نظرات في تاريخ مصر
الظاهر بيبرس
الظاهر بيبرس
البطل التاريخي ليس نبيا وليس معصوما من الخطأ، بل هو بالضرورة ابن عصره، وبيبرس عاش مخلصًا للمذهب الذي تربى عليه كفارس، وهو المذهب السني الأشعري التصوفي، ولكنه كان مخلصًا أيضًا لقانون عصره، وقانون المماليك، وهو البقاء للأصلح، والأصلح هو الذي يمتلك العبقرية والقوة بمقاييس عصره.
قضى حياته في الدفاع عن الإسلام ومصر، من هضبة الأناضول إلى النوبة، التي ضمها ضمًّا نهائيا إلى مصر، كان يظهر فجأة في أي مكان على رأس جيشه فيلقي الرعب في قلوب أعدائه، كان المغول يفرون، أما الصليبيون فكانوا يسارعون إلى طلب هدنة، فيعطيها للبعض ويبطش بالآخر، كان يعلم أنهم لا عهد لهم ولا ميثاق، ولم ينخدع فيهم أو لهم كما فعل المتخاذل صلاح الدين.
وضع مشروعًا للقضاء على الصليبيين تم تنفيذه بحذافيره وإلقاؤهم في البحر، كان استيلاء الجيش المصري على أنطاكية فتحًا مبينا، ومن الرسائل الخالدة في التاريخ تلك الرسالة التي كتبها بالطريقة المصرية الساخرة لأمير أنطاكية بعد الاستيلاء عليها.
وها هي رسالة الظاهر بيبرس إلى بوهيموند أمير أنطاكية التي فتحها جيش مصر، في معركة كانت من أكبر معاركه، وقضوا بذلك على واحدة من أكبر وأقوى وأقدم المستعمرات الصليبية، وهو فيها يخبره بالأسلوب المصري الساخر المعهود عن نتيجة المعركة التي فرَّ بوهيموند إلى قبرص قبلها:
((وكتابنا هذا يتضمن البشرى لك بما وهبك الله السلامة، وطول العمر بكونك لم يكن لك في أنطاكية في هذه المدة إقامة، وكونك ما كنت بها فتكون إما قتيلا وإما أسيرا وإما جريحا وإما كسيرا، وسلامة النفس هي التي يفرح بها الحيّ إذا شاهد الأموات، ولعل الله ما أخرك إلا لأن تستدرك من الطاعة والخدمة ما فات وما لم يسلم أحد يخبرك بما جرى خبرناك، ولما لم يقدر أحد يباشرك بالبشرى بسلامة نفسك وهلاك ما سواها باشرناك بهذه المفاوضة وبشرناك، لتحقق الأمر على ما جرى، وبعد هذه المكاتبة لا ينبغي لك أن تكذب لنا خبرا، كما أن بعد هذه المخاطبة يجب أن لا تسأل غيرها مخبرا.
"فلو رأيت خيّالتك وهم صرعى تحت أرجل الخيول، وديارك والنّهابة فيها تصول، والكسّابة فيها تجول، وأموالك وهي توزن بالقنطار، وداماتك وكل أربع منهنّ تباع، فتشتري من مالك بدينار.
ولو رأيت كنائسك: وصلبانها قد كسرت، وصحفها من الأناجيل المزوّرة قد نشرت، وقبور البطارقة قد بعثرت، ولو رأيت عدّوك المسلم داس مكان القداس والمذبح، وقد ذبح فيه الراهب والقسيس والشماس، والبطارقة قد دهموا بــــ طارقة، وأبناء المملكة، وقد دخلوا في المهلكة.
ولو شاهدت النيران وهي في قصورك تحترق، والقتلى بنار الدنيا قبل نار الآخرة تخترق، وقصورك وأحوالها قد حالت، وكنيسة بولص وكنيسة القسيان وقد تركت كل منهما وزالت، لكنت تقول، يا ليتني كنت ترابًا ويا ليتني لم أوت بهذا الخبر كتابا، ولكانت نفسك تذهب من حسرتك، ولكنت تطفئ تلك النيران من ماء عبرتك.
ولو رأيت مغانيك وقد أقفرت من مغانيك، ومراكبك وقد أخذت في السويدية بمراكبك، فصارت شوانيك من شوانيك، لتيقنت أن الإله الذي أنطاك أنطاكية منك استرجعها، والربّ الذي أعطاك قلعتها منك قلعها، ومن الأرض اقتلعها.
ولتعلم أنا قد أخذنا بحمد الله منك كنت قد أخذته من حصون الإسلام، وهو دير كوش، وشقيف كفردوش، وجميع ما كان لك في بلاد أنطاكية، واستنزلنا أصحابك من الصيّاصي، وأخذناهم بالنواصي، وفرقناهم في الداني والقاصي، ولم يبقى شيء يطلق عليه اسم العصيان إلا النهر، فلو استطاع لما تسمى بالعاصي، وقد أجرى دموعه ندما، وكان يذرفها عبرة صافية، فها هو أجراها بما سفكناه فيه دما.
وكتابنا هذا يبشرك أن عَلمنا الأصفر نُصب مكان علمك الأحمر، وأن صوت الناقوس صار عوضه " الله أكبر" ومن بقي من رجالك أُطلقوا و لكن جَرحى القلوب و الجوارح ، وسلموا ولكن من نَدب السيوف إلى بكاء النوايح، وأطلقناهم ليُحدثوا القومص بما جرى، ويحذروا أهل طرابلس من أنهم يغترون بحديثك المفتري، و ليروهم الجراح التي أريناهم بها نفادا، ولينذروهم لقاء يومهم هذا، ويفهموكم أنه ما بقي من حياتكم إلا القليل، وأنهم ما تركونا إلا على رحيل، فتعرف كنائسك وأسوارك أن المنجنيقات تسلم عليها إلى حين الاجتماع عن قريب، و تعلم أجساد فُرسانك أن السيوف تقول إنها عن الضيافة لا تغيب ...)).
ثم أمر بيبرس بجمع الغنائم لتقسَّم، فأحضر الناس الأموال والمصاغ والذهب والفضة حتى صارت تلا، وقسِّمت بين الناس وطال الوزن فقسمت النقود بالطاسات، وقسمت الغلمان على الناس، فلم يبق غلام إلا وله غلام، وتقاسم النساء والبنات والأطفال، وبيع الصغير باثني عشر درهما والجارية بخمسة دراهم، وأقام السلطان يومين وهو يباشر القسمة بنفسه، فما ترك شيئا حتى قسمه، ثم ركب إلى القلعة فأحرقها، وعم بالحريق انطاكية، فأخذ الناس من حديد أبوابها ورصاص كنائسها ما لا يوصف كثرة.
كان يعمل دائمًا لصالح مصر، وعندما حاول ملك الحبشة أن يستقل عن الكنيسة المصرية تصدى له، وأوقف مشروعه، الذي لم يتحقق إلا في هذا العصر!
كان اسمه يسبب رعبًا لأعدائه، فيفرون.
***
نشرنا رسالة تاريخية بحتة عن الظاهر بيبرس، سلطان مصر، وانتصاراته على الصليبيين واسترداده لأنطاكية، أقوى مستعمرة صليبية في الشرق، تضمن المنشور نصّ الرسالة التي بعثها إلى حاكم أنطاكية الذي كان قد فرَّ قبل المعركة بحجة طلب إمدادات.
لم نقل قولنا فيما فعله بيبرس!
أحد الأشخاص يبدو أنه يجهل أن أنطاكية كانت مدينة عربية إسلامية استولى عليها الصليبيون وقضوا على سكانها واستوطنوها، أخذ يدافع عنهم بشراسة، ويندد ببيبرس ويصفه بالإجرام.
عندما نصف مثل هذا الشخص بالجهل فهذا هو وصفه الذي يستحقه بجدارة.
مشروع بيبرس هو الذي أدى في النهاية إلى إلقاء الصليبيين في البحر، ولم يجرؤوا بعدها على تجريد أي حملة صليبية جديدة ضد مصر، بل بدأوا يسعون إلى كسب ودها.
وقد أثبتت تجربة صلاح الدين معهم من قبل أنهم لا ينفع مع الصليبيين أسلوب الصفح أو التسامح.
ولم يكن بيبرس متعصبا ضد المسيحية، فقد كان المصريون المسيحيون يعيشون في عهده في سلام ورخاء، وكانت علاقاته جيدة جدا مع الدولة البيزنطية.
نرجو من المتابعين قراءة تاريخ الظاهر بيبرس بعناية، وهو بجدارة واحد من أعظم حكام مصر وأبطالها، ولا يمكن بسهولة حصر إنجازاته.
***
على مدى عصر الحروب الصليبية أثبت الصليبيون دائما أقصى درجات الوحشية والخسة والنذالة والإجرام، ولم يجدِ معهم أي معاملة حسنة، ولم يؤثر فيهم أي تسامح، كانوا مصرين على استئصال المسلمين، ولقد استعمل حكام مصر معهم أقصى درجات التسامح الذي يصل إلى حدّ التفريط، بل سلَّم لهم السلطان الكامل القدس سلميا، كل ذلك لم يغير شيئا من وحشيتهم ودمويتهم، ومن بعد صلاح الدين كان هدفهم الدائم ضرب رأس الأفعى التي هي عندهم مصر.
لذلك كان لابد من أن يتصدى لهم قوة غالبة غير متخاذلة، ولا تشعر بأي مركب نقص تجاههم، فرسان لا يعرفون لهم أبًا إلا الإسلام، هكذا كان مماليك مصر، الذين كتبوا لها صفحات من أروع صفحات تاريخها، وبسبب جهادهم وولائهم المطلق للإسلام حموا مصر مما حاق بكافة مدن المشرق، ولقد تعرضت تلك المدن من دمشق إلى أقصى الشرق للتدمير التام، وتعرض سكانها لكافة أنواع البطش والتنكيل على أيدي جبابرة لا يرحمون.
حرص بيبرس على الاستجابة للمستجدات في السياسة الدولة، رحب بالوفود التي أقبلت على مصر من كل البقاع، أقام معاهدات وعلاقات ودية مع مانفرد بن فريدريك الثاني الإمبراطور الألماني الروماني، كما حالف ملك نابولي وصقلية وملك قشتالة ألفونسو العاشر، وحالف أيضًا الإمبراطور ميخائيل الثامن امبراطور بيزنطة، تحالف مع بركة خان زعيم القبيلة الذهبية في حربه ضد هولاكو خان الخانات فارس وقد كان يبعث بالرسائل والهدايا للآخرين (بركة خان وعز الدين) ويحثهم على محاربة المغول الإلخانات لكف أذاهم عن دولته، كي يتفرغ للصليبيين، أرسل إليهم علماء ومؤذنين، وبذلك أثبت بيبرس أنه كان رجل دولة، وليس قائدًا عسكريا فقط.
أتت تلك السياسة أكلها، كما سيتبين.
عندما قضى بيبرس على مملكة أنطاكية، أقوى وأكبر وأغنى مملكة صليبية في الشرق، قرر بابا روما أربان الرابع تجريد حملة صليبية جديدة ضد مصر، ولكنه سرعان ما توفي ليواصل مساعيه البابا الجديد كلمنت الرابع، استجاب له ملك فرنسا (القديس) لويس التاسع، الذي أخطأ المصريون خطأً جسيما عندما لم يقتلوه ويريحوا العالم من قداسته، فهو لم يحترم تعهداته بألا يتورط في أي عمل عدائي ضد مصر!
رفضت مدينة ڤينيسيا أن تنقل جيوش هذه الحملة إلى مصر حرصًا على علاقاتها الودية معها، اضطر إلى الاستعانة بسفن جمهورية جنوة التي كانت قد بدأت تنافس ڤينيسيا، ولكنه ما إن وصل إلى صقلية التي كانت تحت إمرة أخيه شارل دانجو حتى نصحه بأن يبعد عن مصر، وأن يتجه نحو تونس ففعل، وهناك أهلكه الطاعون، واستراح العالم أخيرًا من قداسته المفرطة.
أحيا بيبرس الخلافة العباسية في مصر بعد أن قضى المغول على تلك الخلافة، كان ذلك ليستمد منها الشرعية، كانت دولته تشمل مصر والشام والحجاز، أما الخليفة فلم يكن يملك من أمر نفسه شيئا.
حقق انتصارات عديدة على المغول في موقعة البيرة وحران، ورد هجمات المغول المتتابعة على بلاده.
تحالف المغول مع الأتراك السلاجقة الروم في آسيا الصغرى ضد بيبرس، أخذ المغول يغيرون على مدن الشام الشمالية ليأخذوا بثأرهم القديم، قرر بيبرس أن يحسم أمرهم، قاد الجيش المصري سنة 675 هـ ليغزوهم في عقر دارهم.
وفي موقعة أبلستين أنزل هزيمة ساحقة بالمغول وحلفائهم من السلاجقة، وقد فر زعيم السلاجقة بعد أن قُتِل عدد كبير من رجالة ورجال المغول، ثم دخل بيبرس عاصمتهم قيسارية، ودعي له على منابرها وقدم له أمراء السلاجقة فروض الولاء والطاعة.
ولما سمع أبغا ملك المغول بما فعله بيبرس برجاله في موقعة ابلستين أسرع إلى هناك بعد رحيل الجيش المصري، وجد الآلاف من جثث القتلى المغول، اشتد غضبه، مما جعله يأمر بقتل ما يزيد على مائتي ألف من حلفائه المسلمين السلاجقة، وهكذا دفع السلاجقة غاليا ثمن خيانتهم لدينهم.
وبذلك حقق بيبرس ما كان يبتغيه من تأمين لجبهته الخارجية وحدود دولته.
وكان للأرمن مملكة في آسيا الصغرى شمال الشام، وكانوا حلفاء دائمين للصليبيين، اتبع هيثوم ملك أرمينيا سياسة عدائية غير مبررة ضد مصر، وعمل على فرض حصار اقتصادي عليها، وذلك بمنع تصدير الأخشاب والحديد من آسيا الصغرى إليها، وكان هدفه من وراء ذلك تقويض مشروع بيبرس لبناء أسطول بحري قوي، يبدو أنه أساء تقدير قوة خصمه وعزيمته.
قرر بيرس حسم أمر هذه المملكة العدوانية، عندما أحس هيثوم بإصرار بيبرس على الحرب غادر مسرعًا إلى الأناضول حيث كان المغول، ليستعين بهم في دفع جيش المماليك عن مملكته، لكن أمراء المغول امتنعوا عن المساعدة بحجة أنهم لم يتلقوا أمرًا من ملكهم أباقا أو أبغا بذلك، فاضطر إلى الذهاب إلى تبريز سنة664 هـ / 1266 م طالبا العون من أبغا ملك إلخانات المغول.
اتخذ الجيش الأرمني بقيادة كل من ليو وثوروس ابني هيثوم مواقعه عند دروب جبال طوروس، وكان يحمي جناحيه فرسان الداوية (المعبد) بقلعة بجراس.
أرسل إليهم بيبرس جيشًا بقيادة المنصور قلاوون الألفي بادر الأرمن إلى اعتراض طريق الجيش المصري أثناء هبوطهم إلى سهل قليقية فدارت معركة رهيبة عند حصن دربساك في 21 ذو القعدة 664 هـ، 24 أغسطس آب 1266 م، هُزِم الأرمن هزيمة منكرة، قُتِل في المعركة ثوروس، وأُسر ليو.
واصل الجيش هجومه على المدن الرئيسية في قيليقية، واستولى على كل ما كان بها، استولى على قلعة للداوية، فأحرقها بما فيها من الحواصل، ثم دخل سيس عاصمة المملكة فخرَّبها، أقام الجيش في البلاد عشرين يوما ليقضي على كل مقاومة للأرمن وليدمر كل مواردهم وأسباب قوتهم.
توجه الأمير قلاوون بالجيش إلى المصيصة وأضنة وأياس وطرسوس، فقتلوا وأسروا وهدموا عدة قلاع، وفي نهاية سبتمبر عاد الجيش المنتصر إلى حلب ومعه حوالي أربعين ألف أسير ومن الغنائم مالا يحصى.
لم يستطع الملك هيثوم تخليص ابنه إلا بعد أن تنازل للسلطان بيبرس عن العديد من الحصون المهمة، التي تتحكم بطرق المواصلات بين قليقية وفارس وغيرهما، قد أدى انتزاع تلك المناطق إلى تجريد مملكة أرمينيا من أسباب دفاعها، وعزلها عن حلفائها الفرنج والمغول، فتم الاتفاق على كل شروط بيبرس، وتوقيع معاهدة صلح في رمضان 666 هـ، مايو 1268 م.
وقد خسرت مملكة أرمينيا الصغرى بذلك دورها في الشرق الأوسط، ولم تقم لها قائمة بعد ذلك.
والطريف أنه عندما بدأ العثمانيون حملات الإبادة ضد أرمن هضبة الأناضول لجأ الكثيرون منهم إلى مصر، وأقاموا في حي الضاهر، الذي يحيط بمسجد الظاهر بيبرس!
*****
رسالة قديمة
قد كان من العار أن تحتفل كازاكستان ببطلنا الظاهر بيبرس، بينما لم يتذكره أحد في مصر، وهو أفضل من كل الخلفاء الأمويين والعباسيين والعثمانيين في كل شيء، بيبرس حقق لمصر سلسلة من أعظم انتصاراتها، وكتب لها صفحة مجيدة في كتاب تاريخها العريق.
ومن الغريب أن يمجد المصريون العميل العثمانلي مصطفى كامل أو المجرم السفاح سليم العثمانلي أو الخليفة المأفون الذي باع أجدادهم بيع الرقيق، وألا يعلموا شيئا عن بيبرس الذي كان المصريون ينشدون سيرته البطولية في المعارك لتحميس الجنود.
*******
الحكم على رجال التاريخ الكبار ليس بالأمر السهل، وقلما يستطيع إنسان أن يصدر أحكامًا نزيهة على واحدٍ منهم، خاصة وأن المعلومات الدقيقة والشاملة ليست متوفرة للجميع، وأقصى ما يمكن عمله تقييم أعماله من حيثية معينة.
ومن البديهي أنه لا علاقة بين القدرة على استعمال لوحة المفاتيح وبين تكوين رأي دقيق ونزيه بخصوص شخصية تاريخية، وتلك هي تراجيديا العصر الحديث! وقلما يعترف الإنسان بحقيقته إذا ما تكشفت له وللناس، ولكن من لا يقبل أن يتعلم بالحسنى فسيعلمه الدهر الذي لا يرحم
*******
1