نظرات في المذاهب
52
من خلاصة كلامهم مع تعليقات إضافية
اللفظ يشير إلى المعاني بطرق متعددة، أو يدل على المعاني بطرق متعددة
دليل عِبَارة النَّصّ (المنطوق)، دليل فحواه، دليل إشارته، والمعنى المستفاد مِن اللفظ إمَّا أنْ يَكون ثابتا بنَفْس اللفظ أو لا، فإنْ كان ثابتاً بنَفْس اللفظ وكان اللفظ مَسُوقًا له ظاهرا فهو من دليل العبارة (أي أن العبارة هي التي تدل عليه)، وإلا فهو من دليل الإشارة، وإن لم يكن ثابتًا بنَفْس اللفظ وكان المعنى مفهوما منه لغةً فهو من دليل الفحوى.
ومفهوم الموافقة الأَولويَّ (من أوْلى حيث يزعمون أن ما يعتبرونه مسكوتًا عنه أولى بالحكم المذكور مما هو مصرح به) غالبًا ما يُطلق عليه اسم فحوى الخطاب؛ لأن فحوى الكلام هو معناه، وفي الأساس: عرفت ذلك في فحوى كلامه؛ أي: فيما تنسَّمت من مراده بما تكلَّم به.
أما مفهوم الموافَقة المساوي، (حيث يزعمون أن ما يعتبرونه مسكوتًا عنه مساوٍ في الحكم المذكور مما هو مصرح به) فيُسمَّى بلحْن الخطاب؛ لأن لحن القول: ما فُهم من القول بضربٍ من الفطنة، وقد فرَّقوا بين فحوى الخطاب وبين لحْن الخطاب مِن وجهَين: أولهما: أن الفحوى ما نبَّه عليه اللفظ، واللحن ما لاح في اللفظ، والثاني: أنَّ الفحوى ما دل على ما هو أقوى منه، واللحن ما دلَّ على مثله.
*****
المنطوق عندهم هو ما دل عليه اللفظ في محل النطق، أي أن دلالته تكون من مادة الحروف التي ينطق بها. ومثاله: قوله تعالى:
{فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} [الإسراء23]،
منطوقه النهي عن التأفيف، أما بالنظر إلى السياق فهو تحريم التأفيف، وهذا الحكم هو الذي نأخذه من اللفظ أو بتعبير آخر هو الذي دل عليه اللفظ نطقا، وقد يقال: ما دل عليه اللفظ في محل النطق، ومعنى قولهم: في محل النطق، أي: في العبارة المنطوق بها.
هذا المنطوق هو في الحقيقة، وطبقًا لاصطلاحنا، المفهوم الأول للفظ، أي للنص طبقًا لاصطلاحنا.
مثاله: المعنى المستفاد من قوله تعالى:
{وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة110]،
وهو الأمر بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة.
والمعنى المستفاد من قوله تعالى:
{وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} [الأنعام121]
وهو النهي عن الأكل من متروك التسمية.
والمفهوم: هو المعنى اللازم للفظ ولم يصرَّح به فيه، وقد يقال: ما دلَّ عليه اللفظ في غير محل النطق، أي لم يرد في اللفظ نطقٌ بشيء منه.
مثل دلالة قوله تعالى:
{فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} [الإسراء23]
على تحريم الضرب والشتم، ودلالة قوله تعالى:
{مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ} [النساء25]
على أن الأمة غير المؤمنة لا يصح نكاحها لمن لم يجد مهر الحرة.
والذين عبروا بالمنظوم وغير المنظوم، جعلوا غير المنظوم منقسما إلى الاقتضاء والإيماء والتنبيه (مفهوم الموافقة) ودليل الخطاب (مفهوم المخالفة).
وأما الذين عبروا بالمنطوق والمفهوم، فمنهم من جعل هذه الدلالات الأربع المتقدمة داخلة تحت المفهوم، ومنهم من جعل الثلاث الأولى داخلة تحت المنطوق غير الصريح، والرابعة هي المسماة بالمفهوم.
فدلالة المنطوق الصريح هي كل دلالة يكون الدال فيها دل بالوضع اللغوي، وهي تشمل دلالة المطابقة ودلالة التضمن.
ودلالة المنطوق غير الصريح هي دلالة الالتزام، وهي دلالة اللفظ على معنى خارجي لازم للمنطوق به.
وقد يقال: ما دل عليه اللفظ لا بصريح صيغته ووضعه، ويشمل دلالة الاقتضاء، ودلالة الإشارة، ودلالة الإيماء.
ودلالة المفهوم هي من دلالة الالتزام.
وقد عرَّف الأصوليون المنطوق بتعريفات عدة، منها: (ما دلَّ عليه اللفظُ في محل النطق)، ومنها: (ما فهم من دلالة اللفظ قطعًا في محل النُّطق).
وفي هذا التعريف الحرف (في) للسببية، والمعنى: أن المنطوق معنى يستفاد من اللفظ بسبب النطق، أي: أن العلم به لا يتوقف على شيء أكثر من سماع النطق باللفظ.
وهذا التعريف يتجاهل بالطبع الأسباب التي تجعل معنى معينا هو الذي يتبادر إلى ذهن السامع!
*****
الدّلالة هي مفهوم اللَّفظ، فإنَّ اللَّفظ إذا أطلق فُهم منه معنًى معيَّن، أي إنَّ اللَّفظ إذا أُطْلِق فإنَّ له مفهومًا معيَّنًا.
فالصيغة الصوتية أو المرقومة للفظ ترمز أو تشير إلى معنىً أو معانٍ معينة.
وقد تستحث في الإنسان معانٍ أخرى لأي سبب من الأسباب فضلا عن أنها من الممكن أن تثير في نفسه مشاعر معينة.
فالإنسان عندما ينطق تصدر عنه أصوات يعبر بها عن معنى أو إحساس ما، فيكون الناتج منطوقًا، ويُطلق عليه "نطق" أيضًا، ففي اللسان العربي قد يُعبر بالمصدر عن اسم المفعول.
فالمقصود من المنطوق هو المعنى، والمنطوق يدلّ عليه ويشير إليه، فالمنطوق بذلك يدلّ على معنى؛ أي هو دلالة على معنى، ولكنه ليس الدلالة الوحيدة عليه، فقد يُعبر عن نفس المنطوق بحروف مكتوبة.
فالمعنى الذي يدركه إنسان ما عند سماعه عبارة قرءانية هو نفس المعنى الذي تدل عليه نفس العبارة عندما يراها مكتوبة أمامه.
لذلك فلا جدوى من التمييز بين منطوق وبين مفهوم، وإنما يمكن تصنيف المعاني والمفاهيم من حيثيات معينة.
فهناك لنفس العبارة مفهوم أو معنىً أول Primary meaningومفاهيم أو معانٍ تالية أو ثانوية Secondary meanings، وكلمة "ثانوية" لا تعني أبدًا أنها أقل أهمية، ولكن ذلك يشير إلى تراتبية الإدراك البشري، فالمعاني الأولية هي أول ما يدركه الإنسان عادة من العبارة، ثم يبدأ كلما ارتقى ذهنيا ووجدانيا في إدراك المعاني التالية.
والمعاني التالية ذاتها قد يمكن إثبات دلالة اللفظ عليها بالطرق الذهنية المنطقية، وبالتالي تكون ملزمة لمن علمها.
وقد لا يمكن ذلك، وإنما يجد الإنسان إحساسًا ذاتيا بها لا يقل عنده عن الإدراك الذهني، فيمكن أن تُعتبر من باب الإشارة، وليس له بالتالي أن يلزم أحدًا بها.
*****
ينقسم المنطوقُ إلى: عبارة النص، وظاهر النص.
القسم الأول: وهو ما يسميه الحنفية: عبارة النص، ويسميه الجمهور: المنطوق الصريح، وهو ما يعرِّفه الجمهور بأنه: (دلالة اللفظ على ما وُضِع له بالمطابقة أو التضمن)، أو: (دلالة اللفظِ على ما وُضِع له بالاستقلال، أو بمشاركة الغير، فيشمل المطابقةَ والتضمُّن).
فالمنطوق هو المعنى المستفاد من اللفظ بسبب النطق أو ما يؤدي دور النطق، أي أن العلم به لا يتوقف على شيء أكثر من سماع النطق باللفظ أو رؤية مكافئه مكتوبا.
ومن أمثلتِه: دلالة قوله تعالى:
{فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُواْ لِي وَلاَ تَكْفُرُون} [البقرة:152]
على وجوب ذكر الله والشكر له، ودلالة قوله تعالى:
{وَاعْبُدُواْ اللّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا .....} [النساء:36]
على وجوب عبادة الله وحده واجتناب الشرك ووجوب الإحسان إلى الوالدين.
وفي مقابلة المنطوق الصريح عند الجمهور، نجد دلالةَ عبارة النص عند الحنفية، وقد عرَّفها الأحناف بأنها: (ما كان السياقُ لأجله، ويعلم قبل التأمل أن ظاهرَ النص متناوِل له)، أو (العمل بظاهر ما سِيق الكلام له).
فالأحنافُ يقصِدون بعبارة النص الصيغةَ المكونة من المفردات والجُمَل، وقد سُمِّيت الألفاظُ الدالة على المعاني عباراتٍ؛ لأنها تُفسِّرُ ما في الضمير الذي هو المستور، وتُعبِّر عنه، وتُظهِره للوجود؛ فهي: دلالةُ اللفظ على المعنى المقصود المتبادر فهمُه من نفس صيغته، سواءٌ كان هذا المعنى مقصودًا أصالةً أو تبعًا، وكلُّ معنًى يُفهَمُ من ذات اللفظِ، وجاء اللفظُ من أجله، تُسمَّى دلالةُ اللفظ على هذا المعنى دلالةَ العبارة عندهم.
وقد مثَّلوا لدلالة عبارة النص بما في قوله تعالى:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ...} [البقرة: 282]،
حيث تدلُّ الآيةُ بعبارتها على طلب كتابة الدَّين المحدَّد الأجل، وهذا المعنى من دلالة العبارة؛ لأنه مقصودٌ من الآية.
وعند كلٍّ من الجمهور والحنفية يؤخذُ الحُكم عن طرق منطوق الألفاظ وعبارتها، دون بحثٍ عن معناها ومفهومها، ولكن الخلاف بين المنطوق الصريح عند الجمهور وبين عبارة النص عند الحنفية ليس بمجرد خلاف لفظي بحت، بل هناك فرق هو أن المنطوق الصريح، عند الجمهور، يشمل دلالتي المطابقة والتضمن، ولا يشمل دلالةَ الالتزام.
بينما دلالة عبارة النص عند الحنفية ترتكزُ على القصد إلى المعنى أو عدمه؛ لأن القصدَ هو الذي يحدِّدُ هذه الدلالة، سواءٌ كان المعنى ناشئًا عن دلالة المطابقة أو التضمن أو الالتزام، لا فَرْقَ بين الدلالات الثلاث.
وبهذا يتبيَّنُ أن دلالة العبارة عند الحنفية أوسعُ دائرةً من دلالة المنطوق الصريح عند الجمهور؛ إذ هي تشملُ ما وُضِع اللفظُ له مطابقة أو تضمنًا، وتشمل فوق ذلك المعنى الخارج عمَّا وُضِع اللفظ له إذا كان مقصودًا للمتكلِّمِ، بينما المنطوقُ الصريح لا يدلُّ إلا على ما وُضِع اللفظُ له مطابقةً أو تضمُّنًا.
وهذا هو الفرقُ الأساسيُّ بين دلالةِ المنطوق الصريح، وبين دلالة عبارة النص، وهو لا تترتَّبُ عليه خلافات فقهية من حيث استنباط الأحكام؛ وإنما الخلاف بين الفريقين منهجيٌّ ينحصرُ في أمرين:
الأول: أن المقصودَ التبعي - غير الأصلي من سوق الكلام - يدخُلُ عند الحنفية ضِمنَ دلالة عبارة النص، وإن كانت دلالتُه التزامية، بينما الجمهور يُدخلونه في المنطوقِ غير الصريح.
الثاني: أن الحنفيَّةَ يُدخِلون دلالة الإيماء ضمن دلالةِ عبارة النص، بخلاف الجمهور جعَلوا لـ (الإيماء) دلالةً مستقلَّةً ضمن دلالات المنطوق غير الصريح، ومن ثَم أدخَلوا - أي الحنفية - دلالةَ قوله تعالى:
{وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا...} [البقرة: 275]
على التفرقةِ بين البيع والرِّبا، في باب دَلالةِ العبارة، مع أن التفرقةَ مِن باب دلالةِ الالتزام، وليس مِن باب الدلالة المطابقية ولا التضمنية، والذي حمَلَهم على ذلك هو وجودُ القصد إلى ذلك المعنى، وسِياق حلِّ البيع وحرمة الربا لأجله، وأن القصد إليه قصد أصليٌّ؛ لأن الآيةَ سِيقت في معرِضِ الردِّ على الذين قالوا:
{... إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا...} [البقرة: 275]
في الآيةِ نفسِها.
وهذا من الحنفية هنا تنطع زائد عن حده، فهم يزعمون أنهم أدرى بالمقصد الإلهي من النص، والحق أن المقصد هو بيان حكم الربا كما هو من النظر إلى الآية ككل واحد، أما سؤال اليهود فكان بالنسبة للنص مناسبة تنزيل، وليس مناسبة إيحاد أو سوق.
وبنفس الاعتبار أدخَل الأحنافُ دلالةَ الإيماء ضمن دلالة عبارة النص؛ لأن الإيماءَ أو التنبيهَ من المعاني المقصودةِ للشارع أو المتكلم؛ كقوله تعالى:
{وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا...} [المائدة: 38]،
والإيماء هنا ترتيب الحُكم على الوصف بـ: فاءٍ تعقيبية، فالحُكم في هذه الآيةِ (قطعُ يد السارق)، وهو مرتَّب على وصف (السرقة)، فالفاء التعقيبية تومئ وتنبِّهُ إلى أن علَّةَ القطع هي وصفُ السرقة، وهذا مقصودُ الشارع؛ ولذلك كان من دلالة العبارة.
أما الجمهور، فلا يُدخِلون الإيماء ضمن المنطوق الصريح؛ لأن دلالتَه من باب دلالةِ الالتزام، وليس مِن باب دلالة المطابقة والتضمُّن؛ إذ يلزمُ من ترتيب الحُكم على الوصف أن يكون ذلك الوصفُ هو العلةَ في الحُكم.
وفيما عدا هذه الملاحظات، فإن المنطوقَ الصريحَ عند الجمهور يجري عليه عندهم ما يجري على دلالةِ عبارة النص عند الحنفية.
القسم الثاني: هو ما يسمِّيه الحنفية: ظاهرَ النص، ويسميه الجمهور: المنطوق غير الصريح؛ فالظاهر لغة: خلاف الباطن، وهو الواضح المنكشف، ومنه (ظهَر الأمر): إذا اتَّضَح وانكشف، ويطلق على الشيء الشاخص المرتفع
وعند الجمهورِ أن المنطوقَ غيرَ الصريح هو (ما لم يوضَعِ اللفظ له، بل يلزم مما وُضِع له، فيدل عليه بالالتزام)، أو هو: (دلالة اللفظ على الحُكم بطريق الالتزام)، وهو متشعِّبٌ إلى ثلاثةِ فروع (ما يدل بالاقتضاء، وما يدل بالإيماء، وما يدل بالإشارة)، وبهذا يضمُّ المنطوقُ غيرُ الصريح عند الجمهور ثلاثَ دلالاتٍ، هي: دلالة الاقتضاء، ودلالة الإيماء، ودلالة الإشارة.
وأساسُ التفريق بين الدلالات الثلاث: أن المدلولَ عليه بالالتزام إما أن يكونَ مقصودًا للمتكلم، أو غيرَ مقصودٍ له، فإن كان مقصودًا له وتوقَّف عليه صِدْق الكلام أو صحَّتُه العقلية أو الشرعية، فدلالتُه عليه تُسمَّى دلالةَ اقتضاء، أمَّا إن كان مقصودًا له ولم يتوقَّفْ عليه صِدْق الكلام ولا صحَّتُه العقلية أو الشرعية، فدلالته عليه تسمَّى دلالةَ إيماء أو دلالة تنبيه، وإن لم يكن مقصودًا للمتكلم، فدلالته عليه تسمَّى دلالةَ إشارة.
*******
المفهوم عند الأصوليين خلاف المنطوق، وهو ما دل عليه اللفظ في غير محل النطق .
أي يكون حكما للمذكور وحالا من أحواله، أي هو معنى يستفاد من اللفظ، لكن ليس بسبب النطق ، وإنما بسبب آخر .
قولهم ليس بسبب النطق، وإنما بسبب آخر غير دقيق، والصحيح أن يقولوا إن النطق ليس السبب الوحيد لإفادة المعنى، وإنما هو سبب أولي.
فالمفهوم هو معنى مُستفاد من اللفظ بطريق اللزوم أو بالتعريض والتلويح، يعني أنه معنى غير منطوق به، ولكنه لازم عن اللفظ بمُقتضى الشرع، أو العقل، فهو مُستفاد بالتعريض لا التصريح.
وينقسم المنطوق إلى قسمين:
القسم الأول: ما لا يحتمل التأويل وهو النص.
وينقسم إلى:
1. صريح إن دل عليه اللفظ بالمطابقة أو التضمن.
2. غير صريح إن دل عليه بالالتزام.
أ. دلالة الاقتضاء وهي إذا توقف الصدق أو الصحة العقلية أو الشرعية عليه مع كون ذلك مقصود المتكلم.
ب. دلالة الإيماء وهي أن يقترن اللفظ بحكم لو لم يكن للتعليل لكان بعيدًا.
ت. دلالة الإشارة حيث لا يكون مقصودا للمتكلم.
القسم الثاني ـ ما يحتمل التأويل وهو الظاهر.
*****
أما المفهوم فينقسم إلى مفهوم موافقة ومفهوم مخالفة.
مفهوم الموافقة: حيث يكون المسكوت عنه موافقا للملفوظ به، فإن كان أولى بالحكم من المنطوق به فيسمى فحوى الخطاب، وان كان مساويا له فيسمى لحن الخطاب.
والفحوى ما نبّه عليه اللفظ، وما دل على ما هو أقوى منه.
واللحن ما لاح في اللفظ، وما دل على مثله.
ودلالة النص على مفهوم الموافقة هي بلا ريب لفظية، بل فطرية، وليست قياسية.
*******
إنه لابد من تفاعل بناء ومستمر بين ما عُلِم من منظومات الدين وعناصره وبين الأصول اللغوية، فلا يُمكن فصل علم الأصول عن علوم اللغة، أو فهم الأحكام من النصوص باللغة وحدَها، مع مُراعاة أن علم الأصول ليس علمًا لغويًّا صرفًا، فقواعد الأصول ليست كقَواعد النحو يتوصَّل بها إلى المعنى الظاهر من القول، ولكنَّها مناهج يتوصَّل بها إلى دلالات التشريع ومفاهيمه ولو لم يَتناولها النص بعبارته ومنطوقه.
فمفهوم الموافَقة عند الأصوليِّين هو ما يكون مدلولُ اللفظ في محل السكوت موافقًا لمدلوله في محلِّ النُّطق"،
ومن المصطلحات الدالة على مفهوم الموافَقة، والتي تتغيَّر مِن مذهب إلى آخر، وإن كان مدلولها واحدًا، مفهوم الخطاب، ويُسمى عند الحنفيَّة بدلالة النصِّ، أو دلالة الدلالة، أما عامة الأصوليين، فيُطلقون عليه فحوى الخطاب.
ومن الواضح أن الجمهور والحنفية يعانون من ولع غريب بالمصطلحات، ويحاولون دائمًا تجاهل القرءان في سبيل تمرير كلامهم ومصطلحاتهم.
ودلالة مفهوم المُوافَقة هي دلالة لفظية بل فطرية، فعندما يقول المعلم للتلاميذ الصغار "لا أريد أن أسمع همسًا"، فإنهم يدركون بالضرورة أنه بذلك يمنعهم من الصراخ مثلا، دون علمٍ لهم بقياس أو غيره.
والقياس لا يُشترط فيه أن يكون المعنى المناسب للحكم في الفرع أشدَّ مناسبة له من حكم الأصل.
ومفهوم المُوافقة نوعان:
مفهوم الموافَقة الأَولوي، وهو المفهوم من اللفظ من غير تأمُّل ولا استِنباط، بل يسبق إلى الفهم حكم المسكوت مع المنطوق من غير تراخٍ، مثل دلالة قوله تعالى:
{وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ ...} (آل عمران: 75)،
على عدم تأدية القنطار وما زاد على الدينار فإنه يدلُّ بطريق الأولى.
مفهوم الموافَقة المُساوي، فعرَّفه بكون المفهوم مساويًا للمنطوق، ومثَّل له بقوله تعالى:
{إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا...} [النساء: 10]،
دلَّت الآية بالمنطوق على تحريم أكل مال اليتيم، وبالمفهوم المساوي على تحريم إحراق مال اليتيم، والحكمان مُتساويان؛ لأن المعنيَينِ مُتساويان، فالكل - الأكل والإحراق - إتلافٌ للمال، فهما مُتساويان في المعنى والحكم.
وهذا تعسف وتجن في سبيل تمرير مصطلح ولي عنق المعاني لتؤيده، فحرق مال اليتيم أشد من الأكل منه، فالأكل منه بالمعروف ليس محرما، وإنما المحرم هو الأكل منه ظلمًا.
أما حرق مال اليتيم فليس ظلمًا له فقط، وإنما هو تبديد للثروة وجريمة ضد الأمة.
ومفهوم الموافقة الأَولويَّ غالبًا ما يُطلق عليه اسم فحوى الخطاب؛ لأن فحوى الكلام هو معناه، وفي الأساس: عرفت ذلك في فحوى كلامه؛ أي: فيما تنسَّمت من مراده بما تكلَّم به.
أما مفهوم الموافَقة المساوي، فيُسمَّى بلحْن الخطاب؛ لأن لحن القول: ما فُهم من القول بضربٍ من الفطنة، فالفحوى ما نبَّه عليه اللفظ، واللحن ما لاح في اللفظ، والفحوى ما دل على ما هو أقوى منه، واللحن ما دلَّ على مثله.
ومفهوم المخالفة، هو ما يكون مدلول اللفظ في محل السكوت مخالفًا لمَدلوله في محلِّ النطق.
ويُسمى بمفهوم المخالَفة؛ لأن حكم المسكوت عنه يُخالف حكم المنطوق، وسُمِّي بدليل الخطاب؛ لأن دليله من جنس الخطاب، أو لأن الخطاب دلَّ عليه، ويُسمَّى كذلك بتنبيه الخطاب.
ومِن الأمثلة التي يذكرونها عادة ما جاء في قوله تعالى:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِين} [الحجرات:6]،
فقد دلَّت بمَنطوقها على وجوب التثبُّت في خبر الواحد، لا سيما إذا كان فاسقًا، ودلَّت بالمفهوم المخالف على أنه إذا كان عدلًا ثقة فإن خبره يُقبَل!!! وعلى ذلك بنوا حجية أخبار الآحاد، وهي جلّ ما يسمونه بالسنة المطهرة.
لذلك أصبح على البشرية جمعاء إلى قيام الساعة أن تؤمن بأي خبر أورده البخاري مثلا لأن الذي ساقه إليه شخصٌ ما ارتأى هو فيه أنه عدل وثقة!!!!! وذلك دون أن يسألوا أنفسهم هذه الأسئلة المنطقية:
ومن الذي قال إن البخاري نفسه هو عدل وثقة؟ هل قال بذلك ربّ العالمين؟ هل زوده بما يلزم من الآيات والبينات والمعجزات؟! وهل ثمة ما يُثبت أن كتاب البخاري قد كتبه البخاري بنفسه؟ وأين هو الأصل الذي كتبه البخاري؟ من المفترض أن البخاري كتب كتابه في القرن التاسع الميلادي، أي في عصر حديث نسبيا، وليس في عصر ما قبل التاريخ مثلا، وتوجد نصوص مكتوبة قبله بقرون طويلة، ومازالت محفوظة، فلماذا ضاع الأصل طالما أن الأمة كما يزعمون قد تلقته بالقبول المطلق وخروا له إلى الأذقان وهم يبكون؟!
ولا يوجد في الآية ما يلزم الناس بقبول خبر من يسمونه بالعدل، ولا يُسجل في بطاقة الهوية لأي شخص صفته كفاسق أو عدل! بحيث يكون الناس كافة ملزمين بالأخذ بذلك!
ولقد زود الله تعالى رسله بما يكفي من الآيات والبينات، ولم يقل للناس: إن الرسول ثبت وعدل، ويجب أن تقبلوا كلامه لذلك.
أما الذين ألزموا البشرية جمعاء بالقبول بخبر من رأى البخاري وشركاؤه أنه ثقة وعدل فلم يصيبوا فقط قَوْمًا بِجَهَالَةٍ، وإنما أصابوا البشرية جمعاء، قرنًا من بعد قرن، بكوارث وصدوها عن سبيل رب العالمين، ولن يفلتوا من العقاب الأليم.
ومن المعلوم جيدًا أن الله تعالى أمر الناس في كتابه العزيز باستشهاد الشهود في أمورهم الجزئية والشخصية، بل وأمرهم بكتابة الدين بالإضافة إلى استشهاد شَهِيدَيْنِ مِنْ الرجال فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ، كما أنه منع إنزال العقاب في بعض الأمور إلا عند توفر أربعة من الرجال الذين شهدوا الواقعة، فهل كان شأن الأوامر الدينية الملزمة للبشرية جمعاء إلى قيام الساعة أهون من أمور الناس الجزئية، وخلافاتهم الشخصية؟ كلا بالطبع! ولكن الأعجب أنهم يسمون كل هذه الأخبار الظنية بالسنة المطهرة، ويحكمون ويقضون بها على كتاب الله العزيز، ويأخذون منها أسس وأركان دينهم وأكثر أوامره.
ولمَفهوم المُخالفة أنواع كثيرة تعتبر أساليب له أو قرائن للعمل به تبعًا لتعدُّد القيود الواردة في النص؛ من الوصْف أو الشرط أو العدد أو الغاية أو الحصْر أو اللقب.
*****
ما يُسمَّى بالمنطوق عند الشافعية شاملٌ لدلالة العبارة والإشارة والاقتضاء عند الحنفية، فمثلًا دلالة الإيماء عند الشافعية هي: قسم مِن أقسام المنطوق غير الصريح، وتَندرِج تحت عبارة النص عند الحنفية.
وأما مفهوم الموافَقة عند الجمهور، فهو بعينه دلالةُ النص عند الحنفيَّة، وإن كان يرى البعض من الحنفية والشافعية أن مفهوم الموافَقة أو دلالة النص قسمٌ مِن أقسام دلالة المنطوق؛ لوضوح دلالتها على المعنى؛ وعلى هذا يكون المفهوم عندهم قسمًا واحدًا، وهو مفهوم المخالفة فقط، وعلى هذا فإن الجمهور والحنفية مُتفقون على أن طرق الدلالة على الأحكام أربعة، وإن اختلفت مناهجهم في التنويع والتقسيم والأسامي، واتَّفقوا أيضًا على صحة الاحتجاج بها جملة.
والدلالة على اختلاف أنواعها تُفيد معنًى ثابتًا بها قطعًا أو ظنًّا، لكنها مُتفاوتة في قوة الاحتجاج بها؛ لتَفاوُتِها في وجه دلالتها على المعنى أو الحكم الدالة عليه، وأقوى الدلالات على الأرجح عندهم دلالةُ المنطوق الصريح الثابت بالعبارة، تَليها دلالة الإشارة، ثم دلالة النص، فدلالةُ الاقتضاء.
وبالنسبة لمفهوم المخالفة فمفهوم الصِّفة أقواها، وأضعفها مفهوم اللقب، ورغم حصرهم مفهوم المخالفة في ستة أنواع إلا أنه يمكن استنتاج أنواع أخرى.
1