مصادر ومراجع الدين
الإجماع
لقد قالوا بحجية الإجماع، واعتبروه مصدرًا رئيسا من مصادر التشريع من قبل أن يعرفوه أصلا تعريفا دقيقا، كانوا في عجلة من أمرهم، أو نقلوا الأصل عن اليهود –كما هو الحال فيما يسمونه بالأصول- ثم حاولوا أن يوجدوا له نظيرا عندهم، ولذلك اختلفوا فيه، فمن قائل بأنه هو إجماع الأمة أو إجماع العلماء، إلى قائل هو إجماع المجتهدين في عصر من العصور، إلى قائل هو إجماع أهل المدينة، وهناك من قال: هو إجماع (الصحابة).
ثم نسبوا إلى أحمد بن حنبل القول: "من قال بالإجماع فهو كاذب"، هذا رغم أن الإجماع من أصول (الفقه) المتفق عليها!! ورغم أن المذاهب الأربعة بما فيها أتباع المذهب الحنبلي متفقة عليه!
إنه لا يمكن حدوث إجماع حقيقي على رأي اجتهاديٍ ما، وبافتراض أن الإجماع قد حدث في زمنٍ ما؛ وهذا هو المستحيل، فإن ذلك كان بالضرورة لبعض الأسباب، وربما يتقوض هذا الإجماع في زمن تالٍ لما لا حصر له من الأسباب.
أما إذا كان المراد بالإجماع الأخذ برأي العدد الأكبر فإن هذا يعني بطلانه، ذلك لأن الاستناد إلى سلطة العدد كان دائمًا عقبة في طريق التقدم، وقلما كان يأتي بخير، ولقد ثبت هذا على مدى التاريخ بما لا يدع مجالا للشك، ويكفي لإثبات ذلك سير الأنبياء أنفسهم إذ لم يؤمن بهم دائما إلا قلة، ولم يثبت معهم إلا قلة من قلة، ولقد نص الكتاب صراحة على أن أكثر الناس لا يستخدمون ملكاتهم الذهنية وأنهم لا يتبعون إلا ظنونهم ولا يعبدون إلا أهواءهم وما ألفوا عليه آباءهم، كذلك نص على أن اتباع أكثرهم يضل المرء عن سبيل ربه، لذلك فإن ذيوع وانتشار رأيٍ ما ليس بدليل على صحته، بل ربما كان دليلا قويًّا على بطلانه، وليس ثمة ارتباط ضروري بين انتشار قولٍ ما وبين صدقه، ولم يذكر القرءان الأكثرية إلا في موضع الذم بينما نصَّ على أن السابقين المقربين هم ثُلَّةٌ مِّنَ الْأَوَّلِينَ وَقَلِيلٌ مِّنَ الْآخِرِينَ.
وليس ثمة نص قطعي الدلالة يعطي للإجماع المزعوم مصداقيته، وإنما أمر الله تعالى في الكتاب العزيز بالشورى في الأمر وترك وسائل وآليات إعمالها للناس.
أما من الناحية العقلية فإن إجماع آلاف العميان على مشاهدة شيءٍ ما لا قيمة له ولِمبصرٍ واحد الحجةُ البالغة عليهم جميعا، وإنما تكون نجاتهم في اتباعه، وللطبيب البارع الحجة البالغة على الملايين من غير المتخصصين عندما يراد علاج مريضٍ ما.
*****
إن القول بحجية الإجماع هو من قبيل افتعال قضايا كلامية لا طائل من ورائها ولا حجة لها، وليس لها دعوة في الدنيا ولا في الآخرة، فهي تثير من الإشكالات أكثر مما تقدم من حلول، ومن العجب أنهم جعلوا الإجماع أصلا دينيا ثالثا يقارن بالكتاب والسنة ويليهما من قبل أن يعرفوه تعريفا دقيقا ودون الاستناد إلى نص قطعي الدلالة بخصوصه مع عجزهم التام عن أن يقدموا أمرا اكتسب شرعيته من هذا الإجماع المزعوم وحده.
إنهم سودوا الصفحات كلاما عن الإجماع وصدعوا رؤوس الأمة به وحرفوا الكلم عن مواضعه وصرفوا الآيات عن معانيها، واستخدموا آيات نزلت في الكفار والمرتدين وأعداء النبي صلى الله عليه وآله وسلم لتكفير المؤمنين، وكل ذلك لإثبات حجية ما أسموْه بالإجماع من قبل أن يعرفوا له معنى أو دلالة، هذا مع أن نصوص الكتاب تؤكد بما لا يدع مجالا للشك أن المؤمنين والعلماء الحقيقيين هم دائماً الأقل عددا وأن السابقين الأولين هم ثلة من الأولين وقليل من الآخرين، ولقد نص الكتاب على اعتماد الشورى في الأمر بين أولي الأمر وليس الإجماع على أمر، ولكم أجمعت الأمم كثيرا على باطل لا ريب فيه ولكم ناصر المرسلين القلةُ المستضعفون، إن البشرية كلها مدينة لثلة قليلة من صفوة أبنائها البررة المصلحين، إن الكتاب العزيز قد أمر الناس بطاعة أولي الأمر الحقيقيين منهم، وأولو الأمر هم المؤهلون له المتمرسون به.
ويجب العلم بأن إجماع أهل القرن الأول على أمر عملي تنفيذي بعد إعمال الشورى إن كان قد حدث فليس بحجة لجعل الإجماع أصلا لإنشاء أحكام دينية شرعية، ومثل هذا الإجماع لم يحدث أبداً، وإنما كان أحدهم أو بعضهم يرى رأياً ثم يتمكن من إقناع القائمين على الأمر به فينفذونه.
إن إجماع قرنٍ ما على أمرٍ ما قد يتم تقويضه في القرن التالي بتقدم المعارف أو تحسن الظروف، فمن ادعى الإجماع هو لا محالة كاذب، ولم يحدث أبدا أن اجتمعت الأمة لتقرر أمرا ما.
إن إجماع كل الناس على أمرٍ ما لن يجعله قانونًا طبيعيا ولا سنة دينية ولا حكمًا شرعيًّا.
إن الله تعالى عندما يسنّ للناس سنة دينية أو يقدِّر حكمًا شرعيًّا فإنه يترتب على ذلك آثار كونية حقيقية، وذلك بمعنى أنه ستتعين سنة كونية ترتب على نوعية ومدى استجابة الإنسان للأمر الإلهي الآثار المناسبة، ويقوم بتحقيق ذلك نسق من الملائكة، وذلك لا يمكن بالطبع أن يتحقق لأي تشريع بشري.
وما يعقده المجمعون في الأرض كحكم ديني لن ينعقد في السماء، وما يحلونه في الأرض لن يحل في السماء، ولقد زعم أهل الكتاب ذلك من قبل، ولقد تسرَّب هذا الاعتقاد الباطل فيما تسرَّب إلى التراث الديني المحسوب على الإسلام، بل إن كل أمة ككيان كلي واحد محاسبة على أعمالها وعلى ما تجمع عليه.
أما ما وصل إلى الناس من آثار أهل القرن الأول فإنها مروياتٌ ظنية تلي المرويات المنسوبة إلى النبي في الأهمية ويلزم فحصها على ضوء الضوابط الصارمة المعلومة، ولا يمكن بإعمال الإجماع حتى لو أمكن حدوثه استحداثُ حكم دينيٍ شرعي كما لا يمكن به استحداث أو اكتشاف قانون كوني أو علاج طبي، ولا قيمة لعمل من حاول استفتاء الناس فيما يجهلون وبالأحرى لا قيمة لإجماعهم على أمر فيما يجهلون.
ومن العجيب أن الذي قرر أن الإجماع أصلٌ من أصول الدين يُقرن في نظم واحد مع القرءان الكريم عندما سُئل سؤالا مشددا عن دليله من القرءان استغرق وقتا طويلا في البحث!!! ثم قال إن دليلَه هو الآية القائلة:
{وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيرا} النساء115،
مع أن هذه الآية تتوعد عتاة المرتدين الكافرين الذين يشاقون الله ورسوله مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى ولا تتحدث عن مؤمنين مجتهدين، وبالتالي فلقد أخطأ هذا القائل بالإجماع في استدلاله خطأً فادحا.
وما حدث يبين أنه اعتمد ما يسمى بالإجماع أصلا من أصول الدين دون الرجوع إلى القرءان الكريم ثم حاول ليّ عنق الآية لتقول بقوله، وذلك بدوره يشكل خطيئة أكبر، إن تصرف من فعل هذا يدينه بشدة ويقوض موضوع الإجماع ويجتثه من جذوره.
كذلك من الظلم الفادح والإثم المبين أن يُكفَّـر من أتي بقول يخالف إجماعا مزعوما لم يحدث أبدا، ولكنه الشيطان الذي يزين للناس مساوئ أعمالهم ويصدهم عن سبيل الحق، إن التاريخ يثبت أن الأمم التي تقدمت هي التي تعلمت الإصغاء إلى آراء واجتهادات الصفوة وهم قلة من أبنائها، أما الأمم التي انقرضت وبادت أو دمرت أو تخلفت عن الركب فهي التي تمسكت –بدون برهان مبين- بما ألفت عليه أسلافها ولم تبغ عنه حولا.
أما إذا كانوا يقولون إن الإجماع إنما هو إجماع على نص فإن الأصل هنا إنما يكون هو النص، والبرهان والدليل هو النص، وليس الإجماع.
إنه على من يظن أن الحق يجب أن يكون مع الأكثرية أن يقرأ ويتدبر الآيات الآتية:
{ ....إِنَّ اللّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ}البقرة243، {وَقَالُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ قُلْ إِنَّ اللّهَ قَادِرٌ عَلَى أَن يُنَزِّلٍ آيَةً وَلَـكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ }الأنعام37، {وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلآئِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً مَّا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ إِلاَّ أَن يَشَاءَ اللّهُ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ }الأنعام111، {وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللّهِ إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ }الأنعام116، {وَمَا وَجَدْنَا لأَكْثَرِهِم مِّنْ عَهْدٍ وَإِن وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ} الأعراف102، {وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلاَّ ظَنّاً إَنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً إِنَّ اللّهَ عَلَيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ} يونس36، {أَلا إِنَّ لِلّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَلاَ إِنَّ وَعْدَ اللّهِ حَقٌّ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ } يونس55، {وَمَا ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَشْكُرُونَ }يونس60، {....فَلاَ تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِّنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يُؤْمِنُونَ }هود17، {وَاللّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ }يوسف21، {إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ }يوسف40، {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ }يوسف103، {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللّهِ إِلاَّ وَهُم مُّشْرِكُونَ }يوسف106، {المر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَالَّذِيَ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ الْحَقُّ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يُؤْمِنُونَ}الرعد1، {وَأَقْسَمُواْ بِاللّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لاَ يَبْعَثُ اللّهُ مَن يَمُوتُ بَلَى وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً وَلـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ } النحل38، {يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللّهِ ثُمَّ يُنكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ }النحل83، {وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَـذَا الْقرءان مِن كُلِّ مَثَلٍ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُوراً }الإسراء89، {أَمِ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ هَذَا ذِكْرُ مَن مَّعِيَ وَذِكْرُ مَن قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُم مُّعْرِضُونَ }الأنبياء24، {.... بَلْ جَاءهُم بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ }المؤمنون70، {أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً }الفرقان44، {وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُوراً }الفرقان50، {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ }الشعراء8، {أَمَّن جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَاراً وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَاراً وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزاً أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ }النمل61، {وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَشْكُرُونَ }النمل73، {وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّن نَّزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِن بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ }العنكبوت63، {وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ }الروم6، {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ }الروم30، {قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلُ كَانَ أَكْثَرُهُم مُّشْرِكِينَ }الروم42، {وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ }لقمان25، {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ }سبأ28، {قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ }سبأ36، {لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ }يس7، {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَّجُلاً فِيهِ شُرَكَاء مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَماً لِّرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ }الزمر29، {فَإِذَا مَسَّ الْإِنسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِّنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ }الزمر49، {لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ }غافر57، {إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ لَّا رَيْبَ فِيهَا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ }غافر59، {اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِراً إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ }غافر61، {بَشِيراً وَنَذِيراً فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ }فصلت4، {لَقَدْ جِئْنَاكُم بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ }الزخرف78، {مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ }الدخان39، {قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيبَ فِيهِ وَلَكِنَّ أَكَثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ }الجاثية26، {وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذَاباً دُونَ ذَلِكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ}الطور47.
ولا يجوز لمجموعة من الناس أن يسنوا قانونا ثم يزعموا أن قانونهم هو تشريع ديني، فهم بذلك يدعون لأنفسهم سمة إلهية، ومن قبل ذلك منهم فهو مشرك، قال تعالى:
{أَمْ لَهُمْ شُرَكَاء شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللَّهُ وَلَوْلَا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} الشورى21،
إنه كما لا يمكن للإجماع أن يحدث قانونا طبيعيا لا يمكن أن ينتج حكما دينيا.
إنه لا شرعية للإجماع أصلا في الإسلام، بل لا شرعيةَ للأغلبية أو الأكثرية؛ وهي مذمومة أينما ذُكرت في القرءان، ولا يمكن لإجماع أي عدد من الناس أن يُحدث حكما دينيا بمثل ما أنه لا يمكن لهم أن يحدثوا قانونا طبيعيا، والقول بالإجماع منقول عن أهل الكتاب!
ولقد جعلوا الإجماع أصلا، ثم اختلفوا في كل ما يتعلق به، ولم يجدوا عليه أي دليل، فقاموا بليّ عنق آية قرءانية ليثبتوا شرعيته، وظل المغفلون يرددون كلامهم لمئات السنين دون أن يتدبروه التدبر اللازم.
*****
إن دين الحق يقول بولاية أولي الأمر الحقيقيين ووجوب طاعتهم، وأولو أي أمر هم أعلى الناس تأهيلا فيه بحيث يكون لهم حق البتّ في كل ما يتعلق به، أو هم من لهم ولاية بحكم علاقة أسرية.
فالنوع الأول هم المتخصصون في أي مجال من المجالات اللازمة للناس، وهي عديدة وتتسع باطراد التقدم، ومنها مثلا: الطب بكافة فروعه، الهندسة بكافة فروعها، العلوم الطبيعية بكافة فروعها، التعليم بكافة مراحله، وسائل الإنتاج بكافة أنواعها، إدارة المؤسسات، إدارة الكيانات الإنسانية بكافة أحجامها، الأمور المالية والاقتصادية بكافة فروعها، الأمور العسكرية، الأمور القانونية والتشريعية، القضاء، العلاقات الخارجية، ........... الخ.
ففي كل مجال من هذه المجالات لابد من وجود أعداد كافية من المؤهلين والعاملين ومؤسسات للتأهيل، ولابد من وجود من هم الحاصلون على أعلى مراتب التأهيل بحكم ما تلقوه من تعليم وما اكتسبوه من خبرات وما حققوه من إنجازات، فهؤلاء هم أولو الأمر على مستوى الكيان الأكبر.
ودين الحق يلزم الناس بطاعة أولي كل أمر في مجال تخصصهم وعملهم، هؤلاء هم المنوط بهم البتّ في كل ما هو داخل في نطلق عملهم، وهم فيما بينهم ملزمون بإعمال الشورى.
وكون أولي الأمر يجب أن يكونوا جماعة يعني أنه لا يمكن البت السليم في أمرٍ لشخص بمفرده، مثلا:
التربية الأمثل للأطفال هو عمل جماعي بكل ما يعنيه ذلك.
إعداد الناس وتأهيلهم للعمل في أي مجال هو عمل جماعي بكل ما يعنيه ذلك.
تصميم وتنفيذ أي جهاز الآن مهما كان بسيطا هو عمل جماعي.
العلاج الأمثل لمرضٍ ما لابد أن تشترك فيه جماعة، وهذا ما يلتزم به الناس في كل مجتمعٍ متقدم الآن.
إدارة شؤون أي كيان هو عمل جماعي بكل ما يعنيه ذلك.
ولا دخل للإجماع المزعوم في شيءٍ من ذلك، فالأمر يقوم به أولو الأمر، والآلية هي الشورى بينهم، فإن قيل إن الأحكام الشرعية العملية هي أمر من الأمور لابد أن يكون لها ولاة أمر مثل أي أمر، فالجواب هو أن أشكال الأحكام العملية التي ألفوا فيها المجلدات الضخمة على مدى أكثر من 12 قرنا هي من السهولة واليسر بحيث يمكن للطفل الصغير أن يستوعبها، ومع ذلك فكل ما يتعلق بالأمور الأصعب مثل المواريث والأحكام الشخصية والأسرية والعقوبات هو عمل أكاديمي صرف، ولا يجوز لجدل أكاديمي أن يتمخض عن حكم ديني يضاف إلى مادة الدين بمثل ما أن جدل الفيزيائيين لن يؤدي إلى إحداث قانون كوني، والتخصص في هذه الأمور في مقدور كل إنسان حتى وإن كان غير مسلم، بل يمكن برمجتها على أجهزة الحاسب، فلا يجوز إسباغ أية قداسة على المتخصص في أمورٍ كهذه.
ومن السهل على الإنسان أن يكتشف ما يلزمه لتدبير أمور دنياه ولإحقاق الحق والقيام بالقسط والحكم بالعدل بين الناس، والانتفاع بالتجارب البشرية في مثل هذه الأمور أفضل بكثير من العكوف على تراث السلف الذين كانوا يتعبدون بالبغي على بعضهم البعض وسفك دماء بعضهم البعض، ولقد توصل الناس في العالم الغربي إلى السبل الفعالة الناجحة لتحقيق العدل والقيام بالقسط ولمنع الظلم والطغيان فيما بينهم بعد أن عانوا كثيرا من ويلات رجال الدين وإجرامهم وجهلهم وتخلفهم، ولقد قطعت الحضارة الإنسانية أشواطا هائلة من التقدم والرقي، وما زال الأوباش والحثالة والغوغاء في بلاد همجستان، وهم الأكثرية الساحقة، يفضلون الخضوع لما تخلصت منه الشعوب في الغرب منذ أمدٍ بعيد، وما زلت تجد في هذه الشعوب الهمجية العصية على الإصلاح من يريد أن يعتدي على كافة حقوقك لمجرد أنك لا تقدس مثله بعض أكابر المجرمين وسفاكي الدماء والمفسدين في الأرض الذين قضوا منذ زمن بعيد!
*******
لا يوجد في القرءان ما يسوغ الاعتداد بما يُسمَّى بالإجماع كأصل شرعي يُذكر مع القرءان، بل إن من الأمور القرءانية الراسخة أن الأكثرية مذمومة، وأن السابقين وأصحاب اليمين قلة.
هذا مع كون الإجماع مستحيلا بحكم معناه! وهو يتضمن في بنيته المتهافتة إقصاءً للآخرين!
*******
الشافعي للأسف الشديد لم يستخلص القول بالإجماع من القرءان الكريم! وهذه الكلمة لم ترد أصلًا في القرءان، ولم ترد مشتقاتها أبدا بالمعنى الذي أحدثوه، ولما سأله السائل وأمهله ثلاثة أيام ليأتي ببرهانه من القرءان حاول بعد جهد جهيد حمل القرءان على القول به، وهو لم يجد إلا آية لا علاقة لها بموضوعه وحاول ليّ عنقها لتقول بما قال به مسبقا، فبئس ما فعل! والآية هي:
{وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيرا} النساء115
فالآية تتوعد كافرا غليظا وتهدده، ولا علاقة لها ببحث أي أمر شرعي، وهذا الأمر أوضح من الشمس في رابعة النهار، ولكنه منذ أن أحدث هذا القول إلا وعبيد السلف يتمسكون به ويعضون عليه بالنواجذ.
ولقد انتقدنا هذه القصة منذ زمن بعيد وتعجبنا من كونها انطلت على الأمة منذ سنة 200 هـ إلى الآن، والآية تتحدث عمَّن تبين لهم الهدى ثم قرروا اتباع غير سبيل المؤمنين (أي اتبعوا سبيل الكافرين) عمدا ولم يكتفوا بذلك بل شاقوا الله ورسوله، فهي تتحدث عن جاحد متمرد وليس عن مؤمن حريص على طلب الهدى وليس عن مؤمنين يطلبون حكمًا شرعيًّا في مسألة كلية أو جزئية.
*******
وقد احتجوا لإثبات حجية الإجماع بقوله تعالى:
{وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيرًا} [النساء:115]
والحق هو أن "سبيل المؤمنين" هو الإيمان بأركانه المعلومة وصراطه المستقيم، وكل ذلك مذكور في كتاب الله، و"متَّبع غير سبيل المؤمنين" هو متبع سبيل الكافرين، فهو ليس بمؤمن أصلا، وهو لم يكتف بذلك وإنما اتخذ موقفا عدائيا من الرسول مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى، أي شاقّ الرسول عامدًا متعمدًا رغم وضوح الحقّ، ورغم البلاغ المبين، ولا علاقة لذلك أبدًا بإجماع بعض المجتهدين على أمر أو حكم ليجعلوه بذلك جزءا من الدين أو نصا دينيا، والذي سبق بذلك كان أهل الكتاب الذين يقولون بأن ما يجمع عليه أحبارهم في الأرض ينعقد في السماء، فالاحتجاج بهذه الآية لإثبات حجية الإجماع هو خطأ محض وضلال مبين.
إن الله سبحانه كما أمر المؤمنين بطاعته وطاعة رسوله فقد أمرهم بطاعة أولى الأمر منهم، قال تعالى:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلا}[النساء:59]، { وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ } [النساء: 83]،
ولفظ الأمر معناه الشأن وهو عام يشمل الأمر الديني، والأمر الدنيوي، فإذا اتفق أولو الأمر الحقيقيون على أمرٍ ما أو قولٍ ما بخصوص أمرٍ مستجد فقد وجب طاعتهم.
وهم إما أن يثبتوا أن الأمر المستجد هو من تفاصيل مصطلح شرعي أو من لوازم وتفاصيل أمرٍ ديني، وإما أن يتوصلوا إلى قولٍ جديد أو حكم في مسألة فيظل قولهم حكما أو أمرا وضعيا لا يزداد به الدين، ويظل عرضة للتحسين أو للتغيير إذا ما توفرت معطيات أفضل أو تقدم العصر والمصر، ولكن هذا الإجماع لا يصنع عنصرا دينيا جديدا.
والفرق هائل بين الأمر بطاعة أولي الأمر وبين جعل الإجماع أصلا ديني مكافئا لكتاب الله، والتراثيون بقولهم إن طاعة أولي الأمر مساوية للأخذ بما يسمونه بالإجماع يجعلون الردّ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ غير مطلوب إلا في حالة عدم تحققه!! هذا مع أن الإجماع لا يجوز أن يحدث أصلا إلا بعد النظر والاجتهاد في الكتاب و(السنة)!! وقولهم هذا يفتح إمكانية جعل الإجماع مصدرا لأمور مخالفة للكتاب و(السنة).
وفي كل الأحوال فالأمر بطاعة أولي الأمر لا يختص بالمسائل الدينية المحض، بل هو متعلق بتحقيق الانضباط في الأمة المؤمنة، ولا يجوز لأحد الزعم بأن الأمر بطاعة أولي الأمر مساوٍ لجعل إجماع بعض المجتهدين مصدرا للأحكام الدينية مثله مثل كتاب الله تعالى.
وفي كل أمر يجب على الناس طاعة أولي هذا الأمر والالتزام بما يقررونه، علما بأن هذا الأمر قد يكون فرعا من فروع الطب أو الهندسة أو العلم أو العسكرية أو القضاء .... الخ.
ولا علاقة لذلك بما يسمونه بالإجماع، وعلى أولي الأمر أن يلتزموا بالشورى فيما بينهم، أما آلية اختيار الرأي الأمثل عند الاختلاف فهي مفوضة لظروف العصر والمصر، ولا يلزم أن يجمعوا جميعا على قول واحد.
ومن البديهي أنه لا يمكن أن تجمع الأمة على ضلالة أو على خطأ، فلابد أن فيها الصفوة الأخيار، ولكن هؤلاء قد يُحال بينهم وبين الظهور للحالة المتردية والمتدهورة للأكثرية، فلا علاقة لذلك بحجية الإجماع أصلا.
إنه لا يمكن أن تجمع كل الأمة على خطأ أو ضلالة، فلابد من وجود ورثة للكتاب سابقين بالخيرات وقد رووا أن الرسول قال: "لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي ظَاهِرِينَ عَلَى الْحَقِّ لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَذَلِكَ"، ولكن من بعد أن تمزقت الأمة وتفرق الدين إلى مذاهب شركية متناحرة تكاد تكون أديانا مستقلة فلم يعد من الممكن أن تكون هذه الطائفة هي رجال دين أي مذهب من المذاهب، فإجماع هؤلاء على أمرٍ ما كعدمه، فمن لوازم السابقين ألا يكونوا من أتباع المذاهب، وبالأحرى ألا يكونوا من سدنة وكهنة أي مذهب من المذاهب.
ولكن الشيء المطلوب للأمة هو وجود هيئات من أولي الأمر المتخصصين في كل أمرٍ من أمور النشاط الإنساني المعلوم والمستجد، هؤلاء وحدهم لهم حق البتّ فيما يدخل في نطاق تخصصهم، فلو كان هذا الأمر هو الطبّ مثلا فلا يُستفتى فيه إلا من اكتسب أعلى تأهيل لازمٍ فيه.
سيقولون: وما بال الدين؟ لماذا لا تتركون أمره للمتخصصين فيه؟!
الجواب: هؤلاء الذين يُقال إنهم متخصصون في الدين هم سدنة وأتباع المذاهب التي فرقوا إليها الدين من بعد أن تمزقت الأمة، وعادوا كفارا يضرب بعضهم رقاب بعض، رغم التحذير النبوي الشديد الوارد في خطبة حجة الوداع "لَا تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفَّارًا يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ"، وقد أصبح كل مذهب بمثابة دين مستقل له أربابه وكتبه المقدسة وأسسه، وقبل كل ذلك لديه تصوره الخاص عن ربّ العالمين، والذي لا يتسق مع حديث الله تعالى عن نفسه في كتابه الحقيقي.
والمذهب السائد والغالب، أي المذهب الأعرابي الأموي العباسي، هو المذهب الذي صيغ وفق أهواء المتغلبين المتسلطين ليعطيهم الشرعية وليمنع أي تمرد ضدهم وليضمن لهم استمرار السلطة في ذرياتهم إلى يوم الدين.
فهذا المذهب أو بالأحرى الدين نشأ لأسباب سياسية، وليس دينية، وهو غير ملزم لأحد، والتمسك به لم يجلب إلا الكوارث على من تمسك به وعلى البشرية جمعاء.
سيقولون: "وأين الدين إذًا؟"، الجواب هو أن الدين ماثل في القرءان الكريم؛ فهو المصدر الأوحد للأمور الدينية الكبرى، والمصدر الأعلى للأمور الثانوية، وكل سدنة المذاهب التي حلَّت محل الإسلام يقرون ويعترفون بأن القرءان هو المصدر الأول للدين، لذلك فهم ملزمون بالعمل بمقتضى ذلك، وإلا فيجب الإعلان على رؤوس الأشهاد بأنهم ضالون منافقون كذابون.
وفي كل الأحوال لا يجوز القول بوجود أصلٍ من الأصول في الدين لم يرد بشأنه نصّ قطعي الدلالة في كتاب الله تعالى، بل إن فتح الباب للناس للتشريع في الدين هو فتح باب خطير للشرك، قال تعالى:
{أَمْ لَهُمْ شُرَكَاء شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللَّهُ وَلَوْلاَ كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيم} [الشورى:21]
فطاعة أولي الأمر لا تعني إعطاءهم حق استحداث عنصر ديني، وإنما حق البت في مسألة استجدت ويراد استنباط حكمٍ لها متفق مع قيم ومبادئ ومثل دين الحق.
فلا يجوز لبشر أن يستحدث أمرًا دينيا بدون إذنٍ صريح من ربه يأتي عليه ببرهان مبين، والأمر الذي تم التوصل إليه باستعمال آلية اجتهاد بشرية لا يجوز فرضه على الناس كأمرٍ ديني.
ولقد ألزم القرءان الناس وخاصة أولي الأمر بأن يكون هذا الأمر شورى بينهم، وهذه حجة على من جعل الإجماع أصلا دينيا، فالأمر أو العنصر الديني لا يتم صناعته بتداول الرأي بين الناس؛ أي لا يجوز أن يكون في أمورٍ (عناصر) دينية محض، تداول الرأي يكون في أمرٍ دنيوي أو في استخلاص أمرٍ ديني من مصادره الحقيقية أو في كيفية تطبيق نصوص دينية على واقعة أو في النظر في إمكانية اندراج أمر مستجد تحت مصطلح شرعي أو في كيفية تطبيق القانون في منازعات بين أفراد .... الخ.
وهذا يعني أنه كما لا يجوز للإجماع أن يجعل صلاة الظهر مثلا ثلاث ركعات لا يجوز له أن يشرع أي شيء آخر في الدين.
وكل ما يحتجون به من آيات أو مرويات لفرض آليات الاجتهاد كأصول دينية لم تُذكر في معرض الكلام على أصول الأحكام، ولم يرد شيء قريب من ذلك إلا المروية المنسوبة إلى معاذ والتي قالوا بضعفها لانقطاعها! وهي:
عن الحارث بن عمرو ابن أخي المغيرة بن شعبة عن أناس من أهل حمص من أصحاب معاذ بن جبل: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أراد أن يبعث معاذا إلى اليمن قال: كيف تقضي إذا عرض لك قضاء؟ قال: أقضي بكتاب الله، قال فإن لم تجد في كتاب الله؟ قال فبسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال فإن لم تجد في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا في كتاب الله؟ قال أجتهد رأيي ولا آلو؟ فضرب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم صدره وقال: الحمد لله الذي وفّق رسول رسول الله لما يُرضي رسول الله.
فلا ذكر فيها لأية آلية من آلياتهم، هذا رغم أن المروية تتحدث عن القضاء بين الناس، وليس عن إحداث عناصر دينية جديدة! فلو كان وراء ذلك شيء آخر لذكره له الرسول، والسكوت في معرض البيان بيان.
وقد حاول بعض المولعين بالقياس القول بأنه عندما يضطر إلى الاجتهاد سيستعمل بالضرورة القياس!!! وليس بمثل هذا الزعم تُفرض أصول دينية تُذكر في نظم واحد مع كتاب الله تعالى.
*******
إن صاحب كفرية القول بأن الإجماع أصل من أصول الدين، قالها كما هو معلوم، بدون الرجوع إلى القرءان الكريم، فلما طولب بالدليل من القرءان جاء بآية تتحدث عن الكافرين واتخذها كحجة ضد المؤمنين.
إن كفرية جعل ما يسمونه بالإجماع أصلا من أصول الدين يُقرن مع القرءان الكريم كانت من أكبر المهازل التي ضربت الإسلام، ومكنت لما حلَّ محله من الأديان، إنها تعني ببساطة أن للبشر حق التشريع في الدين، وأن الدين مازال يُصنع إلى الآن، وأنه يوجد أرباب آخرون مشرعون من دون ربّ العالمين.
{أَمْ لَهُمْ شُرَكَاء شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللَّهُ وَلَوْلاَ كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيم} [الشورى:21]
إن من يؤمن بأن إجماع مجموعة من البشر يمكن أن يُحدث تشريعًا دينيا، هو أشد حماقة ممن يظن أن إجماع مجموعة من البشر يمكن أن يُحدث قانونًا طبيعيا كالقانون الذي يربط الكتلة بالطاقة مثلا!
كما أنه بالطبع من الذين كفروا بأن الحكم في أمور الدين لله وحده، وأن له وحده حق التشريع فيه:
{ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِّنَ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاء الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُون} [الجاثية:18]
*******
أصل القول بالإجماع في الدين الأعرابي الأموي
القول بالإجماع في الدين الأعرابي الأموي منقول عن أهل الكتاب، وهو في المسيحية ما يتم الاتفاق عليه في المجامع، فالمجامع هي المصدر الثالث من مصادر التَّقليد والتشريع المسيحي، ويُقصد بالمجامع اجتماع آباء الكنيسة لتقرير مسألة خاصَّة بالدِّيانة المسيحية، وقد تأخذ طابع محلي أو مسكوني، أمّا قوانين المجامع فهي عبارة عن حُلُول لبعض الإشكاليات الفقهية المسيحية التي تمّ مُناقشتها أيضاً في المجامع المسكونية.
وتتفق الكنائس المسيحية التقليدية على المجامع المسكونية السبعة؛ وهي مجامع عالمية التي اجتمع فيها آباء الكنيسة من كلّ البلاد،[112] وفي نهاية المجامع المسكونية، كان يتمّ وضع قوانين إيمان، وقوانين مجامع. قوانين الإيمان عبارة عن صياغة أدبية للعقائد المسيحية،
*******
1
عدد المنشورات : ٦٣١