top of page

نظرات جديدة في المرويات

مروية لتتبعن سنن من قبلكم

مروية لتتبعن سنن من قبلكم


روى البخاري ومسلم عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم "لَتَتّبِعُنّ سَنَنَ الّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ. شِبْرًا بِشِبْرٍ، وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ. حَتّىَ لَوْ دَخَلُوا فِي جُحْرِ ضَبَ لاَتّبَعْتُمُوهُمْ" قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللّهِ آلْيَهُودُ وَالنّصَارَىَ؟ قَالَ "فَمَنْ؟".

رووا أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآله وسَلَّمَقال: " لَتَتْبَعُنَّ سَنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ شِبْرًا شِبْرًا وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ حَتَّى لَوْ دَخَلُوا جُحْرَ ضَبٍّ تَبِعْتُمُوهُمْ"، قُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى ؟! "قَالَ: "فَمَنْ ؟!!".

جاء في مروية: (أنَّهُمْ خَرَجُوا عَنْ مَكَّةَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى حُنَيْنٍ، قَالَ وَكَانَ لِلْكُفَّارِ سِدْرَةٌ يَعْكُفُونَ عِنْدَهَا وَيُعَلِّقُونَ بِهَا أَسْلِحَتَهُم يُقَالُ لَهَا: ذَاتُ أَنْوَاطٍ، قَالَ: فَمَرَرْنَا بِسِدْرَةٍ خَضْرَاءَ عَظِيمَةٍ، قَالَ: فَقُلْنَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، اجْعَلْ لَنَا ذَاتَ أَنْوَاطٍ . فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : قُلْتُمْ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِه كَمَا قَالَ قَوْمُ مُوسَى: اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةً قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ، إِنَّهَا لَسُنَنٌ لَتَرْكَبُنَّ سُنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ سُنَّةً سُنَّة.

هذه المروية رواها أحمد 21390، والترمذي 2180 وقال: حسن صحيح، وابن أبي عاصم في السنة، وقال المناوي: إسناده صحيح، وصححه الألباني في رياض الجنة رقم 76]

عن أبي واقد الليثي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما خرج إلى حنين مر بشجرة للمشركين يقال لها ذات أنواط، يعلقون عليها أسلحتهم، فقالوا: يا رسول الله! اجعل لنا ذات أنواط، كما لهم ذات أنواط. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: سبحان الله، هذا كما قال قوم موسى: {اجعل لنا إلها كما لهم آلهة}. والذي نفسي بيده لتركبن سنة من كان قبلكم. رواه أحمد والترمذي وقال: حسن صحيح. وصححه الألباني.

المرويات تشير إلى أصل صحيح، وذلك لثبات السنن؛ أي لكونها لا تبديل لها ولا تحويل، وكذلك لثبات الهوية الإنسانية العامة، ومن لوازم الوجود وسننه أن كيد الشيطان ضعيف، وهو دائما يحاول أن يعرض ما لديه من الحيل في ثوب جديد، ولقد تحققت النبوءة الواردة في الحديث بحذافيرها وبكل تفاصيلها، فما من أمر أحدثه اليهود والنصارى في الدين وصار سنة لهم إلا وظهر في تلك الأمة ولكن في ثوب جديد، ولقد كان أشبه الشيع بالنصارى من قالوا إنهم الشيعة وبعض المتصوفة، أما أشبههم باليهود فهم السلفية والوهابية من أهل السنة، فتلك المروية تشير إلى أصل صحيح، والحديث هو من آيات النبوة، لذلك ما من أمر أحدثه اليهود والنصارى في الدين إلا ووجد من أحدث ما يناظره في الإسلام ووجد من يتبعه ويتحدى الآخرين به.

*****

لقد شبَّه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآله وسَلَّمَ قول بعض أهل القرن الأول الذين قالوا له: (اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط) بقول بنى إسرائيل: (اجعل لنا آلهة كما لهم آلهة) فالمنبع واحد وهو التماس البركة والعون من عند غير الله ومحاكاة ومضاهاة سنن الضالين، فإذا كان بعض أهل القرن الأول قد وقعوا في هذا فماذا يضمن ألا يقع من هم دونهم في مثله؟ فالسنن لا تبديل لها ولا تحويل، وما لم يعمل الإنسان على حماية نفسه من الشرك وتطهير نفسه من آثاره فإنه سيقع فيه ولا عبرة بالأسماء، وإنما بما انطوت عليه القلوب، ولقد نصت آية من آيات الكتاب على أنه ما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون؛ قال تعالى: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللّهِ إِلاَّ وَهُم مُّشْرِكُونَ} يوسف106.

ولقد تحقق مضمون المروية بحذافيره، ولقد اتبعت الأمة سنن اليهود فيما يلي:

1- شدة الاحتفال بالأمور الجزئية والفرعية والشكلية على حساب جوهر الدين وحقيقته وروحه، فأصبح الشكل الخارجي للصلاة مثلا أهم من روحها وحِكَمها ومقاصدها، ولقد بدئوا في استبعاد تلك الأمور بحجة أنها غير منضبطة فتناساها الناس ثم نسوها.

2- نشوء طبقة من المشايخ احتكرت لنفسها أمر الدين وجعلت الأمور الشكلية والطقوس بديلا عن الدين نفسه.

3- اتخاذ كتب في الدين مع كتاب الله ثم تحكيمها فيه والقضاء بها عليه.

4- تقديم كلام أحبارهم على كلام الله.

5- الميل إلى تجسيم الإله وتشبيهه بخلقه.

6- الزعم بأنه رب هذه الأمة فقط لا عمل له إلا قضاء مآربها والعمل لحسابهم.

7- الزعم بأنهم أحباء الله وأنه لن يعذبهم إلا أياما معدودة.

8- تسطيح أمور الدين وإهمال روحه والجوانب الجوهرية فيه.

9- شدة الاهتمام بالأمور الدنيوية.

كما اتبعت الأمة النصارى فيما يلي:

1. الإشراك بالله.

2. الزعم بوجود طبقة من الأولياء تناظر القديسين عند النصارى بيدها الأمر والشفاعة والتصريف والحل والعقد.

3. عبادة القديسين وأضرحتهم وتأليه خواص العباد واتخاذهم أربابا من دون الله.

4. ازدراء الحياة الدنيا وذمها ونبذها.

5. اتباع سنن الرهبان وطرقهم وإن اختلفت المسميات.

6. عدم الاعتداد بالجوانب القانونية الشرعية من الدين.

إنه يجب القول بأن هذا الحديث ليس أمرا باتباع سنن من كانوا قبل المسلمين ولكنه نبوءة تتضمن تحذيرا من فعل ذلك وإنذارا لمن سيفعل ذلك حتى يعرف الحق من جهله ولقد تحقق الحديث بحذافيره فكان بذلك من آيات النبوة.

فهذا الحديث من معجزات النبوة، ذلك لأنه تحقق بحذافيره واتبعت هذه الأمة سنن من قبلها من اليهود والنصارى في كل شيء فما من فئة ظهرت في أهل الكتاب وما من معتقد نبت إلا ووجد ما يناظره لدى المسلمين:

1- تصور اليهود ربهم على شاكلتهم وصورتهم وشبهوه بخلقه وقيدوه بتصوراتهم وظنوا أنه لا عمل له إلا القيام بشؤونهم والسهر على راحتهم وتسخير الخلق لهم، وهكذا تصوره المغضوب عليهم من السلفيين.

2- تمسك اليهود تمسكا شديدا بالأمور الفرعية والجزئية والثانوية والشكلية وأهملوا الأمور الكلية والأصلية والجوهرية والرئيسية، وهكذا فعل الذين جعلوا من الدين كتالوجا لبيان الحركات اليومية وأداء الطقوس وأصبح الدين عندهم هو الجلباب القصير والنقاب والسواك واللحية.

3- ظهرت لدى أهل الكتاب طبقة كهنوتية فرضت نفسها على الناس وتطفلت على العلاقة بين الإنسان وربه وأعطت لنفسها حق الوساطة في تلك العلاقة وحرمت الناس من التفاعل المباشر مع ربهم وأعطت لنفسها حق الحكم على إيمان الناس وكذلك حق التحليل والتحريم وغفران الذنوب والطرد من الرحمة الإلهية ثم زعمت لنفسها حق التصرف في الكون فما يعقدونه أو يحلونه في الأرض يصير معقودا أو محلولا في السماء وظهرت طوائف شتى من المسلمين زعمت كل منها لنفسها شيئاً من ذلك أو كل ذلك وإن اختلفت الأسماء والألقاب.

4- ظهرت بين اليهود طائفة حفظوا كتابهم حفظا حرفيا ولم يفيدوا منه شيئا ولم يعملوا بما ورد فيه فكان مثلهم كمثل الحمار يحمل أسفارا، وبالمثل ظهر بين المسلمين طائفة مشابهة.

5- ظهرت طائفة من المتكسبين بالدين بين اليهود يأمرون الناس بالبر وينسون أنفسهم ويظنون أن العلم بالمنقولات يغنى عن العمل وتحقيق مقاصد الدين وبالمثل ظهر ذلك بين المسلمين.

6- تعامل المسلمون مع الكتاب كما تعامل اليهود مع كتابهم، فرغم التحذير الشديد الصادر عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآله وسَلَّمَ المتمثل في السؤال الاستنكاري المدوي: (أكتاب مع كتاب الله؟) ورغم صيحة عمر بن الخطاب (حسبنا كتاب الله) فإنهم جعلوا ما لا حصر له من الكتب مع كتاب الله، وكما شغل اليهود بالتلمود وأصبح كتابهم الأقدس فإن سدنة المذهب السائد أيضا أخضعوا كتاب الله لكتب المرويات والتي أعطوها حق القضاء والهيمنة عليه وأخضعوا الكتاب للمرويات الظنية وأحوجوا الكتاب إليها ولم يحوجوها إليه ثم زعموا أن فيه نسخا وأعملوا سيف النسخ في آياته المحكمة التي لا تحلو لهم فجعلوا ما سموه بآية السيف ناسخة لكل الآيات التي تحدد الأساليب الشرعية للدعوة وتحض على معاملة الناس بالصفح الجميل والحسنى وتقرر حرية العقيدة وزعم بعضهم أن كل آية تخالف مذهبهم إما أن تكون منسوخة أو مؤوَّلة.

7- حرَّف بنو إسرائيل الكلم عن مواضعه وحرفوا وبدلوا في كتابهم فلما استعصى فعل ذلك بكتاب الله فإنهم حرفوا مدلولات كلماته ومصطلحاته وأعطوها من المعاني ما يحلو لهم.

8- قال بنو إسرائيل اذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون، وكذلك اكتفى المسلمون بدعاء ربهم أن يهلك أعداءهم بأعدائهم بحيث يخرج المسلمون من بينهم سالمين.

9- ظن بعض النصارى أنه يمكن استرضاء الله سبحانه باتباع نسق من الأنماط السلوكية يعرف بالرهبانية، ولقد اتبع بعض المسلمين نسقًا مشابها، وهذا النسق مضاد لمقاصد الدين؛ ففي حين تشترط الرهبانية اعتزال الحياة لتزكية النفس فإن الإسلام يشترط لذلك خوض الحياة بشجاعة وإقدام.

*****

إن السَنَن هو الطريق أو القصد أو النهج، ولقد قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ لهم: "لَتَتّبِعُنّ سَنَنَ الّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ. شِبْراً بِشِبْرٍ، وَذِرَاعاً بِذِرَاعٍ" عندما طلبوا منه أن يجعل لهم ذات أنواط كما كان للمشركين ذات أنواط، فقالوا بذلك كما قال بنو إسرائيل من قبل (اجعل لنا آلهة كما لهم آلهة)، وبيَّن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ أن الطبيعة البشرية واحدة لأنها من مقتضيات نفس النسق من السنن ولأنها لذلك تخضع لقوانين ثابتة، فالحديث يتنبأ بما سيحدث لتلك الأمة ليحذرهم من الغفلة عن طبيعة أنفسهم ومن الأمان لها ومن مكرها وحتى يعرف الإنسان من أين يمكن أن يضل، وهذا كالحال مع القول المنسوب إليه: (الأئمة من قريش ما عدلوا)، فليس المراد منه إلزام الناس بجعل الأئمة من قريش كما أن المروية السابقة ليست أمراً باتباع سنن الأولين، وإنما المراد حث الناس ومنهم قريش على الحرص على العدل واجتناب الظلم، فالإمام لا يظلم ولئن ظلم فلن يكون إماما، فالإمام الإسلامي الحقيقي هو من يأتم الناس به ويتأسون به لأنهم يرون فيه تجسيدا حيًّا لدين الحق ولمنظومة القيم الإسلامية.

ولقد اتبع المسلمون سنن من قبلهم شبرا بشبر وذراعا بذراع كما تنبأ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تماما، ومن ذلك قولهم بالإجماع، وهو يعادل المجامع المسكونية الكهنوتية التي ابتدعها من جاء من قبلهم والتي قرروا فيها أسس عقيدتهم بغض النظر عما جاء في كتبهم المقدسة، ولقد قال المسلمون بما يسمى بأهل الحل والعقد والتي اتبعوا فيها سنن من قبلهم الذين يعتقدون أن ما يعقده كهنوتهم في الأرض ينعقد في السماء وما يحلونه يحل في السماء.

إن الشيطان ليس بغرٍّ ساذج وإنما هو بارع متمرس وهو يعرف جيدا كيف يؤدى عمله، ولقد قال اليهود لموسى عليه السلام: (اذهب أنت وربك فقاتلا) وكذلك يفعل خطباء المساجد فبدلاً من أن يحثوا الناس علي فعل ما هو مطلوب منهم أو علي الأقل معرفة ما هو مطلوب منهم وإعداد أنفسهم له فإنهم يتفننون في ابتداع صيغ للدعاء على اليهود المعتدين ومن ناصرهم وهم يقترحون على ربهم سبل القضاء عليهم وهم يريدون منه أن يهلك أعداءهم بأعدائهم بينما يراقبون هم ا المشهد وهم مستلقون على أقفيتهم، وكان من الأولي لهم أن يتبعوا سنن القرءان وأن يتأدبوا مع ربهم وأن يلتزموا بالأدعية القرءانية وأن يعلموا أن من أسمائه الحسني الاسم الجليل (رب العالمين) رغم أنف عبيد الترمذي الذي لم يورد هذا الاسم في قائمته الشهيرة التي يتغنى الناس بها ويزخرفون بها أشياءهم، وهذا يعني أنه لن ينحاز إلي طائفةٍ ما ولن يبدل من سننه التي هي مقتضيات أسمائه من أجل أحد.

ولقد منَّ الله على المسلمين إذ هداهم إلي الإسلام وكان عليهم أن يعرفوا قدر هذه النعمة وأن يشكروا لله بالعمل على تنفيذ أوامره فيكون منهم أمة أخرجت للناس وأن يعدوا لإرهاب أعدائهم ما استطاعوا من قوة وأن يكتسبوا الصبر والصمود والمرابطة والبأس الشديد، ولن ينفعهم في شيء التفنن في القعود والإلحاح في الطلب من الله أن يحارب عنهم أو أن يوقع بين أعدائهم حتى يفوزوا هم بالمغنم دون المغرم.

إن الله تعالى يبتلي الناس بالناس ليميز الخبيث من الطيب وليحقق المقاصد الوجودية وهو الغني عن العالمين فمن جاهد فإنما يجاهد لنفسه ومن ظن أن الله سينتفع بعبادته أو بجهاده فقد تعدى طوره وجهل قدر ربه، والله سبحانه لن يغير من قوانينه وسننه من أجل أحد ولن ينحاز إلى طائفة ما خاصة إذا لم تحترم قوانينه وسننه ولم تلتفت إلى ما أعلنه من أنه لا تبديل لها ولا تحويل.

ولقد أعلن الله تعالي أنه رب العالمين، ولقد منَّ على وُلدوا للمسلمين ابتداءً فوفَّر عليهم مشقة البحث المضني عن الدين الحق حتى أن الطفل المسلم الذي يحفظ آية الكرسي وسورة الإخلاص يعلم من أسمي الحقائق الإلهية ما يفوق به سائر الناس من غير المسلمين، وعلى المسلمين قياما بحق الشكر أن يعملوا بمقتضيات وأوامر هذا الدين وأن يتنافسوا في دعوة الناس إليه وفي سبيل نصرته.

ومن السنن التي أحدثها أهل الأمم السابقة تقديس بعض السلف والصالحين منهم وعبادتهم وتوثين كل ما يتعلق بهم، وهكذا فعل أكثر المحسوبين على الإسلام، وهذا لا يعني بالضرورة العبادة الصريحة الغليظة وإنما من صور ذلك كما أوضح النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآله وسَلَّمَ إعطاؤهم حق التشريع في الدين والتحليل والتحريم من تلقاء أنفسهم أو إعطاؤهم حق تأويل الآيات واعتبار تأويلهم هو الحق المطلق أو منحهم حق صياغة الدين وفقاً لتصوراتهم أو إلزام الناس بفهمهم للدين، ومن صور ذلك أيضا افتراض تمتع أئمتهم أو مشايخهم أو سلفهم بصفات إلهية، ومن ذلك الإيمان بعصمتهم وإخراجهم عن طبيعتهم البشرية وتقديس أقوالهم والحرص عليها والتصدي لمحاولات نقدها وتمحيصها، ومن ذلك الظن بأن التقادم يكسب الأقوال قداسة وأن السلف أو الأوائل لم يتركوا للخلف أو الأواخر شيئا وإنما احتكروا الحق وجاءوا بالقول الفصل في كل أمر، إن السلفية أو الماضوية هي من شر الأمراض التي يمكن أن تبتلى بها أمة من الأمم.

ومن السنن ما أحدثته الأمم السابقة من شدة الاحتفال بالأمور الفرعية والجزئية والشكلية وتقديمها على الأمور الأصلية والكلية، وهكذا أصبح العلم بالدين هو العلم بهذه الأمور الجزئية والشكلية والهامشية، وكان ذلك بالطبع على حساب مقاصد الدين العظمى وسننه الكبرى وقيمه المثلى، وهذا ما تمسكت به بشدة أكثر المذاهب التي حلت محل الإسلام، وكم من صراعات نشأت بسبب أمور ثانوية مثل كيفية وضع اليدين في الصلاة، وبعضهم قد يقترفون جريمة قتل مسلمين آخرين بسبب أمور ثانوية أو باطلة مثلما يحدث عند رمي الجمرات في الحج مثلا.

ومن سنن الأمم السابقة تحريف الكلم عن مواضعه، وهكذا فعل أصحاب المذهب السني عندما حرفوا معاني المصطلحات القرءانية لتمرير ما يشاءون إلي الدين من خلال تلك المصطلحات المحرفة ولفرض مذهبهم علي الناس وإكسابه الشرعية، ومن المصطلحات التي حرفوها: السنة، الحكمة، الفقه، النسخ، .... الخ، ومن ذلك أيضا استخدامهم لآيات نزلت في الكافرين لاسترهاب كل من خالفهم من المؤمنين المخلصين.

ومن سنن السابقين الانشغال بالجدل العقيم فيما خفي من أمور الدين وفيما لا يمكن للعقل البشري أن يأتي فيه بالخبر اليقين، وهكذا ما إن يلقى الشيطان عن طريق أحد أوليائه إليهم بقول من أقواله حتى يتصدى لتبنيه أحدهم ثم يدعو الناس إليه، ومن ثمَّ يبدأ صراع لا ينتهي بين أنصار القول ومعارضيه ربما دفع فريقا منهم إلى استعداء القائمين على الأمر ضد الفريق الآخر فتنشأ الفتن والاضطرابات والمحن وتزداد الأمة تفرقا وتشتتا.

ومن سن السابقين الرهبانية والتي نشأت عن ظن البعض بأنه يمكن استرضاء الإله بالانقطاع عن الدنيا والانسحاب من الحياة والمغالاة في أداء الشعائر والطقوس، ولقد تعلمها المسلمون من المجوس والنصارى والهندوس ثم فرضوها على الأمة كمنهج وحيد لتزكية النفس فجاء المنهج وجاء معه لوازمه من عقائد منحرفة وممارسات ضالة دافع عنها البعض وتصدي لها البعض فازدادت الأمة تفرقا وتمزقا.

ومن سنن السابقين التي اتبعتها الأمة قتل الأنبياء والمصلحين، ولقد تمسكت تلك الأمة بهذه السنة وعضت عليها بالنواجذ وعملت على اغتيال خيارها الصالحين ماديا أو معنويا، ولما لم يجدوا أنبياء ليقتلوهم لكون النبوة قد خُتِمت فقد عولوا على قتل أشبه الناس بهم، فقضوا أولا على آل البيت النبوي وكادوا يبيدون ذريتهم ثم قضوا على الأنصار وعلى خير أمة أخرجت للناس كما اغتالوا معنويا كل مصلح أو مجدد حر برميه بكل ما في جعبتهم من سهام الاتهام بالتكفير والمروق من الدين والخروج على الجماعة أو تسليط السفهاء والدهماء عليه أو تأليب السلطات عليه أو على الأقل بالمحاصرة والتجاهل.

ولقد اعتبر رجال الكهنوت العلم هو العلم بمذهبهم ومقولات سدنته، وقالوا إن كل ما عدا ذلك فإن الجهل به لا يضر والعلم به لا ينفع، وبذلك تجاهل الناس الكثير من علوم أئمة التصوف الصادقين وعلوم علماء الطبيعيات والرياضيات الحقيقيين والفلاسفة واندثر أكثرها ولم ينتفع بما بقي منها إلا الأوروبيون، ولقد كان الأوروبيون يجوسون خلال ديار العالم المحسوب على الإسلام ويخدعون خدم المساجد ويستولون على ما شاءوا من نفائس الكتب بقولهم لهم إن هذه الكتب مليئة بالكفريات والضلالات!

ومن سنن السابقين وجود طبقة كهنوتية تتولى أمر الوساطة بين الناس وبين ربهم وكتابه وتحتكر لنفسها حق التفسير والفتوى والبت في كل ما يتعلق به وترفع طلبات العباد إلي رب العالمين، وبالمثل نشأت في الإسلام طبقة المشايخ الذين احتكروا لأنفسهم حق تفسير الدين وعقَّـدوا مسائله وأحدثوا إفك النسخ واستحدثوا فيه ما يحلو لهم وجعلوا منه فزاعة حتى لا يجسر أحد من المسلمين على محاولة تدبر القرءان وفقهه إلا من خلال أقوالهم أو أقوال مشايخهم السابقين، واعتبروا أقوالهم وتفسيراتهم هي صحيح الدين أما من يحاول تمحيصها فهو من المخالفين المارقين؛ فإذا كان السلطان معهم فلا أقل من إهدار دمه وضرب عنقه وتمزيقه بسيوف (الشريعة) وإن لم يكن معهم فلا أقل من اغتياله معنويا بتحريض الدهماء عليه واستثارة تعصبهم لدينهم ضده، ولقد كان الحنابلة يوعزون إلي العميان أن يضربوا الشافعية في بغداد، ولقد دفعت الخلافات المذهبية بعضهم إلي خيانة الأمة وتأجيج الفتن وتولي أعدائها من المغول والصليبيين كما حدث في العراق والشام والأندلس.

ولقد زعم بعض المتصوفة لمشايخهم من الأعمال والسلطات ما لا يكون إلا لرب العالمين حتى زعم بعضهم أن الألوهية مرتبة ينالها منهم الواحد بعد الآخر وأن الله مجرد عبارة لمن فهم الإشارة!! بل إنهم أعطوا لمشايخهم من السلطات ما لم ينسبه الله تعالى إلى نفسه، ففي حين يسمح الله لعباده الذين خلقهم بالحوار معه مثلما فعل مع الملائكة وفي حين أنه الزمهم بألا يقبلوا أمرا إلا بالحجة والبرهان وأنه أرسل الرسل حتى لا يكون لأحد من عباده عليه من سلطان فلقد جعلوا هم لمشايخهم الطاعة المطلقة والتسليم المطلق حتى فيما يخالف أوامر الدين الصريحة، وهددوا كل من لم يقبل بذلك بالويل والثبور وعظائم الأمور والتي من أقلها الإلقاء خلف جبل قاف حتى يعرف للشيخ سطوته وشدة بأسه، فكانت النتيجة أن أصبح المشايخ أشد رهبة في صدور الناس من الله الغفور الرحيم الذي يمكن استرضاؤه وهان أمر الشريعة لدى العامة وعادوا إلي عبادة الأوثان المتمثلة في أضرحة المشايخ والتي حلت محل رب القرية أو المدينة في العصور القديمة، وهكذا صار من طقوس الدين أن يطوفوا بالضريح يبتهلون إليه ويتوسلون إليه بل ربما يتوسلون برب العالمين إليه، وهكذا يضحون بكل الدين وهم يظنون أنهم بذلك يتقربون إلي رب العالمين.

ومما سنه السابقون القول بأنهم شعب الله المختار حتى أنهم ظنوا أن لا عمل له ولا هم له إلا السهر علي راحتهم وتسخير كل الخلق لهم وقهر أعدائهم، أما يوم القيامة فسيجعل الجنة خالصة لهم مهما خالفوا عن أمره ومهما ساءت أعمالهم، وهكذا تصوَّرت قريش أولا أنها شعب الله المختار وضخمت من شأن بعض الأقوال الجزئية الخاصة لتصور الأمر وكأن الدين لم ينزل إلا لتقديمهم على البشر أجمعين ولاستعباد سائر الناس لهم، ولقد زعم المسلمون لأنفسهم أن لهم الجنة لمجرد أنهم ولدوا مسلمين وتوهموا أنه على رب العالمين أن يتجاوز عن كل أخطائهم وأن على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآله سَلَّمَ أن يدخر شفاعته لأهل الكبائر منهم وأنه علي رب العالمين أن ينصرهم علي أعدائهم وأن يشتت شملهم وأن يفرق جمعهم وأن يورثهم نساءهم وأطفالهم بينما هم سادرون في المخالفة عن أمره وفى إهمال كتابه وفي اقتراف ما نهي عنه من الكبائر حتى يضمنوا لأنفسهم الشفاعة التي ادخرت لأمثالهم.

وممن اتبع سنن اليهود محترفو التكسب بالدين مثل (الفقهاء) الذين ضخموا شأن الفرعيات والجزئيات وعضوا على تراث مشايخهم بالنواجذ وضحوا في سبيل ذلك بمقاصد الدين العظمى وسننه الكبرى وقيمه المثلى وسماته الرئيسة، وهكذا خالفوا صحيح السنة وعكفوا على حواشي مذاهبهم وتعمقات مشايخهم وظنوا أن غاية الدين هي حفظ واستيعاب هذا التراث واستظهاره ونظمه، وحمَّلوا الأمة إصراً ثقيلا بالتشديد عليها فيما هو أصلا يسير ولا حرج فيه،

أما من اتبع سنن النصارى فهم الذين غلوا في أمر الصالحين واتخذوهم أربابا من دون الله يتعبدون لمقابرهم ويلوذون بهم ويلجئون إليهم في الشدائد ويزعمون لهم ما زعمه النصارى للمسيح عليه السلام بل ما هو أعلى.

ومن ذلك يتبين أن المروية صحيحة وأن قول النبي صادق ومعجز، ولم يوجد من له مصلحة لوضع مثل هذا الحديث، بل كان لهم مصلحة في إخفائه.

*******

1

bottom of page