الإسلام والأمة والدولة والمذاهب المعاصرة
الإسلام والعلمانية 1
العلمانية تعني الدنيوية، وهي مذهب اجتماعي سياسي يدعو إلى إقامة الحياة على المصالح الدنيوية المباشرة والعلم الوضعي والعقل الإنساني بعيدا عما يسمونه بالدين؛ أو بالأحرى بعيدا عن المؤسسات الدينية والكهنوتية، ويتضمن ذلك اعتبار الدين شأنا شخصيا، وعلى المستوى السياسي فهي تعني ألا يكون للدين بصفة عامة دخل عند سنّ القوانين التي تنظم السياسة الداخلية وأمور الناس عامة ولا في السياسة الخارجية، وأن تكون المصالح الاقتصادية والتشابه أو التنافر في النظم السياسية والاجتماعية هو أساس هذه العلاقات.
فالعلمانية تهدف إلى إقامة مجتمع العدل والقسط والحرية والمساواة والوفرة والرفاهية والرخاء والتقدم واحترام كافة حقوق الإنسان؛ أي باختصار إلى إقامة فردوس أرضي بعيدا عن المؤسسات الكهنوتية، ولقد نجحت كثيرا في ذلك بينما لم تقدم الأديان والمذاهب المختزلة والمحرفة للإنسانية إلا نظما وحشية دموية إجرامية أذاقت الإنسان أشد ألوان العذاب.
فالإنسان في الدول الهمجية التي ما زالت خاضعة للمذاهب والأديان المحرفة يتمنى الفرار إلى المجتمعات العلمانية مثلما فرت الشعوب الغربية قديما إليها بعد أن دفعت الثمن باهظا.
ولا شك أن العلمانية قد أخذت من الدين قيمه مثل القسط والعدل والرحمة والتكافل، وقد وصلت إلى بعض القيم بمقتضى التطور البشري.
ولكن لا شك أيضًا في أن الأديان المسماة بالسماوية بصفة خاصة قد تعرضت لتحريفات بشعة واختزالات مخلة أدت إلى جعلها حربا على البشرية جمعاء، ولقد أبيد ما لا حصر له من البشر في أوروبا لفرض الكاثوليكية الرومانية عليهم، وهلك الملايين في محاولة التحرر منها، وضحايا الحروب الصليبية في الشرق لا حصر لهم، وقد هلك الملايين من البشر في العالم الجديد على أيدي وحوش صليبية، وفي القرون الوسطى هلك الملايين من البشر في الحروب التي أججها المحسوبون على الإسلام أو بسبب طريقتهم في حكم البلاد التي غزوها أو بسبب التخلف والهمجية التي فرضوها على هذه البلدان، هذا فضلا عن الحروب المذهبية فيما بينهم والتنافس على السلطة وتوسيع الممتلكات، وفي هذا العصر يكمل أتباع هذه المذاهب التخريب والإفساد في الأرض ونشر الجهل والتخلف والقضاء على مظاهر الحضارة ووضع كل العراقيل في سبيل التقدم تأسيا بأسلافهم.
ومازالت مقولات الأديان التي حلَّت محلّ الإسلام حية في نفوس كل العالم المحسوب على الإسلام، بل إنهم مبرمجون عليها حتى وإن لم يعملوا بهذه الأديان، فهي أكبر أسباب شقائه، وهي الكفيلة بتحويل كل نعمة في النهاية إلى نقمة، وأكبر دليل هو ما فعلوه بالثروة البترولية التي اكتشفها لهم الغرب العلماني ثم تركها لهم، فقد جعلوها وسيلة لنشر المذهب الوهابي الدموي الإقصائي ولتقويض دين الحق وللتصدي لكل مشاريع النهضة والتقدم ولتأجيج الفتن وتخريب البلدان وتشريد الشعوب التي كانت آمنة مستقرة، أما النهضة الشكلية والإنجازات المادية التي تحققت بسبب هذه الثروة فهي في انتظار هبوب ريحٍ كريح عاد مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ، هذه الريح العقيم هي آثار أعمال خفر النفط بمقتضى السنن.
فعندما يكون الدين هو هذه المذاهب الإقصائية العدوانية الشركية التي حلت محله فإن النظام العلماني يكون هو الأمثل لوقاية الناس من شره، وسيضطر الكائن الذي يأخذ هذه المذاهب على محمل الجد أن يحاول أن يعيش كإنسان، وليس كمجرمٍ همجي مفتون، أو أن يحترم القانون وإلا وقع تحت طائلته.
والعلمانية لا تتدخل في اعتقادات الفرد الدينية، ولا تحاول إبعاده عنها، ولا أن تفرض عليه دينًا أو مذهبًا معينا، ولا تعطي لأتباع أي مذهب مزايا أو أفضلية مجانية على غيرهم، ولكنها تلزمه بأن يتعايش سلميا مع أتباع الأديان والمذاهب الأخرى فتقيهم من شره بمثل ما تحميه من شرهم.
وفي النظام العلماني تكون القوانين والأنشطة البشرية والقرارات السياسية الداخلية والخارجية غير خاضعة لتأثير المذاهب أو المؤسسات الدينية.
فالعلمانية نظام اجتماعي سياسي يركز اهتمامه على الشؤون الدنيوية ويجعل الاهتمام بالشؤون الغيبية أمرًا شخصيا ذاتيا، فمحورها هو الإنسان بحالته التي هو عليها، وهي تسعى إلى تحقيق أقصى قدر من السعادة له في هذه الحياة الدنيا دون نظرٍ إلى الآخرة، وهذا يتضمن تحقيق أقصى قدر من الأمن والحرية والعدالة للجميع في هذه الدنيا، وهي في ذلك تلتقي مع دين الحق.
*******
إن العلمانية (Secularism) بالمعنى الإيجابي الذي نقصده تتضمن جماع الأسس والآليات التي تهدف إلي جعل الناس يهتمون بالحياة الدنيا وتلزمهم بالإيجابية فيها وتمنعهم من إدارة ظهورهم لها بحجة بطلانها وقلة جدواها، وهي لا تجعل المثل الأعلى لمن يزدري الدنيا بحجة أنه لا يجوز الاهتمام إلا بالآخرة، فهي تتبرأ من الرغبة التي كانت لدي الناس في العصور الوسطي للعزوف عن الدنيا والعكوف على التأمل في الآخرة، وهي بذلك تتفق مع دين الحق في تأكيده على أهمية الحياة الدنيا كوسيلة لتحقيق المقاصد الإلهية.
والعلمانية مثل الإسلام مضادة للكهنوت، وهي مضادة لاستعلاء طائفة طفيلية على الناس بحجة أنهم حراس الدين أو ملاك الحقائق المطلقة.
فالعلمانية مثل الإسلام تقصد إلى توكيد الشخصية الإنسانية وليس إلى إفنائها أو تذويبها أو قولبتها، فهي تنمي وترسخ في المجتمع النزعة الإنسانية ولا تحتقر ولا تجرم الطموحات الفردية، ولا يجوز اعتبارها بذلك حركة مضادة للدين وإنما هي مضادة لسوء استعمال الدين من قبل المؤسسات الكهنوتية الجهلوتية المتخلفة التي تريد تعويق التقدم وفرض وصايتها على الناس في حين أنها أحوج شيء إلي من يلقنها أبسط مبادئ العلوم وحقائق الأشياء، وهي أيضًا مضادة للمذاهب المحسوبة على الأديان التي قلبت الأمور رأساً على عقب واستخدمت الإنسان لصالحها وجعلته وقوداً لها بدلاً من أن تأخذ هي بيد الإنسان وتدله على طريق سعادته.
فالعلمانية بهذا المعاني ليست مضادة للدين الإسلامي ولكنها تهدف إلى إبراز وتوكيد ذلك الجانب منه الذي يجعل للإنسان مكانة محورية في هذا الكون بوصفه مكرما وحاملاً للأمانة ومستخلفًا في الأرض وتجعله مسئولاً عن استعمارها وحسن الانتفاع بمواردها والأكل من طيباتها والاستمتاع بزينتها وتحرم عليه الإفساد فيها وتجعله مسئولاً عن إخوانه من البشر بل عن الأمم من دواب الأرض وطيورها، ومن لوازم العلمانية الإسلامية جعل الإنسان مكلفاً بأداء الأمانات إلى أهلها والحكم بين الناس بالعدل والقيام بالقسط والانتصار من أهل البغي والدفاع عن المستضعفين في الأرض والدفاع عن حقوق الإنسان وكرامته، فبمقتضاها ليس مسموحا للإنسان بالرضا بأمر واقع يخالف الصورة المثلي التي تتحقق فيها الأمور المذكورة بحجة أن ذلك يتضمن تمردا على إرادة الله وعلى قدره وانشغالا بدنيا أمدها قصير، بل إن الإنسان مطالب بأن يعمل بقدر وسعه على أن يعمل على تحقيق المقاصد الإلهية ومنها تلك الأمور المذكورة، إن دين الحق يقرر أنه بقدر نجاح الإنسان في تحقيق مقاصد الدين في الدنيا سيفوز بالدرجات العلى في الآخرة، والقرن الإسلامي الأول لم يسبقوا الناس بحفظ ما لا يتناهى عدده من الكتب الدينية ولا بأن كلا منهم كان يصلي كل يوم ألف ركعة ولا بأنهم قد شيدوا مساجد ضخمة وإنما لأنهم حققوا ما كان مطلوبا منهم من مهام.
*******
من الملامح العلمانية للإسلام اهتمامه بشأن الحياة الدنيا وأنه جعل من مقاصده إصلاح أمر كافة الكيانات الإنسانية فيها، وجعل من استخلاف الإنسان في الأرض مقصدا إلهيا مقدسا، وأنه جعل من كثير من الأوامر الدينية وسيلة لإصلاح أحوال الناس في هذه الدنيا وجعل من كل ذلك وسيلة لتحقيق السعادة في عالم الخلود وأنه لم يدع مكانا فيه لأية سلطة كهنوتية، ومن الدلائل على أنه باطراد التقدم تتكشف عظمة سمات الإسلام أن أرقي شعوب الغرب الآن هي أشدها اهتماماً بسلامة البيئة وأحرصها على حمايتها من المفسدين، وهذا الاهتمام والحرص من لوازم قيام الإنسان بواجباته كخليفة في الأرض وكحامل للأمانة، ولقد ذكر القرءان من قبل سبب خوف الملائكة من استخلاف الإنسان في الأرض؛ كان هو الخوف من أن يسفك الدماء وأن يفسد في الأرض.
*******
إن دين الحق يتضمن أفضل القيم والسنن اللازمة للوصول بالإنسان بل بكل كيان إنساني إلي كماله المنشود ولتعامل الناس فيما بينهم بما يحفظ حقوقهم ولتحقيق التقدم الإنساني في كافة المجالات، ولكن مما لا شك فيه أن كل المذاهب التي حلت محل الدين لم تحقق للإنسان ولا للأمة شيئاً بل ألقت بالأمة في هوة سحيقة ما زالت تجاهد للخلاص منها وكادت تؤدي إلي انقراض المسلمين، ولقد ثبت ذلك بعد تجارب مريرة استمرت مئات السنين.
أما العلمانية فهي تتفق مع دين الحق في تسامحه وتقديمه للأمور الجوهرية وسعيه لتحقيق العدل والقيام بالقسط وحفاظه علي حقوق وكرامة الإنسان ورفض الظلم والاستبداد والطغيان وتساوي الناس أمام القانون....وغير ذلك من القيم التي هي من سمات دين الحق، إن ترسيخ القيم العلمانية سيؤدي بالضرورة إلي الرقي الذوقي والثقافي العام والتخفيف من حدة الأمراض الاجتماعية والنفسية الوبيلة التي فتكت بالأمة، ومن أشد الأمراض والآفات والموبقات التي ابتليت بها الأمة النفاق واتخاذ القرءان مهجورا والكفر بكثير من الآيات والشرك باتخاذ مؤسسات كهنوتية أربابا مشرعين في الدين، وازدراء القوانين والسنن وتقديس الأسلاف وتقديس الآثار والتراث وعبادة المتسلطين واختزال الدين والعدوان علي حقوق وكرامة الإنسان ومنع الماعون....
فالنظام العلماني هو أقرب إلى القيام بأركان الدين وتحقيق مقاصده من النظم التي تسلطت على المسلمين منذ أن تحولت الخلافة إلى ملك عضوض، فهذه النظم العضوضية هي النفاق مجسماً؛ ولقد كانت النتيجة الطبيعية أن هوت بالمحسوبين على الإسلام إلى الدرك الأسفل من نار الانحطاط والجهل والتخلف.
والعلمانية المقصودة هي التي لا تعادي الدين ولا تتبنى مذهبا معينا ولا تقدم لأي إنسان مزايا مجانية بسببٍ من مذهب اعتنقه.
ولا سبيل بأي حال للمقارنة بين العلمانية وبين دين الحق، فدين الحق هو النور المبهر الساطع الذي لا يقارن به أي دين أو مذهب، ولكنه مجهول، ولا توجد أية جهة أو مؤسسة تمثله الآن، فالأخذ بالعلمانية هو أفضل بكثير من العودة إلى المذاهب المحسوبة على الإسلام والنظم الإجرامية العضوضية التي ثبت بكل دليل فشلها الذريع ومزقت كل كيان تمسك بها وهوت به إلى الحضيض.
إنه من الأفضل بالطبع وصف علمانية الإسلام بمدنية الإسلام وذلك لما قد يسببه مفهوم العلمانية من لبس، ولكن يجب العلم بأنه ثمة علمانية متطرفة لا تعني مجرد فصل الدين عن الدولة أو عن الحياة، وإنما تعني فصل كل القيم الدينية عن الدولة والإنسان والتصدي العملي للأديان، وتلك العلمانية يجب بلا تحفظ رفضها والتصدي لها.
*******
إنه في ظل النظام العلماني، وهو أفضل الممكن في ظل غياب دين الحق وتحزب المذاهب الضالة ضده، فإنه قد لا يكون ثمة مفر من وجود نظام حزبي قانوني يسمح بأن تنشأ الأحزاب نشأة طبيعية قانونية، وبالطبع على الأمة التي ارتضت نظاما كهذا ألا تتطلع إلا إلى مجرد الخروج من هاوية الجهل والانحطاط والتخلف ومعايشة العصر بأقل قدر ممكن من الخسائر، وعليها عندئذ أن تعرف حدودها وألا تتجاوز قدرها وألا تتعلق بالطوباويات أو بالمثاليات مثلما حدث من النظام الناصري، وعليها أن تتبنى سياسة عملية براجماتية وألا يستفزها نباح من هم أكثر تخلفا وجهلاً وانحطاطا منها.
ويجب ألا تكون تلك الأحزاب مفتعلة، بل يجب أن تمثل كافة الاتجاهات والمذاهب الاقتصادية والاجتماعية الموجودة بالفعل، ولا يجوز افتعال أحزاب لمجرد استكمال الشكل الديمقراطي، ويجب أن تنشأ هذه الأحزاب في إطار الإقرار والتسليم بوحدة الشعب وحقوق المواطنة ومبدأ تداول السلطة واحترام الأسس الديمقراطية، وكل ذلك يتنافى بالطبع مع وجود وهيمنة الأديان التي حلَّت محلّ الإسلام وما فرضته على الناس من جهل وتخلف وهمجية.
*******
إن أسمى ما في العلمانية من قيم هو ما يلي:
1- الحكم بالعدل والقيام بالقسط.
2- احترام حقوق وكرامة الإنسان.
3- الإيمان بجدوى العلوم الطبيعية والاحتكام إليها.
4- القضاء على التسلط الكهنوتي، وهو شر ما ابتلي به الجنس البشري.
5- تحرير الإنسان من النزعات الطفولية والبدائية.
6- تحميل كل إنسان مسئولية نفسه.
7- اعتبار الإنسان مسئولاً عن عمارة الكون.
8- احترام حق الإنسان في استعمال ملكاته وتمحيص كل أمر بنفسه.
9- لا إكراه في الدين.
10- احترام حقوق الآخرين.
11- احترام الحياة الدنيا واجتناب الرهبانية.
12- احترام الجسد الإنساني.
13- احترام القوانين والسنن الكونية.
14- اجتناب الأساليب غير الموضوعية عند معالجة أي أمر.
15- احترام الحياة في عالم الشهادة، والقيام بالواجبات فيها.
ويلاحظ أن كل هذه الأمور من سمات الإسلام وملامحه وأن الإسلام يتضمنها ويتضمن ما هو خير منها، ولكن المذاهب الضالة تزدري أكثرها ولا تكاد تأخذ بشيء منها، لذلك ففي ظل تسلط هذه المذاهب وما تعانيه المجتمعات المحسوبة على الإسلام لا بديل عن نظام علماني مدني مستنير.
*******
إن النظام العلماني المدني الليبرالي الصحيح هو الآن الوسط الوحيد الملائم والممكن لإعداد وتكوين الإنسان الصالح والأمة الربانية الفائقة؛ أي لتحقيق مقاصد الدين، والأمة الربانية الفائقة ليست بحاجة إلى أن تجرد السيف أو أن تلوح به في وجوه الآخرين ولا أن تتحدى المشارق والمغارب، وإنما هي الأمة التي تقوم بأركان الدين الملزمة للأمة بقدر استطاعتها، وتلك الأمة بلغة هذا العصر هي مجتمع المسلمين الذي يعتنق دين الحق ويقوم بأركانه فيتخذ كتاب الله إماما ويتبع ما أنزل إليه من ربه ولا يتبع أي شيء من دونه، وهو يؤمن بسمات الدين وعلى رأسها عالميته وينبذ العنف والإرهاب والترويع ويقذف بالمذاهب التي تمزق المسلمين إلى سلة المهملات أو يتركها للمتخصصين في الآثار والحفريات، ولكنه أيضًا يتسامح مع المتمسكين بها ويعمل على حمايتهم من شرور أنفسهم وسيئات أعمالهم، وهذا المجتمع يتبع الوسائل السلمية المتاحة لتحقيق مطالبه ويدعو إلى سبيل ربه بالحكمة والموعظة الحسنة والجدال بالتي هي أحسن ويستخدم وسائل الإعلام الحديثة لتحقيق ذلك ويتخلى عن نظرة العداء المريرة التي يتسم بها المحسوبون على الإسلام تجاه كل من خالفهم.
*******
إن أدق ترجمة ممكنة للمصطلح Secularismهو الدنيوية، ليس بالمعنى التحقيري، وإنما بمعنى أن كل همها ومناهجها هو إصلاح أحوال الإنسان في تلك الحياة الدنيا أي في هذا العالم المشهود، فهي تهدف إلى تحقيق مجتمع الأمن والرفاهية والسعادة والحرية والعدالة والتكافل واحترام حقوق وكرامة الإنسان هنا، وهذا الإصلاح في الحقيقة يعني الأخذ بأكثر عناصر منظومة القيم الإسلامية، والعلمانية بالتالي من المفترض أن تنظر إلى الأمور الأخروية نظرة حيادية؛ أي لا تنظر إلى المذاهب المتعلقة بها نظرة عدائية وإنما نظرة براجماتية، ومن المعلوم أن عقلاء العلمانية وأشد أعداء الكهنوت لم يجدوا بديلاً جاداً للدين فيما يتعلق بالأمور الأخلاقية ومنظومة القيم الفردية.
*******
إن النظام العلماني هو النظام الذي يلبي مطالب العصر ويسمح لكافة الطوائف بالتعايش السلمي فيما بينهم، ويحميهم من شرور أنفسهم وسيئات أعمالهم، وهو الذي يسمح بحرية الفكر وتبادل وتفاعل الآراء تفاعلاً سلميا، ولكنه بالطبع لا يكفي بل لا يصلح للنهوض بأمة مسلمة، بل هو الذي يحقق ما يمكن أن يطلق عليه مجرد البقاء وتجاوز المخاطر، وفي ظروف هذا العصر الراهنة لا يمكن لشعب مسلم تحقيق طفرة تقدمية إلا بنظام شمولي يستند إلى تمسك راسخ بالدين وولاء مطلق له ولا يقيم وزناً للترف ويكرس نفسه لتحقيق مقاصد الدين بالقيام بأركانه الملزمة للأمة، ولكن يجب أن يتولد إجماع معتبر من كافة قوى الشعب على ذلك، ولا يجوز ولا يجدي محاولة حملهم على هذا النظام بالقوة.
والأخذ بالنظام العلماني لا يستلزم أبدا أن يكون الأفراد غير متدينين، بل يمكن لكل منهم أن يمارس مقتضيات دينه، ولا يوجد دين حقيقي يسمح لإنسان بالاعتداء على حقوق الآخرين ولا على إكراههم على تغيير دينهم، ولا يوجد ذلك غلآن إلا في المذاهب التي حلت محل الإسلام، ولو اشتغل أتباع كل دين بأركانه الجوهرية –وليس بإضافات الكهنوت- لما سفكت دماء الناس هدرا ولساد السلم ولارتاحت البشرية.
ولما كان مصطلح العلمانية قد أصبح مشبعًا بدلالات مختلفة ومبهمة تتضمن كثيرًا من اللبس وقد تسبب كثيرًا من المشاكل في ظل انتشار الجهل والتخلف والحماقة فإنه قد يكون من الأفضل استخدام مصطلح المدنية، وكنظام يأخذ به القائمون على الأمر في بلد ما فالنظام المدني يتسم بما يلي:
1- لا يسعى إلى إكراه الناس على دين معين أو مذهب معين.
2- لا يعتبر دينًا أو مذهبًا هو الدين أو المذهب الرسمي، ولا يحابي معتنقيه.
3- يسمح لأتباع أي دين بممارسته ونشر الكتب التي تتحدث عنه ودعوة الناس إليه.
4- يحمي أتباع أي دين أو مذهب من إجرام الآخرين، ويحمي الآخرين من إجرامهم.
5- يقوم بالقسط ويحكم بالعدل.
6- يؤدي الأمانات إلى أهلها.
7- السيادة فيه للقانون المتفق عليه.
8- يقر بتساوي الناس أمام القانون.
9- لا ينفق أموال الناس لتمويل أي مؤسسة دينية أو مذهبية.
10- لا يسمح لطائفة بالتكسب بالدين.
11- لا يمول تجار الدين من أموال دافعي الضرائب
12- يحترم حرية الرأي على أن يتكفل أصحاب كل رأي بأن يتحملوا تكاليف الدعوة إليه.
13- لا يسمح لمجموعة معينة بأن تحتكر الدين لنفسها ولا أن تعتبر نفسها المتحدثة باسمه ولا أن تستغله لتحقيق مآربها الخاصة.
14- توجد فيه آليات سلمية تسمح بصياغة القوانين وتعديلها بالشورى بين أولي الأمر من كافة الأطراف.
*******
يقول سدنة المذاهب وعبيد نعال السلف:
"إن العلمانية تعني - بداهة- الحكم بغير ما أنزل الله وتحكيم غير شريعة الله وقبول الحكم والتشريع والطاعة والاتباع للطواغيت من دون الله، فهذا معنى قيام الحياة على غير الدين أو بعبارة أخرى فصل الدين عن الدولة، أو فصل الدين عن السياسة، ومن ثم فهي- بالبديهة أيضا- نظام جاهلي لا مكان لمعتقده ولا لنظامه ولا لشرائعه في دائرة الإسلام بل هو نظام كافر".
وهم لذلك يتعجبون من تردد الناس في الحكم على الأنظمة العلمانية بالكفر!!
إن ما رمى به هؤلاء السدنة العلمانية هو بالضبط ما تعاني منه تلك الأمة منذ أن تسلط أهل البغي وزعيمهم معاوية عليها، فمنذ ذلك الحين والأمة تُحكم بغير ما أنزل الله وبغير شريعة الله ويتبع معظم أبنائها الطواغيت من دون الله، أما سدنة المذاهب فهم أنفسهم من يقدسون معاوية الذي سنَّ للناس كل ذلك ويلزمون الناس بالخضوع المطلق لكل من اقتدى به ممن تسلط على المسلمين، فهل يرى هؤلاء أن معاوية كان يحكم بما أنزل الله عندما:
1- حوَّل الخلافة إلى ملك استبدادي وتسلط.
2- رفع قميص عثمان وخرج على إمام الأمة وسفك دماء المسلمين.
3- استمر في القتال رغم أن جيشه قتل عمار بن ياسر وتبين له بذلك أنه يقود الفئة الباغية.
4- أعطى مصر طعمة لعمرو بن العاص طوال حياته ثمناً لتأييده، مما جعل عمرو يترك لورثته أطنانا من الذهب رفضوا أن يأخذوا منها شيئا فأخذها هو!!!
5- قرر لعن الإمام علي وأنصاره في المساجد.
6- قتل حجر بن عدي وصحبه ولم يقبل فيهم شفاعة لمجرد أنهم احتجوا على سب أئمة المسلمين على المنابر، وقتل حجر وحده كافٍ بنص الكتاب لتخليد معاوية في النار.
7- اعتبر مال المسلمين ماله الخاص وأغدقه على أنصاره وأنفقه لإفساد الذمم.
8- اعتبر الأمة متاعا يورث وفرض ابنه متسلطا على الأمة من بعده بالقهر والاسترهاب.
9- أطلق يد زياد بن أبيه ليحكم الناس بالقهر والترويع والاسترهاب.
10- أرسل بسر بن أرطأة إلى الحجاز واليمن فعاث في الأرض فسادا واقترف من الجرائم ما يندي له جبين الإنسانية.
11- تخلص من خصومه باتباع كافة السبل الشيطانية.
وهل يرى سدنة المذاهب وتجار الدين أن من نشروا وشجعوا تجارة الرقيق واستعباد الناس وكانوا يقتنون في قصورهم آلاف الجواري والغلمان ويتركون الناس هملاً بلا رعاية ولا تعليم كانوا يحكمون بالشريعة؟ إن أي نظام علماني هو أفضل بكثير من النظام الطاغوتي الإجرامي الذي أسسه معاوية ومن جاءوا من بعده يهرعون على آثاره ويبدؤون من حيث انتهى ويتفوقون عليه.
إن النظم العلمانية التي يهاجمونها لم تفعل في شعوبها ما فعله معاوية ومن ورثه، هذا رغم أن معاوية كان أفضل ممن جاء من بعده!! وهي إن فعلت شيئاً مما فعل فهي لا تتمسح في الدين ولا تتجر به ولا تدعي أنها فعلت ذلك باسم الدين، سيقولون إن معاوية كان (صحابيا)، ورغم أنه لا يوجد في كتاب الله مرتبة دينية بهذا الاسم فإنه لا يجوز لمن حاز أعلى المراتب الدينية أن ينتهك الأوامر الشرعية، بل لقد نص الكتاب على أن العذاب يتضاعف بقدر علو المرتبة أو المكانة الدينية، سيقولون بفجرهم المعهود والذي احتار فيه الشيطان نفسه إنه كان مجتهداً وأخطأ، وتلك حجة يستطيع أن يتعلل بها أي مجرم للإفساد في الأرض وسفك الدماء واختلاس أموال الناس.
سيقولون إن معاوية فتح قبرص وحاول فتح القسطنطينية فتلقى هزيمة ساحقة، وقد فتح جنكيز خان البلاد من المحيط الهادي إلى بولندا وحدود مصر ولم يعبد نعله أحد، ومن لمعلوم أنه ليس لمعاوية أي إسهام يُعتد به في حركة (الفتوحات)، وإنما هو الذي استولى على ما حققه غيره، ولولا الفتن الهائلة التي أججها معاوية وقُتِل فيها عشرات الألوف من خيرة المسلمين لبلغ دين الله تعالى المشارق والمغارب.
*******
إن النظم العلمانية لم تقتل من المسلمين مثل من قتلهم المتسلطون على الناس باسم الدين بدءا من معاوية وانتهاءً بآخر السلاطين العثمانيين، وهي تحاول أن تخرج المسلمين من الهاوية السحيقة التي ألقاهم فيها أتباع وعبيد معاوية ومن ناصرهم من سدنة المذاهب، ولا يجوز أن تحسب على العلمانية النظم المتخلفة المتسلطة على الشعوب المحسوبة على الإسلام، فالعلمانية عنصر من عناصر نظام مترابط يضم الليبرالية وغيرها من قيم الحضارة الحديثة.
*******
إن جرائم المتسلطين على الناس باسم العلمانية كالصنم التركي العتيد كمال أتاتورك لا تحسب على العلمانية وإنما على من يطبقونها، فالمشكلة هي أن من برمجوا على منظومة شيطانية من أركانها الجهل والانحطاط والتخلف...الخ لن يفلحوا أبدا مهما كان مدى رقي وفعالية النظام الذي يدعون أنهم يتسلطون على الناس باسمه، فليس من العلمانية معاداة الدين ولا منع الناس من استعمال الأحرف العربية أو اللسان العربي ولا إرغام الناس على ارتداء ملابس معينة، فلا يجوز اتخاذ تصرفات الطاغية المجرم أتاتورك حجة على العلمانية، ولا يجوز في الوقت ذاته إنكار ما قدمه أتاتورك من خدمات لوطنه لكونه كان علمانيا متطرفا، فلقد أنقذها من الخلفاء الخونة المنبطحين وهزم كل أعدائها، ولولاه لكانت تركيا الآن مقاطعة يونانية.
*******
إن كافة ألوان العلمانية هي حلقات في جهاد الإنسان وسعيه إلى المعرفة الخالصة للحقائق وإلى القيام بالقسط والحكم بالعدل بعد أن تسلط الشياطين على الناس وأضلوهم عن حقيقة الدين وجعلوا من الدين الذي نزل للرقي بالإنسان عقبة في سبيل تطور الإنسان ومخدرا للشعوب ومكرساً لكل ما جاء لنقضه وتقويضه، ولقد كان من أول من استزلوهم فأطاعوهم من أرادوا العلو على الناس باسم الدين دون امتلاك أية شرعية أو أية كفاءة ذاتية ودون بذل الجهد اللازم.
والعلمانية لا تقصد بتنحية الأسئلة الميتافيزيقية الكبرى إهمالها ولا التقليل من شأنها، ولم يكن ذلك بعد أن فشلت في الإجابة عن هذه الأسئلة ولا لأنها وجدت أن تنحيتها لازمة لئلا تُعكِّر عليها نشاطها وسريانها، ولكنها تقصد حماية الناس من شر من يريدون استغلال الاختلاف حول هذه الأسئلة لاقتراف شتى ألوان الإثم والبغي والعدوان وسفك الدماء والإفساد في الأرض وازدراء كرامة الإنسان وحرمانه من حقوقه لمجرد أن ما يؤمن به يختلف ولو قليلا عما لديهم، ولقد هلك في الحروب بين الكاثوليك وبين البروتستانت في أوروبا عشرات الملايين من الناس بسبب الخلاف حول مسائل لم يكن أكثر من هلك في الصراع يعلم عنها شيئا!
فالعلمانية كانت هي النظام اللازم ليتعايش الناس مع اختلافاتهم بشأن الأمور الدينية الغيبية وليس لإلغائها، وإذا كان ما لدى شتى الأديان والمذاهب الضالة قد تبدد أمام وهج العلمانية فلقد كان ذلك لما تتضمنه من ضلال ولفشلها في تلبية احتياجات الإنسان والحفاظ على حقوقه وكرامته، وهذا الأمر ينطبق على شتى المذاهب المحسوبة على الإسلام، بل لقد كان الفشل في الشرق أفدح وأسوأ من الفشل في الغرب، ذلك لأن الدين في الغرب كان ملزماً للناس كافة وعلى رأسهم ملوكهم، أما الدين في الشرق فمنذ أن تسلط على الأمة أهل البغي واستبدل سدنتهم لهم به المذاهب الأثرية السنية فقد أصبح في خدمة هذا المتسلط وطوع أمره وليس حاكما عليه، بل أصبح سيفا بيده يضرب به خصومه ويطيح برءوسهم!!
ولذلك ففي حين لم يتمكن عبيد الجهل والظلام في الغرب من التصدي لدعاة الإصلاح الذين بدأ انطلاقهم من النصوص الأصلية عندهم لدينهم فإن دعاة الإصلاح في الشرق وجدوا أن عبيد المذاهب الضالة يتصدون لهم باسم الدين –الذي هو في الحقيقة مذهبهم الشركي الضال- بكل ما له من سلطان على الناس، ولذلك ففي حين نجح دعاة الإصلاح في الغرب في تحقيق آمالهم ولو على المستوى الدنيوي فقط فلقد توقف التطور في الشرق على كافة الأصعدة باسم ما يظنون أنه الدين وحماية للدين فخسر التعساء في هذا الشرق دنياهم كما خسروا من قبل دينهم.
*******
إن المقصود بعلمانية الدين هو ذلك الجانب الذي يتضمن السمات المشتركة بين دين الحق وبين العلمانية على أن يؤخذ في الاعتبار الطبيعة الخاصة لكل منهما واختلاف الغايات والمقاصد، ولا يمكن أن يتحول دين الحق إلى علمانية، ذلك لأنه لا يمكن أن تتحول عنده الوسائل إلى مقاصد ولا أن يستبدل الفاني بالباقي.
*******
يقول بعضهم إن المسلمين ليسوا بحاجة إلى العلمانية لأنه لا توجد مشكلة لهم مع الدين، والحق هو أنه توجد لدى المسلمين مشاكل لا حصر لها مع المذاهب التي يتصورون أنها الدين، وعلى سبيل المثال فمنذ أن تجذر الدين الأعرابي الأموي في نفوس المسلمين فإن حضارتهم وأسباب قوتهم أخذت في الانهيار التراكمي السريع حتى أن بعض الهمج الرعاع المتخلفين القادمين من أوروبا تمكنوا من إلحاق هزائم مريرة بهم بدءا من القرن الخامس الهجري بينما كاد بعض همج أقاصي آسيا يستأصلون شأفتهم في القرن السابع، ولقد كان الإسلام يجتذب بسماحته بعض القبائل التركية مثلا في وسط آسيا ولكنهم بمجرد تمكن هذا المذهب منهم سرعان ما تتلاشي قوتهم ويتمزقون شر ممزق، ومن المعلوم أن الله تعالى لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم، إن المذاهب السائدة لا تملك بالفعل مناهج لتزكية النفس ولا لتوطيد صلة الإنسان بربه ولا للحفاظ على قوة الأمة ووحدتها، وهي باختصار قد استبعدت من الدين أركانه الجوهرية ومقاصده وألزمت الناس بالخضوع المطلق لكل من قهرهم بسيفه مهما جار وبغى وظلم طالما تركهم يصلون، إن الحالة التي وصل إليها المسلمون بسبب المذاهب التي فرقت دينهم ومزقتهم وقضت على أسباب قوتهم هي التي أغرت بهم أعداءهم وهي التي تحول بينهم وبين التقدم.
ومن المعلوم أيضا أن المذاهب الأثرية والسنية السائدة كانت دائما ألد أعداء العلوم الطبيعية والفلسفة والتفكير العلمي المنهجي الحر، وأنها تتفوق على مسيحية القرون الوسطى في أنها تمنع وجودهم أصلا وتتضمن كافة الآليات الكفيلة بالقضاء عليهم إذا ما وُجدوا رغم كل ذلك، ولذلك لم يُضطروا إلى حرق العلماء كما كان يحدث عند الأوروبيين الصادقين في إيمانهم أو كفرهم، والذين لا يعرفون النفاق الذي هو الخلق الأعظم المميز لهذه الأمة.
*******
إن العلمانية السليمة التي يرجى منها الخير هي التي تحمي الناس من شرور المتكسبين بالدين ومن يريدون التسلط باسم الدين ومن شرور المذاهب التي حلت محل الدين، وهي التي توفر للناس كافة حرية التفكر والتدبر وإعلان الآراء على الناس مع توفير الحماية للجميع من شر الجهلة والغوغاء والمهيجين والمتعصبين، أما المجرم المعتدي الأثيم فهو من يسعى إلى الحيلولة بين الدين وبين حياة الناس.
*******
إن العلمانية ليست بأي حال من الأحوال بديلاً عن الدين، ولا يمكن أن يندرج الأمران تحت نوع واحد أبدا، إن العلمانية مجرد نظام وآليات ومبادئ تسمح بالتعايش السلمي بين العقائد والأديان والمذاهب والاتجاهات في بلد واحد خاصة وأن كل عنصر من العناصر المذكورة يدعي أن لديه كل الحقيقة أو أنه الفرقة الناجية وأن كل الآخرين هالكون وضالون، فما هو البديل العملي الآن؟ إن أتباع المذهب السني السلفي مثلاً يعتبرون أنفسهم يمثلون الإسلام أما الآخرون من أتباع المذاهب الإسلامية الأخرى بما فيها نفس المذهب السني فهم مبتدعة محدثون مارقون، أما أهل الكتاب فهم كفار يجب إلزامهم بأحكام الصغار، كما أنهم يؤمنون بأنه يجب قتال كل من لم يكن مثلهم من الدول الأخرى المجاورة دولة تلو أخرى حتى يسلموا أو تحتل بلادهم ويدفعوا الجزية عن يد وهم صاغرون ويتحولوا إلى أهل ذمة ويلزموا بأحكام الصغار أو يستمر القتال، أما من لم يكن مثلهم من المسلمين فإنه يستتاب وإلا فيجب قتله إذا ما أصر على البقاء على مذهبه البدعي، وهو بذلك في نظرهم أسوأ حالاً من أهل الكتاب، وبالتالي فإن تسلط مثل هذا المذهب بكافة صوره يعني القضاء على كل المسلمين الآخرين وهم الأغلبية الساحقة في أي بلد تسلطوا عليه، فهل الإسلام الحقيقي يدعو إلى ذلك فعلاً؟ كلا بكل تأكيد، ولكنهم يؤمنون إيمانا لا يتزعزع بأن لديهم الإسلام الحقيقي، فالعلمانية هي النظام الوحيد الذي يمكن أن يحمي المسلمين وسائر البشرية من شر هؤلاء الهمج المجرمين المتوحشين، وهي التي ستوفر المجال للحوار وتبادل الآراء وإيجاد حالة من الرقي والحضارة تسمح للجميع بالتخلي عما يفرقهم والاهتداء إلى دين الحق والعمل به.
وعلى المسلمين في المجتمع العلماني أن يكونوا أمة واحدة، ولا يوجد في مجتمع كهذا ما يحول بينهم وبين ذلك، والنظام العلماني هو الذي يسمح بأن يتفق الجميع سلمياً على دستور أو ميثاق يحفظ للجميع حقوقهم ولا يسمح لطائفة بالعلو والتطاول على الآخرين لأسباب لا يعترف الآخرون بها أو لا يرون أنها مبرر لحرمانهم من حقوقهم، فالنظام العلماني يلزم الهندوسي الذي يعبد البقرة في الهند مثلاً بأن يحترم حقوق المسلم الذي يأكلها، ولا بديل الآن إلا حروب أهلية دموية ومجازر متبادلة، وفي العراق مثلاً لا يمكن أن يتعايش الشيعي الذي يتطاول على جل (الصحابة) مع السني الذي يكاد يتخذهم أربابا، ولا يمكن أن يتعايش العربي الذي يؤمن بتفوقه العنصري مع الكردي الذي يريد الأخذ بثاراته القديمة والاستقلال بوطن، فلا بديل لهم هناك عن نظام علماني حقيقي.
*******
1