أمور دين الحق
الصراط المستقيم
الصراط المستقيم
الصراط المستقيم هو باختصار الطريق الأمثل إلى المقصد أو الطريقة المثلى The Optimal way, La façon optimale لتحقيق المقصد، وسورة الفاتحة تعرَّفه بكل وضوح، هو صراط الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وليس طريق المغضوب عليهم ولا الضالين، وكل الآيات التي تذكره هي تفصيل لذلك، وكل عناصر الدين من تفاصيله وليس بعض الوصايا فقط.
وها هي آية تبين أن الصراط المستقيم هو دينٌ قِيم؛ ملة إبراهيم:
{قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِّلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِين} [الأنعام:161]
فهو ليس فقط ما يسمونه بالوصايا العشر!
إنه لا يحق لأحد أن يقتطع آية من القرءان ليضرب بها باقي القرءان باسم العصرنة أو الحداثة.
*******
الصراط المستقيم يتضمن كل عناصر دين الحق الثابتة بالقرءان الكريم، وهو يتضمن أيضًا الاختيار الأمثل من كل البدائل الممكنة.
فالصراط المستقيم أكبر بكثير من أن ينحصر في عدد محدود من الوصايا!
فما هو سر إصرار بعض المجتهدين الجدد على اختزال الإسلام فيما يسمونه بالوصايا العشر؟ هل لمجرد أن يكون للمسلمين وصايا عشر كما لليهود؟ ولقد قال المسلمون للرسول: "اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط"، فقال لهم: "قلتم كما قال بنو إسرائيل من قبلكم، لتتبعن سنن من قبلكم شبرا بشبر، وذراعا بذراع".
فالصراط المستقيم أكبر من أن ينحصر في بعض الوصايا رغم أهميتها، إن الصراط المستقيم هو، كما جاء في القرءان، صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَم الله عَلَيهِمْ مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ، فهو دين الحق ذاته، بكل أوامره وعناصره ومقتضياته.
وفي كل لحظة يجد الإنسان نفسه مضطرا للبحث عن الصراط المستقيم من كل البدائل المتاحة أمامه، لذلك هو مأمور بأن يطلب من ربه الاهتداء إليه.
والقرءان حافل بالأوامر دينية التي هي على أعلى درجة من الأهمية، منها: ذكر الله، تقوى الله، حب الله، الإيمان باليوم الآخر، التزكي، الحكم بالعدل، القيام بالقسط، أداء الأمانات إلى أهلها، الصبر، التوكل على الله، التوبة إلى الله، التفكر، التدبر، السير في الأرض للنظر في عواقب من خلوا وفي كيفية بدء الخلق .........
*******
إن اللّه تعالى هو الذي يَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ، لذلك يجب أن يوطن الإنسان نفسه على أن يتوجه إليه وحده للاهتداء إلى الصراط المستقيم، والصراط المستقيم هو الصراط الأمثل الذي يوصِّل الإنسان إلى ربه، فرب كل إنسان على صراط مستقيم يجب إن يولي إليه وجهه، والصراط المستقيم معرَّف تماما في كتاب الرسالة الأوحد؛ القرءان الكريم، قال تعالى:
{إِنَّ اللّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَـذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ}آل عمران51، {وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَن يَعْتَصِم بِاللّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ }آل عمران101، {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ بِاللّهِ وَاعْتَصَمُواْ بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِّنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطا مُّسْتَقِيماً}النساء175، {يَهْدِي بِهِ اللّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ وَيُخْرِجُهُم مِّنِ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ}المائدة16، {فَمَن يُرِدِ اللّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاء كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ{125} وَهَـذَا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيماً قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ{126} الأنعام، {وَأَنَّ هَـذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}الأنعام153، {قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَمًا مِّلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ}الأنعام161، {وَاللّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلاَمِ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ}يونس25، {إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللّهِ رَبِّي وَرَبِّكُم مَّا مِن دَآبَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ }هود56، {الَر كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ}إبراهيم1، {وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ}مريم36، {وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ}الحج54، {وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ}المؤمنون73، {لَقَدْ أَنزَلْنَا آيَاتٍ مُّبَيِّنَاتٍ وَاللَّهُ يَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ }النور46، {وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ}سبأ6، وَالْقرءان الْحَكِيمِ{2} إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ{3} عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ{4} تَنزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ{5}، أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَن لَّا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ{60} وَأَنْ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ{61} يس، {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُوراً نَّهْدِي بِهِ مَنْ نَّشَاء مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ{52} صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الأمُورُ{53}}الشورى52، {فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ{43} وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ{44} الزخرف، {إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ}الزخرف64، {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطاً مُّسْتَقِيماً }الفتح2، {أَفَمَن يَمْشِي مُكِبّاً عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّن يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} الملك22.
ومن الواضح بمقتضى كل الآيات أن الصراط المستقيم هو دين الحق؛ الإسلام، بكل لوازمه وتفاصيله وأركانه وسننه وقيمه وعناصره ومنظوماته، وبكل ما يتضمنه أو ما يتفرع منه أو ما يترتب عليه أو يؤدي إليه، فالصراط المستقيم هو الرسالة والقرءان، وهو عبادة الله وحده والاعتصام به وبكتابه، وهو صراط الاسم العزيز الحميد وهو جماع الأوامر الإلهية الواردة في الكتاب العزيز.
*****
إن من خير ما يمكن أن يطلبه الإنسان من ربه أن يهديه الصراط المستقيم، وبناء على ما تقدم فإن له كإنسان جامع صراطه المستقيم، كما أن لكل لطيفة من لطائفه وملكة من ملكاته صراطها المستقيم، وكل كيان إنما يتزكَّى ويبلغ كماله المنشود بتحري صراطه المستقيم والسعي عليه، فهذا الصراط هو صراط الذين أنعم الله عليهم وحققوا مقاصد الدين العظمى أو سعوا إلى ذلك من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وهذا الصراط ليس بصراط المغضوب عليهم ممن شبَّهوا ربهم بخلقه وقيدوه بتصوراتهم وجعلوه ربا خاصا بهم ولا بصراط الضالين الذين أشركوا وألهوا عباده ومخلوقاته أو اتخذوهم أربابًا من دونه أو نسبوا إليهم سماته وأفعاله.
*****
إن الهدى هدى الله، والهدى نوعان: الهدى بمعنى الدلالة والتوضيح والإرشاد والتبيين، والهدى بمعنى العمل بمقتضى ذلك، فالهدى من النوع الأول يمكن أن يقوم به كل ذي علم، فمن سأل إنسانا عن الطريق إلى أحد الأماكن وكان عنده علم به فدله عليه يكون قد هداه إلى ما أراده، ولكنه لا يملك أن يلزمه بالسير فيه، فلابد من أن يختار السائل أن يسير في هذا الطريق وأن يقرر ذلك بمحض إرادته، كما أن له أن يقرر ألا يسير فيه لسببٍ ما خاص به.
وفي النوع الأول من الهدى قال الله تعالى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُوراً نَّهْدِي بِهِ مَنْ نَّشَاء مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} الشورى52.
أما الهدى من النوع الثاني فهو المشار إليه في قوله تعالى: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} القصص56؛ فتحققه يتم بمقتضى السنن الكونية، ومن هذه السنن أن لدى الإنسان إرادة حرة واختيارا، فتحقق الهدى رهن باختياره له وقصده له، فالمشيئة الإلهية تتضمن أن لدى الإنسان إرادة واختيارا.
لذلك ففي المثل المذكور إن مجرد علم الإنسان بالطريق قد يكون غير كافٍ للسير فيه، وربما حيل بينه وبين ذلك لسببٍ ما، وربما أراد ذلك ولكن منعه ضعف عزيمته أو إدمانه للمعاصي والآثام، وبالطبع يمكن أن يأتي مصطلح الهدى جامعًا للمعنيين معا.
ولما كان الإنسان قد يجد نفسه في أحيان كثيرة أمام اختيارات متعددة لا يدري ما هو أكثرها اتساقا مع الصراط المستقيم فينبغي أن يوطن نفسه على أن يسأل الله تعالى بصدق توجه وإخلاص وإخبات أن يهديه الصراط المستقيم، فبذلك يُهدى دائما إليه ويثاب على اختياره، إن مثل هذا تكتب آيات الله البينات في قلبه ويبرمج على العمل بها.
فالصراط المستقيم هو الطريق الأمثل للوصول إلى رب العالمين وتحقيق مقاصد الدين، وما عداه إنما هي سبل تقذف بالناس بعيدا عنه أو على الأقل ستضطر الإنسان للسير في طرق متعرجة أطول سيستغرق قطعها بالضرورة وقتاً أكبر، وقد ينقضي عمر الإنسان المحدود وهو يتخبط في سبل الضلال أو يعمه في ظلماتها.
فالإنسان بحاجة ماسة إلى أن يعرف الصراط المستقيم في كل وقتٍ وحين، وهو بحاجة ماسة إلى أن يتجنب صراط المغضوب عليهم وصراط الضالين، هؤلاء المغضوب عليهم والضالون هم أساسا طوائف من المحسوبين على الإسلام، وليس المقصود بهم بالأصالة اليهود والنصارى، فالمسلم ليس يهوديا ولا نصرانيا، والله تعالى لن يأمره بالتوسل إليه في كل ركعة من ركعات الصلاة لتحصيل ما هو حاصل، ولكن المغضوب عليهم هم كل من أعلن الله تعالى في كتابه غضبه عليهم أو بالأحرى على صفاتهم وأفعالهم، أما الضالون فهم كل من وصفهم أو وصف أفعالهم بالضلال.
أما الصراط المستقيم فهو الذي سار عليه من قبل من أنعم الله عليهم من أهل الدرجات العلى منَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ فبينوه بسعيهم للناس، ولقد اكتفى هنا بذكر الدرجات العلى للذين أصبحوا أعلام الهدى.
والرسل هم من تجليات ومظاهر منظومة أسماء الهدى والإرشاد، فإرسالهم يكون رحمة لأقوامهم، وانفرد خاتم النبيين بأن إرساله كان رحمة للعالمين.
ومن كان حريصًا على السير وفق ما هداه الله إليه سيجعل له نورًا يمشي به.
ولما كان القرءان هو المصدر والمرجع الأوحد لمعرفة المصطلحات الدينية فإنه يجب الرجوع إليه لمعرفة المقصود بالصراط المستقيم، كما يجب أن تؤخذ في الاعتبار كل الآيات التي ورد فيها هذا المصطلح، قال تعالى:
{اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ (7) } الفاتحة، {قُل لِّلّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} البقرة142 * {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (213)} البقرة * {إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (51)} آل عمران، {وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آَيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (101)} آل عمران * {وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُواْ مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً{66} وَإِذاً لَّآتَيْنَاهُم مِّن لَّدُنَّـا أَجْراً عَظِيماً{67} وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطاً مُّسْتَقِيما{68}النساء * {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ بِاللّهِ وَاعْتَصَمُواْ بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِّنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطاً مُّسْتَقِيماً }النساء175 * {قَدْ جَاءكُم مِّنَ اللّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ{15} يَهْدِي بِهِ اللّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ وَيُخْرِجُهُم مِّنِ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ{16} المائدة * {وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (39)} الأنعام * {وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ (86) وَمِنْ آَبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (87) ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (88)} الأنعام * {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ (125) وَهَذَا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيمًا قَدْ فَصَّلْنَا الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (126)} الأنعام * {وَأَنَّ هَـذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ }الأنعام153 * {قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (161)} الأنعام * {قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (16)} الأعراف * {وَاللّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلاَمِ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} يونس25 * {إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آَخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (56)} هود * {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلاَ تَطْغَوْاْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} هود112 * {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (120) شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (121)} النحل {وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ } مريم36 * {فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (43) وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ (44) } الزخرف * {إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ}الزخرف64
وتوضح كل هذه الآيات المقصود بالصراط المستقيم فهو الطريق الآمن الموصل إلى الله تعالى، وهو الدين القيم، وهو يتضمن العبادة بمفهوميها العام والخاص، وهو يتضمن الاعتصام بالله، والاستمساك بالقرءان والاعتصام به، والاعتصام بالله تعالى هو عين الاهتداء إلى الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ، ومن يعقد العزم على الالتزام به وتوكل على الله تعالى سيجده، فهو على صِرَاطٍ مُّسْتَقِيم.
والإنسان في تقلبات حياته المختلفة وفي كل موقف يتعرض له ويجد أن أمامه عدة بدائل فإن ثمة اختيارا منها هو الاختيار الأمثل، فهذا الاختيار هو الصراط المستقيم الذي يحقق له المقصد الخاص به، وهو لا يعلمه بالضرورة، ويجب أن يعوِّل على ربه لمعرفته، فالاهتداء إلى الصراط المستقيم هو نعمة كبرى، ولذلك أُمر الإنسان بأن يطلب الاهتداء إلى الصراط المستقيم كلما أقام الصلاة لا يعلم بالضرورة الصراط المستقيم.
والاهتداء إلى الصِّرَاط الْمُسْتَقِيم والالتزام به أمر محكوم بقوانين الله وسننه، فيجب أن يبذل الإنسان بمحض إرادته واختياره كل ما في وسعه للاهتداء إليه، وكل الناس بما فيهم الأنبياء بحاجة ماسة إلى أن يهديهم ربهم الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ، وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ.
والصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ هو الإسلام؛ دين الحق الذي يشرح الله تعالى به صدور من هداهم إليه.
والصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ هو الصراط الذي تعهد إبليس أمام ربه أن يضل الناس عنه، لذلك فعندما يجد الإنسان نفسه أمام اختيارات متعددة عليه أن يستعيذ بربه من شره وأن يلوذ بجناب ربه.
وملة إبراهيم هي من تجليات الصِّرَاط الْمُسْتَقِيم، والله تعالى هو الذي هداه إليها، وهي الآن هي دين الحق الذي أكمله الله تعالى للعالمين.
والاستمساك بما أوحي إلى خاتم النبيين هو عين الصِّرَاط الْمُسْتَقِيم، والذي يهدي إلى دين الحق هو كتاب الله العزيز:
{قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَاباً أُنزِلَ مِن بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُّسْتَقِيمٍ} الأحقاف 30
إن الصراط المستقيم بريء من طرق المغضوب عليهم والضالين، والمغضوب عليهم هم من جعلوا الدين طقوسا ظاهرية وشعائر ومدوَّنات قانونية وشبهوا ربهم بخلقه واتبعوا سنن اليهود التلموديين، وأعرضوا عن كل أمرٍ جوهري لحساب ما هو سطحي وعرضي، فهم الذين عملوا على تقويض سمات ومقاصد الدين، وجعلوه شبكة عنكبوتية من الإصر والأغلال على الناس، وهم أيضًا من انشغلوا تماما بأمور الدنيا فجعلوها أكبر همهم ومبلغ علمهم.
أما الضالون فهم من أشركوا بربهم وأعرضوا عن الحق وتنكبوا طريقه واتبعوا سنن النصارى وقدَّسوا مشايخهم وأسلافهم وأهملوا أمور الدنيا وركزوا على أداء الشعائر والنوافل وازدروا السنن الكونية.
*****
إن الصراط المستقيم هو سنةُ الرسول التي مارسها بالفعل وهي المؤدية إلى تزكية النفوس وتعليمها والرقي بها وإلى بناء الأمة الخيرة الداعيةٍ إلى الله تعالى الآمرةِ بالمعروف الناهيةِ عن المنكر المجاهدةِ في سبيل الله والمستضعفين في الأرض المدافعةِ عن الحق القائمةِ بالعدل والقسط المقدسةِ لحقوق الإنسان والمحافظةِ على كرامته والتي لا يتخذ أفرادها بعضهم بعضا أربابًا من دون الله تعالى، إن من يساهم في أمر كهذا سيظل يجني إلى يوم الدين ثمارَ ما قدم من عمل وثمارَ أعمال من تسبب في هدايتهم بسعيه وجهاده، وذلك أعظم بكثير ممن انشغلَ بأداءِ النوافل وقصَّر في أداء واجبه نحو أمته ونحو البشرية جمعاء، إن الانشغالَ عن تلك الواجبات بأداء الشعائر والنوافل إنما ينطلق من تصور خاطئ عن الإله، فهلا سأل أحدهم نفسه لماذا خلق الله تعالى الناس في احتياج إلى بعضهم البعض؟ ولماذا أجرى أمورَ الكون وفق قوانين وسنن لا تبديل لها ولا تحويل؟ ألا يظن أولئك أن الله سبحانه هو رب الجميع وأن إطعام يتيمٍ أو مسكين أو هرةٍ صغيرة أفضل عنده من أداء نافلة لم يلزمهم بها، لقد أخبرهم في كتابه بما يرضيه من أعمال وحثهم على فعلها، فكيف يظنون أنهم أعلم منه بما يرضيه وكيف يشككون في السبل التي أوضحها للتقرب إليه؟
*****
إن النجاةَ في الآخرة والفوز بالسعادة فيها ليس مرتبطا بالضرورة بطول التنسك والتبتل والرهبنة ولا بالعكوف على تراث السلف، ولكنه منوط بالاستجابة للأوامر الإلهية الواردة في الكتاب العزيز والتي جسَّدها النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ بسلوكه وبسيرته الحقيقية، فالإسلام ليس دين المنقطعين في المغارات المنعزلين عن الدنيا ولكنه دين من يخوض غمار الحياة ويقوم بواجبات حمل الأمانة والاستخلاف في الأرض، ويجاهد لتكون كلمة الله هي العليا، ويقوم بأداء حقوق التجليات الإلهية في هذا العالم، والجهاد هو بذل كل ما يمكن من جهد للتغلب على معوقات السير على الصراط المستقيم، وليس فيه أي عدوان على أحد، ذلك لأن الاعتداء هو أصلا انحراف عن الصراط المستقيم.
إن حاجة الإنسان إلى معرفة الصراط المستقيم لا تنتهي أبدا، والصراط المستقيم هو الأمر الأمثل بالنظر إلى مقاصد الدين العظمى بالنسبة إلى إنسانٍ ما في لحظة ما؛ فهو الأمر المفضل والأكثرُ فعالية لإعداد الإنسان الرباني الفائق الصالح المفلح أي للوصول بالإنسان إلى كماله المنشود في تلك اللحظة، وبمداومة الإنسان على طلب الهداية إلى الصراط المستقيم سيجد نفسه مبرمجا بحيث يهتدي دائمًا إليه، وآية ذلك ألا يندم على قول أو فعل أو سلوك صدر عنه، بل يجد في نفسه السكينة والطمأنينة بعد هذا الصدور.
والاعتصام بالله هو عين الصراط المستقيم وحقيقته، قال تعالى:
{وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (101)} (آل عمران).
ولكي يتم ذلك لا بد للإنسان أن يتزود بالعلم اللازم وهو العلم بالأسماء الحسنى ومقتضياتها، وليس ذلك بالأمر الشاق لمن عقد العزم على أن يعتصم بكل حقٍّ ظهر له وثبت عنده بالبرهان المبين ولمن طلب الحق حتى يعتصم به، فالداعي قائلا: (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ، صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ) كأنه يقول اهدني إليك حتى أعتصم بك واكتفى بك عمن سواك، والاعتصام بكتاب الله الذي هو حبل الله هو عين الاعتصام بالله.
*****
قال تعالى:
{قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (151) وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (152) وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (153)} الأنعام.
زعم بعض المجتهدين الجدد أن الصراط المستقيم هو الوصايا الواردة في هذه الآيات وجعلها عشرا بفرض أن اتباع الصراط المستقيم هو الوصية العاشرة، فصفق له كل ضال مفتون أو جاهلٍ مسكين، ذلك لأنه جعل للمسلمين وصايا عشرا كما كان لليهود وصايا عشر، هذا رغم أن الأمر باتباع الصراط المستقيم ورد كأمر واضح وصريح في آيات عديدة، وليس كوصية، ورغم أن ما قالوا إنها وصايا هي بالأصالة الأمور التي حرمها الله تعالى على الناس ثم وصَّى بذلك، ثم قال هؤلاء المجتهدون إن هذه الوصايا هي الصراط المستقيم دون أن يدركوا التناقض في كلامهم، فبذلك تكون الوصايا تسعا وليس عشرا!!
والصراط المستقيم هو بالطبع أمر أعم من الأمور التسعة الواردةِ هنا، وقد قال الله تعالى في نفس السورة:
{فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ (125) وَهَذَا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيمًا قَدْ فَصَّلْنَا الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (126)} الأنعام
فالصراط المستقيم هو طبقا للقرءان الدينُ كله؛ أي الإسلامُ كله، وهو الدين القيم، وهو ملة إبراهيم، وهو صراط من أنعم الله عليهم، وهو الذي يهدي الله تعالى إليه من يشاء، وهو الطريق الذي يهتدي إليه من يعتصم بالله، ففي كل موقف يجد الإنسان نفسه فيه وعندما يكون أمامه بعض البدائل هناك دائما الاختيار الأمثل، هذا الاختيار هو الصراط المستقيم الذي يهتدي إليه كل من كان على صلة وثيقة بربه وكل من كان حريصا على طلب الاهتداء إليه، بينما يحاول الشيطان أن يضله عنه، ومن كتب الله آياته في قلبه يهتدي بالفضل الإلهي إليه، فالصراط المستقيم هو جماع الأوامر الإلهية كلها، وهو أيضا العمل بمقتضى هذه الأوامر، وكل من تمسك بالقرءان الكريم هو على صراط مستقيم، قال تعالى: {فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيم} [الزخرف:43].
وكل حياة الإنسان وسعيه إلى ربه هي صراطه، فالإنسان التقي الصالح تكون حياته تجسيدا وتمثيلا لصراط مستقيم هو الطريق الأمثل إلى ربه، وهو الطريق إلى تحقق هذا الإنسان بكماله المنشود وتحقيقه المقصد من وجوده.
والرسول يهدي إلى صراط مستقيم بما أنزل إليه من ربه، وهدايته تعني الدلالة عليه والإرشاد إليه، واتباع الصراط المستقيم هو عين عبادة الإنسان لربه، قال تعالى:
{فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلاَ تَطْغَوْاْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ }هود112 * {فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ وَقُلْ آمَنتُ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِن كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ}الشورى15 * {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ }فصلت30 * {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ }الأحقاف13 * {وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُم مَّاء غَدَقاً }الجن16 * {اهدِنَــــا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ }الفاتحة6 * {وَأَنَّ هَـذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ }الأنعام153 * {إِنَّ اللّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَـذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ }آل عمران51 * {وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَن يَعْتَصِم بِاللّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ }آل عمران101 * {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ بِاللّهِ وَاعْتَصَمُواْ بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِّنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطاً مُّسْتَقِيما}النساء175 * {يَهْدِي بِهِ اللّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ وَيُخْرِجُهُم مِّنِ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } المائدة16 * {وَهَـذَا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيماً قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ }الأنعام126 * {قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً مِّلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ }الأنعام161 * {قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ }الأعراف16 * {وَاللّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلاَمِ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ }يونس25 * {إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللّهِ رَبِّي وَرَبِّكُم مَّا مِن دَآبَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ}هود56 * {الَر كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ }إبراهيم1 * {شَاكِراً لِّأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ}النحل121 * {وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ }مريم36 * {وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ}الحج54 * {وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ }المؤمنون73 * {وَإِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ }المؤمنون74 * {لَقَدْ أَنزَلْنَا آيَاتٍ مُّبَيِّنَاتٍ وَاللَّهُ يَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ}النور46 * {وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ }سبأ6 * إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ{3} عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ{4}يس * {وَأَنْ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ }يس61 * {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُوراً نَّهْدِي بِهِ مَنْ نَّشَاء مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ{52} صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الأمُورُ{53}}الشورى52 * {فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ }الزخرف43 * {وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِّلسَّاعَةِ فَلَا تَمْتَرُنَّ بِهَا وَاتَّبِعُونِ هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ}الزخرف61 * {إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ }الزخرف64 * {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطاً مُّسْتَقِيماً }الفتح2 * {أَفَمَن يَمْشِي مُكِبّاً عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّن يَمْشِي سَوِيّاً عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ }الملك22.
إن الصراط المستقيم هو الطريق الأمثل للنجاة والفوز بالأمن والسعادة في الدنيا والآخرة، فهو الطريق لتحقيق مقاصد الدين والفوز برضا وحب رب العالمين، والإنسان مأمور بطلب معرفة الصراط المستقيم ليستقيم بالسير فيه.
والصراط المستقيم هو صراط الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ، وهؤلاء قد قدم الله تعالى ما يلزم من المعلومات عنهم في كتابه العزيز.
وهذا الصراط يمكن أن يُعلم أيضًا بالعلم بنقيضه، ونقيضه هو سبل المغضوب عليهم والضالين، قال تعالى: {وَأَنَّ هَـذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُون} [الأنعام:153]
ولقد قدم الله تعالى في كتابه العزيز كل ما يلزم العلم به عن طوائف المغضوب عليهم والضالين.
*****
إن أفضل ما يمكن أن يطلبه الإنسان من ربه وأن يستعين به لتحقيقه هو أن يهتدي إلى الصراط المستقيم، فآية الفئة الناجية هي: {اهدِنَـا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ}، فمن أراد النجاة فإنه سيجد في نفسه القدرة على الدعاء بتلك الآية من أعماق قلبه وبكل قوى وجوده، وسيجد في نفسه رغبة ملحة ودائمة لمعرفة هذا الصراط، وتلك هي الرغبة اللازمة لكل طالب للكمال الحقيقي وهو الفوز بمرتبة من مراتب القرب من الله تعالى، ولقد أوضح النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآله وسَلَّمَ تلك الآية وعبر عنها ببيانه الفصيح عندما قال: (اللهم أرنا الحقَّ حقًّا وارزقنا اتباعه وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه).
فالصراط المستقيم يمكن تعريفه أيضًا بمن سار عليه وهم الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، فمن أراد معرفة الصراط المستقيم فليعرف ما ذُكِر عن هؤلاء وما وصفوا به في القرءان الكريم، ذلك لأن اتِّباع الأنبياء وخاصة خاتمهم الجامع لكمالاتهم هو عين الصراط المستقيم، أما الصديقون فهم من صدَّقت أقوالهم وأفعالهم ما انطوت عليه قلوبهم، أما الشهداء فهم من استحقوا تلك المرتبة بقيامهم لله تعالى وتقديمهم ما هو له على كل رغباتهم ودوافعهم الذاتية بل وعلى أنفسهم فهم من أعلنوا وكان إعلانهم صادقًا أن حياتهم ومماتهم وأنفسهم لله رب العالمين وحده بلا شريك، فلصدقهم نيط بهم تقديم الشهادة على قرنهم (جيلهم) وعلى الناس واستحق بعضهم أن تستمر له صلةٌ ما بعالم الشهادة بعد انتقاله.
كذلك يمكن تعريف الصراط المستقيم بمعرفة نقيضيه الأساسيين، وهما طريق المغضوب عليهم وطريق الضالين، فمن أرد معرفة طريق أي طائفة منهم فليرجع إلى الكتاب العزيز وليعرف صفات وأفعال من أعلن الله سبحانه غضبه عليهم، وكذلك ليعرف صفات وأفعال من ضلَّ وأضل.
لكل ذلك فمن أراد معرفة دين الحق فليشتغل بالقرءان من حيث إنه كتاب أُنزل ليدَّبروا آياته وليتذكروه، وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُون، ويجب على من يريد أن يقرأ القرءان أن يقرأه في ضوء القرءان؛ فإنه بنفسه برهان علي صدق نفسه.
*******
1