التقويم الحقيقي وبدايات شهر رمضان الحقيقي وأشهر الحج
صيام رمضان
إن الصيام هو ركن من أركان الإسلام بكافة صوره، فهو من أركان دين الفطرة والإسلام الظاهري والإسلام الحقيقي؛ أي دين الحق.
والصيام طبقًا لمفهوم دين الحق هو الإمساك أو الامتناع الاختياري عن التلبية الفورية لمطالب الإنسان المترتبة على مطالبه الجسدية مثل المفطرات والجماع من طلوع الفجر إلى الليل، وهذا يتضمن بالأولى والأحرى ترك ما هو محرَّم أصلا مثل الغيبة والنميمة وقول الزور واللغو والرفث وكذلك ترك كل ما فيه شبهة وكل ما يمكن أن يستجد من وسائل إشباع الرغبات الجسمية، وذلك في سبيل تزكية نفسه والقيام بحقوق كيانه الجوهري وتذكير نفسه بأنه لا يحيى بالجسم وحده.
فالصيام هو الذي كُتب، والحد الأدنى اللازم للوفاء به هو صيام رمضان، ومقاصد الصيام مذكورة في القرءان التحقق بالتقوى والتحقق بالشكر لله تعالى.
ويجب أن يوطن الإنسان نفسه على الصيام بالمعاني الأخرى فيلتزم بالصمت لمدد يعتد بها من حين إلى آخر ويعتزل الناس كذلك من حين إلى آخر وأن ينوي دائماً أن يكفَّ أذاه وشره عنهم.
*******
إن كل مؤمن مكتوب عليه الصيام بمفهومه العام الذي كان دائمًا معلوما لأنه من أركان دين الفطرة، وهو مطالب به بقدر وسعه، فالمسلمون كانوا يمارسون الصيام مثلما تعلموه من ملة إبراهيم الحنيفية كوسيلة لتزكية النفس من قبل أن يكتب عليهم، وقد تمَّ عن طريق القرءان تنقيحه وتعديل ونسخ بعض أحكامه والإبقاء على البعض الآخر، ومن ذلك مثلا أن أيام الصيام المعدودات أصبح المقصود بها شهر رمضان بالتحديد على سبيل الإيجاب والإلزام، كما أصبح لا حرج عليهم في الرفث إلى نسائهم في ليلة الصيام بعد أن كان ذلك محرما عليهم في ملة إبراهيم عليه السلام، وكذلك أصبح توقيت انتهاء الصيام هو غروب الشمس، وهو العلامة المؤذنة ببداية الليل.
*******
الصيام هو التعبد لله تعالى بترك بعض الرغبات الجسدية المباحة أصلًا مثل المفطرات والجماع من طلوع الفجر إلى الليل، وهذا يتضمن بالأولى والأحرى ترك ما هو محرَّم أصلا مثل الغيبة والنميمة وقول الزور واللغو والرفث وكذلك ترك كل ما فيه شبهة وكل ما يمكن أن يستجد من وسائل إشباع الرغبات الجسدية، لذلك يجب وجوبا قطعيا الامتناع عن تعاطي المخدرات والدخان أثناء الصيام، إنه يجب دائما أن تؤخذ المقاصد المنصوص عليها في الاعتبار، ومن مقاصد الصيام المعلنة التحقق بتقوى الله وأداء واجب الشكر لله، ولا شك أن تعاطي الدخان أو مشاهدة ما يسمى بالأفلام الجنسية مثلا يتعارض تماما مع ذلك المقصد، فلا يمكن أن يشكر الإنسان ربه باقتراف ما يحرضه على معصيته، ويجب العلم بأن الله تعالى والملأ الأعلى ليسوا مجموعة من الموظفين البيروقراطيين الذين لا همَّ لهم إلا سلامة الإجراءات الشكلية، إنه يجب الحذر من الظن السيئ برب العالمين، ويجب أن يتقي الإنسان أن يُقال له: وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنتُم بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُم مِّنْ الْخَاسِرِين.
*******
إن الصيام هو امتناع اختياري عن تناول ما هو مباح تحقيقًا لمقاصد سامية مثل تزكية النفس والتحقق بالتقوى وشكر الله تعالى، وهو من أركان دين الفطرة ولابد منه لضمان سلامة البنيان الإنساني والكيان الجوهري، وهو ينبغي أن يكون صيامًا حقيقيا وليس مجرد تغيير مواقيت تناول الوجبات أو تركيزها في وجبتين، ويجب أن تقل الكمية الإجمالية لما يتناوله الإنسان من طعام على مدى اليوم عن الكمية المعتادة.
*******
إن الصيام هو الامتناع الاختياري لفترة محددة عن الاستجابة لمطالب الكيان المادي للإنسان من طعام أو شراب أو جماع، فالامتناع عن تلك الأمور التي اقتضتها الطبيعة البشرية هو أيضا إشارة إلي ضرورة الإمساك الباطني عن مقتضيات الطبيعة النفسية الإنسانية، فالصيام هو من مقتضيات إلزام الكيان الأدنى بمطالب الكيان الجوهري الأعلى، فليس بالوفاء بمطالب الجسد فقط يحيى الإنسان وإنما يحيى كيانه الجوهري بنور ربه وبكلماته وبروح منه، وبذلك أيضا يتذكر الإنسان أن ربه هو الأحد الصمد المتين المنزه عن كل ما يتصف به مخلوقاته، فهو المنزه عن الحاجة إلى مدد خارجي من الطعام والشراب وهو المنزه عن الاتصاف بما لا يتفق مع حسنه وكماله الذاتي المطلق، وبذلك التذكر يتطهر الإنسان مما يخالف مقتضيات الإيمان فلا يسيء الظن بربه ويعلم أنه إذا كان الإنسان يستطيع أن يتطهر ولو لمدة محدودة من مقتضيات الطبيعتين البشرية والإنسانية والتي هي من لوازم نقص ماهيته الحقيقية فإن ربه الذي له الكمال الذاتي المطلق منزه تنزيهاً ذاتيا مطلقاً عن كل ذلك وأنه لهذا أحق أن يُعبد وحده لأن كل من هم دونه مهما بلغت مراتبهم الكمالية دائرون في فلكه ومنجذبون إليه وما لديهم من كمال إنما هو منه وكل من هم من دونه آلات بيده وهو الآخذ بنواصيهم والمستوي على عروشهم.
والصيام هو الامتناع عما يخالف مقتضيات الإيمان والتقوى والشكر لله وما يقتضيه ذلك من الامتناع الاختياري عن مطالب الكيان المادي للإنسان من طعام وشراب وجماع لفترة محدودة، فالامتناع الثاني وسيلة لتحقيق الامتناع الأول وإشارة إلى أنه ليس من طاقة الإنسان في كل الأحوال وإنما هو مقصد يسعى إليه، فالإنسان يوطن نفسه ويعقد العزم على الإمساك عما يخالف مقتضيات الإيمان والتقوى والشكر وهو يعلم أن هذا أمر فوق طاقته ووسعه وفوق طاقة كيانه النفسي ولكنه يتقوى على ذلك بامتناعه عن أمور لا يستطيع الامتناع عنها تماما وبصفة دائمة لتقيُّده بكيانه المادي، وكل ذلك من سبل تزكية النفس وتحقيق المقصد الأعظم الثاني، فالامتناع عن تلك الأمور التي اقتضتها الطبيعة البشرية هو عنوان على الإمساك الباطني عن مقتضيات الطبيعة الإنسانية.
*******
إن الصيام هو سعي من الإنسان للقيام بحقوق الأسماء الحسنى الذاتية، ومنها الاسم الصمد، والأسماء التنزيهية، وحقوق التسبيح والتقديس، فهو بذلك سعي من الإنسان للتحقق بمقتضيات هذه الأسماء، وهو بذلك من طرق التقرب إلى الله تعالى، وهو بذلك من أبواب الجنة.
*******
مقاصد الصيام هي تحقق الإنسان بالمزيد من الإيمان والتقوى والشكر لله والتكبير له، لذلك فالصيام يشير إلى أنه على الإنسان الإمساك عمَّا يخالف مقتضيات هذه الأمور، ومحدودية الفترة التي يجب فيها الصوم هي إشارة إلى أنه ليس من طاقة الإنسان في كل الأحوال الإمساك عما يخالف هذه المقتضيات، وإنما عليه السعي لذلك، أما الامتناع عما يخالف مقتضيات التقوى فيعنى ألا يغفل الإنسان عن ذكر ربه وأن يستشعر دائما حضوره الذاتي معه بكافة أسمائه الحسنى، وأن يراقب هذا الحضور وأن يجلَّه وأن يقابله بما يلزم من الأدب.
أما الإمساك عما يخالف مقتضيات الشكر فهو ألا ينسب الإنسان إلي غير ربه ما هو فيه من نعمة وأن يعلم أن كل ما به من نعمة وما هو له من صفات كمال إنما هو من الله سبحانه وتعالى وأنه ليس للإنسان إلا نقصه الذاتي وأنه لا يمتلك شيئا ما امتلاكا حقيقيا وإنما هو مستخلف فيه لأجل معلوم، ومن أعظم النعم على الإنسان تحقق كيانه وتمتعه بالوجود والكينونة، فعليه ألا يسيء استعمال ما أنعم الله به عليه واستخلفه فيه وأن يحسن استعمال كل ذلك طلبا لمرضاة الله سبحانه وتعالى أي لتحقيق مقاصد الدين العظمى، والشكر ليس مجرد الإقرار بأن النعمة من الله تعالى وإنما هو العمل بمقتضى ذلك.
أما التكبير فيعني أن يعلم الإنسان ويتحقق بالعلم بأن الله تعالى أكبر من كل ما يمكن أن يخطر ببال مخلوق، فلا يحاول أن يقيده بتصوراته المحدودة، وأن يجعل له المكانة الأعظم في قلبه، وأن يرهب حضوره الذاتي معه.
*******
إن القيام بالصيام يشير بالأولى إلى ضرورة القيام بأركان أخرى مثل تزكية النفس والقيام بحقوق أسماء التنزيه والانتهاء عن الفحشاء والمنكر، فاجتناب ما هو إثم محرم هو أولى من الامتناع عما هو محلل.
*******
إن المقصد من الصيام هو التحقق بالتقوى وبالشكر لله تعالي، والتقوى هي كل ما يترتب علي الإحساس الصادق بالحضور الإلهي والمعية الإلهية، فالصيام إذًا هو السبيل إلى تنمية الإحساس بالقرب الإلهي والمعية الإلهية، ذلك لأن سبيل التقرب إلي الله سبحانه وتعالي هو الاتصاف بمقتضيات سماته، والصيام هو إعلان من أنية الإنسان وكيانه الجوهري بالاستعلاء علي الجسد ومطالبه ومقتضياته وبأن الإنسان يستطيع أن يحيا دون حاجة إلي مدد خارجي من الأشياء المادية الدنيوية وأن يكتفي بكيانه الأعلى والأبقى، وهو بذلك أيضا يتذكر الإله الأعظم وكيف يحيا غنيا بذاته عن كل ما هو من دونه.
والصيام مرتبط بالزكاة وبإطعام الطعام، وتلك صفات إيجابية مستندة إلى سمات إلهية ومنها الكرم والجود وإرادة الإحياء والإعطاء، وبذلك يجمع الإنسان بين مقتضيات ومظاهر التسبيح وبين مقتضيات ومظاهر التسبيح بالحمد، فكل تلك العبادات تقرب الإنسان من حضرة ربه وتزيد من تحققه بالتقوى وبها يكون في جنات ونهر في مقعد صدق عند مليك مقتدر في الدنيا قبل الآخرة.
*******
إن الصيام هو وسيلة الإنسان لقهر الجانب الحيواني (البهيمي) من كيانه والذي هو مدخل الشيطان إلى نفسه، وهو أيضا مراد لمقاصده ومنها التحقق بالتقوى والشكر لله تعالى، وصيام رمضان بالمعنى المعلوم هو الحد الأدنى اللازم للوفاء بهذا الركن، وهذا الركن من مقتضيات القيام بحقوق الأسماء الإلهية التنزيهية، والتي هي من تجليات ومظاهر الأحدية والصمدية، والصيام هو من أفعل الوسائل اللازمة لتزكية النفس وتذكير الإنسان بطبيعة كيانه الجوهري، ومن كبائر الإثم المضادة لهذا الركن الامتناع عن الصيام أو عن تحقيق مقاصده والافتتان بالجسد وشدة الانشغال بمطالبه، و صوم رمضان من أركان الإسلام الفطري وهو أيضًا من أركان الإسلام الظاهري التي يجب الاحتفاء بها وإعلانها لإظهار الانتماء إلي الأمة.
والصيام واجب على كل إنسان يجد أنه في طاقته، وهو في ذلك رقيب على نفسه، أما من يجد أنه في حاجة إلى بذل ما هو فوق طاقته أو استنفاد طاقته ليتمكن من الصيام وأن حالته هذه لا سبيل إلى تغييرها فعليه أن يطعم مسكينا عن كل يوم وجب عليه صومه، وممن ينطبق عليهم هذا الأمر الشيخ الكبير أو من يمارس عملاً شاقا مضنيا في درجات حرارة عالية جداً أو منخفضة جدا .... الخ.
والصيام لا يعني مجرد الامتناع عن الطعام والشراب والجماع في النهار فقط ولكنه يتضمن الامتناع عن تعاطي ما فيه شبهة أو ما هو محرم بالأولى، والإسلام هو دين مقاصد وحكم، فتحريم الجماع أثناء الصيام يتضمن تحريم كافة صور الإشباع الجنسي الأخرى.
ويجب أن يعلم كل إنسان أن الله سبحانه وملائكته ليسوا بهيئة بيروقراطية لا يهمها إلا السلامة الشكلية للإجراءات، ولكن للأسف كان هذا الاعتقاد هو المهيمن على أئمة ما يسمى بـ(الفقه)، وآية ذلك قولهم دائمًا: "يكون قد أداها وتسقط المطالبة بها" دون أن يبينوا للناس من أعطاهم السلطة ليتفوهوا بقول كهذا ولا أن يبينوا لهم عند من ستسقط المطالبة.
أما التدخين فهو محرَّم في الصيام وفي غيره، والتدخين محرم لأنه يتضمن أمورا محرمة ومنهي عنها في آيات محكمة بيِّنة واضحة، ومنها: التبذير والإسراف وتبديد الموارد وإلقاء النفس في التهلكة والاعتداء على حقوق الآخرين وظلم النفس والغير.
ولا يوجد هاهنا قياس، فمن أثبت له أولو الأمر أن تناول طعامٍ ما (وهو حلال أصلا) يؤدي إلى موته وأصر على تعاطيه يكون قد أثم إثما عظيما بإقدامه على قتل نفسه، ويكون قد اقترف إثم معصية أولي الأمر الحقيقيين أيضا، والإثم محرم تحريمًا تاما بموجب الآية:
{قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُون} [الأعراف:33]
وكل ما نهى الله تعالى عنه نهيا مشددا وفق أساليب قرءانية معلومة يأثم من اقترفه متعمدا.
وآفة الضالين والمضلين هي في التشبث بالحرفيات وإهمال معنى وفحوى الخطاب، أو اعتبارهما بمثابة قياس.
أما القياس الخاطئ فهو في الزعم بأن التدخين مثل الاستنشاق الاضطراري لأية غازات أخرى.
وتعاطي المخدرات بأية صورة من الصور هو محرم أيضًا في الصيام وفي غيره للأسباب السابق ذكرها فيما يتعلق بالتدخين، وآثار هذا التعاطي كما هو معلوم أشد وأخطر من التدخين أو تعاطي الخمور، وإذا كان الإسراف والتبذير في تعاطي الطعام من الأمور المنهي عنها نهيا صريحا مع أن تعاطي الطعام ليس محرما فكيف بتعاطي ما يتضمن التبذير والتبديد وإهلاك الموارد والإمكانات، وإذا كان الصيام هو عن أمور محللة أصلا فكيف بالأمور المحرمة أو التي فيها على الأقل شبهة؟
إن التدخين وتعاطي المخدرات هو من تبديد الموارد والتبذير والإسراف وإهدار الطاقات وإلقاء النفس في التهلكة؛ فهما من صور الفساد، ومن يروجون لذلك هم من المفسدين في الأرض، والإفساد في الأرض هو من كبائر الإثم التي ستتسع على مدى العصور، فكل الصور المستجدة للفساد والإفساد في الأرض هي من كبائر الإثم التي يجب اجتنابها.
*******
لقد ورد في أمر الصيام الآيات الآتية:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183) أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (184) شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقرءان هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (185) وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (186) أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالْآَنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آَيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (187)}.
ويلاحظ أن الآيات حرصت على ذكر المقاصد وعلي حث الناس على توكيد صلتهم بربهم، فالمقاصد هي التحقق بالتقوى والشكر والرشاد وتكبير الله تعالى بمعنى أن يعظم الإنسان قدر ربه في نفسه وأن يعلم أنه أكبر وأجلّ وأعظم من أيّ تصور لديه عنه.
والآيات تبين أن الصيام قد كُتِب على المسلمين كما كُتِب على الذين من قبلهم، وهي تلزم المسلمين بأن يصوموا كما صام الذين من قبلهم كان يفعل متبعو ملة إبراهيم الحقيقية، فالكيفية كانت معلومة لدى المسلمين، ولم تحتج إلى بيان، ولذلك فكيفية الصيام مثلها مثل كيفية الصلاة، فالإسلام لم يبدأ من الصفر، والقرءان هو الرسالة التي بها اكتمل الدين، وتمت كلمة الله تعالى صدقًا وعدلا.
وقد تضمَّن القرءان بعض الأحكام المعدلة والناسخة لما كان عليه أهل الكتاب والتي تبينها الآية:
{الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِيَ أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}الأعراف157،
فأحكام القرءان جاءت مخففة.
ويزعم البعض أن الآية الآمرة بصيام رمضان قد نسخت الآية التي قبلها، والحق هو أنه ليس ثمة نسخ هنا ولا توجد آية منسوخة أصلا في الكتاب العزيز، والآيتان 183-184 تلزمان المسلم بالصيام إجمالا، فكان المسلمون يصومون أياما معدودات فُوِّض إلى الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ بيانها أو تركت لاختيارهم أو أخذوا العلم بها عمَّن قبلهم من ملة إبراهيم أو أهل الكتاب، وهذا أمر كان يعني الجيل الأول فقط ولا يعني أحدا من الأجيال اللاحقة، ثم فُرِض صيام رمضان، فمن صامه فقد وفَّى بما فرضته الآيتان المذكورتان، فليس ثمة أدنى تناقض، ولا يوجد ما يمنع المسلم من أن يلزم نفسه بصيام أيام أخر بالإضافة إلى صيام رمضان، فآية الأمر بصيام رمضان لم تنسخ الآيات السابقة لا من حيث الشكل ولا من حيث الحكم ولا من حيث المضمون، فما زال الصيام مكتوبا علي المسلمين، وما زال الصيام خيرا لهم، ومازالت التقوى من مقاصده، ومازال المسلمون ملزمين بصيام أيام معدودات، هذه الأيام هي شهر رمضان.
ومن ألزم نفسه بصيام أيام معدودات في غير رمضان بطريقة منتظمة أو لأي سبب شرعي فقد لزمته الأحكام المنصوص عليها في الآيتين 183-184، فآيات القرءان مصاغة بحيث لا يمكن أن تتعرض للنسخ.
أما الذي من الممكن أن ينسخ فهو حكم التزم به أهل القرن الأول لفترة ما، وهو بالطبع لم يرد في القرءان صراحة في القرءان، وإنما يمكن إدراكه من فحوى الخطاب، فلا توجد آية قرءانية تحرم عليهم الرفث إلى نسائهم في ليالي الصيام، وإنما يشير تحليل ذلك إلى أنه كان محرما عليهم بأمرٍ لا وجود له في القرءان، فهو مأخوذ من شريعة سابقة.
والمسلمون من بعد -بصفة عامة- ليسوا مطالبين بمعرفة ما هو الحكم الذي كانوا يلزمون أنفسهم به ولا بالتفتيش عنه إلا لأغراض البحث التاريخي، فالتدريج في فرض الحكام أو تغيير بعضها مثل نهي النساء عن زيارة القبور ثم السماح لهن بذلك لا يعني إلا أهل القرن الأول، أما المسلمون الآن فهم ملزمون بالمعاني الواضحة لآيات القرءان وكلها ملزمة لهم وليس فيها أية أحكام منسوخة.
والآيات تبين أن الصيام بصفة عامة هو ركن من أركان الدين، وقد كُتِب على المسلمين كما كتب على الذين من قبلهم، ولذلك كان المسلمون يصومون متبعين ملة إبراهيم كما كانوا يصلون في البداية مثلهم، فكانوا لذلك يصومون أيامًا معدودات وكان لا يحل لهم في ليلة الصيام الرفث إلى نسائهم.
ولقد كان ثمة حكم شرعي معلوم لم يرد في القرءان -وإنما في شريعة من كان قبلهم- يمنعهم من الرفث إلى نسائهم في ليلة الصيام، وقد نسخ الله هذا الحكم بما هو خير منه لما يتضمنه من التيسير ورفع الحرج عنهم؛ فأحلَّ لَهُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِهُمْ، وكان ذلك بعد أن تبيَّن للرسول ولهم هم عملياً أنهم كانوا يجدون مشقة في الالتزام بهذا الأمر.
وقد يقول قائلهم: ألم يكن الله يعلم ذلك من قبل؟ فالجواب هو أن ما يقال إنه كان معلوما من قبل هو في الحقيقة أمر مقدَّر، والعلم يحيط به من حيث ذلك ومن حيث هو كذلك، أما العلم بمعناه الحقيقي فهو يتعلق بالأمر الظاهر المتحقق، فكما أن الحكم على الإنسان إنما يُبنى على العلم بأعماله الحقيقية المتحققة وليس على أعماله المقدرة فكثير من التشريعات الجزئية إنما تبنى على هذا العلم ولا تبنى على العلم بالأمر المقدر، وتلك هي سنة الله في هذا الأمر، ويجب التأسي بها والعمل بمقتضاها عند سنِّ أي تشريع جديد وعند التعامل مع الناس، فلا يجوز أن يصدر أحدهم على الناس حكماً ملزماً تترتب عليه آثار هامة بناء على تقديراته (توقعاته) حتى وإن كان على ثقة من صدقها وصحتها، وإنما بناءً على ما صدر عنهم بالفعل، وكون الأمر قد تم كذلك هو تصديق للآيات القرءانية التالية:
{مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللّهَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}البقرة106، {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِيَ أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}الأعراف157.
فالذي نُسِخ هو الحكم الذي كان ملزما لأهل الكتاب وللمتمسكين ببقايا ملة إبراهيم، وبذلك تبين للناس أنه كان من مهام الرَّسُول النَّبِيّ الأُمِّيّ أن يَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ، كما تبيَّن للناس عظيم فضل الله عليهم ورحمته بهم.
فيجب العلم بأنه لم يتم نسخ أي آية قرءانية بتقرير هذا الحكم الجديد وإنما الذي نُسخ هو حكم كان ملزما للناس من قبل وورد في شريعة أخرى؛ فلا توجد في القرءان آيات منسوخة، وإنما توجد الآيات الناسخة فقط، ففي قوله تعالى:
{مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللّهَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} البقرة106
الذي يمكن أن يتعرض للنسخ أو الإنساء هو آية تتضمن حكما أو نصًّا دينيا في شريعة سابقة عمل به المسلمون بحكم أن الدين واحد، وقد يقول أحدهم هنا: "أليس حكم كتابة الصيام عليهم كما كُتب على الذين من قبلهم قد تعرض للنسخ بمجرد تغيير بعض أحكام الصيام؟" والجواب هو أن الآية تنصّ على كتابة الصيام عليهم، فهي لم تتعرض أبدًا لكيفية الصيام، وهم قد فقهوا من ذلك أنهم يجب أن يصوموا تماما مثلهم، فالذي تعرض للنسخ هو فقههم هم للآية وليس نص الآية، وسيظل الصيام مكتوباً على المسلمين كما هو مكتوب على الذين من قبلهم، وكما سبق القول فالقرءان مصاغ بحيث يتضمن الآيات الناسخة فقط، وليس فيه آيات منسوخة.
والأحكام المتعلقة بالصيام واضحة في الآيات، فَمَن كَانَ مَرِيضا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ، فَمَا جَعَلَ الله عَلَي الناس فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ، أما من يجد مشقة تفوق المشقة المعتادة أثناء الصيام لسببٍ ما مثل القتال أو اشتغاله بعمل شاق هو مورد رزقه وهو يستنزف قواه أو يسبب له عطشًا شديدا غير محتمل؛ مثل العمل مثلا في أفران الحديد والصلب حيث الحرارة شديدة أو لكون الشمس لا تغرب لعدة أيام، ويعلم أنه قد لا يتمكن من قضاء ما فاته من بعد لثبات حالته فعليه أن يطعم مسكينًا عن كل يوم لم يصمه، والإنسان على نفسه بصيرة فيما يتعلق بأمر الصوم وفيما يتعلق بكل العبادات الفردية، فهو المفوَّض لكي يقرر مدى طاقته وإطاقته.
فالإطاقة هي أن يكون الصيام في طاقة الإنسان ولكنه يستنزف قواه؛ أي يجد مشقة فوق الطبيعية إذا أراد أن يصوم، ذلك لأنه لابد في الصيام بصفة عامة من مشقة، ولكن الكلام هو في المشقة فوق الطبيعية، وهو بالطبع سيتخذ قراره بناءً على ما لديه من التقوى، وكل إنسان على نفسه بصيرة، وكل إنسان هو مبتلى في الحياة الدنيا ليتبين له عمله ومرتبته وحقيقة أمره، فالأوامر الدينية التي مجالها هو الإنسان المكلف المخير المبتلى ليست كالقوانين الطبيعية ولا كالقوانين البشرية.
*******
يفسر بعض الناس آيات الصيام بطريقة خاطئة:
1. بعضهم يجعلون "يطيق" بمعنى "يستطيع" فيقولون بذلك أن من يستطيع الصوم عليه فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ إذا أراد ألا يصوم، ويعللون ذلك بأن الله لن ينتفع بجوع الإنسان! وأنه من الأفضل إطعام المساكين!!! وهذا التفسير لا علاقة له بالآيات، هل يتصور هؤلاء أن الله تعالى قد كتب على الذين الصيام لكي يجعلهم مخيرين في أمره؟ ما هو معنى {كُتِب عليكم} أي أمرٍ إذًا؟ كتابة شيءٍ عليك تعني الإيجاب والإلزام، والأمر بإطعام المساكين هو أمر دائم موجه إلى المؤمنين، ولم يكن ثمة حاجة إلى كتابة الصيام على الناس ليفتدوا أنفسهم منه بإطعام المساكين! الآيات تنص على أن الصيام مكتوب على المؤمنين وأن من شهد رمضان وجب عليه أن يصومه، ولو كان الأفضل هو إطعام المساكين لجاء الأمر هكذا: "فمن شهد منكم الشهر فليطعم مسكينا عن كل يوم، وإلا فليصم"!!!
2. وقوله تعالى
{وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (184)} البقرة
يتضمن الحكم العام، بمعنى أن الصيام بصفة عامة خيرٌ للإنسان، وهو لا يلغي ما قررته الآية من قبل من أحكام بالنسبة للمريض أو المسافر أو من يُطيق الصيام.
3. بعضهم يجعلون "يطيق" بمعنى "لا يطيق"!!! فيقولون بذلك أنه سقط حرف النفي بطريقة ما!!! وبالتالي فالآيات تعني عندهم أن من لا يستطيع الصيام عليه الفدية.
والحق هو أن من لا يستطيع الصوم لسبب واضح بيِّن ليس عليه صيام أصلا، فالإنسان مكلف فقط بما هو في وسعه وفي نطاق طاقته، فهم يجعلون الآية بتفسيرهم لا تقول شيئا، ولا يجوز لأحد أن يزعم وجود نقصٍ في الآيات فضلا عن أن يعطي هو لنفسه الحق في تقديره! فمثل هذا يقترف اثما مضاعفًا.
أما الإطاقة فهي أمر آخر، وهي أن يستنفد الصوم من الإنسان أكثر طاقته وقدرته بحيث لا يستطيع أداء مهامه الأصلية اللازمة سواء أكانت متعلقة بالمعيشة أو كانت متعلقة بالعبادات الأخرى مثل إقامة الصلاة مثلا، وقد يكون ذلك أمرا عارضا أو دائما، فمن كان كذلك عليه فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ حتى لا يصوم.
ومن الناس الذين يمكن أن ينطبق عليهم هذا الحكم:
من يقتضي عملهم التعرض لحرارة شديدة مثل العاملين في بعض المصانع أو في المناجم.
من يقتضي عملهم التعرض لبرد شديد وهذا يحدث في بعض المهن في الدول الشمالية.
من يمكن أن يمتد النهار في بلادهم لأكثر مما يمكن لإنسان تحمل صومه كاملا، فهناك من يمتد عندهم النهار لبضعة أيام مثلا، ولا معنى لأن يقول له أحدهم صم مثل بلد آخر، فالصيام هو من الفجر إلى الليل.
*******
ولقد كان المسلمون يصومون أياما معدودات فوِّض إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآله وسَلَّمَ بيانها، وكانوا في ذلك متبعين لملة إبراهيم، ثم فُرِض صيام رمضان، فمن صامه فقد صام الأيام المعدودات ووفي بما فرضته الآيتان المذكورتان، وتلزمه في هذه الحالة الأحكام الواردة في الآية الآمرة بصيام رمضان، أما من ألزم نفسه بصيام أيام معدودات لأي سبب من الأسباب فهو ملزم بكل ما ورد في الآية التي تذكر أَيَّاماً مَّعْدُودَاتٍ وهكذا فلا وجود في القرءان لآيات منسوخة، فالقرءان مصاغ بحيث لا يتعرض أي شيء فيه للنسخ الذي اصطلحوا عليه.
*******
من المعلوم أن اليوم عند العرب يبدأ بليلته، والتي تبدأ من لدن غروب الشمس عن الأفق، وينتهي اليوم بغروبها التالي، هذا ما ذكره الكتاب الموسوعيون، وعلى رأسهم أبو الريحان البيروني في كتابه "الآثار الباقية عن القرون الخالية".
وبذلك فإتمام الصيام إلى الليل يعني إتمامه إلى غروب الشمس، فلحظة الغروب هي العلامة المنضبطة التي يمكن للناس إدراكها لبداية الليل.
*******
من أحكام الصيام:
من لا يستطيع الصيام أصلا فلا صيام عليه، فلا تكليف لإنسان إلا بما هو في وسعه، وهذا حكم عام على كل الأوامر الدينية.
من يستطيع الصيام فهو ملزم به، وهو يأثم إذا تعمد الإفطار لمخالفته أمرا دينيا، وبالطبع لابد في الصيام من بعض المشقة مثل سائر العبادات، ولكنها لا تُسقط عن الإنسان الصوم طالما كانت محتملة، وكل إنسان بصير على نفسه، وهو مبتلى بالأوامر الدينية.
من كان مريضًا أو على سفر يفطر وعليه قضاء ما فاته.
من كان يستطيع الصيام ولكن بمشقة كبيرة تستنفد قواه مثل أن يكون مؤديا لعمل شاق يسبب عطشا فوق الاحتمال العادي له أن يؤدي فدية طعام مسكين إذا أفطر.
*******
لقد بيَّنت الآيات أن الصيام كتب علي الذين آمنوا بالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ وبما أنزل عليه واتبعوه وبينت المقصد من الصيام وهو التحقق بالتقوى والشكر والرشاد، فالأمر بالصيام ليس بالأمر التحكمي، ذلك لأنه سبحانه لن تنفعه عبادة الثقلين، فما كتبه عليهم هو لصالحهم، فالتقوى هي مناط التفاضل الحقيقي، وهو سبحانه يرشدهم إلي سبيل من سبلها، ولقد كتب عليهم ما يمكنهم من التحقق بها والتزود بها، ولقد كانوا يصومون أولا أياما معدودات ترك أمرها مبهما في القرءان تمهيدا لإلزامهم بصيام رمضان من بعد، وبذلك لا يكون ثمة اختلاف في القرءان ولا مبرر للقول بالنسخ، فلا تعارض بين هذه الآية وبين الآية التي ستلزمهم بصيام رمضان، وهكذا تدرج بهم التشريع ولم يطالبوا بصيام رمضان بمجرد كتابة الصيام عليهم، والآية (البقرة: 184) ترخص لمن كان مريضًا أو علي سفر بأن يقضي من أيام أخر بقدر ما أفطر، أما من يجد مشقة في الصوم لا يرجى برؤه منها سريعا فعليه الفدية، أما قوله سبحانه وتعالى:
{فَمَن تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ}
فهو حث علي صيام التطوع وغيره من النوافل، وقوله:
{وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ}
ليست حثا علي ترك الرخصة وإنما هي بيان لأهمية الصيام بصفة عامة وأنه خير للإنسان، فهي حث علي الالتزام بتلك العبادة وليست تفضيلا للصيام بالنسبة لمن تقدمت حالاتهم.
فالآية 185 لم تنسخ الآية 184 وإنما جعلت صيام رمضان هو الصيام المكتوب الملزم، أي جعلت صيام الأيام المعدودات متضمناً في صيام رمضان أو مكافئاً له؛ فلا تعارض ولا اختلاف، ولما كان المسلم غير ملزم بمعرفة التطورات التاريخية التي صاحبت عصر النبوة فإنه يكفيه أن يعرف أن الآية 185 هي بيان وتفصيل إضافي للآية السابقة عليها، فهي تفصلها وتبينها، وهذا هو المفهوم القديم والأصلي للنسخ الذي كان يتحدث عنه السلف الصالح الحقيقي، فهو لا علاقة له بآية البقرة: 106، وهو لا يعني إزالة آية أو إزالة حكم آية وإنما بيانها وتفصيلها، فالقرءان مصاغ ليكون –برغم تطور التشريع وتزايد الأحكام في عصر النبوة- بمنأى عن النسخ بالمعنى الذي سيقول به من بعد بعض المغرضين والمغفلين تحت تأثير إلقاءات الشياطين، وآيات القرءان تبيِّن وتفصِّل آيات القرءان.
*******
إن الصيام لا يعني فقط الامتناع عن تناول الطعام والشراب وإنما هو الكف الاختياري عن استعمال الحواس والإمكانات الظاهرة لأوقات محددة، وهو بذلك من أفعل وسائل تسهيل القيام بأركان الدين الجوهرية العظمى مثل ذكر الله وإقامة صلة وثيقة به وتزكية النفس، فمن الصيام الامتناع عن اللغو والالتزام بالصمت وألا يعمل ملكاته القلبية في الأمور الدنيوية لفترات محددة.
لقد أباح القرءان للمريض وللمسافر الفطر، وترك تحديد التعريف الدقيق لكل من المرض والسفر لأولي الأمر المختصين المؤهلين (وهم الأطباء المؤمنون) أو للإنسان نفسه ليحدده بناءً على درجته من الرقي الجوهري، ذلك لأن المعوَّل هو علي ما أضمره الإنسان في قلبه، والإنسان مبتلى بما صدر إليه من أوامر وما كُلِّف به، واستجابته من حيث المدى والطبيعة هي التي ستحدد مدى انتفاعه بالقيام بما أمر به، ويمكن للإنسان دائما أن يسترشد بأولى الأمر في مصره وعصره، فهم الذين سيبينون له مدى تأثير الصيام على جسده، وكذلك الأمر فيما يتعلق بتعريف الفدية وكمية ونوعية الطعام والمسكين، فأولو الأمر الحقيقيون هم الذين جمعوا كل ما يلزم من العلوم اللازمة للبت وإصدار الأحكام المتعلقة بهذا الأمر، فالأطباء الأتقياء الورعون هم أولو الأمر فيما يختص بتحديد ما يتعلق بالصيام، فلو أجمعوا على أن الصيام مضر بإنسانٍ ما أو أنه سيلحق به أذى حقيقيا فقد وجبت طاعتهم على ذلك الإنسان، ويجب العلم بأن الله تعالى أصلا هو غني عن العالمين.
والسفر يعني كون الإنسان في حالة سفر فعليّ، وبمجرد استقراره في مكانه الجديد يصبح مقيما، ويصبح حكمه حكم المقيم.
وقوله تعالى
{وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ{184}} البقرة
يتضمن الحكم العام، بمعنى أن الصيام بصفة عامة خير للإنسان، وهو لا يلغي ما قررته الآية من قبل من أحكام بالنسبة للمريض أو المسافر أو من يطيق الصيام.
*******
إن قضية التدخين أثناء الصيام ليست مجرد مشكلة تحليل أو تحريم، فكون التدخين مأمورا باجتنابه كسائر الآثام هو أمر مفروغ منه، وإنما هي أيضا مشكلة صحة أو فساد الصيام، فأمور مثل التدخين وتعاطي المخدرات وكل ما أشبه ذلك وكل ما يمكن أن يستجد من أمور كهذه مفسدة للصيام بلا ريب، ويجب أن يتذكر الإنسان دائما أن رب العالمين والكرام الكاتبين ليسوا مجموعة من الموظفين البيروقراطيين الذين لا هم لهم إلا سلامة الشكليات والإجراءات مهما فسد المضمون، وإذا كان الإنسان مأمورا بترك الحلال أثناء الصيام فكيف بالأمور المحرمات والأمور المتشابهات، إنه لا قيمة لصلاة المرائي مثلاً مهما تفنن في القيام بكل تفاصيلها المذكورة في كتب (الفقه)، ولا قيمة لما قرروه من أنه تسقط المطالبة بها إذا أداها كما ورد في تلك الكتب، ذلك لأنه ليس من سلطتهم تحديد الجهة التي تسقط عندها المطالبة، ولا إلزام الله تعالى بما يرونه هم، وبالمثل لا قيمة لصيام المدخن أو لمن اتخذه وسيلة لإهمال الأركان الأخرى أو لاقتراف المعاصي.
أما عجز المدخن عن إتمام الصيام أو القيام به فلا يعطي لأحد الحق في إباحته له فمثله كمثل مدمن الخمر وغيره؛ وبصفة عامة فإن عجز المرء عن التوقف عن اقتراف إثمٍ ما لا يجعله حلالاً له، وعلى مدمني الخمر والتدخين وأي أمر آخر منهي عنه أن يتحملوا عواقب أمورهم.
*******
يقول بعضهم أن التدخين ليس بحرام وأنه لا يفطر الصائم ولا يفسد صيامه، وهذا القول منهم سببه الإصرار علي اختزال الدين وإكسابه طابعا شكليا جامدا، والحق أن التدخين وكل ما يمكن أن يستجد من الأمور المشابهة هو مخالفة لأوامر دينية صريحة وهو بذلك يؤدي إلي تقويض مقاصد الدين ومنع تحقيقها ويتناقض مع خصائص وسمات الدين، فالذي يعمد إلي إشباع شهوة التدخين في نهار رمضان مع علمه بأن أولي الأمر المختصين –أي الأطباء الشرعيين- قد أكدوا علي أنه ضار بالإنسان وعلي أن تأثيره كتأثير السم البطيء وأنه لا يؤدي أبداً إلي أي نفع للجسم الإنساني وإنما يفسد مقاصد الصيام، فهو بالتأكيد لن يتحقق بالتقوى ولن يزكي نفسه، إن أموراً مثل التدخين أو تعاطي المخدرات ....إلخ تؤدي أيضا إلي القتل البطيء للنفس دون أي نفع يرجى منها كما تؤدي إلي إهدار المال وتبديده فهي أشد إثماً من التبذير، إنه يجب علي كل إنسان أن يعلم أنه يتعامل مع إله حي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور ولا يمكن خداعه وليس مع منظومة أوامر وقوانين جامدة وعليه أن يعلم أن دينه دين حِكَم ومقاصد وأن كتابه هو الكتاب الحكيم.
وبعد كل هذا لا يجوز لأحدهم أن يحرم ما لم يرد فيه نص صريح ولكن عليه بيان الأمر للناس واستنباطه، فالتدخين محرم لما يتضمنه من ظلم وإفساد وتبذير وإلقاء بالنفس في التهلكة...، وكلها أمور من كبائر الإثم المحرم وليس لأن إنسانا ما حرمه، فلقد تم استخلاف الإنسان في الأرض وعليه أن يُعمل ما لديه من ملكات ذهنية ومن معارف ليعلم ما يساعده علي تحقيق مقاصد الدين، كما ينبغي أيضاً أن يعلم ما يمنعه من تحقيقها أو يؤدي إلي تقويضها حتى يتجنبه، وعليه أن يعلم أن أولي الأمر المختصين المؤهلين قد أجمعوا علي أن أعمالا مثل التدخين وتعاطي المخدرات تؤدي إلي ضرر محض ولا نفع فيها، بل هي تبديد وإهدار للموارد التي كان ينبغي إنفاقها في سبيل الله، وهي كذلك إخلال بواجبات الاستخلاف في الأرض، وهي من الخضوع لأهواء النفس مما يؤدي إلي تدهور الكيان الباطني، لذلك فعليه أن يمتنع عنها دون حاجة إلي رجل دين يحلل ويحرم، ويجب أن يعلم كل مسلم أنه ملزم بطاعة أولي أمره الشرعيين عملاً بلوازم ركن من أركان الدين، إنه يجب أن يعلم كل مسلم أن الأداء الشكلي النمطي للصلاة والصيام لن يغني عنه من الله شيئاً، وكل إنسان هو أدرى بنفسه، وكل من يغلق علي نفسه الباب في رمضان ثم يمارس التدخين أو يشاهد صوراً عارية أو أفلاماً خليعة يعلم يقيناً أنه بذلك قد أفسد صيامه ولم يحقق مقاصده، وهو بذلك لا يخادع إلا نفسه.
*******
ولا يجوز التحايل على موضوع الصيام باستعمال أية وسيلة من الوسائل الحديثة، فلا يجوز مثلا أخذ حقن تتضمن خلاصة العناصر الغذائية أو إدخال الجلوكوز إلى الجسم بأية صورة من الصور.
*******
إن من لوازم وتفاصيل الصيام الإعراض عن اللغو وترك الانشغال بما لا يجدي وكف الملكات القلبية عن الانشغال بتوافه الأمور.
*******
إنه بالصيام الحقيقي يتحقق الإنسان بآثار ومقتضيات السمات الإلهية التنزيهية، ومنها السمة الصمدية، وبذلك يصبح أكثر اقترابًا من ربه، فالاقتراب من الله تعالى لا يكون بالسفر في الإطار الزمكاني وإنما بالتحقق بالمدد الرحماني وبالدوران في أفلاك الأسماء الحسنى وبالتحقق بمقتضيات السمات الإلهية.
*******
إن وقت الصيام هو من الفجر الحقيقي إلى الليل، وعلامة الليل المنضبطة والدقيقة التي يمكن لكل إنسان أن يدركها هي غروب الشمس، فالليل يمتد من غروب الشمس إلى الفجر، وكون غروب الشمس يحدد وقت وجوب صلاة المغرب لا يتنافى مع كونه محددا لبداية الليل ولانتهاء وقت الصيام، بل هو مؤكد له.
أما بالنسبة للبلاد التي قد يطول فيها النهار لكي يشغل أكثر اليوم فهم داخلون تحت أحكام الدين وسماته الكبرى التي تقررها الآيات:
لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسا إِلاَّ وُسْعَهَا، لاَ نُكَلِّفُ نَفْسا إِلاَّ وُسْعَهَا، مَا يُرِيدُ اللّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ، وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ.
وبخصوص توقيت شهر رمضان الحقيقي فهو محسوم لدينا، التقويم العربي الحقيقي هو تقويم شمسي قمري يأتي فيه رمضان الحقيقي في فصل الخريف حيث يتساوى الليل والنهار تقريبا.
فشهر رمضان هو الشهر القمري العربي الذي يتضمن الاعتدال الخريفي في نصف الأرض الشمالي؛ أي الاعتدال الربيعي في النصف الجنوبي.
وفي رمضان الحقيقي هذا ليلة القدر الحقيقية بخواصها الفريدة المميزة من حيث الأهمية العظمى واعتدال المناخ، فشهر رمضان شيء، وشهر سبتمبر شيء آخر، ويمكن الاستغناء تماما عن ذكر شهر سبتمبر، فلا حاجة بالتقويم العربي إلى التقويم الميلادي إذا تمَّ ضبط التقويم.
وفي التقويم الصحيح يأتي رمضان في الخريف ليتساوى الليل والنهار فلا يصوم الناس 22 ساعة في بلد ويصومون ساعتين في بلد آخر، وهذا ما يتسق مع عالمية الإسلام.
ولكن يجب، ولو مؤقتا، الصيام مع الناس درءًا للفتنة وحرصا على وحدة الأمة، وهي ركن كبير ملزم لجماعة المسلمين، وله الأولوية على الأركان الفردية الظاهرية، وذلك مع صيام الشهر الصحيح.
ولكن يمكن لمن يعيش منفردا في دول غير إسلامية أو في المناطق القريبة من القطبين الاكتفاء بصيام الشهر الصحيح.
والأصل في كل الأوامر الدينية الظاهرية أن الإنسان ملزم بها بقدر استطاعته المتاحة له في حينه؛ وهو ليس ملزما بالسعي لامتلاك الاستطاعة لكي يقع تحت طائلة الأمر.
والأوامر الدينية الظاهرية هي الأركان المشهورة؛ إقامة الصلاة (بالشكل المعلوم) وإيتاء الزكاة وصيام رمضان وحج البيت، وهي بمثابة بطاقة الهوية للمسلم يكون بها عضوا في الأمة.
أما الأركان الجوهرية فيجب على كل مسلم أداؤها، ولا عذر له في تجاهلها، وعلى رأسها الإيمان بالله الذي لا إله إلا هو، له الأسماء الحسنى، وعبادته بإخلاص، وذكره، وإقامة صلة وثيقة به، والإيمان بكتابه ورسوله، والقيام بحقوق القرءان ....
*******
لله تعالى منظومة الأسماء الحسنى، ومن منظوماتها الفرعية منظومة سمة الحكمة، لذلك لابد من سريان الحكمة في كلامه وأفعاله وأوامره الكونية والشرعية والتشريعية، وهذا يتمثل في مقاصد العبادات، هذه المقاصد منصوص عليها في القرءان، أو هي من فحوى آياته، فلا مجال هاهنا للعبارات الشاعرية ولا للحشو ولا للمقترحات، ولا لترديد العبارات المحفوظة التي يتوارثها الخلف عن السلف، وإنما الحكم لله وحده والأمر له وحده، وعلى سبيل المثال لم يرد في القرءان أن الصيام هو للإحساس بجوع الفقراء ولا بعطش النباتات عندما يشح الماء ولا بعطش الصبار في الصحراء ولا السمك في الماء، وإنما وردت الآيات:
1.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُون} [البقرة:183]،
فهذه الآية تنص على أن التحقق بالتقوى من مقاصد الصيام.
2.
{شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقرءان هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُواْ اللّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُون} [البقرة:185]،
فهذه الآية تذكر أن من مقاصد الصيام الشكر والتكبير، والشكر لله يتضمن الإقرار له بالنعمة والفضل والعمل بمقتضى ذلك، والتكبير يكون بإدراك أن الله تعالى أعلى وأسمى من أرقى ما يمكن أن يخطر ببال مخلوق، والصيام يذكره بحقيقة أن من ذلك أنه سبحانه ليس بحاجة إلى مدد مستمر او معين لا ينضب من المأكولات والمشروبات، فالتنزيه إدراك ذلك والتكبير يتضمن ذلك.
هذه هي مقاصد الصيام، التقوى والتكبير لله والشكر لله، فهذه المقاصد هي متقدمة من حيث المرتبة على الصيام نفسه، وطالما كان الصيام ركنا فهي أولى منه بذلك، ولكن منهجنا يرى الارتباط بين هذه الأمور، فهي كلها من لوازم أركان عديدة مثل: إقامة صلة وثيقة بالله، ذكر الله، القيام بحقوق الأسماء الحسنى، لذلك نعتبرها من الأركان الفرعية لهذه الأركان الكبرى.
*******
عندما قال الله تعالى:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُون}
فقد كان يخاطب من يفقهون ويعقلون ويعلمون ما هو الصيام، فالصيام هاهنا لم يعد مجرد كلمة لغوية وإنما أصبح مصطلحا دينيا أو بمعنى أدقّ اسما شرعيا أو بالمعنى الأدقّ اسما قرءانيا.
فيجب التماس معناه في القرءان، والقرءان يبينه بمقتضى أو فحوى أو إشارة آياته، فقوله تعالى:
{أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَآئِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ عَلِمَ اللّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتانُونَ أَنفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنكُمْ فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُواْ مَا كَتَبَ اللّهُ لَكُمْ وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّواْ الصِّيَامَ إِلَى الَّليْلِ}
يبين أن الصيام يقتضي الامتناع عن الأكل والشرب في الفترة المحددة؛ أي في النهار، وأنه كان محرما عليهم الرفث إلى النساء في ليالي الصيام ثم أُحلَّ لهم.
أما كيف علموا هم بكيفية صيام الذين من قبلهم فهذه مسألة أخرى لا تعني المسلم الآن في شيء.
وبافتراض أن الإنسان يتواجد في مكان ليس فيه مفهوم اليوم المعلوم، وذلك بمعنى أن الشمس لا تغيب فيه لبضعة أيام مثلا، فإنه يصبح غير مطالب أصلا بالصيام، فلا تكليف في الدين بما هو مستحيل أو حتى بما فيه حرج، فمثل هذا ملزم بالنظر إلى مقاصد الصيام وليحاول أن يتحقق بها بكافة الوسائل، ومن مقاصد الصيام التقوى وشكر الله وتكبيره، ومثل هذا مثل من ليس لديه مال لينفق منه، فإنه يصبح غير مكلف بالإنفاق من المال في سبيل الله، وهو ليس مطالبًا بالكد لتحصيل فائض من المال لينفق منه.
وبالطبع يمكنه أن يجتهد لنفسه، في المجتمع الذي يعيش فيه، فالناس مثلا في هذه البلاد لابد أنهم ينظمون حياتهم بحيث يكون هناك ليل اعتباري ونهار اعتباري فيه وقت للعمل، فيمكنهم عمل وحدات اعتبارية من 24 ساعة، يمكن تقدير توقيتات الصيام على أساسها على مدار هذه الـ24 ساعة، وبالطبع سيكون وقت الصيام هو بين الوقتين الاعتباريين للفجر وغروب الشمس، وهو بذلك يكون قد ترك طعامه وشرابه من أجل القيام بأمرٍ ديني، وله بذلك ثوابه عند ربه السميع العليم.
*******
لا صلاة ولا صيام على الحائض، وهذا لا يتضمن مساسا بحالتها، فكما لا يجوز إقامة الصلاة المعروفة بغير الوضوء المعروف فلا يجوز إقامتها في حالة الحيض ولا يجوز الصيام في حالة الحيض، وهذا أمر مقرر في الدين الأصلي الواحد (الإسلام) ولم ينسخه القرءان، وانتقل بالتواتر العملي إلى أن دونه أئمة (الفقه) مثله مثل كيفية الصلاة ذاتها! فلا يجوز توثين الصيام أو الظن بأن الدين سينهار إذا لم تصم الحائض.
وهناك أركان كبرى وعظمى أهم بكثير من أداء الصلاة والصيام، بل إن هذين الركنين هما مجرد وسائل لها، ومنها ذكر الله وإقامة صلة وثيقة به والتزكي، هذه الأركان تتضمن التحقق بالتقوى والتوبة والإنابة والاستغفار والتسبيح والحمد والشكر والتفكر في آيات الله....... الخ، ويمكن لمن ليس عليه صيام أن يقوم بها.
وبالطبع لا يعرف عبيد المذاهب شيئا عن هذه الأركان بسبب مروية اختزلوا بها الدين في بعض الشكليات وجردوه من لبه وروحه وجوهره
وذكر الله يتضمن التسبيح وذكر أسمائه والاستغفار والحمد .......الخ وهناك إقامة صلة وثيقة بالله وتتضمن التوبة والإنابة والتوكل وهناك التزكي والتحلي بالتقوى وهو أهم مليار مرة من الصيام والصوم.
*******
إنه لا يجوز للمرأة الحائض أن تصلي أو أن تصوم مثلما لا يجوز لمن أحدث أن يصلي إلا من بعد أن يتوضأ!
ولا يعني ذلك أنها محرومة من ممارسة دينها، فهناك أركان دينية جوهرية أهم من أداء الصلاة وصيام رمضان، ومنها: ذكر الله، إقامة صلة وثيقة بالله ودعمها، التزكي.
*******
شهر رمضان الحقيقي يتضمن الاعتدال الخريفي، فيتساوى فيه الليل والنهار في كافة أرجاء المعمورة، أما في رمضان المزيف فيوجد فيه بلد يصوم ساعة واحدة (أي صيامٍ هذا؟!) وبلد آخر يصوم 23 ساعة، مثل شمال فنلندا في يونية، وفي ذلك حرج وعسر في دينٍ من سماته أنه لا حرج فيه ولا عسر.
وعلى العموم فبالنسبة للبلاد التي لا تغرب فيها الشمس لعدة أيام أو أسابيع أو أكثر فإن الناس مخيرون بين ما يلي:
1. ليس عليهم صيام أصلا، فالإنسان ليس مكلَّفًا إلا بما هو في وسعه، وليس عليه في الدين من حرج، والصيام المعلوم هو من الفجر إلى الليل في اليوم الطبيعي، وقد ذكر الله تعالى بكل وضوح عندما كتب على المسلمين الصيام أنه يريد بهم اليسر، ولا يريد بهم العسر، وهو قد نهاهم عن أن يقتلوا أنفسهم أو يلقوا بها إلى التهلكة، وتوجد أوامر كبرى وعشرات الأوامر القرءانية أعظم أهمية من الصيام بكثير، فلينشغل بها، فليس من مقاصد الدين فرض الصيام على الناس، بل إن الصيام هو وسيلة من وسائل التحقق بالتقوى والشكر، وهو ليس الوسيلة الوحيدة.
2. لهم أن يتبعوا أعراف الناس، فالناس مثلا في هذه البلاد لابد أنهم ينظمون حياتهم بحيث يكون هناك ليل اعتباري ونهار اعتباري فيه وقت للعمل، فيمكنهم عمل وحدات اعتبارية من 24 ساعة، يمكن تقدير توقيتات الصيام على أساسها على مدار هذه الـ24 ساعة، وبالطبع سيكون وقت الصيام هو بين الوقتين الاعتباريين للفجر والغروب.
*******
كُتِب الصيام على المسلمين كما كُتب على الذين من قبلهم! فالحديث عن الصيام معرَّفا هكذا يعني أن كل ما يتعلق به من كيفية وأحكام كان معلومًا لديهم، وقد عدَّل القرءان بعض الأحكام وترك الآخر، ومن ذلك ألا صيام للحائض، ما المشكلة؟؟!! وتوجد عبادات أهم من الصيام بكثير جدا يمكن أن تنشغل بها المرأة!! لماذا توثين الصيام؟؟؟!!! والموضوع لا يحتاج إسهابا، بل لا يحتاج أكثر من كتابة هذه الجمل الثلاثة!!!
وللأسف هناك من الخلف المجتهدين من تقمصوا السلف ويشغلون الأمة بمثل هذه القضايا.
ويوجد من المسلمين من لديه كل العذر ليفطر، ولكنه يخشى أن يراه الناس كذلك، فيعرض نفسه للخطر!! وقد ذكر الله تعالى بكل وضوح عندما كتب على المسلمين الصيام أنه يريد بهم اليسر، ولا يريد بهم العسر، ولكنهم لا يصدقونه!!!!
*******
1