نظرات في المذاهب
الإجماع
الإجماع في اصطلاح الأصوليين: هو اتفاق جميع المجتهدين من المسلمين في عصر من العصور بعد انتقال الرسول على حكم شرعي في واقعة.
وقد احتجوا لإثبات حجية الإجماع بقوله تعالى:
{وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيرًا} [النساء:115]
والحق هو أن "سبيل المؤمنين" هو الإيمان بأركانه المعلومة وصراطه المستقيم، وكل ذلك مذكور في كتاب الله، و"متَّبع غير سبيل المؤمنين" هو متبع سبيل الكافرين، فهو ليس بمؤمن أصلا، وهو لم يكتف بذلك وإنما اتخذ موقفا عدائيا من الرسول مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى، أي شاقّ الرسول عامدًا متعمدًا رغم وضوح الحقّ، ورغم البلاغ المبين، ولا علاقة لذلك أبدًا بإجماع بعض المجتهدين على أمر أو حكم ليجعلوه بذلك جزءا من الدين أو نصا دينيا، والذي سبق بذلك كان أهل الكتاب الذين يقولون بأن ما يجمع عليه أحبارهم في الأرض ينعقد في السماء، فالاحتجاج بهذه الآية لإثبات حجية الإجماع هو خطأ محض وضلال مبين.
إن الله سبحانه كما أمر المؤمنين بطاعته وطاعة رسوله فقد أمرهم بطاعة أولى الأمر منهم، قال تعالى:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلا}[النساء:59]، { وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ } [النساء: 83]،
ولفظ الأمر معناه الشأن وهو عام يشمل الأمر الديني، والأمر الدنيوي، فإذا اتفق أولو الأمر الحقيقيون على أمرٍ ما أو قولٍ ما بخصوص أمرٍ مستجد فقد وجب طاعتهم.
وهم إما أن يثبتوا أن الأمر المستجد هو من تفاصيل مصطلح شرعي أو من لوازم وتفاصيل أمرٍ ديني، وإما أن يتوصلوا إلى قولٍ جديد أو حكم في مسألة فيظل قولهم حكما أو أمرا وضعيا لا يزداد به الدين، ويظل عرضة للتحسين أو للتغيير إذا ما توفرت معطيات أفضل أو تقدم العصر والمصر، ولكن هذا الإجماع لا يصنع عنصرا دينيا جديدا.
والفرق هائل بين الأمر بطاعة أولي الأمر وبين جعل الإجماع أصلا ديني مكافئا لكتاب الله، والتراثيون بقولهم إن طاعة أولي الأمر مساوية للأخذ بما يسمونه بالإجماع يجعلون الردّ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ غير مطلوب إلا في حالة عدم تحققه!! هذا مع أن الإجماع لا يجوز أن يحدث أصلا إلا بعد النظر والاجتهاد في الكتاب و(السنة)!! وقولهم هذا يفتح إمكانية جعل الإجماع مصدرا لأمور مخالفة للكتاب و(السنة).
وفي كل الأحوال فالأمر بطاعة أولي الأمر لا يختص بالمسائل الدينية المحض، بل هو متعلق بتحقيق الانضباط في الأمة المؤمنة، ولا يجوز لأحد الزعم بأن الأمر بطاعة أولي الأمر مساوٍ لجعل إجماع بعض المجتهدين مصدرا للأحكام الدينية مثله مثل كتاب الله تعالى.
وفي كل أمر يجب على الناس طاعة أولي هذا الأمر والالتزام بما يقررونه، علما بأن هذا الأمر قد يكون فرعا من فروع الطب أو الهندسة أو العلم أو العسكرية أو القضاء .... الخ.
ولا علاقة لذلك بما يسمونه بالإجماع، وعلى أولي الأمر أن يلتزموا بالشورى فيما بينهم، أما آلية اختيار الرأي الأمثل عند الاختلاف فهي مفوضة لظروف العصر والمصر، ولا يلزم أن يجمعوا جميعا على قول واحد.
ومن البديهي أنه لا يمكن أن تجمع الأمة على ضلالة أو على خطأ، فلابد أن فيها الصفوة الأخيار، ولكن هؤلاء قد يُحال بينهم وبين الظهور للحالة المتردية والمتدهورة للأكثرية، فلا علاقة لذلك بحجية الإجماع أصلا.
إنه لا يمكن أن تجمع كل الأمة على خطأ أو ضلالة، فلابد من وجود ورثة للكتاب سابقين بالخيرات وقد رووا أن الرسول قال: "لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي ظَاهِرِينَ عَلَى الْحَقِّ لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَذَلِكَ"، ولكن من بعد أن تمزقت الأمة وتفرق الدين إلى مذاهب شركية متناحرة تكاد تكون أديانا مستقلة فلم يعد من الممكن أن تكون هذه الطائفة هي رجال دين أي مذهب من المذاهب، فإجماع هؤلاء على أمرٍ ما كعدمه، فمن لوازم السابقين ألا يكونوا من أتباع المذاهب، وبالأحرى ألا يكونوا من سدنة وكهنة أي مذهب من المذاهب.
ولكن الشيء المطلوب للأمة هو وجود هيئات من أولي الأمر المتخصصين في كل أمرٍ من أمور النشاط الإنساني المعلوم والمستجد، هؤلاء وحدهم لهم حق البتّ فيما يدخل في نطاق تخصصهم، فلو كان هذا الأمر هو الطبّ مثلا فلا يُستفتى فيه إلا من اكتسب أعلى تأهيل لازمٍ فيه.
سيقولون: وما بال الدين؟ لماذا لا تتركون أمره للمتخصصين فيه؟!
الجواب: هؤلاء الذين يُقال إنهم متخصصون في الدين هم سدنة وأتباع المذاهب التي تفرق إليها الدين من بعد أن تمزقت الأمة وعادوا كفارا يضرب بعضهم رقاب بعض رغم التحذير النبوي الشديد الوارد في خطبة حجة الوداع "لَا تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفَّارًا يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ"، وقد أصبح كل مذهب بمثابة دين مستقل له أربابه الحقيقيون وكتبه المقدسة الحقيقية.
والمذهب السائد والغالب، أي المذهب الأعرابي الأموي العباسي، هو المذهب الذي صيغ وفق أهواء المتغلبين المتسلطين ليعطيهم الشرعية وليمنع أي تمرد ضدهم وليضمن لهم استمرار السلطة في ذرياتهم إلى يوم الدين.
فهذا المذهب أو بالأحرى الدين نشأ لأسباب سياسية، وليس دينية، وهو غير ملزم لأحد، والتمسك به لم يجلب إلا الكوارث على من تمسك به وعلى البشرية جمعاء.
سيقولون: "وأين الدين إذًا؟"، الجواب هو أن الدين ماثل في القرءان الكريم؛ فهو المصدر الأوحد للأمور الدينية الكبرى، والمصدر الأعلى للأمور الثانوية، وكل سدنة المذاهب التي حلَّت محل الإسلام يقرون ويعترفون بأن القرءان هو المصدر الأول للدين، لذلك فهم ملزمون بالعمل بمقتضى ذلك، وإلا فيجب الإعلان على رؤوس الأشهاد بأنهم ضالون منافقون كذابون.
وفي كل الأحوال لا يجوز القول بوجود أصلٍ من الأصول في الدين لم يرد بشأنه نصّ قطعي الدلالة في كتاب الله تعالى، بل إن فتح الباب للناس للتشريع في الدين هو فتح باب خطير للشرك، قال تعالى:
{أَمْ لَهُمْ شُرَكَاء شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللَّهُ وَلَوْلاَ كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيم} [الشورى:21]
فطاعة أولي الأمر لا تعني إعطاءهم حق استحداث عنصر ديني، وإنما حق البت في مسألة استجدت ويراد استنباط حكمٍ لها متفق مع قيم ومبادئ ومثل دين الحق.
فلا يجوز لبشر أن يستحدث أمرًا دينيا بدون إذنٍ صريح من ربه يأتي عليه ببرهان مبين، والأمر الذي تم التوصل إليه باستعمال آلية اجتهاد بشرية لا يجوز فرضه على الناس كأمرٍ ديني.
ولقد ألزم القرءان الناس وخاصة أولي الأمر بأن يكون هذا الأمر شورى بينهم، وهذه حجة على من جعل الإجماع أصلا دينيا، فالأمر أو العنصر الديني لا يتم صناعته بتداول الرأي بين الناس؛ أي لا يجوز أن يكون في أمورٍ (عناصر) دينية محض، تداول الرأي يكون في أمرٍ دنيوي أو في استخلاص أمرٍ ديني من مصادره الحقيقية أو في كيفية تطبيق نصوص دينية على واقعة أو في النظر في إمكانية اندراج أمر مستجد تحت مصطلح شرعي أو في كيفية تطبيق القانون في منازعات بين أفراد .... الخ.
وهذا يعني أنه كما لا يجوز للإجماع أن يجعل صلاة الظهر مثلا ثلاث ركعات لا يجوز له أن يشرع أي شيء آخر في الدين.
وكل ما يحتجون به من آيات أو مرويات لفرض آليات الاجتهاد كأصول دينية لم تُذكر في معرض الكلام على أصول الأحكام، ولم يرد شيء قريب من ذلك إلا المروية المنسوبة إلى معاذ والتي قالوا بضعفها لانقطاعها! وهي:
عن الحارث بن عمرو ابن أخي المغيرة بن شعبة عن أناس من أهل حمص من أصحاب معاذ بن جبل: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أراد أن يبعث معاذا إلى اليمن قال: كيف تقضي إذا عرض لك قضاء؟ قال: أقضي بكتاب الله، قال فإن لم تجد في كتاب الله؟ قال فبسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال فإن لم تجد في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا في كتاب الله؟ قال أجتهد رأيي ولا آلو؟ فضرب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم صدره وقال: الحمد لله الذي وفّق رسول رسول الله لما يُرضي رسول الله.
فلا ذكر فيها لأية آلية من آلياتهم، هذا رغم أن المروية تتحدث عن القضاء بين الناس، وليس عن إحداث عناصر دينية جديدة! فلو كان وراء ذلك شيء آخر لذكره له الرسول، والسكوت في معرض البيان بيان.
وقد حاول بعض المولعين بالقياس القول بأنه عندما يضطر إلى الاجتهاد سيستعمل بالضرورة القياس!!! وليس بمثل هذا الزعم تُفرض أصول دينية تُذكر في نظم واحد مع كتاب الله تعالى.
*******
1