top of page

الإسلام والأمة والدولة والمذاهب المعاصرة

الأمة والإمامة والمجددون

النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ أسس وبنى وأعدّ أمة خيرة، كان هو ولي أمرها، وتأسيس أمة خيرة هو من مهام أي رسول نبي، ومن مقاصد الدين العظمى، وقد نجح في ذلك وأسس أمة يقوم كل فردٍ فيها بكل ما يمكنه القيام به من مهام.

وبالطبع لم يكونوا كلهم على نفس الدرجة من الصلاح والتقوى وفقه حقيقة الرسالة.

ومراتبهم منصوص عليها في سورة التوبة التي حرَّف معانيها وكفر بها أتباع الدين الأعرابي الأموي لكونها تفضح حقيقة أربابهم.

وأعلاهم درجة وفقهًا لحقيقة الرسالة كان السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار، وكان سابقهم والأول في الترتيب العام عليهم الإمام علي، وكان أفضلهم من التفوا حوله وناصروه، وكانوا قلة من المهاجرين والأنصار، وآيتهم جميعا أنهم كانوا يعملون لوجه الله، ولا يرجون من الناس جزاءً ولا شكورا، وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ، والكثير من هؤلاء اندثر ذكرهم.

لذلك كان من البديهي والواجب واللازم أن يولي الرسول الإمام عليا أمر الأمة من بعده، الأمة كأمة، كما أعدها، فقد نجح نجاحًا باهرًا، في كل الاختبارات والابتلاءات التي سقط فيها أكابر منافسيه سقوطًا ذريعا ومشينا، لم يستطيعوا محوه من التاريخ، خاصة وأن القرءان خلَّد ذكره.

فالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ كان يتمنى أن تستمر الأحوال من بعده على ما كانت عليه في عهده؛ أي وجود أمة خيرة تحكم نفسها بنفسها بدون أجهزة تسلطية، وقد أعلن عليهم صراحة أن الإمام عليا هو ولي أمر الأمة من بعده؛ وأنه منه بمثابة هارون من موسى، وهذا يؤكد أنه هو خليفته فيما كان يقوم به من مهام، ما عدا بالطبع النبوة، وكان ذلك أمرًا لازما ليقوم بتعليم حديثي العهد بالإسلام وتزكيتهم، وكانوا هم الأكثرية الساحقة، إذ لم يُسلموا إلا من بعد فتح مكة، ولم يُهاجروا، ولم يتلقوا أي تزكية نبوية.

والنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ لم يؤسس دولة بأية صورة من صور الدولة القديمة أو الحديثة، ولقد نفى الله تعالى ذلك عنه في القرءان بكافة السبل.

وقد كان يعلم أن صلاح الأمة النهائي مشروط بأن تظل أمة كما كانت عليه في عهده، وأن يتولى أمرها على التوالي اثنا عشر إماما مختارا، وكانت هذه هي أمنيته، والعدد يعني مرور 12 جيلا، أي أقل من نصف قرن يتم فيه التدوين الموثق لكل أمور الدين، وإعداد وتربية وتزكية أمة عصية على الفتن لا تضل، ولا تنقلب.

ولكن الرسول كان يعلم أنهم لن يستمروا طويلا على الحالة التي تركهم عليها، وأنهم سينقلبون على أعقابهم، ولن يلتزموا بما أوصاهم به، وأن السابقين الأولين كانوا قلة، وستستمر نسبتهم العددية في التناقص، وأن دولة ستنشأ من بعده، وأن الأمة ستتداعى بسرعة لحساب الدولة، وهو لم يكن من مهامه أن يتحدث عن هذه الدولة، ولا أن يضع لها شكلا سياسيا، ولا أن يعين عليها رئيسا، كل ذلك كان خارج نطاق مهامه كرسول نبي، ولكنه كان يتمنى أنه حتى في هذه الحالة أن يولوا عليهم الإمام عليا؛ أي كرئيس لهذه الدولة، ولم يكن من سلطته التصريح بذلك، ولم يكن ذلك ممكنا أصلا، فهو يتعارض مع مقصده من بقاء الأمة، ولذلك ألمح، ولم يصرح، فهذه الأمور محكومة بقوانين وسنن كونية تأخذ في الاعتبار أحوال الناس الحقيقية.

وقد كان للحزب القرشي تطلعاته الخاصة، وكان متفقًا عليه بينهم أن الأمر يجب أن يظل دولة بين بطون قريش، وذلك استلزم منهم العمل على حرمان عترة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ منه لعلمهم بأنه لو دخل فيهم لما خرج منهم، ولذلك قالوا بأنه يكفي بني هاشم أنه كانت النبوة فيهم.

بمجرد تولي أبي بكر الأمر بدأت بسرعة وبشدة، وتحت ضغط الأوضاع الجديدة عملية بناء دولة مركزية، وهذا أمر لم يكن لهم سابق عهدٍ به، وكان ذلك على حساب الأمة، وجد أبو بكر أنه لا يمكن قمع تمرد العرب والأعراب ضد مقاصده بممارسة مثاليات الإسلام، وإنما بالحديد والنار والاسترهاب، ومن قبل أن تجف دماء القتلى منهم قذف بهم الأمم المجاورة، كان الفرس والروم قد خرجوا لتوهم من حروب طاحنة مدمرة عبثية بينهم فلم يكن لديهم أي استعداد لمواجهة أمة فتية وحشية، لا تعبأ بحضارتهم وتزدري ترفهم.

وبذلك لم يتول الأمر الإمام علي، وحتى عندما بايعه ثوار مصر والبقية من السابقين الأولين أميرًا للمؤمنين كان ذلك من بعد فوات الأوان، وقد تولى الأمر كرئيس دولة بشروط العصر، وفي إطار ما تقرر، وقد ثبت أن من المستحيل الجمع بين ما يلزم لإدارة أمور دولة وبين ما يلزم للقيام بأمور أمة من المؤمنين، خاصة في ظل عدم وجود عدد منهم يُعتد به.

وهو بالتالي لم يترك أمة ظاهرة بالمعنى الديني المعلوم ليولي أمرها أحدا، ولقد التف الناس من بعده حول الإمام الحسن، ابنه البكر، ولكنه كان خبيرًا بحقيقتهم، وعندما خانه قائد جيشه عبيد الله بن العباس مقابل رشوة من معاوية تأكدت له حقيقتهم، فهم لم يكونوا يريدون إمامة دينية، وإنما ألا يخضعوا لسلطان أهل الشام وزعيمهم معاوية أمير البغي وعبادة الدنيا، أي بلغة العصر، لا يريدون إلا الاستقلال، وليس الجهاد في سبيل أي مثل دينية.

فمن بعد الإمام علي لم يتول أحد إمامة الأمة بالمعنى الديني المعتبر، وإنما كان يظهر كلما اقتضت الضرورة مجددون جزئيون في مجالات دينية معينة لحمايتها من الاندثار أو التحريف؛ أي لإحيائها.

وهؤلاء هم الذين قال الرسول فيهم: ما معناه: "يَحْمِلُ هَذَا الْعِلْمَ مِنْ كُلِّ خَلَفٍ عُدُولُهُ، يَنْفُونَ عَنْهُ تَحْرِيفَ الْغَالِينَ، وَانْتِحَالِ الْمُبْطِلِينَ، وَتَأْوِيلِ الْجَاهِلِينَ"، والذي يتولى ذلك أساسًا هو الاسم "العليم الحكيم" فهو أكثر الأسماء تعلقا بأمور الشرائع والرسالات.

أما التجديد العام فيجب أن يكون هو الذي يتولى أمره أساسًا الاسم "الحكيم العليم" لتكتمل الحلقة.

1

bottom of page