين طبقا للمروية، والتقى بعضهم في سماوات أعلى من السماء التي التقى فيها عيسى، ولم يرد أبدا أنهم لم يُتوفوا أو إنهم رفعوا بأجسامهم الترابية إلى ربهم، وما سرى على خاتمهم -وهو معلوم بالضرورة- سرى عليهم جميعا، أما إذا كان المقصود بالسماء أحد العوالم اللطيفة فهي لا تحتمل وجود جسم طيني فيها أصلا، ومن المعلوم أن عيسى عليه السلام -مثل غيره- مخلوق من تراب مثلما، قال تعالى:

{إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثِمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُون} [آل عمران:59].

17. ورغم أن الرفع جاء بعد التوفي إلا إنهم مصرون على تجاهل قوله تعالى "متوفيك"، ومن معاني "الرفع" بعد مكرهم به ألا يصلوا إليه، فبمقتضاه لن يكون في متناول أيديهم He will not be accessible to them، وكونه كذلك يشمل نفسه وجسمه، فهم لم يتمكنوا من النيل منه بأية صورة من الصور.

18. ولقد أقرّ المسيح في آيات قرءانية محكمة بأن صلته بقومه انقطعت تماما بعد أن توفاه الله تعالى، وأنه منذ أن توفاه الله تعالى إلى أوان الإدلاء بشهادته أثناء استجوابه يوم القيامة لم يعاود الاتصال بهم أبدا ولم يعد شهيدا أو رقيبا عليهم، وبالتالي فهو لم ولن يلغي حكم الجزية ولم ولن يخيرهم بين الإسلام أو القتل كما تشير إلى ذلك الخرافة ولم ولن يكسر الصليب أو يقتل الخنزير، ولو كان قد فعل شيئا من ذلك لذكره عند استجوابه أمام ربه! أو لما كان هناك معنى لاستجوابه أصلا! ولو فعل شيئا من ذلك لكان معناه أنه نسخ بعض أحكام الشريعة الإسلامية وأنه هو خاتم النبيين مما يتعارض مع عقيدة ختم النبوة، وبالتالي فخرافة عودة المسيح تتناقض تماما مع ما يقرره القرءان الكريم.

19. والنبي عيسى عليه السلام يكاد يكون النبي الوحيد الذي ذكر القرءان بكل صراحة ووضوح أن الله تعالى توفاه ورفعه إليه، مع أن هذا هو حال كل الرسل والأنبياء وغيرهم حتى لا يكون لأحد عليه حجة، وقد ذكر المسيح في آية محكمة في القرءان أن صلته بقومه انقطعت بعد أن توفاه الله تعالى، ولا جدوى من محاولة صرف الآيات القرءانية عن معانيها لتتوافق مع خرافة من خرافات أهل الكتاب.

20. الفعل يتوفَّى في القرءان يرد بمعنى قبض أو استيفاء النفس من الجسم، مع بقاء الجسم بالطبع في بيئته الطبيعية وهي الأرض، قال تعالى:

{وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُم بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُّسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُون}[الأنعام:60]، {اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُون} [الزمر:42]، {إِذْ قَالَ اللّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُون} آل عمران: 55، {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي شَكٍّ مِّن دِينِي فَلاَ أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ وَلَـكِنْ أَعْبُدُ اللّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِين} [يونس:104]،

فالتوفي مفعوله الحقيقي الأنفس فقط، مهما كان المخاطَب، وذلك يعني أن يَتَوَفَّاكُم = يتوفى أنفسكم، ولا دخل للجسم في هذا الأمر، والمخاطب من الإنسان هو نفسه لا جسمه، وسواء أكان التوفي مؤقتا كما هو الحال بالليل أو دائما كما هو الحال عند الموت فلا دخل للجسم بهذا الأمر، فهو يظل حيث كان، والنفس هي التي يمكن أن تُرفع إلى الله بالمعنى اللائق، وآية الزمر:42 تبيِّن أن الله تعالى إذا كان قد قضى على الإنسان الموت يمسك النفس، أما إذا لم يكن أجله المسمى قد حان فإنه يرسلها، وفي كلتا الحالتين فالجسم يظل في مكانه حالة التوفي؛ أي في هذه الأرض، ولا يجوز أن يُطلق عليه لقب إنسان بدون النفس التي هي الكيان الجوهري المخاطب والمكلف، ولم يرد أبدًا أن التوفي يعني رفع الإنسان بجسمه حيا إلى السماء، وآية آل عمران: 55 لا تقول بذلك أبدا، وليس للرفع إلى الله تعالى أية دلالة مكانية، فالنفس ليست بكيان مادي، أما الجسم بدون النفس فهو عند الله أينما كان هذا الجسم، فالله تعالى ليس منحصرا في مكان معين في هذا الكون المادي الطبيعي، ولكن الناس لم يتحرروا من تصوراتهم المادية الصبيانية عن ربهم، والمقتولون في سبيل الله أحياء بالفعل عند ربهم يُرزقون، هذا رغم أن أجسامهم أو بقاياها هنا في هذه الأرض، فلا يتصور أحد أنهم موجودون في حديقة بجوار بيت مادي يقيم ربهم فيه! ورفع المسيح إلى الله لا يعني أن الله قد رفعه بجسمه حيا إليه، وهذا المعنى لا علاقة له بأي معنى للرفع ومشتقاته في القرءان، فأقوى من كلمة "رفعه" ما ورد في حق "الذين قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ" فقد نص القرءان أنهم بالفعل "أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ"، قال تعالى:

{وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169) فَرِحِينَ بِمَا آَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (170) يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ (171)} آل عمران،

فها هي آيات تنص نصا صرحا بلا حاجة إلى أي تأويل أن الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ليسوا أَمْوَاتًا، بل إنهم أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ، هل ثمة ما هو أقوى وضوحا من ذلك؟ ومع ذلك فلا يشك أحد أن أجسامهم مدفونة بالفعل في الأرض!!!وما حدث مع المسيح هو ما يحدث مع كل من أنعم الله عليهم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ، حيث يتوفاهم الله تعالى ويرفعهم إليه، ولكن خصوصية المسيح هو أنه كان في كهولته؛ أي في ذروة قوته واكتماله، فلم يكن قد بلغ من الكبر عتيا، ولم يوجد سبب ظاهر ليكون سببا في موته، فكان النص على الرفع تكريما له حتى لا يظن أحد أن ذلك كان من باب النقمة، ولابد أنه أخبر الحواريين بذلك حتى لا يظنوا به الظنون، وفي كل الآيات التي ذكر فيها التوفي فالمقصود بها هو توفي النفس، فالتوفي في الليل أو غيره أي التوفي مطلقًا هو إمساك النفس، ولا ترسل النفس ثانية إلا إذا كان الإنسان لم يقضَ عليه بالموت بعد، ولا شأن للجسم بهذه المسألة أبدا، فالموت هو توفي الإنسان؛ أي استيفاء نفسه مع إمساكها وورود الفعل "توفي" أو مشتقاته في القرءان مقترنة بالموت وما يترتب عليه من أحكام شرعية عديدة، ولكن أهل الباطل يحاولون دائما فرض باطلهم على القرءان! قال تعالى:

{قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي شَكٍّ مِّن دِينِي فَلاَ أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ وَلَـكِنْ أَعْبُدُ اللّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِين} [يونس:104]، {وَاللّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لاَ يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا إِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ قَدِير} [النحل:70]، {قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُون} [السجدة:11]، {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِير} [البقرة:234]، {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِّأَزْوَاجِهِم مَّتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِيَ أَنفُسِهِنَّ مِن مَّعْرُوفٍ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيم} [البقرة:240]، {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ أُوْلَـئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُم مِّنَ الْكِتَابِ حَتَّى إِذَا جَاءتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قَالُواْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ قَالُواْ ضَلُّواْ عَنَّا وَشَهِدُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُواْ كَافِرِين} [الأعراف:37]، {وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُواْ الْمَلآئِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُواْ عَذَابَ الْحَرِيق} [الأنفال:50]، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِن مُّضْغَةٍ مُّخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِّنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الأَرْحَامِ مَا نَشَاء إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنكُم مَّن يُتَوَفَّى وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلاَ يَعْلَمَ مِن بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا وَتَرَى الأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاء اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيج} [الحج:5]، {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخًا وَمِنكُم مَّن يُتَوَفَّى مِن قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلاً مُّسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُون} [غافر:67]،

من كل هذه الآيات يتضح أن التوفي هو ما يضاد الرد إلى أرذل العمر أو البقاء إلى الشيخوخة؛ أي هو ما يضاد البقاء الدنيوي المعلوم، فهو إمساك النفس المؤدي إلى الموت والذي بسببه تصبح أملاك الإنسان الدنيوية حقا لورثته ويمكن لامرأته أن تزوج، أما الرفع بعد التوفي فهو ما يحدث لكل عباد الله الصالحين تكريما لهم، وقد اقتضى ما حدث لعيسى عليه السلام أن يرد نص به، وهذا النص لا ينفيه عن غيره ولا يبرر ادعاء أنه لم يمت مثل من خلوا قبله من الرسل.

21. قال تعالى:

{إِذْ قَالَ اللّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُون}آل عمران: 55،

واللفظ (متوفيك): لا يعني إلا التوفي المقترن بالموت، ولا تعني منيمك أو رافعك رفعا وافيا بجسمك الترابي كما يزعم البعض، فكلمة "التوفِّي" مفعولها النفس فقط، ولا شأن لها بالجسم، ولا تعني هنا إلا قبض النفس المفضي إلى الموت، ولا يوجد ما يستدعي صرفها عن معناها، ولا يوجد أي مثال ينافي هذه القاعدة في القرءان أو فيما هو منسوب إلى النبي أو في كلام العرب، وقد وردت مشتقات كلمة توفَّى (تفعَّل) في القرءان الكريم عددا كبيرا من المرات مقترنة بالموت أو مؤدية لمعناه، وهي لا ترد أبدا بمعنى النوم، ولا تعني أبدا إلا استيفاء النفس من الجسم، وهناك استيفاء مؤقت، وهو يحدث عند النوم كما في الآيتين 61 من سورة الأنعام، وفي الآية 43 من سورة الزمر، ولم تأت في أيٍ منها بمعنى قبضه وافياً بجسمه، وحتى ذلك التوفي بالليل الذي يحدث عند النوم لا يعني أبدا رفع الجسم حيا إلى السماء، أما في الآيات القرءانية الكثيرة الأخرى فهو مقترن بالموت المترتب عليه أحكامه، فالزعم بأن معنى  "توفى" قبضه وافياً بجسمه هو معنى أحدثه المضلون ليتلاءم مع الخرافة المقررة سلفا، وفي كل المعاجم العربية المختلفة يتأكد هذا الكلام، فقد جاء فيها "توفاه الله: إذا قبض روحه (في الأصح نفسه)"، وقد ورد في كتب المرويات فعل التوفي بمعنى الموت ولم يرد له معنىً غيره: فقد روى البخاري في صحيحه عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: "تُوفي رسول الله وما في بيتي من شيء يأكله ذو كبد إلا شطر شعير في رف لي فأكلت منه...."، كما أخرج عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: "تُوفي النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في بيتي وفي يومي وبين سحري ونحري ....."، وقد ورد عن ابن عباس في صحيح البخاري في كتاب التفسير عند تفسير الآية السابقة حيث قال ابن عباس: متوفيك: مميتك، فالآية قطعية محكمة في دلالتها على موت عيسى عليه السلام، والحديث التالي الوارد في البخاري يثبت أن التوفي غير المقيد بأية قرينة مقترن بالموت: [4349] حدثنا أبو الوليد حدثنا شعبة أخبرنا المغيرة بن النعمان قال سمعت سعيد بن جبير عن بن عباس رضى الله تعالى عنهما قال خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا أيها الناس إنكم محشورون إلى الله حفاة عراة غرلا ثم قال

{... كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِين}،

ثم قال ألا وإن أول الخلائق يكسى يوم القيامة إبراهيم ألا وإنه يجاء برجال من أمتي فيؤخذ بهم ذات الشمال فأقول يا رب أصيحابي فيقال إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك فأقول كما قال العبد الصالح:

{وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَّا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيد}

فيقال إن هؤلاء لم يزالوا مرتدين على أعقابهم منذ فارقتهم، فهذه المروية ذات الأصل الصحيح تحسم الأمر تماماً، فالتوفي غير المقيد بأية قرينة مقترن بالموت، وبالتالي انقطاع التأثير على من يضلون وبالتالي عدم المسئولية عن ضلالهم والعربي بالسليقة يفهم من القول "توفاه الله" أنه أماته، لا ريب في ذلك، فالتوفي بدون بيان وقرينة صارفة كما في آية الزمر مفضٍ إلى الموت لا محالة، وفي الحقيقة الآية واضحة تماما لولا إصرارهم على ليّ عنقها لاستنطاقها بخرافاتهم، ولو كان الرفع يعني رفعه بجسمه كما هو إلى الله تعالى لما كان لكلمة "متوفيك" معنى ولاكتفى بالقول "وَرَافِعُكَ إِلَيَّ".

22. يقولون إن معنى: "إني متوفيك" أي "قابضك بكاملك" وبالتالي فالآية عندهم تعني: "قابضك بكاملك ورافعك إلى السماء بجسمك"، هذا المعنى لم يرد أبدا، وقولهم إنما هو تدليس وتلفيق، فالذي يُتوفى هو النفس وليس الجسم، أما الجسم فيبقى مكانه أثناء التوفي، وهذه النفس قد تعود للجسم، وقد لا تعود، أما الجسم الترابي فلا مكان له إلا هذه الأرض، بل لا معنى له بدون هذه الأرض، والتوفي الذي يحدث بالليل هو توفي النفس مع بقاء الجسم مُلقى في مكانه الأرضي، ولا يعني أبدا رفع الإنسان بجسمه حيا إلى السماء، والتوفي المذكور في الآية هو التوفي النهائي المقترن بالموت، ذلك لأنه لم تأت أية قرينة صارفة عن المعنى المعلوم، ولو كان التوفي هو المقصود عند النوم لكان معناه أن نفسه أخذت وانفصلت عن الجسم انفصالا مؤقتا، فالذي يتبقى هو الجسم، هذا الجسم لا يُخاطب كإنسان، وإنما الذي يخاطب كإنسان هو النفس! فالنفس هي التي رفعها الله إليه، فلآية لم تتعرض لموضوع الجسم مطلقا!! ولم ترد كلمة "السماء" في النص مطلقا، ولكنهم أضافوها لظنهم أن الله سبحانه موجود في مكان اسمه "السماء"!!

23. لو كانت الآية تعني "قابضك بكاملك ورافعك إلى السماء بجسمك" لكان من الممكن الاكتفاء بالقول: "إني رافعك إليّ" فقط، ولكان لا محلّ للقول "إني متوفيك".

24. استعمال الجملة الإسمية للإخبار عن واقعة مستقبلية هو تأكيد شديد على الحدوث الحتمي لها بالنسبة للمخاطب، والجملة الاسمية نفسها، بالإضافة إلى ذلك، مؤكدة تأكيدا شديدا، واسم الفاعل "مُتوفِّي" مستعمل في الجملة هنا للتعبير عن فعل مستقبلي قريب مؤكد تأكيدا شديدا، والمفعول به هو المخاطب، والجملة مطلقة، لا تقييد فيها، فالتوفي فيها هو التوفي المعلوم.

25. لقد تُوفِّي السيد المسيح التوفي الذي سأله يوسف عليه السلام عندما قال:

{رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَنتَ وَلِيِّي فِي الدُّنُيَا وَالآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ }يوسف101،

وهو نفس التوفي المذكور في الآية الآتية:

{مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدا مَّا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} المائدة117،

ولو كان قد نزل وفعل ما نسبوه إليه لأشار إليه ولو بإيجاز أو لما كان ثمة مجال للاستجواب أصلا، وآية المائدة 117 نصٌّ قطعي الدلالة على أن المسيح تُوفِّي مرة واحدة وليس مرتين أو أكثر، أما الضالون من نصارى المسلمين فيجعلونه قد توفي مرتين.

26. وهل كان هؤلاء يريدون أن يقول الله تعالى لرسوله في موقف كهذا: "إني مميتك"؟؟!! بل لقد قال بعضهم كلمة أشد من ذلك!! إن التعبير بالتوفي هو الأجمل والأكرم في موقف كهذا، أما الرفع فهو رفع النفس إلى محلها اللائق بها عند ربها، فالأنبياء أولى من الشهداء بأن يكونوا أحياءً عند ربهم يرزقون، والرفع يتضمن أيضًا حفظه وحفظ جسمه أيضا فلا يصلون إليه.

27. ما معنى "يُتَوَفَّوْنَ" في الآيات

{وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِير} [البقرة:234]، {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِّأَزْوَاجِهِم مَّتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِيَ أَنفُسِهِنَّ مِن مَّعْرُوفٍ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيم} [البقرة:240]، {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ أُوْلَـئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُم مِّنَ الْكِتَابِ حَتَّى إِذَا جَاءتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قَالُواْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ قَالُواْ ضَلُّواْ عَنَّا وَشَهِدُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُواْ كَافِرِين} [الأعراف:37]؟

وما معنى "نَتَوَفَّيَنَّكَ" في الآيات الآتية:

{وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُون} [يونس:46]، {وَإِن مَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاَغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَاب} [الرعد:40]، {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا يُرْجَعُون} [غافر:77]؟

والآن اقرؤوا:

{فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ آَمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (52) رَبَّنَا آَمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ (53) وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ (54) إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (55)} آل عمران،

هل يوجد أي إشكال؟ بالطبع لا، المعنى واضح تماما، لقد حُسِم الأمر، وتم إبلاغ الرسالة، واتضحت المعالم، وآمنت طائفة الحواريين وحدها، وأعلنوا أنهم أنصار الله، وكفرت الطائفة الأخرى، وأحكم الذين كفروا تدبيرهم، وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ، وطالما تمَّ الأمر فقد انتهت مهمة الرسول، ولكن لابد من نجاته من الذين كفروا الذين أحاطوا به، أعلن الله تعالى له أنه متوفيه، وأخبره أن ذلك ليس من باب النقمة بل هو رفع له ولمكانته، وأكَّد له أنهم لن ينالوا منه كما أخبره من قبل:

{...وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (110)} المائدة،

فرغم شدة تحديه لبني إسرائيل وحملاته عليهم لم يستطيعوا أبدا أن ينالوا منه، وقد طمأنه الله على مصير من اتبعوه، أما تفاصيل ما حدث فليس للناس علم بها، كل ما في الأمر أنه باختفاء المسيح عن أعين الناس أشاع بنو إسرائيل أنهم قتلوه، قال تعالى:

{وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَـكِن شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُواْ فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا} [النساء:157]،

فما زعمه بنو إسرائيل أنهم قَتَلوا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللّهِ، ولقد تولى القرءان تكذيبهم كما نفى عنه ما أشاعه آخرون من أنه صُلِب، وأكد أن الأمر كله اشتبه عليهم، وبيَّن أن الناس ليس لديهم علم بحقيقة ما حدث، وليس لديهم إلا الظنون والتخرصات.

28. وبالنسبة لمن يكفرون بالقرءان ولا يقيمون له ولا لأدلته وزنا ويريدون الدليل من المرويات على أن التوفي يكون مقترنا بالموت، ها هي مروية نزول عيسى: (قال الإمام أحمد: حدثنا عفان، حدثنا همام ، أنبأنا قتادة ، عن عبد الرحمن ، عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " الأنبياء إخوة لعلات أمهاتهم شتى ودينهم واحد ، وإني أولى الناس بعيسى ابن مريم ; لأنه لم يكن بيني وبينه نبي ، وإنه نازل ، فإذا رأيتموه فاعرفوه: رجل مربوع إلى الحمرة والبياض، عليه ثوبان ممصران ، كأن رأسه يقطر وإن لم يصبه بلل ، فيدق الصليب، ويقتل الخنزير، ويضع الجزية، ويدعو الناس إلى الإسلام، ويهلك الله في زمانه الملل كلها إلا الإسلام، [ ص: 458 ] ويهلك الله في زمانه المسيح الدجال ، ثم تقع الأمنة على الأرض، حتى ترتع الأسود مع الإبل، والنمار مع البقر، والذئاب مع الغنم، ويلعب الصبيان بالحيات لا تضرهم، فيمكث أربعين سنة، ثم يُتوفَّى ويصلي عليه المسلمون")، هل رأيتم؟ "ثم يُتوفَّى ويصلي عليه المسلمون"!

29. وقولهم بأنه رُفِع بجسمه حيا إلى السماء هو نفسه عقيدة النصارى مصاغة بطريقة مموهة، وهو يتضمن تجسيما لله تعالى وتشبيها له بخلقه، وهو سبحانه منزه عن أن يحل في مكان ليجلس فيه المسيح بجانبه، فلله سبحانه الإحاطة المطلقة بالأكوان وبكل أطر الزمان والمكان، أما المسيح عليه السلام فمكان نفسه مثل مكان من خلوا قبله من الرسل على تفاوت بينهم في الدرجات، ولو تمكن أي إنسان من الطواف بكل الأكوان لما وجد جسم المسيح إلا مدفونا في مكانٍ ما من هذه الأرض، ولن يجده أبدا جالسا بجسمه بجوار ربه!!!! ذلك ظن أطفال النصارى ومن تابعهم من المسيحيين المسلمين!!!!

30. وهم يحاولون الاحتجاج بأن القرءان ذكر أنه سيكلم الناس كهلا ليقولوا إنه لابد أن يعود ليكلمهم كهلا!!! وكأنه لم يكلمهم بالفعل كهلا في حياته!!! ولقد كلَّم المسيح قومه بالفعل وهو كهل مثلما كلمهم وهو طفل، فالمقصود هو كلامه بخصوص رسالته ونبوته، وبين هاتين المرحلتين لم يرد عنه أي شيء!! ثمة صمت مطبق!! ولا يعرف أحد من الناس ماذا كان يفعل طوال هذه السنين، ومن المعلوم أنه وأمه ورجل من عائلتهم هاجروا إلى مصر منذ كلامه في المهد هربا من بني إسرائيل إلى أن استدعي ليؤدي رسالته التي كانت خاصة ببني إسرائيل فقط! كما ورد في الإنجيل في نصّ محكم، لم يستطيعوا حذفه، ولا نسخ عندهم!! فالمسيح لم يعاود التكلم بخصوص رسالته إلا كهلا، والكهولة هي مرحلة ذروة القوة، وهي تلي الشباب وتسبق الشيخوخة، والناس يخلطون بينها وبين مرحلة الهرم أو الشيخوخة الشديدة، وهذا خطأ شائع!! ففي الصحاح: الكَهْلُ من الرجال الذي جاوَز الثلاثين ووَخَطَه الشيبُ، فهي المرحلة التي يكون فيها الإنسان في عنفوان قوته (على عكس المفهوم الشائع، وهي من ثلاث وثلاثين إِلى تمام الخمسين)، واكْتَهَلَ النبتُ يعني أنه طال وانتهى منتهاه، وفي الصحاح: تَمَّ طولُه وظهر نَوْرُه، وبذلك يبطل استدلالهم بالكلام في الكهولة على أنه سينزل إلى الناس! والرجل لا يُبعث بصفة عامة نبيا إلا عندما يكتهل.

31. سيقولون: وما المعجزة في أن يكلم الناس كهلا؟ والجواب هو: ومن قال لكم إنه هناك معجزة في ذلك أصلا؟! الآية تتحدث عن صفاته وبعض أموره المستقبلية، والنص على أنه:

{وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنَ الصَّالِحِين} [آل عمران:46]

يعني ما تذكره الآية بالتحديد، وهو ما حدث بالفعل، فلقد كلم الناس في المهد وكهلا، وكان من الصالحين، ولا يجوز محاولة ليّ عنق الآية لتؤيد خرافة مقررة مسبقا، وبافتراض المستحيل وهو أن المسيح رُفع بجسمه الترابي إلى ربه وهو سيظل حيا حتى ينزل في آخر الزمان، فمعنى هذا أنه عندما سينزل سيكون عمره آلاف السنين، ولن يكون كهلا في الثلاثينيات من عمره، سيتمادون في الجدل وسيحاولون ضرب المثل بأهل الكهف!! ولكن أجسام أهل الكهف لم ترتفع إلى السماء، وسيظلون يفترضون ويحاولون إلزام الآيات بما تلقوه من خرافة!!! فالإنسان عادة يفضل التمادي في الضلال ولو كان فيه هلاكه على الرجوع إلى الحق ولو كان فيه حياته، ولقد تعلَّم ذلك من الشيطان الرجيم.

32. ومن الذي قال لك إن كلام الإنسان وهو كهل يجب أن يكون معجزة؟ وهل كونه من الصالحين هو معجزة أيضا؟ لماذا لا يكون مجرد إخبار عن حقيقة أنه سيعيش إلى مرحلة الكهولة والتي تبدأ عندما يبلغ الإنسان ثلاثين أو ثلاثة وثلاثين عاما؟ وهل لمجرد توهم أن الكلام في الكهولة يجب أن يكون معجزة يجب الكفر بعدد كبير من آيات القرءان الكريم وتجاهل السنن الإلهية الكونية؟ إنه بعد أن نسبت الآية إليه معجزة الكلام في المهد كان من الطبيعي أن يعلن أنه سيستمر في الكلام طوال عمره، والآية تبين أن دوره سينتهي ببلوغه مرحلة الكهولة، كما أنه من الواضح أن المقصود هو الكلام الخاص بمهامه النبوية والرسالية، وهو بالفعل لم يكلم الناس في شيء من ذلك إلا في المهد وكهلا، والمقصود طمأنته وطمأنة والدته بالإخبار بأنه سيحيا إلى مرحلة الكهولة حيث أن اليهود كانوا يتربصون بهم شرا، فالآية حجة على عباد المسيح من الضالين الذين كفروا بآيات القرءان في سبيل أن يؤمنوا بمروية ضالة، وكأن هؤلاء يقولون إنه يجب أن ينزل من السماء قبيل القيامة ليكلم الناس كهلا، وهم بذلك يفرضون على الآية ما لم تقل به! ومن الواضح جدا أن الآية لا يمكن اعتبارها نصا قطعي الدلالة على ذلك، والعقائد لا تؤخذ من شبهات الناس وتأويلاتهم.

33. الأفعال المنسوبة إلى الله تعالى من الأمور المتشابهات التي تسمو فوق مدارك وتصورات الإنسان، ولا يجوز أبدًا إخضاعها للمفاهيم العامية الدارجة ولا للتصورات المادية، والمسيح توفاه الله تعالى كما فعل مع كل الأنبياء والرسل ورفعه إليه كما رفعهم كلهم إليه، فكل المتقين والصديقين والشهداء وعباد الله الصالحين عنده، وليس لهذا الرفع أية دلالة مكانية أبداً، وليس لوجود الشهداء أحياء عند ربهم يُرزقون أية دلالة مكانية، ذلك ظنّ المجسمة والمشبهة والمغضوب عليهم والضالين والموثنين، يجب العلم بأن لله تعالى العلو المطلق على كل العوالم وإطاراتها الزمانية المكانية اللازمة لها، وله مع ذلك الإحاطة التامة بهذه العوالم بإطاراتها، ولا يجوز تصوره ككيان متحيز في المكان بحيث ترفع الأجسام إليه لتكون عنده، فكل شيء في الحقيقة عنده، والأجسام المدفونة فبي التراب عنده مثلها مثل أبعد النجوم عن هذه الكرة الأرضية.

34. ولقد قال تعالى:

{وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ (34) كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ (35)} الأنبياء،

فالآية تعرِّف الخلود بأنه المضاد للموت، وتنفيه عن كل البشر الذين كانوا قبل المخاطب وهو النبي، فالآية تنطبق على المسيح، وقولهم بأنه سينزل ويموت في النهاية لا ينفي عنه صفة الخلد أثناء الخطاب، فالخلد هو أصلا دوام البقاء في نفس الدار التي كان فيها.

35. قال عيسى عليه السلام، كما جاء في القرءان:

{وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلاَةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا} [مريم:31]،

فما دام المسيح حيٌّ بجسمه عند ربه، فكيف سيؤدي الزكاة؟ ولمن سيؤديها؟ وكيف سيقوم بواجبات الرسالة تجاه بني إسرائيل؟

36. أما نزول المسيح وقيامه بالأعمال المسندة إليه في المرويات فهو يعني بالضرورة أنه هو خاتم النبيين إن لم يكن إلها! وقد أسندوا إليه نسخ بعض أمور الإسلام مثل القضاء على حرية الدين وإبادة اليهود والنصارى ووضع الجزية (بمفهومهم هم عنها)، وكسر الصليب وإبادة الخنزير، وكذلك نسبوا إليه ما لم يحققه الرسول وكل الرسل، ذلك لأنهم غير مكلفين به أصلا، مثل تحقيق العصر الذهبي وإقامة فردوس على الأرض، وكل هذه أوهام فوقها أوهام.

37. وطبقا للقرءان فاليهود والنصارى باقون إلى يوم القيامة على عكس ما تقول به خرافة نزول المسيح، قال تعالى:

{وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (14)} المائدة، {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (64)}، المائدة، {وَإِذْ تَأَذّنَ رَبّكَ لَيَبْعَثَنّ عَلَيْهِمْ إِلَىَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَن يَسُومُهُمْ سُوَءَ الْعَذَابِ إِنّ رَبّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنّهُ لَغَفُورٌ رّحِيمٌ} (الأعراف: 167)،

وقال:  وسيظل الناس مختلفين، ولن يتم الفصل في أمرهم إلا يوم القيامة، أما المروية فتقول: " وَيَضَعُ الْجِزْيَةَ، وَيُعَطِّلُ الْمِلَلَ، حَتَّى يُهْلِكَ اللَّهُ فِي زَمَانِهِ الْمِلَلَ كُلَّهَا غَيْرَ الْإِسْلَامِ"!!!

38. والمرويات تقول بذلك أنه سيأتي زمان لن يكون فيه موجودا إلا المسلمون يسوسهم المسيح يعيشون في أمن وسلام ورخاء؛ أي في فردوس أرضي، وذلك بعد إهلاك كل الملل!! ولكن القرءان يؤكد أن الناس لن يزالوا مختلفين وأن السابقين وأصحاب اليمين سيظلون قلة، قال تعالى:

{وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118) إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (119)} هود

39. ولم يأمر القرءان بكسر الصليب، بل إن ذلك غير مسموح به لمسلم، ولم يأمر بقتل الخنزير، وإنما حرَّم فقط أكل لحمه، ولا توجد عداوة مستحكمة بين المسلمين وبين الخنزير ليتمنوا أن ينزل نبي من السماء ليقتله لهم، وقد قام المصريون ذات مرة بقتل كل الخنازير خوفا من إنفلونزا الخنازير، وهم بذلك أثبتوا أن قتل الخنزير يمكن أن يتم دون الحاجة لنزول المسيح ودون الحاجة إلى تغيير النظام الكوني، والحق هو أن من يظنون أن النظام الكوني يمكن أن يتغير هم يضمرون كفرا خفيا بربهم وكرها لسننه وازدراءً لنظامه وتشكيكا في سماته ولا يعلمون شيئا عن مقاصده الوجودية من خلق الأكوان، ولقد أعلن القرءان بكل وضوح أن الناس سيظلون مختلفين ولن يكون هناك فردوس في دار الفناء وأن الحكم والفصل في الأمور الدينية لن يتحقق إلا في يوم الفصل؛ يوم القيامة، قال تعالى:

{وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118) إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (119)} هود، {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيد}[الحج:17].

40. وطبقا للقرءان فلقد خُتِمت النبوة، ولقد زعم بعضهم أن المسيح لن يكون نبيا عندما ينزل وإنما مجرد رجل عادي!!!!!!! وهذا مجرد زعمٍ من لدنهم، ليس عليه أي دليل من كتاب الله ولا من المرويات التي نسبوها إلى رسوله، والنبوة ليست زي عمل Uniform سيتركه المسيح في السماء لينزل إلى الأرض ثم يعيد ارتداءه عندما يصعد ليجلس على يمين الرب، فمزاعمهم تتضمن كفرا بعقيدة ختم النبوة، هذا فضلا عن أن السماء المضافة إلى الله تعالى ليست مكانا ماديا مثل هذا العالم المألوف! وكما سبق القول هم قد أسندوا إليه أعمال الأنبياء مثل تلقيه شرائع إلهية جديدة، فهم يقوضون مزاعمهم بأنفسهم!

41. وفي الحقيقة إن مجرد ورود كلمة "الجزية" بالمعنى المتضمن في مروية نزول المسيح يكشف طبقا لعلم تاريخ الكلمات والمصطلحات عن تاريخ وضع هذه المروية! أما الزعم بأنه سينزل في دمشق بالذات فهو يكشف عن أنها وُضعت في العصر الأموي وأن المسئول الأول عن وضعها هم المنافقون من أهل الكتاب في الشام.

42. وهم يسندون إلى المسيح في مروية النزول أيضاً أعمالاً إلهية فسيغيِّر النظم والقوانين والسنن الكونية، وكما يقولون: "حتى ترعى الأسود مع الإبل والنمور مع البقر، والذئاب مع الغنم، ويلعب الصبيان مع الحيّات"، ولم يوضحوا مثلا كيف ستعيش الأسود والنمور والذئاب وقد خلقها الله تعالى آكلة للحوم؟! وكأن هؤلاء لا يعجبهم تدبير الله تعالى وتصريفه لأمور الكون! وسفر العهد القديم الذي نقلوا منه الخرافة يكرر نفس الكلام ويؤكده بالقول بأن الأسود ستأكل التبن، وهناك مثل مصري يعبر عن التعجب يمكن إعادة صياغته استرشادا بهذه الخرافة على هذا النحو: "عشنا وشفنا! الأسود تأكل تبنا!!!" والحق هو أن أسطورة اليهود تقدم لهم البديل عن يوم القيامة الذي لا يكاد يوجد له أي ذكر في أسفارهم إلا ذكرا واهنا في سفر دانيال المكتوب بعد السبي البابلي!!! فالقيامة عندهم هي ظهور مسيحهم وانتصار شعبهم على البشرية جمعاء.

43. ولا توجد خصومة أو ثأر بين المسلم وبين الخنزير، كل ما في الأمر أن أكل لحمه محرم فقط لا غير!!! ولكن المسلم الحقيقي يعلم أن كل كائن خلقه الله تعالى هو من لوازم هذا الوجود، ومن المعلوم أن إبادة كائنٍ معين ستؤدي إلى خلل في التوازن البيئي، فهي من الإفساد في الأرض المنهي عنه، ولكن واضع المروية كان يريد مغازلة مشاعر العامة من المحسوبين على الإسلام، والحق أن المسلم مأمور بالإيمان بما ذكره القرءان، وهو أن الله خَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا.

44. بالطبع لا جدوى من أن تنسب لأحد الناس أعمالا إلهية ثم تقول: "ولكنه ليس بإله"، أو تجعله ناسخا لرسالة خاتم النبيين ثم تقول: "ولكنه ليس خاتم النبيين"!!!

45. وقد ثبت أن مروية نزول المسيح منقولة نقلا حرفيا مع تعديلات طفيفة من سفر أشعيا الذي أصبح متاحا للجميع الآن الاطلاع إليه، وكان من الواجب على الخلف ألا يتمادوا في الضلال الذي تورط فيه السلف، فالرجوع إلى الحق خير من التمادي في الباطل.

46. وقد ورد أصل خرافة نزول المسيح في الخرافة الأصلية في الإصحَاحِ الْحَادِي عَشَرَ لأشعياء، وقد جاء فيه: "1وَيَخْرُجُ قَضِيبٌ مِنْ جِذْعِ يَسَّى، وَيَنْبُتُ غُصْنٌ مِنْ أُصُولِهِ، 2وَيَحُلُّ عَلَيْهِ رُوحُ الرَّبِّ، رُوحُ الْحِكْمَةِ وَالْفَهْمِ، رُوحُ الْمَشُورَةِ وَالْقُوَّةِ، رُوحُ الْمَعْرِفَةِ وَمَخَافَةِ الرَّبِّ. 3وَلَذَّتُهُ تَكُونُ فِي مَخَافَةِ الرَّبِّ، فَلاَ يَقْضِي بِحَسَبِ نَظَرِ عَيْنَيْهِ، وَلاَ يَحْكُمُ بِحَسَبِ سَمْعِ أُذُنَيْهِ، 4بَلْ يَقْضِي بِالْعَدْلِ لِلْمَسَاكِينِ، وَيَحْكُمُ بِالإِنْصَافِ لِبَائِسِي الأَرْضِ، وَيَضْرِبُ الأَرْضَ بِقَضِيبِ فَمِهِ، وَيُمِيتُ الْمُنَافِقَ بِنَفْخَةِ شَفَتَيْهِ. 5وَيَكُونُ الْبِرُّ مِنْطَقَهَ مَتْنَيْهِ، وَالأَمَانَةُ مِنْطَقَةَ حَقْوَيْهِ6فَيَسْكُنُ الذِّئْبُ مَعَ الْخَرُوفِ، وَيَرْبُضُ النَّمِرُ مَعَ الْجَدْيِ، وَالْعِجْلُ وَالشِّبْلُ وَالْمُسَمَّنُ مَعًا، وَصَبِيٌّ صَغِيرٌ يَسُوقُهَا. 7وَالْبَقَرَةُ وَالدُّبَّةُ تَرْعَيَانِ. تَرْبُضُ أَوْلاَدُهُمَا مَعًا، وَالأَسَدُ كَالْبَقَرِ يَأْكُلُ تِبْنًا. 8وَيَلْعَبُ الرَّضِيعُ عَلَى سَرَبِ الصِّلِّ، وَيَمُدُّ الْفَطِيمُ يَدَهُ عَلَى جُحْرِ الأُفْعُوَانِ. 9لاَ يَسُوؤُونَ وَلاَ يُفْسِدُونَ فِي كُلِّ جَبَلِ قُدْسِي، لأَنَّ الأَرْضَ تَمْتَلِئُ مِنْ مَعْرِفَةِ الرَّبِّ كَمَا تُغَطِّي الْمِيَاهُ الْبَحْرَ. 10وَيَكُونُ فِي ذلِكَ الْيَوْمِ أَنَّ أَصْلَ يَسَّى الْقَائِمَ رَايَةً لِلشُّعُوبِ، إِيَّاهُ تَطْلُبُ الأُمَمُ، وَيَكُونُ مَحَلُّهُ مَجْدًا"، ولأن القَضِيب يجب أن يخرج مِنْ جِذْعِ يَسَّى (والد داود) أي يجب أن يكون من سلالة داود فقد جعل المسيحيون نسب المسيح واصلا إلى داود عن طريق يوسف النجار دون التفات لتناقض ذلك مع قولهم بعذرية مريم عندما أنجبته!! أما المحسوبون على الإسلام فأكثر ما استرعى انتباههم أن يَسْكُنَ الذِّئْبُ مَعَ الْخَرُوفِ، وَأن يَرْبُضُ النَّمِرُ مَعَ الْجَدْيِ وَالْبَقَرَةُ وَالدُّبَّةُ تَرْعَيَانِ. تَرْبُضُ أَوْلاَدُهُمَا مَعًا، وَالأَسَدُ كَالْبَقَرِ يَأْكُلُ تِبْنًا. وَيَلْعَبُ الرَّضِيعُ عَلَى سَرَبِ الصِّلِّ، وَيَمُدُّ الْفَطِيمُ يَدَهُ عَلَى جُحْرِ الأُفْعُوَانِ، وهي التي أصبحت في المروية: ترعى الأسود مع الإبل والنمور مع البقر والذئب مع الغنم ويلعب الصبية بالحيات .... الخ.

47. سبب غلو المحسوبين على الإسلام في شأن مروية عودة المسيح وتكفير من لا يقول بها هو أنهم يؤمنون بأن السنة -ويقصدون بها المرويات التي جلها أخبار آحاد- حاكمة على القرءان وقاضية عليه وناسخة له عند التعارض، فهم آمنوا إيمانًا مطلقًا بالمروية ثم حاولوا إلزام القرءان واستنطاق آياته بها، وذلك عمل كفريٍّ شائن، فالمسلم يجب أن يؤمن بأن القرءان هو المهيمن على كافة مصادر العلوم الدينية.

48. عقيدة المسيح المنتظر هي عقيدة خاصة باليهود وبمن اتبعهم من المحسوبين على الإسلام، ولا علاقة لها بدين الحق ولا بكتابه القرءان، فاليهود ينتظرون المسيح الآتي من جذع داود بن يسَّى من سبط يهوذا ليخلص شعبه من الأعداء، وهو ملك المستقبل الذي يحكم المملكة المحررة في عصر الخلاص وتسود إسرائيل على كافة أنحاء العالم تحت حكم ذلك الملك المخلص من قبل الرب، أما المسيحيون، المتبعون للعقيدة الصحيحة  عندهم، وهم الطوائف الكبرى Major denominations، فهم يؤمنون بأن المسيح سوف يأتي ليحاسب الناس، فهم يؤمنون بأنه في يوم غير معلوم، سيأتي المسيح يسوع من السماء مع جمهرة من الملائكة والقديسين لكي يدين الخليقة برمتها، ويلاحظ أن القرءان يقول إن الذي سيجيء ليحاسب الناس هو الله تعالى، قال تعالى:

{كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا (21) وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (22) وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى (23)} الفجر،

ومجيء المسيح عندهم سيكون منظورًا من قبل كل البشرية، وستسبقه مجموعة من الكوارث الكبرى، وسيترافق مع ظهور أنبياء ومسحاء دجالين، هذا فضلاً عن ظهور ضد المسيح Anti-Christ، وسيجلس المسيح على عرشه ويفصل بين المحتشدين إلى قسمين، أما الذين عن يمينه فهم من قام بأعمال صالحة، ومصيرهم الجنة التي يطلق عليها أيضًا اسم الفرح، الملكوت أو ملكوت السماوات، أو الحياة الأبدية والراحة الأبدية؛ أما الذين عن يساره فسيتجهون إلى الجحيم، العقاب الأبدي، حيث البكاء وصرير الأسنان، والتي يطلق عليها أيضًا اسم الموت الثاني، أو النار الأبدية، حيث دودهم لا يموت ونارهم لا تطفأ.

49. قال تعالى:

{وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِّلسَّاعَةِ فَلاَ تَمْتَرُنَّ بِهَا وَاتَّبِعُونِ هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيم} [الزخرف:61]،

وقد حاول الضالون ليّ عنق هذه الآية ليجعلوها تقول بنزول المسيح، واقترفوا كل ما هو ممكن من التزوير والتحريف ليتحقق لهم ذلك، ولا توجد حاجة ماسة لدحض الباطل المتهافت، يكفي بيان الحق، والحق هو أن القرءان هو علمٌ للساعة كما هو فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ كما هو ذكر للرسول وقومه، فالقرءان هو محور سورة الزخرف التي مطلعها:

{حم (1) وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا جَعَلْنَاهُ قرءانا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (3) وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ (4)}،

وضمير الغائب المؤكد فيها يعود عليه، وضمائر الغائب غير المذكور من يعود عليه في السياق القريب يعود على لفظ الجلالة أو على القرءان في كل القرءان، وعلم الساعة لا يعني وقت مجيئها، فالقرءان حسم الأمر وقال إنها لن تأتي إلا بغتة، وقولهم بأن المسيح علم للساعة بمعنى أنه علامة على قرب مجيئها ليس عليه أي دليل، وهو لا يعني المسلمين في شيء، فالمسلم قد ربَّاه ربه على ألا يسأل عن وقت مجيء الساعة بل على أن يقوم بما هو واجب عليه في وقته، والشخص لا يكون علما، وإذا كان المقصود المبالغة بالقول بأن علم الساعة متحقق في المسيح فهذا القول لا يعني المسلم في شيء فهو لا يأخذ العلم ذا المصداقية عن الساعة إلا من القرءان الكريم، وبافتراض أن المسيح هو علمٌ للساعة، فهذا لا يعني بالضرورة أنه سينزل من مكانه المفترض (بجوار ربه كما يظنون) إلى الأرض، فقد يكون ما قام به من إحياء الموتى إشارة إلى إمكانية البعث مثلا، والمروية تقول إنه بعد نزوله لن يبقى إلا المسلمون، والقرءان يقول إن اليهود والنصارى باقون إلى يوم القيامة، فلابد من مرور زمن كبير ليرتد بعض هؤلاء المسلمين إلى اليهودية أو النصرانية!!! وبذلك ينتفي كون المسيح علمًا للساعة على تفسيرهم ويتبين تهافته!!! وفي كل الأحوال: لمن سيكون المسيح علمًا للساعة؟ وفقا لكلامهم لن يكون علما للساعة إلا لمن سينزل عليهم فقط!! ولكن ما هو علمٌ للساعة مذكور في جملة اسمية مؤكدة والقائل

{وَاتَّبِعُونِ هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيم}

هنا هو الله أو رسوله، والخطاب هو لكل الناس وليس لمن سينزل عليهم المسيح فقط!!! وما هو مصير مثل هذه الآيات من بعد نزول المسيح؟ حسب كلامهم فإنه لن يبقى بعد موته إلا المسلمون لأنه سيقاتل الناس على الإسلام، ولن يقبل منهم ما يسمونه بالجزية مقابل تركهم على دياناتهم، ولكن القرءان يقول بأن اليهود والنصارى باقون إلى يوم القيامة، فمتى سيرتد المسلمون الذين تركهم المسيح؟ وما هي إذًا جدوى أن المسيح نزل ليكون علمًا للساعة؟ وإذا كان يوجد في القرءان آيات تقول -حسب كلامهم- بأن المسيح سينزل، فما هو مصيرها بعد أن ينزل بالفعل؟ ومن الواضح جدًّا أن الآية لا يمكن اعتبارها نصًّا قطعي الدلالة على نزول المسيح، والعقائد لا تؤخذ من شبهات الناس وتأويلاتهم، والخلاصة أن القرءان هو علمٌ للساعة لمتبع دين الحق، وهذا المؤمن لا يعلم عن المسيح إلا ما ذكره الله تعالى في كتابه عنه، وخلاصته أنه كان نبيا كريما مرسلا إلى بني إسرائيل وحدهم من دون الناس، وأنه كان مُّصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيه مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِه اسْمُهُ أَحْمَدُ.

50. قال تعالى:

{وَإِن مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدا} النساء 159،

لو كان الضمير في "به" يعود على المسيح يكون معنى الآية: إنه ما من أحد من أهل الكتاب إلا وسيؤمن بالمسيح قبل موته، ولكن هل كان كافرًا به؟ أم أن هذا يعني أنه قبل موتهم ستنكشف لهم حقيقته وأنه أنه لم يكن إلها، هذا تفسير محتمل، ولكنهم يريدون ليّ عنق الآية لتؤيد خرافة النزول، فهم يريدون من الآية أن تقول: "ما من أحد من أهل الكتاب إلا وسيؤمن بالمسيح قبل أن يموت بعد نزوله في آخر الزمان"، وقولهم هذا هو لغو، فالآية تنص على ما من أحد من أهل الكتاب إلا وسيؤمن بالمسيح قبل موته هو؛ أي أن كل أهل الكتاب بما فيهم من هم موجودون الآن مثلا سيؤمنون به، فلا علاقة لذلك بالنزول المزعوم، وقولهم يتعارض مع مروية النزول المقدسة عندهم، فالمروية تقول إنه لن يقبل منهم الجزية، بمعنى أنه سيبيد من لن يسلم منهم، فلن يكون هناك أحد من أهل الكتاب حيا ليؤمن به قبل موته (أي قبل موت المسيح)!!!!!! وبافتراض أن بعض أهل الكتاب قد أفلتوا من المجزرة، وها هم يرون المسيح أمامهم بعد أن أباد كل من هو على ملتهم، فما هو معنى الإيمان به؟ ما معنى أن تؤمن بأن الشخص الماثل أمامك والذي تراه بعيني رأسك موجود؟ الإيمان متعلقه الغيب، والحق هو أن الآية تقول: ما من أحد من أهل الكتاب إلا وسيؤمن بالقرءان أو بما ذكره القرءان عن المسيح قبل موته؛ أي قبل موت هذا الشخص من أهل الكتاب، ومن المعلوم أن الشخص المحتضر يُكشف عنه بعض الغطاء ويؤمن، ولكن بعد فوات الأوان، فما من أحد من أهل الكتاب الذين رفضوا الإيمان بالقرءان وما يذكره من الحقائق إلا وسيصدِّق به وبما جاء فيه من بيان فيما يتعلق بالأمور التي اختلفوا فيها قبل موته أي أثناء احتضاره وعزل نفسه عن تدبير جسمه، وبالطبع لن ينفعه هذا الإيمان، وسيأتي القرءان عليهم شهيدا يوم القيامة أنهم رفضوا الإيمان به، ذلك لأن أهل الكتاب ملزمون قبل غيرهم بالإيمان به لأنهم أدرى به من غيرهم ولأنه حسم لهم كل الأمور التي اختلفوا فيها، فالقرءان شهيد لك أو عليك، ولقد قال الله تعالى فيهم:

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ آمِنُواْ بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقاً لِّمَا مَعَكُم مِّن قَبْلِ أَن نَّطْمِسَ وُجُوهاً فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ وَكَانَ أَمْرُ اللّهِ مَفْعُولاً }النساء47،

كما قال:

{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُوْلَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ }البينة6،

والمقصود بكفرهم إنكارهم رسالة خاتم النبيين؛ أي القرءان، فالآية باختصار تعني أن كل أهل الكتاب من اليهود والنصارى سيؤمن به قبل موته؛ أي إنه ما من أحد من اليهود والنصارى إلا ليؤمنن قبل موته بالمسيح كما أخبر عنه القرءان، أي بأنه عبد الله ورسوله وبأنهم مَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ، فكيف تحقق ذلك في الماضي أو سيتحقق الآن أو في المستقبل؟ فتفسيرهم يتضمن قذف الخبر بالكذب! ولا يوجد أي شيء في السياق يدل على أن ذلك خاص بأحداث الساعة! بل الكلام كان عن أحداث ماضية، وسبب ذكر أن كل أهل الكتاب سيعرفون حقيقة المسيح قبل الموت حيث لا ينفع الإيمان هو أنه كان محور حديثهم واختلافهم فيما بينهم، وطبقا للقرءان فاليهود والنصارى باقون إلى يوم القيامة، فلا معنى لزعمهم بأنهم سيؤمنون بالمسيح بعد نزوله، ولو اختفوا تماما بنزوله فكيف سيوجدون من بعده؟! من الواضح والجليّ تماما أن الآية لا يمكن اعتبارها نصًا قطعي الدلالة على نزول المسيح، والعقائد لا تؤخذ من شبهات الناس وتأويلاتهم، وفي كل الأحوال هم يحاولون ليّ عنق الآية لاستنطاقها بما قرروه، وهذا ضلال وخداع وتلبيس، وما تطرق إليه الاحتمال بطل به الاستدلال.

51. سيقول بعضهم إن الإيمان هو قَبْلَ المَوْتِ أي ليس وقت الاحتضار! فما هو الداعي لذكر الموت أصلا؟ كان من الممكن النص على أنهم سيؤمنون به أثناء حياتهم! كما أن المقصود بالموت هو بدأ انفصال النفس النهائي عن الجسم، أي بدأ استيفاء واستخلاص النفس بطريقة نهائية، قال تعالى:

{... حَتَّىَ إِذَا جَاء أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لاَ يُفَرِّطُون} [الأنعام:61].

52. يقول بعض المهرجين والمفتونين بأسطورة عودة المسيح إنه لابد أن يعود لكي يؤمن به أهل الكتاب!!! فحتى معنى الإيمان لم يعودوا يعرفون له معنى! الإيمان متعلقه -أي مجاله- الغيب، بمعنى أنك يمكن أن تؤمن بخبر غيبي مثل وجود النار مثلا، أما إذا رأيتها أمامك فسيتحول الإيمان إلى يقين، فإذا دخلتها فهذا هو عين اليقين، فإذا اصطليت بها وآذاك حرها وحرق جلدك فهذا هو حق اليقين، فالناس الآن ينقسمون إلى عدة أقسام فيما يتعلق بالمسيح عليه السلام، هناك من ينكر وجوده؛ فهو كافر به، وهناك من يؤمن به، لأنه مصدق بوجوده رغم أنه غيب بالنسبة له، أما إذا رآه كلاهما سيتحول ما كان لديهما من إيمان أو كفر إلى يقين!! وقد اقتضت السنن ألا تكون هناك ثمرة لمن آمن من بعد ما رأى! فهل من مقاصد الدين أصلا أن يجعل الناس تؤمن بالمسيح بعد فوات الأوان؟ أم أن إرسال الرسل وإنزال الكتب معهم هو مجرد وسيلة لتحقيق مقاصد منصوص عليها في كتاب الله؟ قال تعالى:

{لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيز} [الحديد:25]،

ولقد قال تعالى:

{وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِين} [يونس:99]،

فهو سبحانه الغني عن الناس وعن إيمانهم به فضلا عن إيمانهم بغيره، وعنده حملة العرش وملائكة لا يحصي عددهم إلا هو يؤمنون به ويسبحون بحمده ويقدسون له، فهو لن يبدل سننه لكي يؤمن الناس بالمسيح!، ولقد أعلن مقاصده من أوامره وأفعاله في كتابه، وليس من بينها أن يؤمن الناس بالمسيح أو بغيره.

53. ولم يفلح هؤلاء الذين زعموا أن السيد المسيح هو علم للساعة في بيان فحوى هذا ودلالاته، فإن زعموا أن نزوله سيكون إيذانا باقتراب الساعة فإن الكتاب العزيز قد أعلن منذ البداية أنها قريبة! ونزوله لن يمنع الساعة من أن تأتيهم بغتة، بل هو يتناقض مع ذلك، ومما لا شك فيه أن الساعة لن تقوم بعد أن يُتوفى المسيح (التوفي الثاني طبقا لزعمهم) مباشرة، لابد من مرور زمن طويل يكفي لكي يرتد من كانوا مسلمين، ولكي يصبحوا يهودا ومسيحيين، فاليهود والمسيحيون هم باقون إلى يوم القيامة وفقًا لنصوص القرءان الكريم، وإلا فكيف يرتد مباشرة من كانوا يعيشون في سلام تام ويتفرجون على الأسود وهي ترعى مع الإبل والنور وهي تمرح مع البقر، وتلعب صبيانهم بالحيات؟ أما اليهود والنصارى الأصليون فمن المعلوم أن السيد المسيح -طبقًا للمروية- كان قد أبادهم.

54. يزعم بعضهم أن عودة المسيح قبيل يوم القيامة هو لازم لاستكمال مهمته الروحانية أو رسالته ولكي ينفي عن نفسه ما لهج به الظالمون في حقه وليؤمن أهل الكتاب بما هو الحق في شأنه، والحق هو أن عيسى عليه السلام قد أدى مهمته ورسالته التي نص عليها القرءان في حياته قبل أن يتوفاه الله تعالى، ولا توجد مهمة للمسيح غير التي ذكرها القرءان، فقد كان طبقًا للقرءان رسولا إلى بني إسرائيل فقط، ولا علاقة له بغيرهم، ولو كان النزول بسبب ما تصوروه لكان معنى ذلك أنه هو خاتم النبيين وهذا ما يتعارض مع عقيدة ختم النبوة، قال تعالى:

{وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُم مُّصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءهُم بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُّبِين} [الصف:6]، {وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ (48) وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآَيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (49) وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآَيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (50) إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (51)} آل عمران،

وجاء في إنجيل متى 15: 24فَأَجَابَ وَقَالَ: «لَمْ أُرْسَلْ إِلاَّ إِلَى خِرَافِ بَيْتِ إِسْرَائِيلَ الضَّالَّةِ»، لقد جاءهم المسيح، فآمنت به طائفة من بني إسرائيل، وكفرت طائفة، وانتهى الأمر، وبناءً على ذلك تحدد مستقبلهم، والله تعالى ليس مسؤولا أمام أحد، وليس مطالبا بتبديل كلماته وسننه ليؤمن بها بعضهم، وليس مطالبا بإنزال المسيح ليؤمن به أهل الكتاب، خاصة وأن الأسطورة تقول إنه لن يقبل (الجزية) من اليهود والنصارى ليبقوا على دينهم بمعنى أنهم سيكونون مخيرين بين الإسلام وبين القتل! ومن الواضح أن من نقل الأسطورة وأدخل فيها بعض التعديلات لتلائم المسلمين كان يؤمن بمفهوم الجزية كما أحدثه الأعراب أثناء استيلائهم على بلدان الشرق الأوسط! 

55. وماذا عن كتاب الله تعالى بعد نزول المسيح وقد ثبت أنه لا يمكن أن تقوم الساعة بعده مباشرة في حالة نزوله المزعوم؟؟ هل ستظل الآيات التي يزعمون أنها تتحدث عن أنه سينزل بعد أن ينزل بالفعل صحيحة؟؟!! إنه لا يمكن أن تبطل معلومة أوردها القرءان أبدا.

 56. إن من جعل من نفسه بأفعاله أضحوكة للأمم لا يجوز له أن يتباكى إذا ما ضحكوا منه وسخروا منه!

57. ولعل الناس قد بدئوا يدركون الآن على نطاق أوسع حقيقة خرافة عودة المسيح وكيف أنها حيلة معروفة للقضاء على الدين الصحيح ولتنويم الأمم وشغلها بما لا يجدي وإلقاء العداوة والبغضاء بينهم وإيقاد نيران الحروب واستحمار واستعباد الشعوب والطوائف واستغلالهم لتحقيق مآرب الصهيونية كما فعلوا بحركة المحافظين الجدد والمسيحية الأصولية الصهيونية في أمريكا، وأصول هذه الأساطير موجودة في سفر أشعيا، ولقد امتد نفوذ حركة الصهيونية المسيحية إلى ساسة الولايات المتحدة بصورة كبيرة وصلت إلى درجة إيمان بعض من شغل البيت الأبيض بمقولات الحركة والاعتراف بهذا علنيا، والرئيسان السابقان جيمي كارتر "ديمقراطي" ورونالد ريغان "جمهوري" وكذلك جورج بوش الابن كانوا من أكثر الرؤساء الأميركيين إيمانا والتزاما بمبادئ المسيحية الصهيونية، وهناك حوالي 70 مليونا قابلين للزيادة من أتباع الصهيونية المسيحية داخل الولايات المتحدة وحدها، ويزداد أتباع تلك الحركة خاصة بعدما أصبح لها حضور بارز في كل قطاعات المجتمع الأميركي، وهؤلاء المهاوييس هم أشد إيمانا بخرافة المسيح المنتظر من اليهود أنفسهم، وهم على استعداد للإيمان بأية خرافة يلقيها إليهم واحد من شياطين الإنس المتمرسين، وهم يؤمنون الآن بأن المسيح سيقودهم لإبادة الآخرين ثم هداية اليهود، أما الآخرون فهم بالطبع المسلمون ومن ناصرهم لأي سبب من الأسباب وليس غيرَهم، ولا يوجد ما يمنع من أن يقولوا لهم إذا ملوا الانتظار إن المسيح لن يعود إلا إذا قضيتم أنتم على هؤلاء المسلمين، وساعتها ستقع مهلكة هرمجدون التي يتطلعون إليها بفارغ صبر!!!

58. والمرويات تزعم أنه سيدعو الناس إلى الإسلام ولن يقبل منهم غيره، هذا مع أن القرءان ينص على أنه كان رسولاً إلى بني إسرائيل فقط، والإنجيل المعتمد عندهم يؤكد ذلك أيضا، قال تعالى:

{.... وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ {48} وَرَسُولاً إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُم بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ} آل عمران،

فالآية نصّ قطعي الدلالة على أن المسيح كان رسولا فقط إلى بني إسرائيل، فمن زعم أنه سيكون رسولا إلى غيرهم فقد أنكر ما هو معلوم بالدين بالضرورة، وكذَّب بآيات القرءان، وافترى الكذب على الله تعالى، وحكمه شرعا معلوم، ولا داعي لذكره! ومن المعلوم أن من يستطيع أن يزعم أنه من بني إسرائيل الآن قلة محدودة وأن كل النصارى إلا نسبة لا تكاد تُذكر ليسوا من بني إسرائيل!! إنه يجب الإيمان بمحض ما ذكره الله تعالى في القرءان عن عيسى عليه السلام بدون تأويل أو غلوّ أو أي ادّعاءات إضافية، ويجب دائماً تذكر قوله تعالى:

{وَرَسُولاً إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُم بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ......} آل عمران49، {إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلاً لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ} الزخرف 59،

هل سمعتم:

{مَثَلاً لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ}، {وَرَسُولاً إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ}،

وليس لغيرهم!! إن مجال عمل المسيح عليه السلام كان حصرًا هو بني إسرائيل، لا أكثر ولا أقل، لم ولن يُرسل إلى غيرهم، وكل مهامه كانت متعلقة بهم، وهو لم يكن أبدا إلهًا ولا شبه إله ولا مساعد إله، وقد توفاه الله تعالى ورفعه إليه مثل كل الرسل.

59. ومرويات عودة المسيح تتضمن إكراها للناس على الإيمان، وهي بذلك تناقض الآيات القرءانية التي تحدد أساليب الدعوة، والتي لا تسمح لأحد بأن يكره الناس على الإيمان، والتي تعلن أن الله لو شاء لفعل ذلك، ولكنه لم يشأ، فلقد جعل النجاة معلقة بالإيمان الاختياري، وجعل انتفاع الناس لا يكون إلا بعمل أقبلوا عليه بمحض اختيارهم، فهو الغني عن العالمين، كما أعلن أنهم غير مؤاخذين بما أكرهوا عليه، ولذلك قرر بكل وضوح أن وظيفة الرسل هي البلاغ وليس إكراه الناس على الإيمان مؤكداً بذلك مبدأ حرية العقيدة، قال تعالى:

{مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلا الْبَلاغُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ(99)} (المائدة)، {وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنْ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلا تَكُونَنَّ مِنْ الْجَاهِلِينَ(35)} (الأنعام)، {وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ(41) (يونس) وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كَانُوا لا يَعْقِلُونَ(42)وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كَانُوا لا يُبْصِرُونَ(43)} (يونس)، {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَنْ فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ(99)وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ(100)} (يونس)، {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ(108)} (يونس)، {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ الْمُبِينُ(82)} (النحل)، {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنْ الغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدْ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ(256)} (البقرة)، {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمُونَ مَا لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ(8)}، {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ(6)} (الكافرون)، {فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ (21) لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصيْطِرٍ (22)} الغاشية، {نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقرءان مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ (45)} ق، {مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللّهَ وَمَن تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا} [النساء:80]، {وَلَوْ شَاء اللّهُ مَا أَشْرَكُواْ وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيل} [الأنعام:107]، {فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا إِنْ عَلَيْكَ إِلاَّ الْبَلاَغُ ....}[الشورى:48]، {وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُل لَّسْتُ عَلَيْكُم بِوَكِيل} [الأنعام:66]، {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءكُمُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَاْ عَلَيْكُم بِوَكِيل} [يونس:108]، {رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِن يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِن يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلا} [الإسراء:54]، {إِنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ فَمَنِ اهْتَدَى فَلِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيل} [الزمر:41]، {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَولِيَاء اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيل} [الشورى:6].

60. يقولون في مروية نزول المسيح "وَيُهْلِكُ اللَّهُ فِي زَمَانِهِ الْمِلَلَ كُلَّهَا إِلَّا الْإِسْلَامَ"، وهذا القول متعارض تعارضًا صارخا مع ما ذكره القرءان، قال تعالى:

{وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118) إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (119)} هود، {وَمِنَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُواْ حَظًّا مِّمَّا ذُكِّرُواْ بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللّهُ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُون} [المائدة:14]، {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْ بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاء وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِّنْهُم مَّا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كُلَّمَا أَوْقَدُواْ نَارًا لِّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُفْسِدِين} [المائدة:64].

61. دحض خرافة عودة المسيح يترتب عليها مباشرة دحض خرافة المسيح الدجال، فالمسلمون لا ينتظرون مسيحا حتى يحاول أحد الأشخاص خداعهم بزعم أنه المسيح، هذا أمر خاص باليهود وحدهم ولا يعني المسلمين في شيء، إنه من البديهي أن من ينتظرون المسيح هم الذين يخشون ممن يدعون هذه المرتبة لأنفسهم بالباطل، لذلك فالـ"المسيح الدجال" هو شأن خاص بهم في دينهم وأدبياتهم، لا شأن له بالمسلمين أبدا، فالمسلمون ملزمون بالإيمان بأن النبوة قد ختمت، وأن المسيح قد أتى بالفعل ثم توفاه الله تعالى ورفعه إليه مثل كل الرسل والأنبياء، ومقتضى ذلك منهم ألا ينتظروا أحدا، وأن يبادروا إلى العمل وإلى القيام بالمهام المنوطة بهم، ومن كبائر الإثم أن يشغلوا أنفسهم بالأساطير المدسوسة في تراثهم! وبالطبع يمكن أن يظهر أي شخص يلبس على الناس أمر دينهم فيكون بذلك دجالا، ولكن لا يوجد ما يبرر تسميته بالمسيح الدجال، ولقد ظهر في الأمة المحسوبة على الإسلام ومازال يظهر ما لا حصر له من الدجاجلة!

62. إنه لا مجال للظن في الأمور العقائدية أصلا، العقيدة تؤخذ من نصوص قرءانية قطعية، وليس من شبهات الناس، الأمر المطلوب الإيمان به يؤخذ من نص قطعي الثبوت والدلالة، أمثله: قال تعالى:

{اللّهُ لا إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّوم} [آل عمران:2]، {وَإِلَـهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيم} [البقرة:163]، {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ (4)} الإخلاص،

إن العقائد لا تؤخذ من الشبهات والظنون والتأويلات وليّ عنق الآيات، وإنما من نصوص قطعية، لقد ذكر القرءان حديث المرأة المجادلة والهدهد والنملة، وذكر كلام فرعون مرات كثيرة بأساليب متعددة، وذكر حوارات أقوام الرسل مع رسلهم بالتفصيل، ولم يرد أي نص عن نزول المسيح كما هو معلوم، وإنما يحاول المتكسبون بالدين إلقاء أية شبهات على آيتين أو ثلاثة لاستنطاقها عبثا بأنها تلمح (مجرد تلمح) إلى ذلك! وهم مستعدون للتشكيك في القرءان وفيمن القرءان كلامه في سبيل الدفاع عن الخرافة التي نقلوها عن سلفهم الطالح، وهذا دأبهم دائما، وسلوكهم هذا ليعلم من لديه ذرة من عقل إنهم نعال في أقدام الشياطين، سيقولون: فما بال الآيات المتشابهات؟ إن الآية المتشابهة تنص على الخبر نصا واضحا قاطعا، وإنما يكون التشابه في دلالتها ومعناها، مثال: قال تعالى:

{الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5]،

هذه آية متشابهة، ولكن النص بالفعل واضح وقاطع، وهي تتحدث عن الله تعالى الذي هو فوق التصورات والمدارك والذي له الغيب المطلق، فلا يمكن لأحد إدراك تأويلها النهائي، وإنما يمكن إدراك مقتضياتها من سياق الآيات وما يستلزمه ذلك من الإنسان، وهناك آيات تتضمن نصوصا واضحة قطعية وتتحدث عن أمور خارقة للمألوف، ولكنها ليست من الآيات المتشابهات، مثال:

{حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِي النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لاَ يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لاَ يَشْعُرُون} [النمل:18]،

فالآية واضحة تماما، ولا يجوز صرفها عن معناها بأي حال من الأحوال، والآية التالية لها تثبت أنها تكلمت بالفعل:

{فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِّن قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِين} [النمل:19]،

والآيات المتعلقة بسليمان عليه السلام تثبت ما كان له من أمور خاصة مميزة في التعامل مع الكائنات المختلفة، فما ذكرته الآية عن النملة يجب الإيمان به لوجوب الإيمان بالقرءان، وبعد كل ذلك فلا يوجد نص في القرءان يقول: "سينزل عليكم المسيح قبيل قيام الساعة ليفعل كذا وكذا"، وإنما لدى الناس عقيدة مسبقة يحاولون فرضها على آيتين بكل الوسائل الملتوية، ولو وُجد نص كهذا لما كان القرءان كتابا منزلا، ولكان كتابا متناقضا، فمن المعلوم وفقا لمروياتهم أنه لن يبقى إلا ملة الإسلام بعد موت المسيح، فماذا سيكون موقف هذا النص أو أية آية يقولون إنها تنص على نزول المسيح؟ إنها تكون كاذبة لا محالة!!!

63. ولقد توصلنا بفضل الله تعالى إلى القصة الحقيقية لحياة السيد المسيح، وكان ذلك بفضل الله تعالى بإمعان النظر في الآية الآتية بصفة خاصة:

{وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَـكِن شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُواْ فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِيناً }النساء157،

والمفتاح هو في قوله تعالى (رَسُول اللّهِ)، والقول (رَسُول اللّهِ) هو اسم المسيح في العهد القديم، فهو "ملاخي"؛ أي رسولي؛ أي رسول الله، وهو بالفعل خاتم أنبياء بني إسرائيل، ولولا الوصف (رَسُولَ اللّهِ) لكان زعم اليهود صحيحا، فلقد قتلوا بالفعل وصلبوا رجلا اسمه عيسى بن مريم ولكنه لم يكن (رَسُولَ اللّهِ)، بل ظهر من بعده بكثير، وبالتحديد في العصر الروماني، فهذا الرجل كان سمِّيا للمسيح وظن هو وظن الناس معه أنه هو، فهو الذي حوكم وأهين وصُلِب وقُتل، وواقعة صلبه ثابتة مثل واقعة تعميده، وأكثر ما هو موجود فيما يُسمى بالأناجيل هو سيرة هذا الشخص الذي كان بالفعل ابنًا بالفعل ليوسف النجار ومريم ابنة يواقيم وكان له أشقاء وردت أسماؤهم في الأناجيل، والنص التالي من الإصحاح السادس لمرقص ينص عل أسماء الذكور منهم ويبين مهنته ومهنة والده:1وَخَرَجَ مِنْ هُنَاكَ وَجَاءَ إِلَى وَطَنِهِ وَتَبِعَهُ تَلاَمِيذُهُ. 2وَلَمَّا كَانَ السَّبْتُ، ابْتَدَأَ يُعَلِّمُ فِي الْمَجْمَعِ. وَكَثِيرُونَ إِذْ سَمِعُوا بُهِتُوا قَائِلِينَ: «مِنْ أَيْنَ لِهذَا هذِهِ؟ وَمَا هذِهِ الْحِكْمَةُ الَّتِي أُعْطِيَتْ لَهُ حَتَّى تَجْرِيَ عَلَى يَدَيْهِ قُوَّاتٌ مِثْلُ هذِهِ؟ 3أَلَيْسَ هذَا هُوَ النَّجَّارَ ابْنَ مَرْيَمَ، وَأَخُو يَعْقُوبَ وَيُوسِي وَيَهُوذَا وَسِمْعَانَ؟ أَوَ لَيْسَتْ أَخَوَاتُهُ ههُنَا عِنْدَنَا؟» فَكَانُوا يَعْثُرُونَ بِهِ. 4فَقَالَ لَهُمْ يَسُوعُ: «لَيْسَ نَبِيٌّ بِلاَ كَرَامَةٍ إِلاَّ فِي وَطَنِهِ وَبَيْنَ أَقْرِبَائِهِ وَفِي بَيْتِهِ».

*******

1

bottom of page