الحقائق والشؤون الإلهية والمتشابهات
1مسألة العقل والنقل
العقل ليس كيانا مستقلا، ولا عضوا من أعضاء الجسم، بل هو ملكة من الملكات الذهنية للقلب الإنساني، وتطلق نفس الكلمة على الفعل الناتج مثلما يحدث عادة مع أسماء المعاني أو أسماء الأفعال (المصادر) في اللسان العربي، والفعل هو نشاط ذهني للقلب، وهو أيضًا محصلة كافة ضروب النشاط القلبي الذهني، فهو يعني استيعاب الأمر والإحاطة به من كافة جوانبه وإمكان صياغته والتعبير عنه بما هو مألوف للإنسان من مفاهيم وتصورات وإن لم تكن هذه المفاهيم والتصورات مفهومة في ذاتها تماما، وهذا يتضمن إمكانية تداول ما تمَّ عقله وبيانه وتفصيله للآخرين والبناء عليه.
والعقل هو مما يميز الإنسان عن سائر الحيوان.
ومشكلة المتكلمين في العقائد أنهم يتكلمون عن العقل وكأنه إله كامل الأوصاف معصومٌ بالطبع من الخطأ، يقول الفخر الرازي فخر المتكلمين الأشاعرة: "والقول بترجيح النقل على العقل محال، لأن العقل أصل النقل، فلو كذبنا العقل لكنا كذبنا أصل النقل، ومتى كذبنا أصل النقل فقد كذبنا النقل، .... الخ"
والمقصود بالنقل عندهم هو النصوص الدينية.
هذا الكلام الفخم للفخر هو للأسف مجردُ هُراء، ولو حاول كتابةَ المدلولات الحقيقية للألفاظ لتبيَّن أنه يتضمن كفرا، ولا يجوز وضع كيانات مختلفة في معادلة واحدة بمثل ما أنه لا يجوز إضافة وحدات الوزن إلى وحدات الطول أو إلى وحدات الزمن، هذا فضلاً عن أنهم لا يعرفون أصلاً معنى محددا لكلمة "العقل".
وعلى رأس ما يسمونه بالنقل "كتاب الله"، وما يسمونه بـ"العقل" ليس إلا ملكة من ملكات القلب الإنساني ونشاط من أنشطته، وهو يتفاوت من إنسان لآخر، بل إنه يتغير عند نفس الإنسان مع تقدم عمره، وقد يكون عند الكافر أقوى مما هو عند المؤمن.
وهذا القلب هو كيان إنساني نسبي محدود لا يحكم إلا وفق ما هو مبرمج عليه من برامج وما هو متوفر لديه من معلومات ومعطيات الحواس الطبيعية والصناعية، وهو قابل للهدى والضلال، ويتأثر بكائنات لا يكادُ الإنسان يعلم عنها شيئا، وهو معرض لنوع خاص من الأمراض التي تصيب الكيانات الإنسانية الجوهرية مثل النفاق والفسق والكفر، لذلك لا يمكن له أن يستقل بإدراك بعض الحقائق الغيبية العليا مهما كانت بساطتها ومهما كانت قوة ملكاته الذهنية!
ولو سمينا الأشياء بأسمائها الحقيقية بدلا من الأسماء المضللة الموهمة التي يستخدمونها عادة يتضح أن أقوالهم الشائعة هي محض كفر، فقولهم "العقل قبل النقل" لا يعني إلا أن الملكة الذهنية للإنسان مقدمة على كتاب الله، وقولهم العقلُ أصل النقل لا يعني إلا أن الملكة الذهنية للإنسان أصل لكتاب الله تعالى!!! والحق أنه لا يجوز وضع كيانات مختلفة في معادلة واحدة بمثل ما أنه لا يجوز إضافة وحدات الوزن إلى وحدات الطول أو إلى وحدات الزمن فضلًا عن المقارنة بينها.
وبذلك يتضح أيضا أنه لا مجال لمثل هذه الأقوال أصلا!
والإنسان بالطبع لن يفقه أو يعقل النصوص الدينية إلا باستعمال ملكات القلب الذهنية، ولكن لا يجوز الخلط في الأمور، فما يصل إليه الإنسان بإعمال ملكاته الذهنية إنما يعتمد على ما لديه من منطق ومسلمات وبيانات ومعلومات، والسؤال الصحيح هو:
هل ما يصل إليه الإنسان باستعمال ملكاته مع التجاهل المطلق للنصوص الدينية (القرءانية) فيما يتعلق بالحقائق الغيبية أكثر حقانية مما يصل إليه الإنسان مع أخذ ما تُقدِّمه النصوص الدينية كبينات ومسلَّمات؟
هذا هو السؤال الفارق، ولا يجوز المغالطة بالزعم بخلاف ذلك، والإجابة على هذا السؤال هي التي يتقرر عليها مصير الإنسان على المستوى الجوهري وفي الدار الآخرة.
وبكل ذلك يتضح بطلان محاولة حصر الحق في إجابة بين إجابتين كلتاهما باطلة، بل هي محض هراء، ويتضح أن الصراع الناتج عن انقسام الناس إل حزبين متناحرين بناءً على تلك المحاولة سيؤدي إلى نتائج كارثية كما حدث بالفعل.
فالقائلون بالنقل قبل العقل لا يريدون إلا منع الإنسان من إعمال ملكاته الذهنية باستغلال حبه لدينه ولسلفه، فيتحول بذلك إلى ما هو أضل من بهيمة الأنعام وعبدا لنعال السلف.
والقائلون بالعقل قبل النقل يريدون إخضاع نصوص الدين لأحكام عقولهم النسبية المحدودة المفتقرة إلى مسلمات وبيانات صحيحة وإلى معطيات الحواس، وهم بذلك يقوضون الدين في جوهره ويحولونه إلى تمارين عقلية منطقية، كما حدث من المتكلمين، وبذلك يتركون عامة الناس بلا عقيدة حقيقية خلاقة موحية، فيصبحون فريسة سهلة للاتجاهات السلفية المتخلفة.
*******
مذهبُ المعتزلة مبني على القول بأن العقل قبل النقل! ولو سمينا الأشياء بأسمائها الحقيقية بدلا من الأسماء المضللة الموهمة التي يستخدمونها عادة يتضح أن قولهم هذا هو محض كفر، فالعقل ليس إلا الملكة الذهنية للإنسان المبرمجة على المنطق المستخلص من هذا العالم الطبيعي النسبي المقيد، وهو لا يستطيع أن يحكم إلا وفق هذا البرنامج ووفق المعطيات العلمية ومعطيات الحواس الطبيعية والصناعية، والناس متفاوتون فيها تفاوتاً هائلا، وهو قابل للتأثر بوساوس شياطين الإنس والجن، وهو خاضع لأهواء صاحبه وميوله الشخصية مهما حاول صاحبه أن يكون محايدا، فهو يتأثر بمدى رقي ملكات صاحبه الوجدانية.
أما النقل فعلى رأسه كتاب الله تعالى ويليه السنن العملية والمرويات، فقولهم "العقل قبل النقل" لا يعني إلا أن الملكة الذهنية للإنسان مقدمة على كتاب الله تعالى!!! وهذا القول فضلا عما فيه من الكفر هو لغو أيضا، فهو يفترض تنافسا بين أمرين مختلفين تماما ويضعهما في معادلة واحدة!!
فالمعتزلة حاولوا أن يصوغوا الدين وفق عقولهم المقيدة بالسقف الحضاري لعصرهم فكثرت أخطاؤهم، وهذا لا ينفي بالطبع أنهم أدخلوا قدرا من العقلانية على الدين الأموي الأعرابي الذي حلّ محل الإسلام مما أدى إلى نشأة المذهب الأشعري، ولكن هذا لم يحسم الأمر مع الدين الأموي الأثري بل أدى إلى شدة تعصب سدنته وانحرافهم نحو المزيد من الحشوية وتقديس الآثار واستماتتهم في الدفاع عن دينهم، وقد انتهت المعركة كما هو معلوم بانتصار ابن حنبل، ذلك الانتصار الذي دفعت الأمة ومازالت تدفع ثمنه غاليا.
وبالطبع لم يكن انتصار الاتجاه الأثري إلا لأن الخليفة المتوكل السكير الذي كان يقتني في قصره آلاف الجواري قد أدرك أين تكمن مصلحته ومصلحة أمثاله، فلقد رأى أن العامة والغوغاء والجماهير العريضة تناصر ابن حنبل وأن هذا الابن قد رفض أي خروج عليه وتشبث بالركن الأعظم للدين الأموي الأعرابي، وهو الطاعة المطلقة للحاكم وإن طغى وبغى وفسق وجلد الظهور ونهب الأموال وأفسد في الأرض طالما لم يظهر كفرا بواحا ولم يعطل إقامة الصلاة!!
وبذلك أصبح الماجن السكير المتوكل ناصر السنة وقاهر البدعة، وأصبح عند المتصوفة من القلائل الذين جمعوا بين الخلافتين الظاهرة والباطنة!!
وملكات الإنسان الذهنية التي يسمونها خطأً بالعقل إنما تستمد وتستخلص منطقها وتصوراتها ومفاهيمها من هذا العالم الطبيعي المشهود، بل من جزء منه نسميه: Macro world، وبالطبع من الخطأ مد نطاق عمله خارج حدود هذا العالم؛ أي من الخطأ محاولة إخضاع عالم الغيب لأحكامه وتصوراته ومفاهيمه، بل إنه فشل في التعامل مع العالم الميكروي Micro worldفشلا ذريعا، واضطر الإنسان إلى إحداث مفاهيم وتصورات جديدة للتعامل مع هذا العالم كما هو معلوم! فالعقل الإنساني محدود مقيد، وإن كان قابلا للتطور، ولكن هذه القابلية تعني أيضًا أن الاتجاهات السلفية هي من الضلال المهلك المبين.
وحتى على مستوى العلوم الطبيعية لا معنى ولا جدوى من القول بأن العقل قبل النقل، ورحلة تطور العقل البشري هي رحلة اكتشاف واستيعاب مفاهيم وتصورات ومنطق جديد بالنسبة للعقل الإنساني، وهناك مفاهيم وتصورات علمية شديدة الغرابة بالنسبة لكل الناس من غير المتخصصين، وحتى هؤلاء العلماء يقرون بأنهم لا يستوعبون هذه المفاهيم تمام الاستيعاب وإنما هم يألفونها ويعتادونها شيئا فشيئا، ولا يستطيع أكثرهم أن ينقل هذه المفاهيم للناس العاديين، فعقل هؤلاء أصبح يختلف تماما عن عقل الإنسان العادي وعقل من قال: "العقل قبل النقل" فيما يتعلق بالأمور المادية فما هو الحال فيما يتعلق بكل ما هو خارج نطاق الإدراك البشري؟
والعقل الإنساني يتفهم الآن بعض الأمور المتشابهات المبنية على نسبية الزمن بأفضل بكثير من عقل السلف.
وبذلك يتضح أيضا أنه لا مجال لمثل هذه الأقوال أصلا!
وفيما يسمونه بالنقل يجب تقديم كتاب الله على المرويات، ومجرد تسميتها بالمرويات له دلالات عظمى، يجب على الناس إدراكها!
ولو عرف الناس شيئا عن دين الحق وشيئا عن المعنى القرءاني للعقل لما كان هناك مشكلة!
*******
1