نظرات في المذاهب
53
النَّسْــخ1
النسخ في اللغة الإزالة والنقل، وهو عند الأصوليين رفع الشارع حكما شرعيا بدليل شرعي متراخ عنه.
ومن ذلك قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ "إنِّي كُنْت نَهَيْتُكُمْ عَنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ، أَلَا فَزُورُوهَا".
ولما كان الدين واحدا فهذا يتضمن نسخ أمر ديني من شريعة سابقة بأمر ديني من شريعة لاحقة.
فالنسخ لا يكون إلا بعد استقرار الحكم الأول، فقيد التراخي يخرج تخصيص العام أو تقييد المطلق، فكل تخصيص أو تقييد كان منذ بداية إلزامهم بالأمر الديني.
وقولنا المعلوم هو أنه لا توجد في القرءان آيات منسوخة، وإنما يوجد فيه الآيات الناسخة لبعض أحكام الشرائع السابقة أو لبعض ما عملوا به في العصر النبوي لأي سبب من الأسباب، وخلاصة أقوالنا في مسألة النسخ كما يلي:
خلاصة أقوالنا في موضوع النسخ
1. القرءان كتاب متسق متشابه لا اختلاف فيه A perfectly self-consistent book، وآياته يكمل بعضها بعضا ويصدق بعضها بعضا ويبيِّن بعضها بعضا ويقيد بعضها بعضا.
2. حقيقة القرءان أنه روحٌ من أمر الله تعالى، وهذا يعني كماله وتمامه واتساقه وعدم وجود تناقضات فيه تستدعي القول بالنسخ للتغلب عليها.
3. كلمة "آية" في القرءان لا تعني بالضرورة عبارة قرءانية بين فاصلتين، بل تعني أيضا: علامة، أمارة، فحوى العبارات القرءانية وأحكامها، أحكام الشرائع السابقة، إنجازات هائلة، سنة إلهية، ظاهرة طبيعية، مخلوق من مخلوقات الله، دليل، برهان، عبرة، عذاب نزل بقوم من المجرمين، كل مخلوق من مخلوقات الله من حيث دلالته على أسمائه، ما هو خارق للمألوف ... الخ، ومحور كل هذه المعاني هو أن الآية علامة تشير إلى أسماء الله الحسنى وما تقتضيه من سنن وتدبيرات، فلفظ آية مشترك لفظي، والمشترك اللفظي هو كل كلمة لها عدة معانٍ حقيقة غير مجازية non-metaphorical، وقد استعملها القرءان بكافة معانيها، ولا يجوز تخصيص المشترك اللفظي أو قصره على معنى من معانيه إلا بدليل قطعي، وإلا فالتخصيص أو القصر ظني، وثبوت كل آية من آيات القرءان بنصها ولفظها ومعاني ألفاظها وحكمها ومعناها الظاهر هو ثبوت قطعي، ولا يجوز إلزام القطعي بالظني، ولكل ذلك لا يحق لهم الاحتجاج بالآية {مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللّهَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِير} [البقرة:106]، فكلمة آية فيها لا تعني عبارة قرءانية بين فاصلتين، ولم ترد كلمة آية المفردة بهذا المعنى في القرءان.
4. النسخ المذكور في القرءان يعني المحو والإلغاء والإزالة والإبطال، وليس التثبيت، وقولنا هذا خلافًا لما يقول به (القرءانيون) وأكثر المجتهدين الجدد الذين يقولون إن النسخ يعني إثبات الآية المنقولة من مصدر آخر، والمعنى الذي نقول به هو المتسق مع الاستعمال القرءاني للفعل "نسخ"، قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلاَ نَبِيٍّ إِلاَّ إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيم} [الحج:52]، فالله تعالى لا يثبت ما يلقيه الشيطان، وإنما يزيله ويبطله بإحكام آياته، أما (القرءانيون) فهم بالمعنى الذي يقولون به يجعلون ربهم يثبت ما يلقيه الشيطان!!
5. الآية: {مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللّهَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِير} [البقرة:106]، تتحدث عن جواز أو احتمال وقوع النسخ، وأداة الشرط المستعملة تُستعمل في العربية لأمر غير محقق الوقوع، ولا تحتم وقوعه، وهي تتحدث عن شرطين أو احتمالين ممكنين هما نسخ الآية أو إنساؤها، وفي الحالتين يأتي الله بما هو خير مما نُسخ أو أُنسي، وهذا هو جواب الشرط، فالجواب واحد للاحتمالين أو الشرطين، فالآية التي يأتي الله بها في حالة تحقق أيٍّ من الاحتمالين أو الشرطين تحل محلّ ما نُسخ أو أنسي، وهذه الآية بدورها تتصف بواحد من أمرين، أن تكون خيرا من المنسوخة (أو المنساة) أو مثلها، ولو كان النسخ هو الإثبات كما يقول القرءانيون فما هو معنى أن يُثبتها ثم يأتي بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا؟ وما نُسِخ قد يظل لدى بعض الناس علم به لوجوده في شريعة سابقة، أما ما أُنسي فقد اندثر، فلم يعد للناس علم به قديمًا أو الآن، وتفسيرهم للآية يقوض اتساقها مع سياقها، وفي كل الأحوال إذا ثبت الاحتمال سقط الاستدلال.
6. يوجد من أنواع النسخ ما هو ثابت، وهناك منه ما لا مشكلة فيه، فلا مشكلة في أن ينسخ القرءانُ فعلًا كانوا يمارسونه أو حكمًا كانوا يأخذون به في العصر النبوي بغض النظر عن أصله أو مصدره، ومن ذلك ما يسمونه بنسخ (السنة) بالقرءان، ولا مشكلة في أن ينسخ أمرٌ ورد ذكره في المرويات فقط أمرًا سابقًا عليه ورد ذكره في المرويات فقط، مثلما حدث في مسألة زيارة المقابر.
7. الخلاف هو في مجال النسخ، وقولنا هو أن مجال النسخ هو ما أخذوا به من أفعال أو أحكام الشرائع السابقة قبل نزول الآية الناسخة، ففي القرءان توجد الآيات الناسخة للأفعال أو الأحكام المأخوذة من الشرائع السابقة، ولا توجد فيه آيات منسوخة، فمجال النسخ لا يشمل أبدًا الآيات القرءانية، الآية القرءانية التي تتضمن حكما يمكن أن تنسخ آية تتضمن حكما في شريعة سابقة، والأمثلة عديدة، أما قول الأديان التي حلَّت محلّ الإسلام فهو أن النسخ يمكن أن يشمل الآيات القرءانية الموجودة الآن في القرءان الذي يتلوه الناس، وأن الناسخ يمكن أن يكون آية قرءانية أخرى أو ما يسمونه بالسنة (المرويات والآثار)، وأضاف بعضهم الإجماع، وقولهم هذا مرفوض رفضًا باتا، وهو يتضمن كفرا بكتاب الله، وتكذيبا بما ذكره الله تعالى من أنه لا اختلاف في القرءان، وهو يحول بينهم وبين إدراك وفقه المنهج القرءاني، وقد أدى إلى صياغة الأديان التي حلت محل الإسلام، كما أدى إلى شرعنة تصرفات السلف (المقدس) المناقضة للقرءان، فلا غنى لهم عنه، ولذلك يعتصمون بشدة به، هذا في حين أن المنهج القرءاني مبني على أن آيات القرءان كلها كاملة الحجية والمصداقية، وكلها متسقة متكاملة، فلا يجوز استبعاد واحدة منها عند استخلاص القول القرءاني في مسألة تذكر هذه الآية شيئا عنها.
8. ما يسمونه بـ"نسخ الحكم دون التلاوة" هو باطل، ويقصدون به زوال وإبطال حكم الآية القرءانية مع بقاء رسمها ليُحوَّل فقط إلى صيغة صوتية محاكية لرسمها، وقولهم هذا يتضمن كفرا بالآيات التي زعموا أنها منسوخة الحكم، فهو ضرب من الكفر بالله الذي له الأسماء الحسنى وبآيات القرءان الذي هو كلامه، ومن يكفر ببعض الكتاب يكفر بالضرورة به كله، وذلك لكفره بمنهجه.
9. زعمهم بوجود ما يسمونه بنسخ التلاوة دون الحكم، والذي يعنون به نزول سور من القرءان لم تُدوَّن أو أن سورا لم تدون أجزاء كبيرة منها أو وجود نصوص كانت من القرءان ولم تدون ولكن بقي حكمها، هو ضرب آخر من الكفر بآيات القرءان وبدين الحق، وهو ضرب من اللغو والعبث، وهو إلزام للمسلمين بشائعات لا حقيقة لها يستعملونها لضرب آيات القرءان، وهم بذلك يكذِّبون ربهم ويلقون بظلال كثيفة من الشك على كتابه ويستدلون بمرويات ظنية -حكم أحدهم بصحتها وفق معاييره البشرية- على ضياع أجزاء كبيرة من القرءان؟! وما هو الداعي لإنزال سور قرءانية ضخمة ثم محوها في هذه المدة القصيرة؟!
10. ومن الباطل العبثي قولهم بنسخ الحكم والتلاوة جميعا، فهذا يعني وجود نصوص قرءانية لم تُدوَّن ولم يعد لها حكم!!! وهم يحتجون فيه على الناس بما لا وجود له وببعض الهراء والسفسطة اللفظية، ويبطلون قول من خالفهم بما يقدمونه من هراء، ودون أن ينظروا في أدلته التي هي أقوى بالتأكيد من هذه السفسطة!!! والسؤال: هل المطلوب فقه القرءان أم إحداث نوع من النسخ لتكتمل التباديل الممكنة المشار إليها؟ وهل يجوز الاستدلال بمروية ظنية في الدين الخاتم الملزم للناس إلى يوم الدين؟
11. والاستنساخ غير النسخ، فالاستنساخ هو بمثابة تسجيل الوقائع بأية وسيلة، ومن المعلوم في اللغة أن زيادة حروف على الفعل المجرد تغير معناه، غفر غير استغفر، وأطعم غير استطعم ... الخ، وفي القرءان أمثلة عديدة.
12. منظومة سمات القرءان الثابتة بالقرءان تقوِّض كل زعم بأن فيه آيات منسوخة.
13. بافتراض –جدلا- أن المنسوخ أو المُنسَى هو بالفعل آية قرءانية، فمن المفترض أن تكون هذه الآية قد أُزيلت، أي لم تعد موجودة في القرءان منذ اكتمال التنزيل في العصر النبوي إلى الآن.
14. مجال عمل النسخ هو آيات تتضمن أحكاما وأوامر كانت مقررة في الشرائع السابقة، وكان مأخوذا بها في العصر النبوي قبل أن تنزل الآيات القرءانية الناسخة له، ومما تم نسخه اتخاذهم المسجد الأقصى (إلياء أو أورشليم القديمة) قِبلة، فلقد أمروا بأن يولوا وجوههم شطر المسجد الحرام، كما أُحلَّ لهم الرفث إلى نسائهم في ليالي الصيام بعد أن كان محرما في الشرع السابق... الخ.
15. القرءان يتضمن الآيات الناسخة للأحكام والأوامر المذكورة في البند السابق.
16. لا يوجد في القرءان أي نصٍّ قطعي الدلالة يقول بأن بعض آياته منسوخة مع خطورة هذا القول.
17. لا توجد في القرءان آيات منسوخة.
18. كل آيات القرءان كاملة الحجية والمصداقية ومتكافئة، فلا يجوز استعمال إحدى الآيات لإلغاء آية أخرى أو أكثر.
19. إن القرءان يصدِّق بعضه بعضا؛ فهو مصدق للذي بين يديه، فكل آية لاحقة لا تنسخ ولا تلغي السابقة وإنما تؤكدها وتصدقها وتتسق معها وتتكامل معها.
20. ليس ثمة نسخ في الكتاب بمعنى أن يلغي النص أو الحكم اللاحق النص أو الحكم السابق، ذلك لأن الكتاب العزيز ليس مجرد مدونة قانونية، كما أن آياته قد صيغت بحيث تكون محصنة ضد النسخ بتضمنها أخبارا لا يمكن أن تنسخ أبدا، والمسلم ليس مطالبا بمعرفة ما هو النص اللاحق وما هو النص السابق، وليس مطالبا بمعرفة ما سمِّي بأسباب النزول المبنية على مرويات ظنية، ولكنه مطالب بتدبر القرءان ككتاب كلي متسق جامع.
21. في أي مسألة من المسائل فإنه يجب أخذ كل الآيات القرءانية التي ذكرت شيئا عنها في الاعتبار، فلكل آية حجيتها ومصداقيتها، ولا يجوز إبطال إحدى الآيات بالزعم بأنها منسوخة، والآيات هي بمثابة المصابيح الموصلة على التوالي؛ لا يصح قطع واحد منها وإلا لضلّ الناس عن القول القرءاني في المسألة.
22. تكرار الأمر أو إصدار أمر جديد يتضمن القديم ويبينه ويفصِّله ويؤكده ويتوافق معه لا يعني أبدًا نسخا للحكم القديم، فهذه الأمور متسقة تمام الاتساق: (في الخمر إثم كبير، لا يجوز أن يقرب الناس الصلاة وهم سكارى لا يعلمون ما يقولون، الخمر مأمور باجتنابها)، فلا يوجد أي تعارض بين هذه الأمور إلا في أذهان أتباع المذاهب التي حلت محل الإسلام.
23. ومن الباطل قولهم بجواز نسخ الآية القرءانية المحكمة بمروية، فهذا يعني أن المروية عندهم يمكن أن تكون خيرًا من آية قرءانية، فنسخ الآية يكون بالإتيان بما هو خيرٌ منها أو مثلها، وسيقولون بالطبع إن الخيرية هي للتيسير، فما هو مثلا التيسير في جعل عقوبة الزاني المحصن الرجم بدلا من الجلد؟ وما هو التيسير في صيام شهر رمضان بدلا من صيام يوم عاشوراء المزعوم؟ إنهم بذلك يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ.
24. ولا نسخ في السنن أيضًا طبقا لتعريفها القرءاني الأصلي الحقيقي وذلك لوجود نصوص قطعية الدلالة على ذلك من ناحية وبحكم طبيعة السنة من ناحية أخرى؛ أي من حيث أنها هي القوانين والمبادئ، فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلاً، هذا فضلا عن أن السنن الإلهية الكونية هي أيضًا من كلمات الله التي لا تبديل لها ولا تحويل، والسنن الشرعية والتشريعية الماثلة في القرءان لا يمكن أن تُنسخ، فالنسخ الذي اصطلحوا عليه باطل، فلا يوجد حكم استخرج من نص قطعي الثبوت ينسخه حكم آخر من نص آخر سواء أكان قطعيا أم ظنيا، ولا يقال إن القرءان ينسخ السنة، ذلك لأن السنة الحقيقية إما أن يكون منصوصا عليها فيه وإما أن تكون مستنبطة منه وإما أن تكون مصدقة له وإما أن تكون من فحوى نصوصه، فكيف ينسخ الأصل فروعه ولوازمه ومقتضياته، وبالأحرى لا يقال إن السنة تنسخ القرءان، ذلك لأنها منه فكيف ينسخ الفرع أصله؟
25. كان يحدث تدرج في التشريع وفرض الأحكام في العصر النبوي، فهي لم تُفرض دفعة واحدة، ولكن لم يكن ذلك يحدث أبدًا عن طريق إلغاء مضمون أية آية قرءانية أو نسخها.
26. قد يكون قد حدث تغيير لبعض الأوامر التي كان الرسول يأمرهم بها أثناء العصر النبوي، ولكن لا علاقة لهذه المسألة بقضية النسخ في القرءان، فهي لم تؤدِّ إلى نسخ أية آية قرءانية، وهي لا تعني إلا أن فعلا أو حكما ورد في أثر أو مروية نسخ فعلا أو حكما ورد في أثر أو مروية، وذلك مثل النهي عن زيارة القبور ثم السماح بها، فهذا كان شأنًا خاصًّا بقوم الرسول في العصر النبوي، ولا أثر له في آيات القرءان أو أحكامه.
27. يخطئ من يظن أن قولهم بالنسخ يقتصر خطره على بضع آيات يعمل المهتمون بالأمر على تقليل عددها إلى أدنى حدٍّ ممكن، إن القول بالنسخ سارٍ في كل تفاسيرهم واشتقاقهم للأحكام ومناهجهم وبنيان مذاهبهم، فهو مضاد تمامًا للمنهج القرءاني بما يتضمنه من موازين، وهو من أهم أسسهم لاتخاذ القرءان مهجورًا والقضاء عليه بمصادرهم الخاصة؛ أي هو لازم لإعطاء الشرعية للأديان التي حلَّت محل الإسلام.
*******
إن كل المحسوبين ظلما على الإسلام يؤمنون إيمانًا لا يتزعزع بما يسمونه بالنسخ، وهم يقصدون به أنه توجد في القرءان آياتٌ منسوخة، والآية المنسوخة عندهم هي آية تم إلغاء حكمها إما بآية أخرى وإما بأثر أو مروية مما يسمونه بالسنة، وهذا القول منهم باطل، ولم يأتوا عليه بأوهى دليل، وهو يتضمن لا محالة كفرا بالآية التي يقولون بأنها منسوخة فضلا عما فيه من تجديف وسوء أدب مع القرءان ومع من القرءان كلامُه.
أما نحن فنقول إنه لا توجد في القرءان أيةُ آياتٍ منسوخة، بل توجد فيه آيات ناسخة لبعض أحكام الشرائع السابقة من حيث أن الدين عند الله واحد هو الإسلام الذي بدأ رسميا برسالة إبراهيم عليه السلام، واكتمل وخُتِم بالرسالة المحمدية؛ فهذه الرسالة تتويج لهذا الدين وبها تمَّ واكتمل.
أما الحكم المنسوخ فلا يوجد نص عليه في القرءان، وإنما هو يُدرَك من فحوى الخطاب، وعلى سبيل المثال كان المسلمون يصلون تجاه قبلة معينة قبل أن ينزل الحكمُ الناسخ لذلك والذي يتضمن الأمر بالتوجه شطر المسجد الحرام، فلا توجد في القرءان آيةٌ تأمرهم بالتوجه نحو القبلة القديمة، وإنما توجد في القرءان الآيات التي تأمرهم بالتوجه نحو المسجد الحرام، قال تعالى:
{قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاء فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوِهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُون}[البقرة:144].
أما حقيقةُ القبلة القديمة فلا تعني المسلمين الآن في شيء، وليس من الصعب استنتاج أنها كانت نفس قبلةِ أهل الكتاب؛ أي بني إسرائيل، أي هي المسجدُ الأقصى، وكان موجودا في إيلياء أو أورشليم التي سيسميها المسلمون من بعد بيتَ المقدس، فهو الهيكلُ أو المعبد أو ثاني بيت وُضِع للناس وبارك الله حوله.
ولم تكن هناك مشكلةٌ بالنسبة للمسلمين عندما كانوا في مكة، فكان يمكنهم الجمع بين القبلتين، ولكن المشكلةَ نشأت بعد الهجرة إلى المدينة والتي تقعُ شمال مكة، فلا يمكن الاتجاه شمالا وجنوبا في نفس الوقت، وهذا ما كان يحزُّ في نفوس المؤمنين، وكان تغيير القبلة أمرا مقدرا عند الله تعالى فمن البديهي أن تكون القبلةُ العالمية هي البيتُ المبارك للعالمين في مكة؛ فهو أول بيت وُضع للناس.
وبذلك يتبيَّن الأمر؛ القرءان ليست به آياتٌ منسوخة؛ فلا توجد آيةٌ تأمرهم باتخاذ المسجد الأقصى أو أي مكان آخر قبلة، وإنما توجد الآيات الآمرة بالتوجه شطر المسجد الحرام، وهي ناسخة للحكم السابق غير المنصوص عليه في آية قرءانية.
وكذلك الأمر في حكم الرفث إلى النساء في ليالي الصيام، قال تعالى:
{أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَآئِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ عَلِمَ اللّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتانُونَ أَنفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنكُمْ فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُواْ مَا كَتَبَ اللّهُ لَكُمْ...}[البقرة:187]،
فالآية تنسخ بذلك حكماً غير مذكور صراحة في أية آية قرءانية كان الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِهمْ بمقتضاه محرما عليهم، ولا يهم المسلمين الآن معرفة من أين أتى هذا الحكم، وهو بالتأكيد من ملة إبراهيم أو من شريعة أهل الكتاب، ولكن المهم هو أن القرءان يتضمن الآية الناسخة فقط.
ولقد سمَّى الله تعالى ذلك الكتاب ببعض أسمائه الحسنى فقال إنه عليّ حكيم وكريم وحكيم وعظيم ومجيد وعزيز وحقّ ونور ومبين ومهيمن، كما قال بأنه الصدق والذكر وأنه أُنزل بالحق وأنه أحسن تفسيرا وأنه لا اختلاف فيه وأنه لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، فالقول بالنسخ هو مضاد تمامًا لكل هذه الأسماء كما هو مضاد لكون الكتاب هدي للمتقين وبرهانًا مبينا، ومضاد لكونه مُبينا ومبيِّنًا وتبيانا لكل شيء.
إنه يجب العلم بأن للقرءان منظومةَ سماتٍ ثابتة بآياته قطعية الورود والدلالة، هذه السمات لها الحكمُ والتقدم على كل ما يُقالُ بخصوص القرءان، ذلك لأن هذه السمات هي من مظاهر أسماء مَنْ القرءان كلامُه، والقول بالنسخ مضاد تماما لمنظومة السمات هذه، فهذا القول بذلك هو من كبائر الإثم ومن الكفر المبين لتعارضه مع سمات ومقتضيات القرءان الكريم.
1