شهود على عصر (قصص وحوارات)
حوار النهضة والانهيار في الشرق الأوسط
قال سمير:
لا يمكن أن يحدث أي تقدم حقيقي أو نهضة في بلد يتخذ من الديانة الأعرابية الأموية العباسية دينا رسميا، ولن تتقدم بلد كهذه إلا بقدر بعدها عن هذا المذهب، ولقد خرجت تركيا حطاما من الحرب العالمية الأولى، وقد هلك فيها مئات الألوف من زهرة شبابها، وفقدت مستعمراتها في الشام والعراق والجزيرة العربية، وكانت أفقر بكثير من مصر وأشد تخلفا، ولكنها رُزقت بكمال أتاتورك (العلماني البغيض اللعين) فشنَّ حربا عاتية على هذا الدين، وأخذ بعلمانية صارمة معادية للدين، فأصبحت تركيا دولة قوية غنية، وقام في تركيا بما قام به بطرس الأكبر في روسيا ومحمد علي في مصر.
أما مصر فظهر فيها داء وبيل هو الإخوان، كما لعب وهم إحياء الخلافة بالمشايخ وغيرهم، وحاولوا تنصيب سلطان مصر فؤاد خليفة، ليبدأ صراع مدمر بين الاتجاهات التقدمية وبين الاتجاهات الفاشية والرجعية كبد مصر خسائر فادحة وجلب عليها تيارا مستمرا ومتجددا من الكوارث، فأصبحت تكافح فقط من أجل البقاء Just to survive.
قال محسن:
إن من أسباب فشل محاولات النهضة في الشرق الأوسط في حين أنها نجحت في الشرق الأقصى هو أن المشروعات الحضارية في العالم الإسلامي كان يجب أن تتم رغم أنف الشعوب التي كان عليها أن تقوم بالنهضة، أي أن منظومة القيم السائدة والشعوب التي تشبعت بها هي التي كانت تتصدي لمشروعات النهضة فلم تتحول النهضة أبدا إلى مشروع قومي شعبي حقيقي.
لذلك كان على محمد علي في مصر مثلا أن يعتمد أساسًا علي الأجانب وعلى المتمصرين، وأن يدرب جيشه على النظم الحديثة في أسوان بعيدا عن رجال الكهنوت والجهلة والمتعصبين والمهيجين والغوغاء، وأن يستخدم أقسى الوسائل لإرغام الناس على القبول بالحضارة الحديثة، ذلك لأنه لم يجد صيغة دينية تعطي الشرعية لمشروعه الحضاري، كما أنه هو نفسه لم يكن مؤهلًا ليكون من أولي الأمر الحقيقيين؛ فقاد البلاد بعقلية نصف وحش أتى من العصور المظلمة لا يريد من الحضارة الحديثة إلا ما يدعم سلطانه ويمكن لنفسه ولأسرته في الأرض من بعده ويقوي جيشه بعد أن رأى بنفسه كيف كانت ثلة من الجنود الفرنسيين تهزم حشودًا كثيفة من العثمانيين بفضل معطيات وإنجازات تلك الحضارة.
وهكذا لم تتم النهضة الثقافية في مصر إلا عندما استقلت واقعيا -وليس رسميا- بعد تولي محمد علي أمورها، ثم بعد الاستقلال (المنقوص) بعد ثورة 1919، وكان ذلك استنادا إلى مشروع وطني ورغبة شعب في استعادة أمجاده القديمة وليس استنادا إلى أي صيغة دينية باطلة أو حقانية.
ومع ذلك فلقد حقق هذا المشروع للإسلام في غضون سنوات قليلة ما عجز رجال الكهنوت عن تحقيقه على مدي ألف عام، ويكفي للدلالة على ذلك ما حققه من أعادوا كتابة السيرة والتاريخ الإسلامي بطريقة فعالة ملهمة، وما فعله ذلك الذي تمكن بكتاب صغير من نسف أسطورة ما يسمي بالخلافة فأراح المسلمين والبشرية جمعاء من شرها وويلاتها وكذلك ما حققه ذلك الذي بكتابين تمكن من نسف الضلالات التي أدت إلى القضاء على حقوق المرأة وفتح لها الطريق لكيلا تكون عقبة في سبيل التقدم ولتستعيد حقوقها وكرامتها، كما يكفي ازدهار الأدب الإسلامي وتحرر الشعراء من الافتتان بمنظومة المبادئ والتقاليد والمفاهيم والتصورات الجاهلية وبالمنظومة المعنوية الشيطانية.
ولكن يجب القول بأن قوى التخلف والكهنوت لم تسكت على كل ذلك إلا على مضض، وهم ما فتئوا يتحينون الفرصة إلى أن انقضوا على ما حققه المثقفون والليبراليون والوطنيون المصريون وأوقفوا تلك المسيرة ولكن إلى حين، كما كان يتم في الخفاء إعداد حركات الإجرام السياسي الساعية إلى إحياء الخلافة والاستيلاء على السلطة بمجرد رفع شعارات جوفاء والتغرير بالجهلة والمتعصبين.
قال أمجد:
إنه ليعز على المرء ما واجهته هذه الأمة من محن وكوارث وما حدث لها وما يحدث إلى الآن من تكالب الأمم عليها وعدوانهم علي حقوقها وامتهانهم لكرامتها وسفكهم لدماء أبنائها، ولكن ينبغي ألا ينسى أحد أن تلك الأمة كانت منذ القرن السابع الميلادي من أقوى الأمم واستمرت كذلك قرونا متطاولة، كذلك ينبغي أن يتذكر الإنسان أن الله لا يغير نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم وأن الأمة مدينة بانطلاقتها العظمى للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ ومن معه من السابقين من رجال القرن الإسلامي الأول وهم خير أمة أخرجت للناس وأن تلك الانطلاقة كان لابد أن تبلغ مداها.
ولكن عوامل الوهن المترتبة على آثار العهد الجاهلي التي كانت متجذرة في النفوس قد فتت في عضد الأمة إلى أن وقع الانقلاب الأموي مكرسا العودة المظفرة لمنظومة القيم الجاهلية بعد تجريدها مما كان لدى العرب من نخوة وعزة وإباء وشهامة وكرم، وبعد أن تم تدعيمها بأسوأ ما لدى الفرس والروم من صفات، وبعد أن اكتسبت قشرة إسلامية خادعة، ولكن لم يكن للانهيار أن يحدث فجأة، إذ كان لابد أن يأخذ الأمر مداه.
ولقد بدأت تلك المنظومة الجاهلية الشيطانية عملها بدفع الناس لأخذ الثأر لها من النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ نفسه وممثلًا في أهل بيته الذين تعرضوا للظلم والقتل والإهانة والتجويع والتشريد والاضطهاد المنهجي المنظم، وقد حاولوا الثأر من النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ عن طريق مروياتهم المحرفة والموضوعة، وحاولوا الثأر من رسالته باتخاذ القرءان مهجورا وبإنزاله من مرتبته وبالتشكيك في كل ما يتعلق به.
وصاحب ذلك استبعاد الأنصار من الأمر واضطهادهم إلى أن تعرضوا هم وذريتهم لشبه الإبادة على أيدي الأمويين، ومنهم من هاجر إلى أقاصي الأرض.
وقد استمر سعيهم المنظم والدؤوب للثأر من الرسالة التي جاء بها وهي القرءان الكريم فاتبعوا كل ما هو ممكن من السبل لحمل الناس على هجره والإعراض عن آياته، ولقد كان الشيطان هو المنسق العام لكل ذلك مستخدمًا أدواته من شياطين الجن والإنس وعلى رأسهم حزب المنافقين.
ولقد تمخض ذلك عن ظهور الدين الأعرابي الأموي بمقاصده التي هي مضادة لمقاصد الإسلام، والذي يعاني المسلمون والبشرية جمعاء من ويلاته، وسيظل سببًا لإيقاد نيران الحروب وتخريب بلاد المسلمين والتنكيل بورثة الأنبياء والصالحين إلى يوم الدين.
قال محسن: إنه ما من أسرة حاكمة ظهرت في أي بلد إسلامي باستثناء هذا العصر الحديث إلا وشنت حروبا شعواء على كل من يلونهم من المسلمين، ولقد كانت تلك الحروب عاتية ومدمرة وشابتها قسوة ووحشية غير مبررة، وربما كان الاستثناء الوحيد هو الممالك التي قامت في مصر والتي كانت تكتفي عادة بصدّ عدوان الممالك المجاورة.
ولا يمنع الدويلات المحسوبة على الإسلام الآن من الانخراط في سلاسل لا تتناهى من الحروب إلا التوازنات الدولية.
إن تاريخ انهيار الأندلس هو صورة مركزة لما كان يحدث على مستوي العالم الإسلامي، فحكام الدويلات الإسلامية لم يكونوا يعرفون إلا القتال والعدوان وسيلة لتسوية خلافاتهم، ولم يحدث أبدًا أي تزاور سلمي أو علاقات مصاهرة بين حكام تلك الدويلات كما كان يحدث في أوروبا مثلا إلا ما كان من أمر زواج ابنة خمارويه حاكم مصر من الخليفة العباسي والذي كان المقصود به نهب المزيد من خيرات مصر.
قال سمير: إن ما فعله الإنجليز في مصر أو في العراق مثلا لا يعد شيئا مذكورا إذا ما قيس بما فعله جند يزيد بالمدينة ولا بما فعله الحجاج في العراق ولا بما فعله أبو جعفر المنصور بالحجاز ولا بما فعله العباسيون عندما غزوا مصر بعد خمارويه ولا بما فعله صلاح الدين أو السلطان العثماني سليم السفاح بمصر بعد الاستيلاء عليها.
والقائد الوحيد الذي دخل مصر فاتحا وبرضى أهلها ولم يقترف أية فظائع وأصلح وعمَّر ولم يفسد بل أقر حرية العقيدة وأعلن أن المقصد هو الحكم بالعدل والقيام بالقسط كان الفاطمي جوهر الصقلي!!!! وفي حين بني جوهر مدينة القاهرة فإن العباسيين السنيين أحرقوا مدينة القطائع عاصمة مصر ونكلوا بسكانها السنيين، وهذا لا يدل على صحة المذهب الشيعي الإسماعيلي، فهو حافل بالتحريفات الخطيرة، وإنما يبين الطبيعة العدوانية الاستئصالية للمذهب اللاسني.
قال محسن: حقًّا إن التعصب المذهبي يعمي ويصم، وإن المرء ليعجب كيف يمكن لمصري يحب وطنه يقبل أن يكرَّم السفاح العثماني سليم وأن يسمي شارع في القاهرة باسمه وأن يعتبر ما فعله بمصر فتحا وهو الذي عاث في مصر فسادا وقتل الآلاف منهم ونهب كل ما له قيمة في بلادهم، بينما يخجل من الفخر بجوهر الصقلي مع أنه كان الفاتح الوحيد علي مدي تاريخ مصر الإسلامي الذي دخل مصر برضا أهلها ولم يسفك دم مصري واحد وبني للمصريين عاصمتهم التي صارت فخرا لهم، كما بنى لهم جامعتهم، وقام بالقسط وحكم بالعدل واحترم حقوقهم وعقائدهم ولم ينهب أموالهم وأعطاهم ميثاقا لحقوق الإنسان لم يقدم مثله قائم بالأمر لشعبه إلا في العصر الحديث.
التعصب المذهبي يتمثل ويتجسد في أمراض اجتماعية خطيرة تصيب الناس وتصيب من تسلطوا عليهم أيضًا
*******
1