كتب أ.د. حسني المتعافي
من كتاب 154 ص 69
توقيتات العبادات محددة وفق ظواهر طبيعية حقانية موضوعية Objective، وليس Subjective، يمكن العلم بها، ولا يمكن الاختلاف بشأنها، فصلاة المغرب مثلا تجب بمجرد غروب الشمس، ولكن ليس لأحد أن يقول: "لن أصلي المغرب إلا إذا رأيت بنفسي الشمس وهي تغرب".
والشهر القمري مرتبط بدورة القمر حول الأرض، وبذلك يمكن أن يبدأ بأي نقطة (وضع أو صورة للقمر في السماء)، قد تكون هذه النقطة هي اكتمال صورة القمر مثلا، وهذه ظاهرة طبيعية حقانية موضوعية.
أما الشهر القمري العربي فهو الذي يبدأ بمولد الهلال، وهذه ظاهرة طبيعية حقانية موضوعية، يمكن حسابها بدقة هائلة مثل حساب توقيت غروب الشمس كل يومٍ مثلا، أما رؤية الهلال فهي أمر شخصي ذاتي لا يمكن التعويل عليه إلا إذا لم يكن ثمة وسيلة أخرى، كما هو الحال قبل التطور العلمي الهائل في العصر الحديث، فرؤية الهلال في الزمن المحتمل أن يكون قد وُلد فيه هي رخصة لمن ليس لديهم وسائل علمية متقدمة، فالناس ليسوا مكلفين إلا بما هو في وسعهم.
ولكن الحقيقة أن ذلك لا يمكن أن يتحقق لكل الأشهر القمرية، ذلك لأن الشهر القمري لا يحتوي على عدد صحيح من الأيام المعلومة، فالشهر القمري يساوي 29.530588 يومًا، 29 يوم و12 ساعة و44 دقيقة و 2.8032 ثانية)، ولذلك لابد من التقويم، ولذلك فإن طول الشهر القمري يكون إما 29 أو 30 يومًا.
ولذلك أيضًا لابد من إيثار بعض الشهور بوجوب ألا تبدأ إلا بمولد الهلال، مثل شهر رمضان، ولابد أن يكون ذلك على حساب الشهور الأخرى، ولكن جلّ الناس لا يعلمون ذلك!
*******
قال تعالى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللّهُ ذَلِكَ إِلاَّ بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُون} [يونس:5]
الآية تقول بكل وضوح أن الشمس والقمر لازمان لمعرفة عدد السنين والحساب، وهذا ما أكدته آيات قرءانية أخرى، وكل تاريخ الحضارات الكبرى، وكل التاريخ البشري، وكل تاريخ العلوم، بل أكده أن الشمس لازمة لحساب توقيتات الصلاة.
أما المحسوبون على الإسلام من المبطلين عبيد القمر (كما يقول الغربيون) فيحاولون إلزام الآيات القرءانية بتفسيرات باطلة للدفاع عن باطلهم، وهم يزعمون أن القمر وحده ومنازله هو الذي يلزم فقط للعلم بعدد السنين والحساب.
وهكذا ابتلي الإسلام بشتى أنواع المشركين: عبيد القمر، عبيد المسيح، عبيد قريش، عبيد الأمويين، عبيد السلف، عبيد الطغاة والمجرمين، عبيد الفروج، ..... الخ.
*******
الإسلام والهلال
أول ظهور لاسم القمر كان في اسم ملك مصر أحمس الأول طارد الهكسوس من مصر، ومؤسس أول إمبراطورية مصرية في التاريخ، و"أحمس" اسم ثيوفوري، والاسم الثيوفوري هو اسم يحوي اسم إله كدعاء له وطلب حماية منه، فاسم "أحمس" مزيج من الاسم "موسى" والذي يعني "ولد" أو "وليد" والمقطع اللفظي "آه" الذي يشير إلى ياه Iah اسم من أسماء القمر عند المصريين القدماء.
ومن الجدير بالذكر أن المقطع "ياه" وتقليد الأسماء الثيوفورية انتقل إلى بني إسرائيل من المصريين.
والهلال هو رمز استعمل منذ زمن بعيد في بلدان تقع في شرق البحر المتوسط وآسيا الوسطى، وكان من بين الرموز الشائعة خلال العصر الهلنستي (من القرن الرابع حتى الأول قبل الميلاد) في مملكة البنطس ومدينة بيزنطة.
وقد استخدم البيزنطيون الهلال كرمز لهم في إشارة إلى إمبراطوريتهم، وهو رمز إله القمر الموجود في الأساطير الرومانية القديمة، فيما تقول روايات أُخرى أن سبب استخدامهم لهذا الرمز هو انتصار البيزنطيين على إحدى القبائل في بداية أحد الشهور القمرية، وهذا الوقت هو الذي يكون فيه القمر على شكل هلال، وإن كانت هذه الأسطورة تشبه أسطورة أخرى زعموا فيها أن الإمبراطور قسطنطين رأى الصليب في إحدى المعارك فانتصر على أعدائه واعتنق المسيحية!
وليس لرمز الهلال أي وجود في الإسلام، ولا في تاريخ الإسلام، ولكن بعد الحروب التي خاضها العثمانيون مع البيزنطيين واستيلائهم على بلادهم انتقل إليهم هذا الشعار وأصبح رمزًا للدولة العثمانية.
وقد استطاع الحُكم العثماني الغشيم والذي استمر لعدد من القرون أن يفرض الهلال كرمزٍ للإسلام، وذلك أيضًا مثلما انتشر المذهب الحنفي بسببهم، وأصبح المذهب الرسمي في دول كانت شافعية-مالكية مثل مصر مثلا.
ولذلك لا مبرر لوجود هذا الوثن على مآذن المساجد، ولا يجوز إعطاء أعداء الإسلام المجال لكي يزعموا أن الإسلام قد انحدر من عبادة القمر.
وليست هذه دعوة لتحطيم الأوثان التي تعلو مآذن المسلمين، ولكنها بيان للحقّ ودعوة إلى تجنب تكرار مثل هذا العمل، والبحث عن بديل آخر.
*******
الشهر القمري العربي يبدأ بظاهرة طبيعية كونية حقيقية ثابتة هي مولد الهلال، والهلال جزء من أوجه القمر، يبدأ صغيرًا جدًا، بحيث قد تتعذر رؤيته، وكانت رؤيته في الزمن المتوقع هي وسيلة إثبات مولده قديما، وإلا فإن الشهر كان يبدأ في اليوم التالي، فالقضية ليست خطيرة، والناس غير مكلفين إلا بما هو في وسعهم، وطالما توفرت وسيلة عصرية حديثة ودقيقة للتأكد من مولده فيجب استعمالها، وليست كل الأجواء في كل العالم صافية مثلما هو الحال في جوف شبه الجزيرة العربية، ومن أبرز سمات دين الحقّ أنه دين عالمي للناس كافة، وليس لأهل الحجاز خاصة، كما يجب العلم بأن الرؤية تعادل العلم اليقيني.
الحسابات الدقيقة تُستعمل لتحديد توقيتات إقامة الصلاة، وهي أهم بكثير من تحديد بداية شهر عربي.
أما رؤية الأشخاص للهلال فهي أمر شخصي ذاتي، لا يتحقق إلا في البلاد الصحراوية ذات الجو الصحو، فالرؤية هي الرخصة للبدائيين، وليس العكس.
توقيتات العبادات مرتبطة بظواهر فلكية حقيقية، وليس بأمور شخصية أو محلية.
1