top of page

شهود على عصر (قصص وحوارات)

حوار حول موقف الأمة بعد انتقال الرسول

حوار حول موقف الأمة بعد انتقال الرسول


- ما الذي حدث بمجرد انتقال الرسول؟

- بداية يجب العلم بأن ما حدث بعد هذا الانتقال مترتب على أمورٍ حدثت قبله، فلا توجد مصادفات في مثل هذه الأمور، التاريخ متصل، كما أن ما حدث من وقائع هي أمور تاريخية، يجب محاولة الوصول إلى اليقين بشأنها باتباع المنهج التاريخي العلمي الموضوعي، وليس باعتبار أقوال سدنة المذاهب حقائق مطلقة، بل يلزم بالضرورة الشك فيها، خاصة بعد أن ترتب عليها وجود أديان متناقضة متضاربة حلت محل إسلام الرسول، ويجب العلم بأنه لا توجد أي وثائق تاريخية حقيقية عن فترة القرنين الأولين من تاريخ المسلمين.

كما يجب العلم بأنه لم يكن من مهام الرسول أن يؤسس دولة بأي معنى قديم أو حديث، وأنه كان يعامل الناس باعتباره رسولا نبيا معلما مزكيا مبشرا ونذيرا وشهيدا عليهم، وليس كملك أو إمبراطور أو رئيس دولة، ولقد حدد الله تعالى له مهامه في آيات محكمة قطعية الدلالة، وأمر الناس بطاعته كرسول، وليس كرئيس عليهم، بل نفى أن يكون عليهم حفيظا أو وكيلا أو مصيطرا أو جبارا.

هذا بالإضافة إلى أن سمات الإسلام كرسالة عالمية خاتمة صالحة لكل زمان ومكان لا حرج على الناس فيها كانت تحتم بالفعل ألا يؤسس الرسول دولة بالمفهوم القديم أو الحديث أو بأي مفهوم آخر أو أن يجعل لإدارة الأمور نمطا معينا.

وطالما لم يؤسس الرسول دولة بأي صورة من الصور فلم يكن من مهامه تعيين رئيس عليها بأي صورة من الصور.

ولكن الرسول أسس أمة من المؤمنين، وكان هو ولي أمر هذه الأمة، والفرق هائل بين الأمة وبين الدولة، وفي المدينة كان يوجد أمتان تعيشان معًا بموجب عهد أو وثيقة، هما أمة المؤمنين، وأمة اليهود، ولم يكن هناك دولة بأي معنى من المعاني، ولو لم ينقض اليهود عهدهم لما حدث ما حدث.

فالإسلام معني أساسًا بالكيانات الإنسانية الحقيقية والدائمة: الفرد، الأسرة، الأمة، البشرية جمعاء.

أما عبيد أشكال العقوبات فهم يتحدثون وكأن القرءان أُنزل تحديدا لكي يبين للناس كيفية معاقبة السارق أو الزاني، ويتحدثون وكأنه لابد من وجود دولة لإنزال هذه العقوبات الجناة المذكورين.

وهم بذلك إنما قلبوا الأمور رأسًا على عقب، فأنت مثلا لست مطالبًا بأن تعدل بين زوجاتك إذا لم تكن متزوجا أصلا، أو متزوجًا بواحدة فقط! وليس لك أن تقول: طالما يأمرني القرءان بأن أعدل فلابد أن أتزوج مجوعة من النساء لكي أعدل بينهن، ويجب أن يكون هذا هو شغلي الشاغل، ويجب أن أحارب كل من يمنعني من تحقيق ذلك أو أن أتآمر عليه!

وهكذا، إذا كان المؤمنون يشكلون أقلية في بلد غربي مثلا فإنهم مطالبون بتشكيل أمة، هذه الأمة تقوم بواجباتها بقدر الاستطاعة، ولكنها ليست مطالبة بالطبع بأن تقاتل أهالي هذا البلد لكي تلزمهم بتطبيق أشكال العقوبات المعلومة.

فالرسول لم يعين على الناس رئيسًا، وإنما عين ولي أمرٍ للأمة لاستكمال مهامه بالنسبة لقومه من الأميين، ولتكوين نواة إسلامية حقيقية صلبة، لا يمكن أن تضل أبدا، هذا ما كان يتمناه، وهذا ما غفل عنه السلف والخلف وأتباع شتى المذاهب التي تفرق إليها الدين، والأمة شيء، والدولة شيء آخر، والأمة يمكن أن تتواجد في أي كيان سياسي، وهي نفسها يمكن أن تتضمن عدة كيانات سياسية.

إن امتناع الرسول عن تأسيس دولة رغم توفر كل الإمكانات لديه، وخاصة بعد أن جاء نصر الله والفتح ودخل الناس في دين الله أفواجا، هو من آيات صدقه وحقانية رسالته التي يجب بيانها وإبرازها.

ولو كان الرسول يهدف إلى تأسيس دولة لأعلن على الناس نظامها، ولعيَّن بالأمر المباشر رئيسًا عليها، ولأخذ له البيعة العامة، ولما كان لأحد أن يناوئ هذا الخليفة، وما كان أيسر ذلك، وإذا كان الناس قد أذعنوا لأبي بكر عندما استخلف عليهم عمرا، أو أذعنوا لعمر عندما شكل لجنته الشهيرة، فلقد كان من الأيسر أن يذعنوا للرسول.

ولا يجوز الأخذ بقول الشيعة من أنه استخلف الإمام عليًّا على أمور الدولة ولكن تآمر أكابر القرشيين هو الذي منع تنفيذ هذا الاستخلاف، فالحق أنه استخلفه كوليّ أمر للأمة ليستكمل المهام التي كانت منوطة بالرسول والخاصة بقومه.

ومن الواضح أن أكابر القرشيين لم يدركوا تمامًا مقاصد الدين والرسول، وظلوا في حيرة من حقيقة وضعهم مقارنة بالدول التي يعلمونها، فهم مثل غيرهم كانوا يظنون أن الأمر هو أشبه بالملك!

وهم قد رأوا أن الرسول لم يستخلف أحدا بالمعنى المعلوم لديهم، وأنهم الأحق بإدارة أمور الكيان الذي تركه الرسول، وأنهم الأقدر على الحفاظ عليه، ولقد رأوا أن مثل هذا الحفاظ يستلزم وجود ما هو أشبه بدولة، ولقد كانوا من الناحية العملية الواقعية محقين في موقفهم هذا، ولقد كان من الأولى تشكيل هيئة جماعية لإدارة الأمور تضم ممثلين لكافة قوى الأمة ومنهم آل بيت الرسول، ولم يكن المطلوب تحويل الأمة إلى دولة أو مصادرة سلطات الأمة التي أسسها الرسول لحساب دولة عادية يحكمها فرد واحد، ولكن التفكير في مثل هذه الأمور كان بعيدًا عن مخيلة العرب في ذلك الوقت، لقد وجد الجميع أنفسهم في مواجهة امتحان أو ابتلاء عسير فاجتهدوا للوصول إلى الحل الأمثل، ولقد اضطرهم ذلك لمواجهة عواقب اختيارهم، وهم المسئولون أولًا وقبل كل شيء عن تصرفاتهم واختياراتهم واستجاباتهم وردود أفعالهم.

ولقد أدى الرسول مادام بينهم مهامه الخاصة بهم وعلمهم ورباهم وزكاهم بقدر ما أتيح له من وقت وبقدر حرصهم هم والوقت الذي وفروه لأنفسهم ليقتبسوا من نوره، ولقد كانوا بشرا، ولذلك تفاوت انتفاعهم بالتعليم والتزكية النبوية، ولقد تأثر ذلك بقدر انغماس كل واحد منهم في ضلال الجاهلية المبين، وتمدى تجذر ذلك في نفسه.

فهم وحدهم يتحملون نتيجة ما لابد منه من أخطاء، ولا يجوز أن تتخذ حججا، لا على الرسول ولا على الرسالة، ولا يجوز تقديسهم وإنكار ما ثبت من أخطائهم بحجة أن صدور أخطاء عنهم يشكك في نجاح الرسول معهم، فالتعليم لا يضمن العصمة لبشر، كما أنه يجب دائما التعامل مع الحقائق كما هي، ولا يجوز نفيها لمجرد أنها لا تتفق مع ما يريده بعض الناس.

وعندما حدث ما حدث في السقيفة لم يجد الإمام علي نفسه ملزمًا بالإذعان لهم في أمر لم يُستشر فيه، ورأوا هم أنه بذلك يشكل خطرًا على النظام الذي رأوا أنه الأصلح لإدارة أمور الكيان القائم، ولقد كان سلوكهم معه ومع السيدة فاطمة أقرب إلى سنن الجاهلية بقدر بعده عن سنن وقيم الإسلام، وهم يتحملون تبعاته هم وكل من أقرهم على ذلك، وهو يثبت أنه لم يكن من الممكن انتزاع آثار ضلالهم الجاهلي القديم بسهولة ويُسر.

ومن المعلوم أن الله العزيز الحكيم هو الذي تولى تحقيق الأمر المستحيل على البشر، وهو التأليف بين قلوبهم في العهد النبوي فقط، للزوم ذلك لإنجاح الرسالة وحمايتها، أما بمجرد انتقال الرسول فقد عادت النعرات القبلية في أشد صورها.

ولقد بايع الإمام من بعد حرصا على وحدة الأمة ومصيرها، فلا يجوز اعتبار مثل هذه البيعة حجة عليه أو رضىً عمَّا آلت الأمور إليه.

وأمة المؤمنين من أتباع دين الحق منهيون نهيًا باتًّا عن العدوان فضلا عن السعي إلى التصادم مع كيان لا يحاول فتنتهم في دينهم،

وعلى المستضعفين منهم في كيانٍ ما الهجرة إلى كيان آخر لا يتعرضون فيه للفتنة، والمقصود بالفتنة طبقًا لمصطلحات هذا العصر هو الاضطهاد الديني الذي يتضمن حرمانهم من بعض حقوقهم بسبب دينهم أو اتخاذ ما من شأنه حملهم على ترك دينهم واعتناق دين آخر أو عدم القيام بأركان دينهم، ومن المعلوم أن العلمانية السائدة في الغرب الآن تعتبر مثل هذا الاضطهاد من كبائر الإثم، وعلى الكيانات المحسوبة ظلمًا علي الإسلام أن تتأسى بهم فلا تضطهد أتباع أي دين آخر أو أي مذهب إسلامي آخر.

- أليس من الواجب طاعة سلطان المسلمين؟

قال أمجد:

إن مصطلح السلطان في الإسلام يتضمن بصفة أساسية معاني الحجة والبرهان والحق والدليل، فهو لا يعني أبدًا أي تسلط غير موضوعي، لذلك فأولو الأمر في الإسلام يستمدون حق الطاعة مما لهم ومما لديهم من العلم والتأهيل والتمرس بأمرهم، فما لديهم هو الحق والحجة والبرهان على من لهم عليهم حق الطاعة.

فلا وجود في الإسلام لسلطة القهر بالسيف، وهو لا يلزم بالناس بطاعة فاجر أو فاسق أو لصّ.

- وبافتراض أن الأمة اضطرت إلى الإذعان لمتسلط مجرم تجنبًا لمخاطر تأجيج نيران فتنة تأكل الأخضر واليابس فلا يجوز أن يتحول هذا السلوك الاضطراري الاستثنائي إلى أساس ديني راسخ أو مقصد من مقاصد الدين.

*******

1

bottom of page