top of page

نظرات في المذاهب

37

حكم المطلق

يجب العمل بالمطلق على إطلاقه إلا بدليل يدل على تقييده؛ لأن العمل بنصوص الكتاب واجب على ما تقتضيه دلالتها حتى يقوم دليل على خلاف ذلك.

إذا ورد اللفظ مطلقا فله حالتان:

أولا: ألا يوجد ما يقيده

وفي هذه الحالة يبقى على إطلاقه، ويجب العمل بمقتضى هذا الإطلاق، وذلك كما في الأمثلة التالية:

مثال 1:

قوله تعالى في بيان المحرمات من النساء قال تعالى: {حُرّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمّاتُكُمْ وَخَالاَتُكُمْ وَبَنَاتُ الأخِ وَبَنَاتُ الاُخْتِ وَأُمّهَاتُكُمُ اللاّتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُم مّنَ الرّضَاعَةِ وَأُمّهَاتُ نِسَآئِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللاّتِي فِي حُجُورِكُمْ مّن نّسَآئِكُمُ اللاّتِي دَخَلْتُمْ بِهِنّ فَإِن لّمْ تَكُونُواْ دَخَلْتُمْ بِهِنّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلاَئِلُ أَبْنَائِكُمُ الّذِينَ مِنْ أَصْلاَبِكُمْ وَأَن تَجْمَعُواْ بَيْنَ الاخْتَيْنِ إَلاّ مَا قَدْ سَلَفَ إِنّ اللّهَ كَانَ غَفُورا رّحِيما} النساء23.

فإن الآية في قوله (وَأُمّهَاتُ نِسَآئِكُمْ)، مطلقة ولم تقيد تحريم أمهات النساء بالدخول ببناتهن، ولم يوجد دليل يقيدها بذلك، وعملا بهذا الإطلاق يكون مجرد العقد على البنات يحرم الأمهات.

من الواضح أنهم يريدون مجرد الحديث فقط أو تقديم أمثلة فقط، ولو كان العلم بالحكم هو مقصدهم الرئيس لما كان هناك حاجة إلى مثل هذا الكلام، والحكم واضح وقطعي، وهو تحريم نكاح أم امرأة الرجل، أي التي أصبح معلومًا للناس أنها زوجته بموجب ميثاق غليظ مأخوذ لها عليه.

مثال 2:

قوله تعالى في بيان عدة التوفي: (وَالّذِينَ يُتَوَفّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجا يَتَرَبّصْنَ بِأَنْفُسِهِنّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرا) البقرة234، فإن لفظ (أَزْوَاجا)، في الآية جاء مطلقا، ولم يرد ما يفيد تقييده بالدخول، وعملا بهذا الإطلاق تكون عدة الوفاة واجبة على الزوجة مطلقا تم الدخول بها أو لم يتم.

ينطبق على هذا الكلام ما جاء في المثال السابق.

ثانيا: أن يوجد ما يقيده

ففي هذه الحالة يجب مراعاة هذا المقيد ولو كان منفصلا عنه، وذلك كما في قوله تعالى {يُوصِيكُمُ اللّهُ فِيَ أَوْلاَدِكُمْ لِلذّكَرِ مِثْلُ حَظّ الاُنْثَيَيْنِ فَإِن كُنّ نِسَآءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِن كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النّصْفُ وَلأبَوَيْهِ لِكُلّ وَاحِدٍ مّنْهُمَا السّدُسُ مِمّا تَرَكَ إِن كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِن لّمْ يَكُنْ لّهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلاُمّهِ الثّلُثُ فَإِن كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلاُمّهِ السّدُسُ مِن بَعْدِ وَصِيّةٍ يُوصِي بِهَآ أَوْ دَيْنٍ آبَآؤُكُمْ وَأَبناؤُكُمْ لاَ تَدْرُونَ أَيّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً فَرِيضَةً مّنَ اللّهِ إِنّ اللّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيما} النساء11 ، فإن الوصية وإن جاءت مطلقة في القدر والموصى له، إلا أن السنة قيدت القدر الموصى به بالثلث.

قوله تعالى {وَمَن قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَئًا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلاَّ أَن يَصَّدَّقُواْ فَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ عَدُوٍّ لَّكُمْ وَهُوَ مْؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ ....} [النساء:92]، فقد قيد القتل بكون خطأ، وقيدت الرقبة بكونها مؤمنة، فلا يجزئ غيرها.

قالوا: ((وإذا ورد نص مطلق، ونص مقيد وجب تقييد المطلق به إن كان الحكم واحدا، وإلا عمل بكل واحد على ما ورد عليه من إطلاق أو تقييد.

مثال ما كان الحكم فيهما واحدا: قوله تعالى في كفارة الظهار: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِن نِّسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِّن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِير}[المجادلة:3] وقوله في كفارة القتل: (فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلاَّ أَن يَصَّدَّقُواْ .....}[النساء:92]، الحكم واحد هو تحرير الرقبة، فيجب تقييد المطلق في كفارة الظهار بالمقيد في كفارة القتل، ويشترط الإيمان في الرقبة في كل منهما)).

وهذا منهم قول عجيب، إن الحكم مرتبط بالفعل الذي اقترفه المرء، ولا علاقة بين الفعلين المذكورين، لذلك من البديهي أن يختلف الحكم، ولا يجوز تقييد الحكم المطلق وفق منطقهم واستنتاجهم ثم اتخاذ ذلك ذريعة لإصدار حكم وتعميمه.

والصحيح في كفارة العود في الظهار هو تحرير رقبة مطلقة كما ورد في النص، وكان في ذلك تخفيف بلا شك.

وإذا ورد اللفظ مطلقا في نص شرعي، وورد هو نفسه مقيدا في نص آخر، إن كان موضوع النصين واحدا بأن كان الحكم الوارد فيهما متحدا، والسبب الذي بني عليه الحكم متحدا، حمل المطلق على المقيد، أي: كان المراد من المطلق هو المقيد لأنه مع اتحاد الحكم والسبب، لا يتصور الاختلاف بالإطلاق والتقييد، فيكون المطلق مقيدا بقيد المقيد.

مثال

قوله تعالى في سورة المائدة {حُرّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالْدّمُ...} المائدة3 ، مع قوله تعالى في سورة الأنعام {قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَا أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَّسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَّحِيم}[الأنعام:145]، فإن لفظ (الدم) ورد في الآية الأولى مطلقا، وورد في الثانية مقيدا بكونه مسفوحا، والحكم في الآيتين واحد، وهو حرمة تناول الدم ، والموضوع واحد وهو تناول الدم، كما أن المقام مقام إثبات، ولذلك يجب حمل اللفظ المطلق على المقيد وتحريم الدم إذا كان مسفوحا، فالحكم هو الحرمة ودخل الإطلاق والتقييد على مناط الحكم، وهو الدم، أما إذا لم يكن مسفوحا وهو الذي يبقى في اللحم والعروق بعد الذبح فإنه حلال لا شيء فيه.

هذا الكلام صحيح، ولكن المشكلة هي أنهم يستعملون الحكم الواضح لإثبات كلامهم، ولا يضعون قواعدهم لاستخلاص الحكم.

والصحيح أن يُقال إنه لاستخلاص الحكم يجب اتباع المنهج القرءاني، والمنهج القرءاني يعتبر الآيتين بالنسبة لموضوع تناول الدم نصًّا واحدا متكاملا، وبذلك يكون المقصود بالتحريم هو تناول الدم المسفوح، وليس تناول ما قد يسميه الناس بالدم، مثلما كان بعضهم يفعل بالكبد مثلا، أو الدم الذي قد يبقى في اللحم أو العروق ويتعذر التخلص منه.

قالوا: ومثال: النصين المتحدين حكمًا المختلفين موضوعا وسببا، قوله تعالى في كفارة القتل الخطأ:

{وَمَن قَتَلَ مُؤْمِنا خَطَئا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ....} [النساء:92]، وقوله تعالى في كفارة الظهار: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِن نِّسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِّن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا...} [المجادلة:3].

ففي الآيتين الحكم واحد وهو وجوب تحرير رقبة، والسبب في الوجوب مختلف.

والحق أن الحكم مختلف أيضًا، ففي حالة القتل الخطأ الحكم هو تحرير رقبة مؤمنة، أما في حالة العود من الظهار فالحكم هو تحرير رقبة فقط، ولا يحق لهم استنتاج أنها مؤمنة، ثم استخدام نفس الاستنتاج لإثبات كلامهم!

وقوله في شهود المداينة: {وَاسْتَشْهِدُواْ شَهِيدَيْنِ من رِّجَالِكُمْ} [البقرة:282]. وقوله في شهود المراجعة: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِّنكُمْ} [الطلاق:2]. ففي الآيتين الحكم واحد وهو وجوب استشهاد رجلين، والسبب في الوجوب مختلف لأنه في إحداهما المداينة، والثانية المراجعة.

وفي الحقيقة الحكم في الآيتين طبقًا للمنهج القرءاني واحد، هو وجوب استشهاد شهيدين ذوي عدلٍ من المؤمنين، والحكم هو المطلوب وليس استحداث تقسيمات.

فلا يعتبر المقيد بيانًا ويحمل المطلق عليه إلا في صورة واحدة، وهي ما إذا اتحد موضوعهما حكمًا وسبباً. وأما إذا اختلف حكما، أو سببا، أو اختلفا حكما وسببا، فلا يحمل المطلق على المقيد بل يفهم المطلق في موضعه على إطلاقه، ويفهم المقيد في موضعه على قيده، لأن اختلاف الحكم قد يكون سببًا في الاختلاف بالإطلاق والتقييد، أي أنه لما كان الحكم في آية الوضوء وجوب غسل الأيدي، أطلقها ولم يقيدها بكونها إلى المرافق، لأن التيمم رخصة شرعت للتخفيف عند عدم وجود الماء، فيناسبه التخفيف أيضًا في إطلاق اليد فيجزئ كل ما يصدق عليه لفظ يد، وكذلك الحال إذا اختلف السبب فقد يكون القتل خطأ اقتضى تقييد الرقبة بالإيمان تشديداً للعقوبة، وإرادة المظاهر العودة لم يقتض هذا التشديد فيجزئ تحرير أية رقبة.

وقد يلتبس اللفظ المطلق باللفظ العام من حيث أن كلا منهما يصدق على أفراد متعددة، والفرق بينهما هو أن المطلق يدل على كل فرد من أفراده دلالة بدلية، باعتبار شيوع لفظه في جميع الأفراد، أما العام، فإنه يدل على جميع أفراده دفعة واحدة، دلالة شمولية استغراقية.

إذا اختلف الموضوع وتشابه الحكم لا يجوز حمل المطلق على المقيد، والمثال التقليدي الظهار وقتل مؤمن خطأً، في الأول تجزئ أي رقبة، وفي الثاني يجب أن تكون مؤمنة.

وما يقولون إنه اتحاد الموضوع واختلاف الحكم يجعلون فيه أحد الموضوعين التطهر بالماء والثاني التيمم (ويقولون التطهر بالتيمم)!! وهي قضية مفتعلة.

ولقد اختلقوا قضية من لا شيء، وهي اختلاف الموضوع والحكم جميعا، ومثل هذه القضايا لم تنتج إلا من اختزال وتسطيح الدين.

1

bottom of page