نظرات في المذاهب
58
الكراهة
قالوا: ((الكراهة تَرد في النصوص وفي كلام أهل العلم ويُراد بها كراهة التحريم التي يأثم مَن فَعَل الفِعل الذي وُصِفَ بها، فترادف قولنا: حرام، وهذا كثير في إطلاق المتقدمين، وكثير وروده في النصوص، ومنه ما جاء في آية الإسراء:
{كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا} [الإسراء: 38]
بعد أن عَدَّد -جل وعلا- كثيرًا من المحرمات المقطوع بتحريمها، بل المجمع عليها، فالكراهة هنا يراد بها كراهة التحريم التي يأثم مَن فَعَل ما وُصِفَ بها.
والفقهاء اصطلحوا على الأحكام الخمسة التي هي: الوجوب، والاستحباب، والإباحة، والكراهة، والتحريم، فجعلوا الكراهة قسيمًا للتحريم وليست قسمًا منه، فيطلقونها على ما يُثاب تاركه امتثالًا ولا يعاقب فاعله، فليس فيها عقوبة، وإنما هي مجرد كراهة تنزيه، وعلى هذا استقر الاصطلاح.
وعلينا أن نفرِّق بين ورود اللفظ في كتب المتقدمين فيحتمل الكراهتين: التحريم والتنزيه، وهو في التحريم أكثر، وبين ما يرد في كتب المتأخرين عند استقرار الاصطلاح، فلا تكاد تجدها إلا بإزاء كراهة التنزيه.
وعلى كل حال المسألة اصطلاح ولا مُشاحَّة في الاصطلاح، كما أن الواجب في النصوص يطلق بإزاء ما يأثم تاركه، ويطلق أيضًا بإزاء الشيء المتأكِّد في حق الإنسان ولو لم يأثم تاركه)).
من الواضح إصرارهم على مخالفة الاصطلاح القرءاني والقضاء عليه بكلام مؤسسي مذاهبهم.
والحق أن الله تعالى وحده هو الذي يحدد ما هو مكروه، ومن شدة التعبير بالفعل "كره" فإن الاستعمال الأكثر في القرءان عند التعبير عن شأنٍ إلهي خاص بهذا الأمر هو بالفعل "لا يحب".
فالمكروه هو كل ما أعلن الله تعالى أنه لا يحبه، قال تعالى:
{وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِين} [البقرة:190]، {وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيِهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الفَسَاد} [البقرة:205]، {يَمْحَقُ اللّهُ الْرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيم} [البقرة:276]، {قُلْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَالرَّسُولَ فإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الْكَافِرِين}[آل عمران:32]، {وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِين} [آل عمران:57]، {وَاعْبُدُواْ اللّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالجَنبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالاً فَخُورًا} [النساء:36]، {وَلاَ تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنفُسَهُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا}[النساء:107]، {لاَّ يُحِبُّ اللّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوَءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلاَّ مَن ظُلِمَ وَكَانَ اللّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا}[النساء:148]، {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْ بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاء وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِّنْهُم مَّا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كُلَّمَا أَوْقَدُواْ نَارًا لِّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُفْسِدِين} [المائدة:64]، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُحَرِّمُواْ طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللّهُ لَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِين} [المائدة:87]، {وَهُوَ الَّذِي أَنشَأَ جَنَّاتٍ مَّعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ كُلُواْ مِن ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِين}[الأنعام:141]، {يَا بَنِي آدَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِين} [الأعراف:31]، {ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِين}[الأعراف:55]، {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فَانبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاء إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الخَائِنِين} [الأنفال:58]، {لاَ جَرَمَ أَنَّ اللّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِين} [النحل:23]، {إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُور} [الحج:38]، {إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِن قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لاَ تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْفَرِحِين} [القصص:76]، {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلاَ تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلاَ تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُفْسِدِين}[القصص:77]، {لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِن فَضْلِهِ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْكَافِرِين} [الروم:45]، {وَلاَ تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلاَ تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُور}[لقمان:18]، {وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِين}[الشورى:40]، {لِكَيْلاَ تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلاَ تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُور}[الحديد:23]
وكذلك المكروه يتضمن كل ما لعن الله فاعله أو المتصف به.
ومن كل هذا يتضح أن المكروه هو أكبر الآثام.
أما المكروه في اصطلاحهم الفقهي الحقيقي فهو "ما يُثاب تاركه امتثالًا ولا يعاقب فاعله، فليس فيها عقوبة، وإنما هي مجرد كراهة تنزيه"، وعلى هذا استقر اصطلاحهم، والكراهة هي: هي ردع الشارع للمكلّف عن الإتيان بالفعل مع ترخيصه الإتيان به.
والحق هو أن المنهي عند درجات، ووزن المنهي عنه يمكن استخلاصه من القرءان، وما يسمونه بالمكروه هو بالأحرى من اللمم.
ولا حاجة إلى تحليل تعريفاتهم غير المتسقة مع بعضها.
فعندهم أن تارك المكروه يُثاب ويُمدح امتثالا لنهي الله، وفاعله لا يستوجب الإثم!!
إنهم إذا كان المكروه منهيا عنه، فلماذا لا يُجازى من تعمد اقترافه؟! وإذا كان رخصة للإنسان لدفع مشقة أو حرج، فلماذا يعتبرونه مكروها؟!
1