نظرات جديدة في المصطلحات
السنة
إن كلمة "سنَّة" هي على وزن "فُعْلَة"، وهي اسم معنى (اسم فعل)، وهي تُطلق على ناتج الفعل "سنَّ"، فهي بذلك من حيث المعنى اسم مفعول للمرَّة من الفعل "سَنَّ"، فكلمة "سُنَّة" هي على معنى "مسنون"، ويؤدي معناها أيضا كلمة "سَنَن"، وجمع "سُنَّة" هو "سُنَن"، وقد ورد أيضًا في القرءان.
واسم المعنى هو ما يُسمَّى عند اللغويين بالمصدر، وهو الذي يعتبره الكثير من اللغويين الأصل فيما يتعلق بالمشتقات، بينما يعتبر الآخرون الفعل هو الأصل، ونحن نقول بأن الأصل أو الجذر هو الفعل الماضي، ولذلك قد يتعدد ما يسمونه بالمصدر لنفس الفعل، فتعدد (المصادر) للفعل الواحد هو مما يشير إلى أن الفعل هو الأصل، ولذلك نفضل تسمية المصدر باسم المعنى أو اسم الفعل.
فمن الأفضل -بدلا من استعمال المصطلح "مصدر"- استعمال مصطلح "اسم المعنى" أو "اسم الفعل" والبحث لما يسمونه بـ(اسم الفعل) عن اسم آخر، فلا داعي للاستمرار في الاستعمال الخاطئ لمصطلح، ومن ينظر فيما يسمونه باسم الفعل وتصنيفاته سيدرك ذلك.
والمقصود بالفعل الفعل بمعناه العام، والذي يشمل بالنسبة للإنسان مثلا الأفعال القلبية؛ الذهنية والوجدانية، والأفعال الذاتية غير المتعدية.
إنه إذا كانت الأسماء الإلهية هي الأصل في العالم الإلهي فإن الأفعال الإلهية هي الأصل في كل ما هو غيرٌ وسوى، فكل ما هو من دون الله هو من مقتضيات ونواتج فعل أو أكثر من أفعاله، لذلك كان من المنطقي أن يكون الفعل الماضي هو الأصل، وليس ما يسمونه بالمصدر.
ونتاج إعمال الفعل "سنَّ" هو ما يتم الالتزام به وتجري الأمور على نمطه، فكلمة "سنَّة" تعني الطريق أو المسار المحدد تماما والمهيأ مسبقًا بواسطة كائن ليسير عليه أو يلتزم به كائنات يمكن أن يكون الكائن الفاعل منها، فهي المجرى والمثل الواضح الدقيق الثابت الذي يحفره مسبقًا الكائن الفاعل ليتبع مسراه ومجراه كائنات.
فالسنة بذلك هي الأمر الذي ابتدأه أحد الكائنات وجعله قانونًا ساريا أو نمطا للسلوك، فهي بذلك أيضًا تتضمن معاني القانون أو نمط سريان الأمور وتحققها أو الطريق أو الطريقة أو العادة أو السيرة أو النهج.
والسين والنون أصلٌ واحد مطرد، وهو جريَان الشيء واطرادُهُ في سهولة ويسر.
و"سُنَّة الله" هي بذلك السبيل والمسار المقدَّر مسبقًا من الله تعالى لتسير عليه الكائنات وتجري وفقه أمورهم؛ فهي قوانين الله تعالى، ولها أنواعها العديدة وفق مجال تأثيرها.
ومن الناحية الاصطلاحية يجب أولا العلم بأن القرءان هو المصدر الأوحد للمصطلحات القرءانية، وهذه بديهية، فطالما ورد المصطلحُ في القرءان فإن معناه يكون مبيَّنا في الآيات التي ورد فيها وفي فحواها ومقتضاها؛ أي إنه لابد أن في القرءان من الآيات ما يحدد مدلولات المصطلح ومعانيه، ولذلك لا يحقُّ لأحد أن يفرض على المصطلح القرءاني معانيَ من عنده، إن ذلك يكون من باب تحريف الكلم عن مواضعه وتحريف الدين وبث ألغام خطيرة في بنيانه، لذلك فمن كبائر الإثم الخطير والعظيم تحريف معنى مصطلح ورد في القرءان أو تحميله بمعانٍ لا دليل عليها من القرءان لأغراض مذهبية أو غير حقانية.
والعلم بالشئون الإلهية المذكورة في القرءان وكذلك معرفة معاني السنة بالنظر إلى طائفة من الآيات كل ذلك يساعد على معرفة معاني السنة الأخرى.
ومن آيات القرءان ومن فحاوى ومقتضيات وإشارات هذه الآيات فإن أبرز معاني السنَّة أنها:
السنن الإلهية الكونية الخاصة بالمخيرين، وهي ما أعلنه الله تعالى على خلقه من مقتضيات أسمائه وأعلن أنه يعاملهم بها أو أنه كتبه على نفسه، ومن ذلك أنه قال:{إِنَّ اللّهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِن لَّدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا}، {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ}،وهو لم يوجب إلا ما اقتضته أسماؤه التي هي مقتضيات كينونته وكنهه الذاتي، فهي القوانين التي تحدد آثار الفعل الاختياري الإنساني.
النمط الذي تجري على منواله الأمور بطريقة تلقائية آلية بأمر الله تعالى وفعله؛ أي بما اقتضته أسماؤه لها من خصائص، ومن مظاهره القوانين العلمية الحاكمة على الظواهر الطبيعية والكيانات المادية، فهو يحكم حركتها وتغيرها والعلاقات والارتباطات فيما بينها ويرتب أمرا يُسمى نتيجة على أمر يُسمى سببا، وكذلك القوانين التي ترتب على أفعال الكيانات ذات الإرادة والاختيار مثل الإنسان والأمة آثارها اللازمة.
النمط السلوكي الذي يجب أن تلتزم به الكائنات ذات الإرادة الحرة بمحض اختيارها لتتحقق بها ولها المقاصد الدينية، والأنماط السلوكية والقوانين التي ارتضاها الله لعبادة تشكل نسيج الدين وعناصره ومنظوماته.
فالسنة هي مصطلح قرءاني لا يجوز لأحد الاعتداء عليه بتغيير معناه أو إلغاء معانيه القرءانية بطريقة مباشرة أو غير مباشرة.
ومعاني السنة طبقا للقرءان بطريقة أكثر تفصيلية هي:
1. السنن الإلهية الكونية الخاصة بالمخيرين، وهي ما أعلنه الله تعالى على خلقه من مقتضيات أسمائه وأعلن أنه يعاملهم بها أو أنه كتبه على نفسه، ومن ذلك أنه قال:
{إِنَّ اللّهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِن لَّدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا}، {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ}،
وهو لم يوجب إلا ما اقتضته أسماؤه التي هي مقتضيات كينونته وكنهه الذاتي، فهي القوانين التي تحدد آثار الفعل الاختياري للكيان الإنساني على نفسه وعلى غيره، فهناك فعل إنساني تعود آثاره على كيان الإنسان نفسه، وهناك فعل الكيان الإنساني الكبير، وهو يعود على نفس الكيان وعلى أفراد ومكونات هذا الكيان.
فالسنة هاهنا هي قانون إلهي تسير على منواله أمور الكائنات المخيرة مثل الناس، وهي السنن المشار إليها في مثل قوله تعالى:
{قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَانْظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذَّبِين} [آل عمران:137]، {وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّةَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلًا (43)} فاطر
مثال: يوجد نص على أنه "مَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ، وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ"، هذا قانون كوني إلهي محله الإنسان المخير، وهو بذلك سنة تجري على منوالها أمور الكائنات المخيرة المكلفة، وهذا النوع من السنن هو مقتضى كل منظومة الأسماء الحسنى، ولابد من سريان حكمها وتحقق متعلقاتها، فهذه هي السنن الإلهية الكونية التي لا تبديل لها ولا تحويل.
مثال آخر: يوجد نص على أنه "لَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ"، هذه سنة إلهية كونية مجالها هو الكائنات المخيرة المكلفة، وهي بذلك قانون تجري على منواله أحوال وأمور الكائنات المخيرة المكلفة، فلابد من ارتداد الشر على فاعله، هذا قانون لا تبديل له ولا تحويل.
ومن هذه السنن أيضا: لاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى، إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ، لاَ يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ، مَن يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِّن دُونِ اللّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُّبِينًا، وَمَن يَعْتَصِم بِاللّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيم، مَن يَتَوَلَّ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ فَإِنَّ حِزْبَ اللّهِ هُمُ الْغَالِبُون، ............
ومن هذه السنن القوانين التي ترتب آثارا على كل فعل إنساني اختياري صدر عنه كاستجابة لأمر أو نهي ديني سواء أكانت الاستجابة بالقبول أو بالرفض ... الخ، ومن ذلك:
{فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُواْ لِي وَلاَ تَكْفُرُون} [البقرة:152]، {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِين} [غافر:60]، {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيد} [إبراهيم:7]
ومن هذا النوع من السنن القوانين الحاكمة على الكيانات الإنسانية التي هي أكبر من الإنسان الفرد مثل القرى والقرون، ومنها ما هو وارد في الآيات؛ بالنص أو بالمفهوم أو بالإشارة أو بالفحوى:
{ذَلِكَ أَن لَّمْ يَكُن رَّبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُون}[الأنعام:31]، {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ وَلَـكِن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُون}[الأعراف:96]، {وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُون}[هود:117]، {وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِم مَّوْعِدًا}[الكهف:59]، {وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولاً يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلاَّ وَأَهْلُهَا ظَالِمُون}[القصص:59]، {وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِن قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُواْ وَجَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ وَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِين}[يونس:13].
وما يترتب على سريان السنن من الشدائد يعرف بالسنين، ومن ذلك:
{وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَونَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِّن الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُون} [الأعراف:130].
2. وقد تكون السنة قانونا طبيعيا تجري على منواله أحوال وأمور الكيانات المادية الطبيعية، وهذه هي السنة الكونية:
مثال: وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ، وَاللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا، إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ أَن تَزُولاَ، اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً، الله بدأ خلق الإنسان من طين، الله خلق الجن من مارج من نار ...... الخ.
3. وقد تكون السنة سنة شرعية أو دينية، فهي بذلك عمل بمقتضى أمر إلهي موجه إلى الكائنات المكلفة المخيرة:
وهذه السنن متضمنة في الأوامر القرءانية، فهي السبيل إلى تحقيق المقاصد الدينية، وهي لذلك تتنوع تنوعًا كبيرا، فهناك تنوع من حيث مدى قوة الإلزام والتأكيد والشمول، وعلى رأسها من هذه الحيثية الأركان الدينية، وهناك تنوع من حيث نوع أو وظيفة الكيان الإنساني المخاطب، فهناك ما هو ملزم للفرد، وما هو ملزم للأمة، وهناك ما هو ملزم لولي الأمر، وهناك ما يبين عبادة، وهناك ما يقدم تشريعا يجل الالتزام به.... الخ
مثال: قال تعالى بعد أن بيَّن بعض أحكام النكاح:
{يُرِيدُ اللّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيم} [النساء:26]،
وهنا ينسب السنن التي كتبها وفرضها على الأمم السالفة إليهم من حيث أنها ظهرت بهم.
مثال: قال تعالى:
{مَّا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَّقْدُورًا} [الأحزاب:38]،
فهو هنا يبين سنة شرعية خاصة بالأنبياء.
مثال: يوجد أمر إلهي شرعي بإقامة القسط، العمل بمقتضى هذا الأمر يصبح سنة يعمل الإنسان وفقا لها، أي تصبح قانونا يلتزم به في حياته ويجد نفسه مبرمجا على العمل به، وكل عمل بمقتضى هذا القانون هو سنة تُنسب إلى من سنها أو من ظهر بها.
4. وقد تكون السنة قاعدة تشريعية أو آلية تشريعية منصوصا عليها في آيات القرءان، أو هي من فحواها ومقتضاها، أو هي مستنبطة منها:
والسنن التشريعية هي تفصيل وتجسيد للميزان القرءاني، وهي تشمل الأسس والمبادئ التي يجب اعتبارها ومراعاتها والنظر فيها عندما تدعو الحاجة إلى أن يسن أولو الأمر تشريعاً لأمتهم أو جماعتهم، وهي من نصوص أو مقتضيات أو فحوى آيات القرءان الكريم، فمن ذلك: لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا، لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ مَا آتَاهَا، عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ، لا تكليف إلا بنص، لا تكليف إلا بما في الوسع، حقوق الإنسان وكرامته أمور مقدسة، لا تحريـم إلا بنص أو بدليل قطعي ثابت بثبوت نصوص، المحرم قد يباح عند الضرورة، لا تزر وازرة وزر أخرى، الأمانات تُؤدى إلى أهلها، يجب تحري العدل في الحكم ............ الخ.
ومن حيث الشئون الإلهية فالسنة في القرءان قد تكون:
من مقتضى الإرادة الإلهية الكونية التي هي جماع مقتضيات المنظومة الكلية للأسماء الحسنى، وبالتالي فهي سارية وحاكمة على كل ما هو في نطاقها ومجال عملها من الكائنات والظواهر، لا تبديل لها ولا تحويل.
من مقتضى الإرادة الإلهية الهادية التي هي جماع مقتضيات منظومة سمات الرحمة والهدى والمغفرة والإرشاد، والتي مجالها هو الكائنات المخيرة ذات الإرادة الحرة، وبالتالي فهي يجب أن تتمثل في أنماط سلوكية يلتزمون بها لكي تتحقق لهم المقاصد الدينية المذكورة في القرءان.
والسنن هي كيانات من عالم الأمر، لابد لها من كيانات خلقية لتظهر بها، أما السنة المنسوبة إلى الله بالنسبة إلى الكائنات الأخرى فهي قانون حاكم ومهيمن، لا تبديل له ولا تحويل ولابد من سريانه في مجاله وحكمه على ما يتضمنه هذا المجال أو ما دخل فيه.
فالسنن المنسوبة إلى الله تعالى هي من كلماته، لذلك فهي تتسم بأنها لا تبديل لها ولا تحويل، فلاَ تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللّهِ ولاَّ مُبَدِّلِ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيم، فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلًا.
فالسنة هي بالأصالة القانون الذي تقتضيه الأسماء الإلهية؛ فهذا القانون سنة لأنه يسرى على الكائنات بسهولة ويسر إذ ليس ثمة ما يعوق سريانه، كما أنه لا تبديل له ولا تحويل، ذلك لأن من اقتضاه هو من له العلو المطلق فوق مخلوقاته ومن هو القاهر فوق عباده، ومن يرتاب في شيء من ذلك فليحاول أن يغير سنة كونية؛ أي فليحاول أن يغير قانونًا طبيعيا.
ولكل اسم من الأسماء الإلهية ولكل منظومة من الأسماء الإلهية نسق من السنن (القوانين)، وثمة أنساق من الملائكة والجنود الموكلين بكل نسق من هذه القوانين، فثمة نسق مثلا من القوانين اقتضاه الاسم "العليم الحكيم" وله جنوده في السماوات والأرض، وثمة نسق وجنود للاسم "العزيز الحكيم" وله أيضًا جنوده في السماوات والأرض...إلخ، والسنن الكونية هي من لوازم ومقتضيات تلك القوانين.
وأنساق السنن التي اقتضتها منظومة أسماء الرحمة والهدى لها أهميتها الخاصة، ذلك لأن مجالها هو الإنسان المخير، وهذه السنن تقتضي أنماطا سلوكية من الإنسان ومناهج عمل هي السنن الدينية أو الشرعية، كما تتمثل في قوانين تربط بين أفعال الإنسان الاختيارية وبين النتائج والآثار المترتبة عليها، وتلك السنن يتضمنها كتاب الله العزيز، ولقد جسدها الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآله وسَلَّمَ بسلوكه وأقواله وأفعاله، أما تحقق النتائج والآثار فيتم بفعل المنظومة الكلية للأسماء الحسنى والتي تشكل منظومة سمات الرحمة والهدى مجموعة فرعية منها.
والسنن الإلهية الكونية تتضمن القوانين القدرية ومنها الأنماط التي تحكم سير الأمور وتطورها وتغيرها أو التي يأتي سير الأحداث مصدقا لوجودها، فالسنن الكونية تربط بذلك الأمور بما يترتب عليها من نتائج ارتباطا سببيا؛ أي ارتباط لاحق بسابق أو نتيجة بمقدمة أو آثار بأفعال، ومن تلك السنن ما يربط بين أفعال أمةٍ ما وبين مصيرها، فهي بذلك تعبر عن أنماط الارتباطات بين الأمور ودرجات هذه الارتباطات ونوعيتها، فهي بصفة عامة تحدد نتائج لأسباب.
ولا يتحقق الحدث في العالم الخارجي إلا إذا تقاطعت كل الحلقات الكونية الخاصة التي يكون هو من نتائجها المحتملة في العالم السماوي الألطف أولًا ليحدث ذلك أيضًا في العالم الدنيوي الأكثف ثانيا، لذلك فكل ما يحدث هنا لابد أن يكون قد تعيَّن من قبل وكُتِب هناك، ولا جبر في ذلك ولا إكراه، وإنما هو نمط سريان الأمور وتحققها مثلما يكون الفعل الخارجي للإنسان مسبوقًا بشيء طرأ من قبل في ذهنه.
والسنَّة بلغة الحروف هي إشارة إلى الشيء الذي يسود ويسري ويتم به التوصل بسهولة ويسرٍ إلى غيره، وتنشأ به حركة بمفهومها العام، والتضعيف إشارة إلى عملية الإتمام وإلى أنها تتم بالتكرار والملازمة، وهكذا فبالتكرار بالنسبة إلى الكائن المخير يتحول السلوك إلى عادة أو دأب أو سيرة، هذا بالإضافة إلى أنها السبيل إلى المزيد من العلم.
*******
إن السنة الإلهية الكونية التي مجالها الكيانات الإنسانية هي جماع القوانين التي ترتب على أفعالهم الاختيارية آثارها اللازمة، وهي من مقتضيات الأسماء الحسنى، لذلك فلا تبديل لها ولا تحويل، وهى بذلك أيضًا النهج الذي يعامل به الله سبحانه الكيانات الإنسانية ويجعل بعض أفعاله مترتبة على أفعالهم، فسنة الله تعالى هي النظام أو الناموس الإلهي، وهو سبحانه يعامل الناس وفق ما نبَّأهم به في كتابه من السنن، ولقد اعتبر –تفضلاً منه- أي خروج عن هذه القوانين ظلمًا نفاه عن نفسه بكل الصيغ اللغوية الممكنة.
إن السنن في القرءان تتضمن أيضًا القوانين بمعناها الاصطلاحي الشائع الآن، فالقانون اصطلاح مُحدث لم يكن مستعملا في العربية من قبل، ولذلك لم ترد كلمة قانون في القرءان، فالقانون متضمن في تعريف السنة، ولذلك تتنوع السنن، فمنها السنن الإلهية، ومنها السنن الكونية الحاكمة على الكيانات الطبيعية (وهي القوانين الطبيعية) ومنها السنن الكونية الحاكمة على الكائنات المخيرة، ومنها السنن الدينية الخاصة بالمكلفين.
والسنة تتضمن المنطق (The logic) الساري في الوقائع والحاكم عليها؛ فمن معانيها أنها جماع منطق التاريخ وقوانينه؛ وهي سنن لا تبديل لها ولا تحويل ويمكن بإدراك هذا المنطق فقه حركة التاريخ وسير الوقائع والأحداث، ولقد ذكر القرءان كثيرا منها، والسنن تتنوع بتنوع مجلاتها، فثمة سنن مجالها الإنسان من حيث هو مريد مخير، وهي تتضمن منطق الأوامر والتعليمات الخاصة بالإنسان المكلف بالإضافة إلى الأنماط السلوكية المطلوبة منه والمترتبة على هذا المنطق.
والسنَّة هي أيضًا جماع السبل المؤدية إلى تحقيق غايات ومقاصد، ولذلك فالسنن الدينية هي كل ما يؤدى إلى تحقيق المقاصد الدينية العظمى والفرعية.
فمن معاني السنة أنها هي القانون أو النهج أو النمط السلوكي الذي يقتضيه الكائن ليلزم به نفسه أو يقتضيه كيان أعلي ليلزم به كيانات أدنى لتحقيق مقاصد أو غايات معلومة، والكيانات الأدنى تكون ملزمة بالأخذ بتلك السنة والتوافق معها والعمل بمقتضاها، والكيان الأعلى قد يكون نفس الإنسان مقارنة بجسده، أو قلبه مقارنة بما هو دونه، والسنن هي تفاصيل ما يسميه الناس بالقدر، فالسنن هي القدر الملزم الذي لا يتبدل ولا يتغير.
*******
لفظ "السنة" كمصطلح مطلق هو مصطلح قرءاني لا يجوز لأحد الاعتداء عليه ولا إلغاء دلالاته القرءانية، فالسنة تضاف بالأصالة إلى من أبدعها وقدَّرها واقتضاها، وهو الله تعالى، ولها من حيث ذلك معانيها المشار إليها في القرءان، ولذلك لا يجوز الحديث عن سنة منسوبة إلى غيره بطريقة تلغي المعاني القرءانية للمصطلح.
ومن المعلوم جيدًا أن الناس عندما يسمعون الآن كلمة "السنة" فإن أذهانهم تنصرف تلقائيا نحو كيان قائم بجوار القرءان، وهذا الكيان يجسده عندهم كتب المرويات، وبذلك تمَّ عمليا إلغاء المعاني القرءانية للمصطلح.
لذلك يجب التأكيد على المعاني القرءانية للمصطلح، كما يجب العلم بأن دين الحق مكون أساسا من منظومات سنن وأن المصدر الأوحد للسنن الكبرى هو القرءان الكريم.
فلا يحق لأحد أبدًا اعتبار الآثار والمرويات التي نسبوها إلى الرسول مرادفة للسنة، إن مصطلح "السنة" هو بالأصالة مصطلح قرءاني، وله مضمونه ومعانيه القرءانية، فالسنة تعني القانون أو المنهج أو المنطق أو العادة أو الطريق أو النمط السلوكي، وهي تعبر عن وسائل موصلة إلى غايات ومقاصد، والسنة بالأصالة هي سنة الله تعالى؛ فهو الذي قدَّرها وأبدعها واقتضاها، ولكنه ينسبها أحيانا لمن أُرسل بها وأظهرها وبيَّنها أو كان مجالاً لهذا الظهور، ومن أنواع السنة:
سنة اقتضتها كل منظومة الأسماء الحسني، فهي جماع القوانين والسنن الكونية التي لا تبديل لها ولا تحويل، ومنها القوانين الطبيعية والقوانين الحاكمة على الشعوب والأمم.
سنة اقتضتها منظومة الرحمة والهدي والتشريع، وهي جماع الأوامر الشرعية وما تستلزمه من المناهج والأنماط السلوكية التي يجب أن يعمل بمقتضاها من أراد السعادة والكمال في الدنيا والآخرة؛ فهي السنن الشرعية.
سنة كونية خاصة بالمخيرين، ووفقا لها تترتب على طبيعة استجاباتهم للأوامر الشرعية آثارها اللازمة.
سنة تشريعية يجب العمل بها والالتزام بها عند سنّ أي قوانين جديدة للناس اقتضاها تطور العصر.
والقول القرءاني {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ}، على سبيل المثال، قد اجتمعت فيه أنواع السنن الأربع، فهو سنة كونية، فلا سلطان لأحد على قلب إنسان، ولا يمكن لأحد إكراه آخر على الإيمان بأمرٍ ما، وهو سنة شرعية، فهو أمر في صورة خبر، وبمقتضاه لا يجوز لمسلم إكراه غيره على الإيمان بشيء، وإنما عليه أن يتبع سبل الدعوة السلمية المعلومة، وهو سنة تشريعية، فلا يجوز لأحد سنّ قانون يتضمن إكراه الناس على أي أمر يتعلق بالدين، وهو سنة كونية يترتب على مخالفتها عقاب يلحق بمن يخالف.
والقرءان الكريم هو المصدر الأوحد للسنن الشرعية الكبرى، وهو المصدر الرئيس للسنن الثانوية، ومن المصادر الأخرى ما تواتر عن الرسول من كيفيات أداء الشعائر ودوَّنه أئمة (الفقه) وما أمكن اندراجه في الإطار العام لدين الحق مما جاء في كتب الآثار لدى أية طائفة من طوائف المسلمين وكان له سند، ومن البديهي أن ما يمكن اندراجه لابد له من أصل حقيقي في كتاب الله العزيز وأنه يجب أن يُفقه وفق أسس دين الحق، فما جاء في كتب الآثار ليس هو السنة وإنما يشير إليها، فلا يجوز أن يقال "جاء في السنة"؛ فذلك استعمال خاطئ للغة.
فسنة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ الملزمة ليست هي ما نُسِب إليه في كتب المرويات وإنما هي مناهجه وأنماطه السلوكية وطرقه أو أسلوبه لمعالجة الأمور التزاما بالأوامر الدينية الشرعية الواردة في القرءان الكريم، فقد كان مجسِّدًا للقرءان بأقواله وأفعاله، فلا يمكن أن تتعارض سنة حقيقية ظهرت به مع أصلها الموجود في هذا الكتاب الذي حفظه الله للناس.
أما مصطلح أهل اللاسنة فهو يتعارض مع ما ورد في القرءان من معاني هذا المصطلح، وهو يلزم الناس بما يؤدي إلى اختزال وتحريف الدين والقضاء على مقاصده كما حدث بالفعل وأوصل الأمة إلى حالتها المعلومة.
*******
إن الاستعمال الاصطلاحي للكلمة لا يلغي معناها اللغوي الأصلي، ولذلك فلكل إنسانٍ مثلا سنته في الحياة، والنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ هو الأولى بأن يكون له سنته، وسنته هذه كانت تجسيدا للقرءان الكريم، ولقد كان هو بمثابة الذكر المنْزَل، قال تعالى:
{... فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ الَّذِينَ آَمَنُوا قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا (10) رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْكُمْ آَيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقًا (11)} الطلاق
فالذي يُضاف إلى الرسول هو سنته وليس "السنة" بمفهومها المطلق أو بمفهومها القرءاني.
وهذه السنة ليست وثائق، وليست هي كتب المرويات، لذلك لا يجوز لأحد أن يقول "جاء في السنة"، ولكن يمكن القول "ثبت بسنة الرسول"، وذلك بعد تقديم البرهان اللازم لإثبات ذلك، أما المرويات فهي مرويات ظنية منسوبة إلى الرسول، فهي ليست أقوال الرسول الحقيقية ولا أحاديثه ولا أفعاله، ولا مجال للجدال في أمرٍ كهذا أبدا.
فالسنة النبوية الحقيقية هي تجسيد للأوامر والمناهج القرءانية، وهي تتضمن ملة إبراهيم من حيث أن الله تعالى أمر باتباعها، وقد قام الرسول بتطهيرها وتعديلها والإضافة إليها على هديٍ من رسالة ربه.
وهذه السنة تتضمن أيضًا الآثار المنسوبة إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ التي لها أصل في القرءان ولا تتعارض معه، وما يلزم المسلم من الأمور العملية أساسًا هو معرفة كيفية إقامة الصلاة وتفاصيل الحج، ويجب العلم بأن الأخبار المنسوبة إلى الرسول ليست هي عين سنته، وإنما تدل عليها وتشير إليها.
ومن الضلال المبين قولهم بأن ما يسمونه بالسنة ويقصدون بها الآثار والمرويات المنسوبة إلى الرسول حاكمة على كتاب الله وقاضية عليه، أما قيامهم بنسخ (إبطال وإزالة) أحكام آيات قرءانية باستعمال هذه (السنة) فهو اعتداء على دين الحق وكفر جزئي به، ومن ذلك استبدال الرجم بالجلد كعقوبة للزاني المحصن، والحق هو أن اتساق المروية مع الأصول القرءانية هو الشرط الضروري اللازم لاعتبارها والأخذ بها.
كذلك لا يجوز تحريف دلالة مصطلحٍ ما ثم البحث عن حجيته بعد هذا التحريف كما حدث بالنسبة لمصطلح السنة، فهم يتحدثون عما يسمونه بالسنة ككيان أحدي مطلق كالقرءان الكريم، أما السنة الحقيقية فلها معانيها القرءانية الراسخة والتي لا علاقة لها بما اختلقه الناس لها من المعاني، فلا يجوز الاعتداء عليها أو تحريفها عن مواضعها، فالسنة هي القوانين الكونية والسنن الشرعية والأنماط السلوكية وسبل الهدى والرشاد الماثلة في كتاب الله تعالى، والفرع لا يثنِّي الأصل ولا يؤدِّي إلى تعدده، فالسنة النبوية فرع من السنن القرءانية.
فالسنة لا تمثل كيانا مستقلا قائما بجوار كتاب الله، ذلك لأن الرسول هو عبد محض لله، وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ، والسنة الحقيقية لا تقابل كتاب الله تعالى كأصل من الأصول، وإنما هو الذي يتضمنها، وهو المصدر الأوحد لما عظم أمره منها، وهو المصدر الرئيس لجانبها الثانوي، الإسلام ليس ديانة مثنوية، والقول بأن السنة هي آثار أو اقوال كانت تتداول شفهيا هو خطأ ديني وخطأ لغوي ومخالفة منطقية، فهو خطأ متعدد الأبعاد ووخيم العاقبة، ولكن يمكن القول بأن الآثار والأقوال التي ثبتت نسبتها إلى الرسول تشير إلى سنة الرسول التي كان يلتزم بها ويلزم الناس بها، فالسنة النبوية هي ما يشير إليه الأثر المنسوب إلى الرسول إذا كانت النسبة صحيحة.
ويمكن القول بأن سنة الرسول هي كما يلي:
السنن العملية كإقامة الصلاة وصيام رمضان وحج البيت، وهي لم تنشأ من العدم، وإنما كانت موجودة ويمارسها من بقوا على الدين الأصلي وهو الإسلام من أتباع الأنبياء السابقين؛ فهي أساسًا من ملة إبراهيم عليه السلام الواجب اتباعها، ولذلك يُخاطب الذين آمنوا على أنهم يعلمونها، وقد قام الرسول بتعديل وتيسير بقايا ملة إبراهيم بناءً على ما في القرءان الكريم، كما قام بتطهيرها من تحريفات الناس، وقد ذكر القرءان تفاصيلها موزعة على الآيات، والرسول تلقى القرءان منْزلا ومُنَزَّلا، وقد تولَّى بذلك وبما لديه من فقه في القرءان وبما لديه من مكانة تبيينها للناس، فجعل قراءة القرءان من أركانها بناءً على الأمر القرءاني بقراءة ما تيسر من القرءان، وجعل تسبيح اسم الرب العظيم في الركوع وتسبيح اسم الرب الأعلى في السجود وعلمهم بعض الأذكار، وذلك بناءً على أوامر قرءانية، وبذلك اكتمل الدين الإلهي الواحد، فتلك السنن إنما حُفظت وانتقلت بالتواتر العملي المجتمعي.
ما تشير إليه المرويات المنسوبة إليه من سنن، والمرويات هي أخبار آحادية إلا قليلا، وتلك المرويات تحوطها الظنية من بين يديها ومن خلفها ويتضمن بعضها أمورا غير مطروحة أصلاً وخاصة في الأمور الغيبية، ولا يوجد ما يلزم الناس بها بل إن الإنسان منهي عن اتباع الظن، ولا يجوز له أن يتبع مروية ظنية إلا من بعد أن يثبت عنده بطريقة قطعية أنها تشير إلي سنة حقيقية، ولكي يثبت ذلك فلا بد من قرائن قوية، وأقوى القرائن هي اتساقها مع مفردات وعناصر منظومات دين الحق الذي يتضمنه القرءان بحيث يمكن اندراجها في هيكله العام، فالمرويات إما أن تكون مصدقة لما جاء في القرءان وإما أن تبين بعض تفاصيل ما جاء فيه من أمور موزعة على الآيات طبقا للفقه القرءاني، وعلى سبيل المثال قد يكون الرسول قد خفف عنهم بعض الأوامر عملا بالتيسير ورفع الحرج، وكان ذلك في إطار ما هو مفوض فيه من الأمور، وفي أمر الأسماء الحسنى قد أمرهم الله في القرءان بأن يدعوه بها، ولذلك حثهم الرسول على إحصاء عدد معين منها، وبصفة عامة يجب الأخذ بكل مروية منسوبة إلى الرسول ما لم يثبت تعارضها المطلق مع أصل قرءاني، ومن الأصول مثلا أن القرءان هو المصدر الأوحد للإيمانيات؛ أي لما يجب الإيمان به من الأمور الغيبية والعقائد، فلا يجوز إلزام الناس بالإيمان بأية مقولة لا أصل لها في كتاب الله تعالى، ومن العقائد الباطلة الشائعة المنصوص عليها عندهم أو التي هي من فحوى أقوالهم: تعريف الصحابي، عودة المسيح، المسيخ الدجال، المهدي المنتظر، القول بأن البخاري أصح كتاب بعد كتاب الله، القول بأن كتب المرويات هي سنة الرسول، القول بأن كتب المرويات حاكمة وقاضية على كتاب الله وناسخة لآياته عند التعارض، القول بأن ما يسمونه بسنة الخلفاء الراشدين ملزمة للناس، القول بعصمة الأئمة، القول بأن عمر بن الخطاب كان المصحح الرسمي للرسول والنبي الاحتياطي، القول بوجود آيات قرءانية منسوخة ..... الخ.
وهم يسمون المرويات المنسوبة إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ بالسنة وبالوحي الثاني وبمثل القرءان، وبالطبع هذا يتضمن اعتداءً صريحا على مصطلح قرءاني وشركا، وهم يجعلون هذه الآثار ممثلة للرسول بقدر ما يجعلون القرءان ممثلا لرب العالمين، ولذلك يتحدثون عن وحيين، أما الوحي الأول فليس له إلا كتاب واحد، هو القرءان الكريم، أما الوحي الثاني فله كتب تسعة أو أكثر! فضلا عما لا حصر له من الشروحات، وهم يتجاهلون تماما الحقيقة الصادعة، وهي أن الفرق هائل بين ما صدر عن الرسول بالفعل وبين ما نسبه أصحاب أحد المتمذهبين إليه بعد ستة أجيال من البشر انخرطوا في فتن مظلمة مدلهمة وضرب بعضهم فيها رقاب بعض رغم التحذير النبوي في حجة الوداع: "لا تَرْجِعُوا بَعْدي كُفَّارًا يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقابَ بَعْضٍ"، كما فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُون، أما وقد تمردوا على رسولهم وانقلبوا على أعقابهم وفَرَّقُوا دِينَهُمْ فقد كان يجب الحذر الشديد في التعامل مع ما نُسِب إليهم، وعلى الأقل كان لا يحق لأحد اتخاذهم أربابا مشرعين في الدين، خاصة وأن الفتن انتهت باستيلاء أهل البغي على السلطة والأمة.
والسنة في اصطلاحهم الذي يسمونه بالشرعي هي ما صدر عن رسول الله من قول، أو فعل، أو تقرير، والسنن القولية هي أحاديثه التي قالها في مختلف الأغراض والمناسبات.
وهم يتكلمون بثقة وكأن لديهم بالفعل تسجيل موثق لكل ما صدر عن الرسول من أقوال أو أفعال أو تقريرات، وكأنه كان لدى أحد (الصحابة) كاميرا التقط بها كل وقائع العصر النبوي وتم من بعد عمل نسخ منها وتوزيعها على كل واحد من جامعي المرويات!
إن ما لدى الناس هو:
السنن العملية مثل كيفيات أداء الصلاة وبعض تفاصيل الصيام والحج، وهذه قد دونها أئمة (الفقه) قبل أن يولد جامعو المرويات، وهم أخذوها عن التابعين أو تابعي التابعين، ولا يجوز أن ينشأ خلاف بسببها، وقد نصَّ القرءان على ما هو هام من أركانها وتفاصيلها.
كتب المرويات والسيرة، وهي أخبار ظنية في مجملها، ومجموعة في إطار مذهبي، فلا يحق لأحد أن يقطع بأنها صحيحة، وإنما يمكنه أن يقول إنها محتملة الصحة، وما درجات الصحة التي قال بها الجهابذة إلا إقرارا خجولا بهذه الحقيقة الدامغة.
فالخبر الظني أو محتمل الصحة يبقى كذلك، فلا سبيل إلى تعديل حالته الآن، ولكن يمكن الأخذ بمضمونه إذا وفَّى بشروط تمحيص جادة وحقيقية ولا يجوز أن يختلف في أمرها من يقولون بأنهم مسلمون، فيجب أن يثبت أن مضمون المروية متسق تمام الاتساق مع دين الحق الماثل في القرءان.
*******
من معاني السنة النهج والطريق، فلا شك أنه لكل إنسان نهجه في الحياة ومنطقه الذي يتعامل به مع الأمور والأفعال والسلوكيات التي يلتزم بها؛ أي باختصار سنته في الحياة، هذه السنة إذًا يمكن أن تكون لأي إنسان، والأولى بذلك رسول الله، والسنة النبوية هي تجسيد للأوامر والمناهج القرءانية، فلقد كان الرسول بالنسبة لهم الذكر المنزل والقرءان الحي، كما كان له مهامه القرءانية المنوطة به والخاصة بقومه فضلا عن مهام الرسالة العالمية:
فسنة الرسول تتضمن ما يلي:
تفعيل الأوامر القرءانية
تجسيد القيم والأخلاق الإسلامية
ملة إبراهيم المطهرة المستكملة من حيث أن القرءان أمر باتباعها.
القيام بمهامه بالنسبة لقومه ومنها تعليمهم الكتاب والحكمة وتزكيتهم.
تعليمهم ما تمخض عنه إعمال المنهج القرءاني.
ولذلك تتضمن سنة الرسول جانبا عمليا، والسنن العملية: هي أفعال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ مثل أدائه الصلوات الخمس بهيئاتها وأركانها، وصيامه وأدائه مناسك الحج، ومن المعلوم بنصوص القرءان أن هذه السنن كانت أصلا من ملة إبراهيم التي أُمِر الرسول باتباعها، وقد أضاف إليها ما أمر القرءان به مثل قراءة القرءان فيها، وطهرها مما لحق بها وسنَّ للناس فيها بعض الأذكار والتسبيحات، وبلغت بذلك صورتها النهائية، وتعلمها منه ألوف نقلوها إلى مئات الألوف ثم انتقلت إلى ملايين، فلا يجوز الاختلاف بشأنها، ويجب على الناس بدلا من ذلك أن ينشغلوا بإقامتها بإخلاص وخشوع وإخبات وقنوت وحضور ذهن وحضور مع المذكور، كما يجب أن يجتهدوا في تحقيق مقاصدها مثل ذكر الله وتقوى الله والانتهاء بها عن الفحشاء والمنكر.
فالسنن العملية وهي أساسا الصلاة والصيام والحج ثابتة بالتواتر المجتمعي الحقيقي، هذه السنن هي أصلا من ملة إبراهيم التي أُمر المسلمون باتباعها، ولقد نصَّ القرءان على أركانها ومقاصدها، كما نصَّ على تفاصيلها موزعة على السور طبقا للنهج القرءاني المعلوم، وقد قام الرسول بإذن ربه بتنقيح ما تقرر من ملة إبراهيم والإضافة إليه بناءً على ما ذكره القرءان، فأصبحت قراءة القرءان والتسبيحات المعلومة جزءا من الصلاة، وتمَّ إعادة الركوع الذي كانت الأمم السابقة قد ضيعته، وأصبحت الصلوات خمسا بعد أن كانت ثلاثا.
والاختلافات الطفيفة بين المذاهب بشأنها لا أهمية لها مقارنة بما نصَّ عليه القرءان صراحة.
وكذلك تتضمن الآثار المنسوبة إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ والمتسقة مع دين الحق الماثل في القرءان، وما يلزم المسلم من الأمور العملية أساسا هو معرفة كيفية إقامة الصلاة وتفاصيل الحج.
ومن أهم ما تتضمنه السنن كيفية إقامة الصلاة وما يلزمها من تطهر وبعض تفاصيل الصيام والحج.
مثال: إقامة الصلوات وشعائر الحج من ملة إبراهيم، وكان أكثرها معلوما للناس في مكة والمدينة، وكان الرسول يصلي الثلاث صلوات من غير هذا الركوع المعلوم، وبدون قراءة القرءان، وبعد مضي فترة من بدء الرسالة تمَّ فرض الصلاة على الناس بالصورة التي هي أصل ما عليه الناس الآن؛ أي أصبحت خمس صلوات بالركوع المعلوم، وتم إضافة قراءة القرءان والتسابيح المعلومة.
ويلاحظ أن لديهم عدة تعريفات للسنة، وكلها تتجاهل تماما أن السنة مصطلح قرءاني لا يجوز المساس به ولا تحريفه عن موضعه، وما يسمونه بالسنة مصدره كتب المرويات وأئمة المذاهب
فلا يجوز لأحد إنكار أنه كان للرسول سنته التي هي العمل بما تلقاه من رسالة؛ أي تجسيد ما في القرءان لقومه، ولكن المشكلة هي في:
الزعم بأن ما نسبوه إليه من سيرة وآثار في كتب المرويات هو السنة.
مصداقية ما نسبوه إليه من سيرة وآثار في كتب المرويات.
ولا يوجد مذهب محسوب على الإسلام إلا واضطر إلى ترك الأخذ بشيء مما نسبوه إلى الرسول أو التشكيك فيه، وعلى رأسهم أكثرهم أخذا بالمرويات مثل أحمد بن حنبل الذي قال: "ثلاثة لا أصل لها التَّفْسِيرُ وَالْمَلَاحِمُ وَالْمَغَازِي"، ولم يستطع أحد أن ينكر قوله، وغاية ما استطاعوا أنهم زعموا أنه يقصد أنه ليس لها إسناد أو إن الغالب عليها المراسيل، وذلك كافٍ تماما لعدم الاعتداد بها كأصول دينية.
قال ابن تيمية : وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْمَنْقُولَ فِي التَّفْسِيرِ أَكْثَرُهُ كَالْمَنْقُولِ فِي الْمَغَازِي وَالْمَلَاحِمِ؛ وَلِهَذَا قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَد ثَلَاثَةُ أُمُورٍ لَيْسَ لَهَا إسْنَادٌ: التَّفْسِيرُ وَالْمَلَاحِمُ وَالْمَغَازِي وَيُرْوَى لَيْسَ لَهَا أَصْلٌ أَيْ إسْنَادٌ؛ لِأَنَّ الْغَالِبَ عَلَيْهَا الْمَرَاسِيلُ مِثْلُ مَا يَذْكُرُهُ عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ وَالشَّعْبِيُّ وَالزُّهْرِيُّ وَمُوسَى بْنُ عُقْبَةَ وَابْنُ إسْحَاقَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ كَيَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْأُمَوِيِّ وَالْوَلِيدِ بْنِ مُسْلِمٍ والواقدي وَنَحْوِهِمْ فِي الْمَغَازِي. مجموع الفتاوى، ١٣ / ٣٤٦
ومن "الشاملة": وَأَمَّا (أَحَادِيثُ) سَبَبِ النُّزُولِ فَغَالِبُهَا مُرْسَلٌ لَيْسَ بِمُسْنَدٍ، وَلِهَذَا قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ: ثَلَاثُ عُلُومٍ لَا إِسْنَادَ لَهَا - وَفِي لَفْظٍ: لَيْسَ لَهَا أَصْلٌ -: التَّفْسِيرُ، وَالْمَغَازِي، وَالْمَلَاحِمُ، يَعْنِي أَنَّ أَحَادِيثَهَا مُرْسَلَةٌ. منهاج السنة النبوية (ج ٧ / ٤٣٥).
فيجب أن يتخلى الناس عن الاعتقاد بأن الآثار هي الحق المطلق، ولا يوجد أي مبرر لاعتقاد ذلك، ولا يجوز إطلاق مصطلح السنة على هذا الخليط غير المتجانس المتفاوت تفاوتا شديدا في احتمالات الصحة.
*******
تعريف السنة في اللغة: الطريقة حميدة كانت أو ذميمة ومنه قوله صلى الله عليه وآله وسلم "مَن سَنَّ في الإِسلام سُنَّة حَسَنَة فله أجرُها وأجرُ من عمل بها من بعده، من غير أن يَنْقُصَ من أجورهم شيء، ومن سَنَّ في الإِسلام سُنَّة سيِّئة كان عليه وِزْرُها وَوِزْرُ مَنْ عمل بها من بعده، من غير أن ينقُصَ من أوزارهم شيء"
أما في الاصطلاح:
في اصطلاح الفقهاء: "السنة ما يقابل الواجب فيقولون الصلاة واجبة والوتر سنة، فالسنة عندهم ما يثاب عليه الإنسان ولا يعاقب على تركه، أما الواجب فهو ما يثاب على فعلة ويعاقب على تركه.
هم يقصدون بها الأمور الدينية الثانوية مثل نوافل العبادات، وبالطبع فليس من حقهم أن يجعلوا السنة هكذا، وتوجد كلمات أخرى يمكن أن تؤدي المعنى الذي يريدونه.
وفي اصطلاح المتكلمين في العقيدة: "السنة ما يقابل البدعة، فيقال أهل السنة ويقال أهل البدعة، أهل السنة هم الملتزمون بما جاء عن الله عز وجل أو جاء عن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وفق ما فهمه الصحابة والتابعون وسلف الأمة أما المبتدعون فهم الذين سلكوا مسالك مخالفه لكتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم ولما عليه سلف الأمة".
فهذا اصطلاح عدواني إقصائي، كما أنه اصطلاح شركي يجعل من السلف أربابا مشرعين؛ لا رادّ لكلامهم ولا معقب لأحكامهم!! وقد دفع المحسوبون على الإسلام ثمنه غاليا، وباستثناء الإمام علي لم يرد أن أحدًا من أهل القرن الأول تكلم في الإيمانيات، وموقف أتباع الدين الأعرابي الأموي من كلامه معلوم.
وفي اصطلاح المحدثين: "السنة هي ما أثر عن النبي صلى الله عليه وسلم من قول أو فعل أو صفة خَلْقية أو خُلقية أو سيرة قبل البعثة أو بعدها".
وتعريفهم يشوبه الحماس والغلو والمبالغة في مصداقية ما جمعه أربابهم من آثار ومرويات، فهل لديهم حقًّا أية معلومات موثقة عن حياة الرسول بخلاف ما هو في القرءان؟ هل لديهم أية معلومات عنه قبل البعثة إلا ما افتراه أسلافهم من قصص يُستعمل الآن للتشكيك في النبوة وفي الإسلام؟! وكيف يمكن أن تكون الصفة الخَلْقية سنَّة؟ وإذا كانت السنة هكذا كما اصطلحوا عليها فكيف يلزمون المسلمين باتباعها؟ أليس في ذلك تحميل للناس بما لا طاقة لهم به من تكليف؟ وهل لديهم أي دليل قطعي دامغ على أن ما لديهم الآن هو عين ما قاله أو فعله الرسول؟! أم إن الجمهور يقرّ بأن أكثرها مرويات مرويات آحادية ظنية؟! وإذا كانت السنة كما يقولون فلماذا كان حرص الخلفاء الراشدين شديدا، ولماذا كان محظورا تدوينها في عصورهم؟ سيقولون: "ومن قال إنه كان محظورًا تدوينها؟" الجواب: "الثابت أنه كان هناك حظر حتى على التحديث بها!! ولماذا لم يشكل أي خليفة راشد لجنة للتدوين الموثق لأهم الأقوال والأفعال النبوية قبل أن يندثر الشهود الحقيقيون؟ هل كانوا يجهلون أن التدوين هو الوسيلة الوحيدة لحفظ الوثائق الخاصة بدين سيظل ملزما للناس إلى قيام الساعة؟! سيقولون: "إن ذلك كان خشية اختلاطها بالقرءان!! وهذا القول يتضمن من الكوارث ما يلي:
الزعم بأن القرءان كان مثل كلامهم، وليس معجزة يمكن التحدي بها.
الزعم بأن العرب الأقحاح كانوا لا يميزون القرءان من غيره من الكلام!
الزعم بأنهم لم يكونوا قادرين على التصرف البسيط في أمرٍ كهذا، إذا كانت السنة كما يقولون كان يمكن جمعها في كتاب واحد موثق يُسمَّى بالسنة، ويمكن كتابة اسم "السنة" على غلافه بأكبر خط ممكن!
وفي اصطلاح الأصوليين: "السنة هي ما صدر عن الرسول صلى الله عليه وسلم غير القرءان من قول أو فعل أو تقرير".
فالأصوليون مولعون بالأحكام، ويريدون أن يحاصروا المسلمين بطوفان منها، لذلك هم يهتمون بكل ما يمكن أن ينتج المزيد منها، والأحكام إنما تنتج من القول أو الفعل أو التقرير، فهذه عندهم أدلة للأحكام الشرعية.
وقالوا: ((قد تطلق السنة على ما عمل عليه الصحابة كما فعلوا في حد الخمر وجمع المصحف أخذا بحديث "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي"))
ولا يجوز إحداث أصل بالاستناد إلى شيء من نفس الأصل، فلا يجوز إحداث تعريف للسنة بمروية ظنية مما يسمونه بالسنة، هذه مخالفة منطقية ساذجة! وفي الحقيقة القول "سنة الخلفاء الراشدين المهديين" يصرخ بأعلى صوت بأنه موضوع، ولا تكليف أصلا بالمجهول!! أما الراشدون أنفسهم فقد اختلفوا فيما بينهم في أمور شديدة الأهمية، وقد تفرق الدين وتمزقت الأمة بسبب اختلافهم فيما بينهم!!! فكأن هؤلاء يقولون إن المقصد من المروية كان أن تتمزق الأمة!!!
ومن المخزي والمضحك أن يجعلوا ما يسمونه بـ(جمع المصحف) سنة للخلفاء الراشدين!!!
ولكن، ألم يخطر ببال أحد من السلف أن يسأل نفسه هذا السؤال: "ما هي السنة التي يقصدها الله تعالى في كتابه والتي ذكر أنه يريد أن يهديهم إليها؟" قال تعالى:
{يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (26) وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا (27) يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا (28)} النساء
وما هي السنة في قوله تعالى:
{اسْتِكْبَارًا فِي الأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلاَ يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ سُنَّتَ الأَوَّلِينَ فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلاً} [فاطر:43]
*******
روى مسلم أن الرسول قال: مَنْ سَنَّ فِي الإِسْلامِ سُنَّةً حَسَنَةً فَعُمِلَ بِهَا بَعْدَهُ كُتِبَ لَهُ مِثْلُ أَجْرِ مَنْ عَمِلَ بِهَا وَلا يَنْقُصُ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْءٌ وَمَنْ سَنَّ فِي الإِسْلامِ سُنَّةً سَيِّئَةً فَعُمِلَ بِهَا بَعْدَهُ كُتِبَ عَلَيْهِ مِثْلُ وِزْرِ مَنْ عَمِلَ بِهَا وَلا يَنْقُصُ مِنْ أَوْزَارِهِمْ شَيْءٌ."
والمروية تشير إلى أصلٍ صحيح، وهذه السنن الجديدة تكون في العمل بالأركان المطلقة والمفتوحة، وليس في العبادات المعلومة والمشهورة، فليس من حق أحد مثلا أن يقترح أن تكون صلاة العشاء ست ركعات لطلب المزيد من الثواب.
فسنة الرسول كانت مصدقة لما جاء في القرءان ومبينة للمراد من ملة إبراهيم ومبينة للكيفيات المطلوبة لإقامة الصلاة والصيام والحج ولما تم استنباطه من القرءان من أحكام.
وتوجد في القرءان أوامر باتباع ملة إبراهيم، وقد أشار القرءان إلى بعض أركانها وتفاصيلها، وكل تفاصيلها واردة في السنن النبوية العملية، فهي تشكل جزءا كبيرا منها.
*******
ويوجد في كتبنا السابقة بيان بمنظومات السنن المنصوص عليها في القرءان الكريم أو المستخلصة منه وفقًا لمنهجٍ قرءاني علمي.
*******
1