قصص الأنبياء
سليمان عليه السلام والملك المصري شيشنق
إن سليمان عليه السلام هو أحد أنبياء الإسلام، وقد ورد ذكره في العديد من السور، ويجب الإيمان بمحض ما ذكره القرءان عنه وما يصدقه مما ورد في التوراة، هذا رغم أن وجود سليمان من الناحية التاريخية وبالصورة التي صورها كتبة التناخ والكتب الدينية الأخرى محل خلاف بين علماء الآثار وتولى من بعد داود ابنه سليمان عليهما السلام في الفترة 965 -928 ق.م في تقديرنا، والاسم "سليمان" اسم عربي وهو تصغير لـ"سلمان"، وهو من المصدر سلم، والاسم العربي هو الترجمة الدقيقة لاسم سليمان الحقيقي بالعبرية وهو شلومون، واسمه إشارة إلى فترة السلام التي كان من المقدَّر أن تسود البلاد في عهده حتى أنه تمكن من بناء الهيكل، وهو ما لم يسمح به الله تعالى لداود عليه السلام لتورطه في أعمال سفك دماء، حتى وإن كان في حقّ، وقد قال الله تعالى له: "قَدْ سَفَكْتَ دَمًا كَثِيرًا وَعَمِلْتَ حُرُوبًا عَظِيمَةً، فَلاَ تَبْنِي بَيْتًا لاسْمِي لأَنَّكَ سَفَكْتَ دِمَاءً كَثِيرَةً عَلَى الأَرْضِ أَمَامِي"، ولكنه سبحانه قال له إن من سيبني البيت هو ابنه سليمان الذي يشير اسمه إلى السلام.
وهذا ما يبينه الإصحاح الثَّانِي وَالْعِشْرُونَ من سفر الأيام الأول:
6وَدَعَا سُلَيْمَانَ ابْنَهُ وَأَوْصَاهُ أَنْ يَبْنِيَ بَيْتًا لِلرَّبِّ إِلهِ إِسْرَائِيلَ. 7وَقَالَ دَاوُدُ لِسُلَيْمَانَ: «يَا ابْنِي، قَدْ كَانَ فِي قَلْبِي أَنْ أَبْنِيَ بَيْتًا لاسْمِ الرَّبِّ إِلهِي. 8فَكَانَ إِلَيَّ كَلاَمُ الرَّبِّ قَائِلاً: قَدْ سَفَكْتَ دَمًا كَثِيرًا وَعَمِلْتَ حُرُوبًا عَظِيمَةً، فَلاَ تَبْنِي بَيْتًا لاسْمِي لأَنَّكَ سَفَكْتَ دِمَاءً كَثِيرَةً عَلَى الأَرْضِ أَمَامِي. 9هُوَذَا يُولَدُ لَكَ ابْنٌ يَكُونُ صَاحِبَ رَاحَةٍ، وَأُرِيحُهُ مِنْ جَمِيعِ أَعْدَائِهِ حَوَالَيْهِ، لأَنَّ اسْمَهُ يَكُونُ سُلَيْمَانَ. فَأَجْعَلُ سَلاَمًا وَسَكِينَةً فِي إِسْرَائِيلَ فِي أَيَّامِهِ. 10هُوَ يَبْنِي بَيْتًا لاسْمِي، وَهُوَ يَكُونُ لِيَ ابْنًا، وَأَنَا لَهُ أَبًا وَأُثَبِّتُ كُرْسِيَّ مُلْكِهِ عَلَى إِسْرَائِيلَ إِلَى الأَبَدِ. 11الآنَ يَا ابْنِي، لِيَكُنِ الرَّبُّ مَعَكَ فَتُفْلِحَ وَتَبْنِيَ بَيْتَ الرَّبِّ إِلهِكَ كَمَا تَكَلَّمَ عَنْكَ. 12إِنَّمَا يُعْطِيكَ الرَّبُّ فِطْنَةً وَفَهْمًا وَيُوصِيكَ بِإِسْرَائِيلَ لِحِفْظِ شَرِيعَةِ الرَّبِّ إِلهِكَ. 13حِينَئِذٍ تُفْلِحُ إِذَا تَحَفَّظْتَ لِعَمَلِ الْفَرَائِضِ وَالأَحْكَامِ الَّتِي أَمَرَ بِهَا الرَّبُّ مُوسَى لأَجْلِ إِسْرَائِيلَ. تَشَدَّدْ وَتَشَجَّعْ لاَ تَخَفْ وَلاَ تَرْتَعِبْ. 14هأَنَذَا فِي مَذَلَّتِي هَيَّأْتُ لِبَيْتِ الرَّبِّ ذَهَبًا مِئَةَ أَلْفِ وَزْنَةٍ، وَفِضَّةً أَلْفَ أَلْفِ وَزْنَةٍ، وَنُحَاسًا وَحَدِيدًا بِلاَ وَزْنٍ لأَنَّهُ كَثِيرٌ. وَقَدْ هَيَّأْتُ خَشَبًا وَحِجَارَةً فَتَزِيدُ عَلَيْهَا. 15وَعِنْدَكَ كَثِيرُونَ مِنْ عَامِلِي الشُّغْلِ: نَحَّاتِينَ وَبَنَّائِينَ وَنَجَّارِينَ وَكُلُّ حَكِيمٍ فِي كُلِّ عَمَل. 16الذَّهَبُ وَالْفِضَّةُ وَالنُّحَاسُ وَالْحَدِيدُ لَيْسَ لَهَا عَدَدٌ. قُمْ وَاعْمَلْ، وَلْيَكُنِ الرَّبُّ مَعَكَ». 17وَأَمَرَ دَاوُدُ جَمِيعَ رُؤَسَاءِ إِسْرَائِيلَ أَنْ يُسَاعِدُوا سُلَيْمَانَ ابْنَهُ: 18«أَلَيْسَ الرَّبُّ إِلهُكُمْ مَعَكُمْ، وَقَدْ أَرَاحَكُمْ مِنْ كُلِّ نَاحِيَةٍ، لأَنَّهُ دَفَعَ لِيَدِي سُكَّانَ الأَرْضِ فَخَضَعَتِ الأَرْضُ أَمَامَ الرَّبِّ وَأَمَامَ شَعْبِهِ؟ 19فَالآنَ اجْعَلُوا قُلُوبَكُمْ وَأَنْفُسَكُمْ لِطَلَبِ الرَّبِّ إِلهِكُمْ، وَقُومُوا وَابْنُوا مَقْدِسَ الرَّبِّ الإِلهِ، لِيُؤْتَى بِتَابُوتِ عَهْدِ الرَّبِّ وَبِآنِيَةِ قُدْسِ اللهِ إِلَى الْبَيْتِ الَّذِي يُبْنَى لاسْمِ الرَّبِّ»
ويقولون إنه لا يوجد له ولا لهيكله أي أثر في فلسطين كما لا يأتي أي ذكر له في حوليات الحضارات المفترض أنها جاورته في مصر القديمة وآشور وفينيقيا، ولكن عدم وجود آثار قد يكفي لرفض بعض مبالغات وأساطير العهد القديم ولكنه لا يكفي لنفي حقائق قرءانية راسخة، فعلم التاريخ ليس من العلوم اليقينية المنضبطة، وقصة سليمان ذاتها أجلّ بكثير مما هو شائع، فالقرءان حجة على الآثاريين.
إن ملك سليمان كان بالفعل ملكا عظيما، وكان مبنيا على تحكم راسخ في قوى طبيعية وغيبية، ولم يكن على شكل إمبراطورية تقليدية
وكان سليمان يحكم من حيث أنه خليفة في الأرض ووارثا لمكانة أبيه داود، وقد اقام علاقات طيبة مع الممالك المجاورة عبر التزواج مع عدد من بنات ملوكها مثل ابنة ملك مصر واعتبر الزواج حلفا سياسيا بين مملكة إسرائيل وبين مصر، ويذكر العهد القديم أن الفرعون المصري غير المسمَّى قام باحتلال "جازر" ضمن مدينة الرملة الفلسطينية حاليا وقام بإبادة الكنعانيين، وذكر أن المدينة أصبحت لسليمان عقب غزوة الفرعون المصري، جاء في الإصحاح 9 من سفر الملوك الأول:
15وَهذَا هُوَ سَبَبُ التَّسْخِيرِ الَّذِي جَعَلَهُ الْمَلِكُ سُلَيْمَانُ لِبِنَاءِ بَيْتِ الرَّبِّ وَبَيْتِهِ وَالْقَلْعَةِ وَسُورِ أُورُشَلِيمَ وَحَاصُورَ وَمَجِدُّو وَجَازَرَ. 16صَعِدَ فِرْعَوْنُ مَلِكُ مِصْرَ وَأَخَذَ جَازَرَ وَأَحْرَقَهَا بِالنَّارِ، وَقَتَلَ الْكَنْعَانِيِّينَ السَّاكِنِينَ فِي الْمَدِينَةِ، وَأَعْطَاهَا مَهْرًا لابْنَتِهِ امْرَأَةِ سُلَيْمَانَ. 17وَبَنَى سُلَيْمَانُ جَازَرَ وَبَيْتَ حُورُونَ السُّفْلَى 18وَبَعْلَةَ وَتَدْمُرَ فِي الْبَرِّيَّةِ فِي الأَرْضِ، 19وَجَمِيعَ مُدُنِ الْمَخَازِنِ الَّتِي كَانَتْ لِسُلَيْمَانَ، وَمُدُنَ الْمَرْكَبَاتِ وَمُدُنَ الْفُرْسَانِ، وَمَرْغُوبَ سُلَيْمَانَ الَّذِي رَغِبَ أَنْ يَبْنِيَهُ فِي أُورُشَلِيمَ وَفِي لُبْنَانَ وَفِي كُلِّ أَرْضِ سَلْطَنَتِهِ.
وفي الحقيقة يمكن القبول بقصة زواج سليمان من ابنة ملك مصر نظرا لما كان له من هيبة ومكانة، رغم أن ذلك كان ممنوعا في القوانين المصرية، إذ كان يعطي لأبنائها حقا في الملك، ولكن يجب استبعاد قصة غزو ملك مصر لجازر لحساب سليمان، فسليمان كان لديه جيشه الخاص القوي، والذي كان باستطاعته كما ذكر القرءان احتلال سبأ مثلا؛ وقد كانت أقوى من جازر.
كانت المملكة حسب النصوص التوراتية تمثل الجزء الجنوبي الغربي لبلاد الشام، أي منطقة فلسطين، ولكن لا تشمل المواني الفينيقية ولا الأراضي الساحلية الجنوبية التي خضعت لسلطة الفلستيين وباقي شعوب البحر، والفلستيون الذين أتوا من جزر بحر إيجة وجزيرة كريت أقاموا مدنا ومراكز حصينة في هذا الساحل.
ولا توجد دلائل تاريخية أو أثرية معلنة على وجود مملكة إسرائيل الموحدة، ولكن هناك دلائل على وجود مملكتين منفصلتين لم تتوحدا- مملكة السامرة أو مملكة بيت عُمري أو إسرائيل في منطقة المرتفعات الشمالية من فلسطين التاريخية، ومملكة يهوذا في المرتفعات الجنوبية.
فملك سليمان الذي لم ينبغِ لأحد لم يكن إمبراطورية عالمية هائلة المساحة وإنما هو ما ذكره القرءان: {قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لَّا يَنبَغِي لِأَحَدٍ مِّنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ{35} فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاء حَيْثُ أَصَابَ{36} وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاء وَغَوَّاصٍ{37} وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ{38} هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ{39}} ص36.
وكل ذلك أعطاه نفوذا هائلا على الممالك المجاورة، فكانوا يخشون بأسه على صغر حجم مملكته! ولذلك لم يكد ينتقل ويتولى ابنه رحبعام الملك إلا وعمَّ الفساد أرجاء مملكته وانقسمت، وعاد أكثرهم إلى عبادة الأوثان.
وسرعان ما انقض الجيش المصري بقيادة شيشنق على عاصمة مملكته، وأعطاه رحبعام بن سليمان كنوز المعبد كجزية، وأعاد شيشنق بذلك النفوذ المصري القديم على أرض كنعان، واسترد شيئا مما نهبه بنو إسرائيل من مصر ومما كان يدفعه سلفه لسليمان.
*****
كان ملك سليمان يعتمد على ما له من نفوذ وهيبة وسطوة وليس لسيطرته على إمبراطورية واسعة، فقد كان ملوك الدول المحيطة بمملكته يدركون ما له من نفوذ على الريح والجن والشياطين، ولذلك كانوا حريصين على صداقته، بل كانوا يؤدون له الجزية مهما عظم شأن ممالكهم، ولذلك ما إن علم المصريون بموته حتى انقض ملكهم شيشنق على مملكته ونهب كل أموال الهيكل وحملها معه إلى مصر، كان جزء كبير منها مما كانت تدفعه مصر لسليمان، وكانت هذه ضربة لم يفق منها بنو إسرائيل أبدا.
وكان يربعام من قبيلة أفرايم بن يوسف لاجئا سياسيا في مصر في أواخر أيام سليمان، وهو الذي قاد ثورة أسباط الشمال العشرة ضد ابن سليمان رحبعام الذي تولى الملك بعده، وقد أدى ذلك إلى انقسام مملكة سليمان إلى مملكة إسرائيل في الشمال ومملكة يهودا في الجنوب، وقد قضى الأشوريون على الأولى سنة 722 ق.م وأخذوا عشرة أسباط أسرى إلى آشور، وقضى البابليون على الثانية سنة 586 ق.م، أخذوا السبطين المتبقيين أسرى إلى بابل، وفرّ باقي الأسرة المالكة مع النبي إرميا إلى مصر، ثم سقط البابليون هم بدورهم سنة 539 ق.م. في قبضة قورش الفارسي الذي حرر اليهود وسمح لهم بالعودة إلى أورشليم.
*****
يقدم البعض نقدا لرواية كتاب اليهود خاص بقولهم إن ملك مصر قد زوج ابنته من سليمان لأن ذلك يُعد ضد تقاليد مصر الراسخة والتي تحرم أن تتزوج أميرة مصرية من أي أجنبي انطلاقا من موقفهم المتعالي على باقي الشعوب، وفي الحقيقة إن الرواية صحيحة، فقد كان ملك مصر يعرف بالفعل لسليمان قدره وإمكاناته الهائلة.
*******
1