أمور دين الحق
القتـال في سبيل الله
القتـال في سبيل الله
القتال المشروع هو القتالُ في سبيل الله، فهو لا يكون طلبا لعرض دنيوي، والقتال هو من الأركان الفرعية للجهاد في سبيل الله والذي هو ركن من أركان الدين، فقد يقتضي الجهادُ القتالَ إذا ما توفرت شروطه الشرعية، وعلى كل من أراد أن يعرف حكم القرءان في أمر القتال أن يتبع منهج دينِ الحق، فعليه أن يستخلص كل الآيات التي ورد فيها هذا المصطلح ومشتقاته وأن يسلِّم بأن لكل آية الحجيةَ الكاملة وأنه ليس ثمة اختلاف في القرءان وأنه ليس من حقه أن يضرب آية بآية ولا أن ينسخ آيةً بآية، وعليه أن يعلم أن آيات القرءان يبين بعضها بعضا ويقيد بعضها بعضا ويفصِّل بعضها بعضا، وأنها بمثابة المصابيح الموصلة على التوالي، فلا يمكن لأحد قطعُ أي مصباح منها، وإلا لغاب عنه الضوء اللازم ليعرف القول القرءاني الصحيح.
وعليه أن يعلم أن للآيات التي هي مقتضى سمة إلهية أو شأن إلهي التقدمَ على غيرها، فإذا أعلن الله تعالى أنه لا يحب المعتدين فتلك سمة إلهية لا تتغير ولا تتبدل، ولها الحكم البات في هذه المسألة، ولذلك لا يمكن لأحد أن يتقرب إلى رب العالمين باقتراف العدوان بعد أن أعلن الله تعالى أنه لا يحبه، ومن يفعل ذلك يكون مستخفا بالنهي الإلهي جاحدا للآية القرءانية، وربما كافرا بالسمة الإلهية.
قال تعالى: {وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِين} [البقرة:190]
فقوله تعالى: {إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِين} هو سمة إلهية وشأن إلهي ثابت وسنة إلهية لا تبديل لها ولا تحويل، وذلك يقتضي أمرا دينيا ملزما هو نهي صارم عن الاعتداء: {وَلاَ تَعْتَدُواْ}، فالقتال مشروط بأنه قتال ضد من قاتل، وليس ضد المسالم.
فالآية تقول بكل صراحة ووضوح: إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِين، فقاتلوا فقط من بدأكم بالقتال معتديا عليكم.
ومن يقولون بأن هذه الآية منسوخة هم بذلك يقولون بأن الله سبحانه قد تغير عما كان عليه، فقولهم ينطلق من تصور خاطئ عن رب العالمين، ومن موجبات الخسران المبين الظن السيئ برب العالمين والتصرف بمقتضى ذلك.
ومن يتبع منهج دين الحق سيعلم أن حالةَ السِلم هي الحالة المثلي المطلوبة والمقصودة وأن القتال هو الأمر الاستثنائي المكروه والمقيد بشروطه المذكورة في الآيات وأن العدوان محرم تحريما مطلقا.
والقتال المشروع هو من الصور الممكنة للجهاد، ولكي يكون مشروعا ينبغي أن يكون في سبيل الله أي خضوعا لأمر شرعي حقيقي ودفاعا عن قيمٍ عليا وليس طلبا لعرض دنيوي أو استجابة لأهواء النفوس أو لوساوس الشياطين أو لنوازع مذهبية أو حزبية أو طلبا لسلطة.
والإنسان مطالب بالدفاع عن كل ما استخلفه الله فيه من مالٍ وأهل وديار، والتي يجمعها الآن مفهوم الوطن الذي يوفر للإنسان حاجاته الفطرية الأساسية المادية والمعنوية، فالقتال دفاعا عن الوطن وعن تماسك الوطن هو قتال في سبيل الله، فهو قتال مشروع، وهو من الجهاد، وهو ركن من أركان الدين.
وعندما توجد في نفس البلد أكثر من أمة دينية فيجب عليهم التعاون والتآزر لصدّ أي عدوان على بلدهم، وهكذا فعل الرسول عندما عقد اتفاقًا موثقا مع اليهود للدفاع عنها ضد أي عدوان تتعرض له، والصورة العصرية لذلك هي كل ما يترتب على المواطنة.
القتال في سبيل الله هو القتال المشروع، ومنه: مواجهةُ العدوان، الدفاع عن "الديار والأموال والأقارب والأصحاب، وعن حق الناس في المأوى والعيش الآمن"، أي عن الوطن بالمفهوم الحديث، الدفاع عن المستضعفين في الأرض والمضطهدين بسبب دينهم ومن أخرجوا من ديارهم والمغلوبين على أمرهم، التصدي لأهل البغي، وكذلك لكفّ بأس من يحولون بين الناس وبين الإيمان بربهم أي من يتبنون سياسة اضطهاد المؤمنين وحصار دعوتهم ولا يسمحون بحرية الدين والعقيدة.
فيجب على المؤمنين أن يقاتلوا كل معتدٍ بكل ما أوتوا من قوة وأن يكون مقصدُهم إعلاءَ كلمة الله تعالى والدفاع عن دينه وقيمه، ولذلك يجب أيضا ألا يعتدوا؛ فالعدوان محرم تحريما باتا، وعليهم الالتزام بكل آداب القتال والأوامر الشرعية المنظمة له، فكل صور الإفساد في الأرض محرمة تحريماً باتاً؛ إذ هي من كبائر الإثم، فلا يجوز التعرض للمدنيين أو النساء أو الأطفال أو الدواب أو النباتات، فلا قتال إلا عندما تتوفر شروطه الشرعية.
فالاعتداء على الآخرين هو من كبائر الإثم، وهو محرم تحريمًا باتا، فلا يجوز القتال إلا ردًّا لاعتداء أو لكف بأس الذين كفروا ويهددون الأمة ويحاولون فتنتها في دينها أو للتصدي للظلمة أو لأهل البغي ولو كانوا محسوبين على المسلمين وما إلى ذلك من المبررات الشرعية.
والمشركون الذين أُمر القرن الأول من المسلمين بقتالهم حتى يسلموا هم من لم يؤمن بالرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَمن قومه، ذلك لأن لأقوام الرسل أحكامهم الخاصة، ومنها أنه ليس مسموحا لقوم نبي مرسل بالبقاء على كفرهم بعدما جاءهم بالبينات، فطبقا للسنن لن يقبلَ أبداً من كفروا بالرسول بالتعايش السلمي مع الذين آمنوا فيعتدون عليهم ويحاولون فتنتهم في دينهم، وعندها يصبح لابد من الفصل بينهم في هذه الحياة الدنيا إما بآية كونية وإما بأيدي المؤمنين.
ولا يجوز قتال إنسان آخر لمجرد أنه مشرك وإلا لاضطر أكثر المحسوبين على الإسلام إلى أن يقاتلوا أنفسهم!! قال تعالى:
{وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللّهِ إِلاَّ وَهُم مُّشْرِكُونَ} يوسف106، وقال: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (153)} (الأنعام)، وقال: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعًا لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ{159} الأنعام، وقال: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ{31} مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ{32} الروم.
ومن المعلوم أن المسلمين قد فرَّقوا بالفعل دينهم وكانوا شيعا كل حزب بما لديهم فرحون وأنهم اتبعوا السبل فتفرقت بهم عن سبيل الله تعالى، وكل طائفة أو شيعة من المحسوبين على الإسلام إنما ترمي كل من خالفها بالشرك وبالكفر، وهم محقون جزئيا في ذلك، فلا يخلو مذهب من الأديان التي حلت محلّ الإسلام من شرك جزئي وكفر جزئي، ولكن لا يجوز قتال من يعلن أنه مسلم بزعم أنه مشرك أو كافر، أو بالرغم من أنه مشرك شركًا جزئيا أو كافر كفرًا جزئيا.
الذين يجب التصدي بقوة وحزم لهم هم من يحكمون بالكفر المطلق على المسلمين الآخرين، ويتخذون من ذلك ذريعة لسفك دمائهم واستباحة أموالهم وأعراضهم، ومن أمثلتهم:
الخوارج والقرامطة في الزمن القديم، الوهابية، السلفية، الدواعش، حركات إحياء الخلافة، حركات الإخوان، .... الخ، وما زال في جعبة الشيطان الكثير منهم.
والمشركون الآن هم كل من يتخذ إلها أو ربا مع الله تعالى بطريقة واضحة صريحة معلنة، ولا يجوز قتال المشركين لمجرد أنهم مشركون إلا إذا اعتدوا هم على المؤمنين في دينهم أو حاولوا إخراجهم من ديارهم...الخ، كما أنه على المسلمين واجب البلاغ المبين لهؤلاء الناس، وإلا فإنهم يأثمون ويتحملون أوزارهم.
وعلى المسلمين عندما يفرض عليهم القتال أن يلتزموا بكافة القيم والمبادئ الإسلامية، والأمة المؤمنة لا تقاتل إلا لتحقيق المقاصد التي شُرِع من أجلها القتال مثل إعلاء كلمة الله ونصرة دين الحق ونصرة المستضعفين ومنع الفتنة وكفّ بأس الذين كفروا ودرء العدوان وقمع البغي وأهله وردع المعتدين، فالالتزام بذلك يضمن لها النصر النهائي الحاسم، فالقتال المشروع لا يكون إلا في سبيل الله، أما القتال من أجل المغانم الدنيوية فليس من مهام الأمة المؤمنة بل هو من العدوان المنهي عنه بنصوص قاطعة، ويجب العلم بأن الله تعالى هو أغنى الأغنياء، وهو لا يقبل أي عمل إنساني شابه شرك، ولقد كان الانشغال بالغنائم الدنيوية من أسباب الهزيمة في موقعة أحد وموقعة بواتييه وغيرهما ومن أسباب تقويض صرح الأمة المؤمنة.
والمسلمون ليسوا مطالبين بالدفاع عن أسلافهم الذين لم يقوموا بواجب الدعوة إلى الإسلام بالأساليب الشرعية، وإنما قاتلوا الناس واعتدوا على الآمنين وسفكوا الدماء وأفسدوا في الأرض من أجل الغنائم الدنيوية، ولا يجوز أن يُربَّى المسلم على الفخر بهذه الاعتداءات وما ترتب عليها، ولقد كانت الجيوش التي اجتاحت العالم المحسوب على الإسلام من الشرق والغرب وفعلت به الأفاعيل هي رد الفعل الكوني ضد ما اقترفته هذه الأمة في حق الشعوب الأخرى طبقًا للسنن التي لا تبديل لها ولا تحويل ولا تحابي أحدا، إن دعائم الوجود مبنية ومخلوقة بالحق، وهي ترفض بذاتها كل ظلم أو جور.
ومما فاقم وضاعف من جرائم السلف المقدس في حق الله وكتابه ورسوله والإنسانية أنهم جعلوا من أسس مذاهبهم القول بأنه قد تمَّ نسخ الآيات الآمرةِ بالالتزام بالأساليب السلمية ومكارم الأخلاق عند الدعوة إلى الإسلام، وذلك بما يسمُّونه بآية السيف، فأضافوا إلى جرائمهم تأويلَ الدين ابتغاء الفتنة ووفق الرغبات والأهواء الدنيوية.
*****
هل تتعارض الرغبة في الغنائم الدنيوية مع أن يكون القتال في سبيل الله؟
إخلاص الدين لله هو أمرٌ قرءاني ديني جوهري، لا تصح أي ممارسة دينية إلا به، قال تعالى:
{إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَّهُ الدِّين} [الزمر:2]
{قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَّهُ الدِّين} [الزمر:11]
{قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَّهُ دِينِي} [الزمر:14]
{وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاء وَيُقِيمُوا الصَّلاَةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَة} [البينة:5]
والقتال المشروع هو أمرٌ ديني، يجب أن يكون خالصًا لله، والله تعالى هو الغني الحميد، وهو الغني عن العالمين، وبذلك يمكن أن يفوز الإنسان بحسنة دنيوية، وبحسنة أخروية، وتبين النصوص الإنجيلية الآتية الأمر:
33لكِنِ اطْلُبُوا أَوَّلاً مَلَكُوتَ اللهِ وَبِرَّهُ، وَهذِهِ كُلُّهَا تُزَادُ لَكُمْ، إنجيل متَّى، إصحاح 6،
31بَلِ اطْلُبُوا مَلَكُوتَ اللهِ، وَهذِهِ كُلُّهَا تُزَادُ لَكُمْ، إنجيل لوقا، إصحاح 12
ولذلك إذا اضطررت إلى القتال فلتقاتل في سبيل الله وحده مخلصًا له الدين، فإذا ما نصرك الله، وآتاك حظًّا من الغنائم، فلتشكر له.
أما إذا كنت تقاتل أصلًا لتفوز بحظٍّ وافر من الغنائم فما قاتلت في سبيل الله.
*****
إن الدعوة إلى الإسلام إنما تكون وفق الأوامر القرءانية المحكمة، أي باتباع السبل القرءانية، وكلها سبل سلمية راقية سامية، فهي تكون بالحكمة والموعظة الحسنة والجدالِ بالتي هي أحسن والحوار البناء وتقديم الأسوة الحسنة، وبالطبع يجب أن يسبق كل ذلك علمٌ حقيقي بدين الحق وفقه حقيقي لقيمه وسننه ومقاصده.
أما العدوان فهو محرم تحريمًا باتا ولا يمكن لأحد أن يتقرب إلى الله تعالى بعصيان أوامره والتمرد عليه، فلا قتال لإكراه الناس على الإيمان وإنما القتال لدرء الفتن والعدوان والاضطهاد الديني وللدفاع عن المستضعفين في الأرض، فإذا ما شنت أمة عدوانا على المسلمين لفتنتهم في دينهم أو لكسر شوكة المسلمين وجب قتالها، فإن جنحت للسلم يجب إيثاره، أما إن تمادوا في العدوان فيجب على المسلمين أن يستمروا في القتال إلى أن يتحقق لهم إحدى الحسنيين فإن انتصروا فليس لهم أن يكرهوا المهزومين على اعتناق الإسلام، ذلك لأنه لا إكراه في الدين وإنما لهم أن يلزموهم بدفع غرامة حربية عادلة تعرف بالجزية، وليس لهم أن يحتلوا بلادهم، فإن وجب ذلك لأي سبب من الأسباب فيجب الالتزام التام بالقيم الإسلامية والأسس والمبادئ التي أرساها الإسلام العالمي للتعايش السلمي بين الناس.
وكل ما قرره السلف بهذا الشأن أمور اجتهادية يمكن الاستئناس بها ولا يلزم الأخذ بها، وفي تلك الحالة فإنه على المتمسكين بدينهم القديم أن يؤدوا إلى أولي الأمر ضريبة تكافئ ما يؤديه المسلمون من الزكاة كمساهمة لازمة في إدارة شؤون الجميع، ولقد أخطأ السلف عندما سموا تلك الضريبة بالجزية؛ وربما كان ذلك لأنهم لم يجدوا اسماً آخر.
إنه يجب العلم بأن الله تعالى هو الرحمن، فهو أصل كل قانون ونظام وواضع الميزان، وهو الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلاَمُ الْمُؤْمِنُ، لذلك فهو لا يحب المفسدين ولا سفاكي الدماء، وهذه الأسماء تقتضي توفر النظام وتوفر الأمن والسلام للناس، لذلك يجب تجنب كل ما يؤدي إلى اختلال النظام وانتشار الفوضى وضياع الأمن والسلام.
*****
إن القتال هو أمر قرءاني، وهو من الأركان الفرعية للجهاد، ولا قتال إلا عندما تتوفر شروطه الشرعية، وعلى المسلمين عندما يُفرض عليهم القتال أن يلتزموا بكافة القيم والمبادئ الإسلامية.
إن أكثر الأوامر والتعليمات المتعلقة بالقتال هي خاصة بالقتال في الدين، أي هي خاصة بالقتال ضد من يعتدون على المسلمين لمجرد أنهم مسلمون أو ضد من يضطهدون المسلمين ليفتنوهم في دينهم أو ضد من يمنعون المسلمين من الدعوة إلى الإسلام بالطرق السلمية، والقتال هو دائما آخر التدابير الواجب اتخاذها لحسم الأمور.
والقتال بين طائفتين من المؤمنين أمر وارد ولا ينفي عن أيهما صفة الإيمان، ولكن على باقي الأمة ألا يتخذوا موقفا سلبيا من الأمر؛ فلا بد أولًا من محاولة الإصلاح بين الطائفتين بالعدل والقسط وإلا فلا مناص من استعمال القوة لردع الطائفة الباغية المصرة على التمادي في البغي، فالإصلاح بين طوائف المؤمنين بالعدل والقسط وقتال أهل البغي من أوامر الدين الملزمة للأمة، ولذلك يأثم –مثلا- كل من لم يقاتل معاوية، زعيم أهل البغي وعبيد الدنيا، حتى وإن كان (صحابيا جليلا)، ويأثم كلُّ من أصر على تقديسه وتوثينه، وكل الكيانات المحسوبة على الإسلام في هذا العصر ملزمةٌ بأن توفر ما يلزم من آليات لتفعيل أمر التصالح بين المؤمنين وإفشاء السلام بينهم وقتال أهل البغي المصرين على العدوان وسفك دماء المسلمين إذا لم يكن هناك مناص من ذلك.
وقد زعم بعضهم أن ثمة أحكاما مرحلية وأحكاما نهائية في القرءان، وكان ذلك انطلاقا من التسليم المطلق بصحة القول بوجود آيات منسوخة في القرءان، فقالوا إن القتال الدائم للمشركين والكافرين هو الأمر الاستراتيجي النهائي، أما تقييد وجوب القتال بأي أمر آخر؛ أي تركه مثلا في حالة ضعف المسلمين فهو أمر مرحلي تكتيكي، وهذا الزعم باطل، وهو يتضمن سوء ظن برب العالمين وازدراءً لدينه السمح الكريم.
فعلى كل من أراد أن يعرف حكم القرءان في أمر القتال أن يتبع المنهج القرءاني السابق ذكره وأن يعلم أن الله تعالى ليس بحاجة إلى اتباع أساليب مكياڤيللية مع مخلوقاته وأنه لو شاء لآمَنَ مَن فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا، وَلَوْ شَاء لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً.
أما الذين يزعمون أن من واجبهم شن حربٍ شعواء ضد البشرية جمعاء وأنه لا عذر لهم يمنعهم من مواصلة القتال إلا ضعفَهم، وأنه يجب مواصلة القتال بمجرد استرداد قوتهم فهم لا يعتنقون دين الحق وإنما يعتنقون أيديولوجية دموية إجرامية، ولا يستطيع أحد أن يلوم البشرية إذا ما تحالفت للقضاء عليهم قضاءً تاما.
إنه على الضالين المضلين أن يعلموا أن لله سبحانه الكمالَ المطلق وأنه كما قال: لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ، وليس ليفترس بعضهم بعضا ولا ليستعبد بعضهم بعضا، وأنه لن يأمر المؤمنين بالتربص بالآخرين وأنه قرر بكل وضوح وبأجلي بيان أنه لا إكراه على الإيمان ولا إكراه في الدين وهو لن يعمل على الإيقاع بين المؤمنين وبين الناس كافة، والضالون المضلون يقولون إنه على المسلمين أن يقاتلوا كل الكفار والمشركين بلا هوادة إلا في حالة الضعف، فإذا كانت هذه العقيدة معلومة للكافة فما الذي سيضطر باقي الناس إلى الصبر على فئة تتربص بهم وتتحيَّن الفرصة للاعتداء عليهم، وإذا ما اضطر المسلمون إلى الجنوح للسلم لضعفهم فلماذا لا تبادر الأمم الأخرى بقهرهم بل وبإبادتهم في حالة ضعفهم حتى يأمنوا تماما خطرهم؟
إنه لا يجوز قتال الآخرين لمجرد الزعم أو القول بأنهم كفار أو مشركين أو لتحقيق الفصل النهائي بين المسلمين وبين غيرهم، فمثل هذا الفصل لن يتحقق إلا في يوم الفصل، ولقد نصّ القرءان على ذلك، وسيظل هناك طوائف من أهل الكتاب إلى يوم القيامة كما ذكر ذلك القرءان أيضا.
لم يرد في القرءان أنه أُنزل ليؤجج نيران الفتن والحروب التي لا تتناهى في الأرض، ولا ليشحن قصور خلفاء مزعومين بما لا حصر له من الجواري والغلمان وتلال الذهب، وإنما أُنزل ليقوم الناس بالقسط وليؤدوا الأمانات إلى أهلها وليحكموا بالعدل وليتصدوا للظلم ولينتصروا من أهل البغي وليتعاونوا على البرّ والتقوى، وليصلحوا.
إن الله تعالى أرسل النبي الخاتم رحمة للعالمين، وجعل الرسالة الخاتمة رسالة هدى ونور وسلام ورحمة لهم وليست إعلانا بالحرب الدائمة عليهم!
ويجب العلم بأن كل طائفة تستوطن بلدًا ما لها حقها العادل في موارده وثرواته، وليس من حقّ أي طائفة أخرى أن تستأثر به، ولا أن تتميز على غيرها في ذلك لسبب ديني أو مذهبي أو عرقي، وذلك من لوازم الحكم بالعدل والقيام بالقسط وأداء الأمانات إلى أهلها واحترام الإنسان الذي كرمه الله تعالى وفضله على كثيرٍ ممن خلق تفضيلا.
إن كل الآيات التي يرد فيها مصطلح القتال يبين بعضها بعضا ويفصِّل بعضها بعضا ويقيد بعضها بعضا، فيجب أن تُفقه جميعها وفق المنهج القرءاني الذي يجعل الآيات المتعلقة بمسألة واحدة بمثابة المصابيح الكهربية الموصلة على التوالي، لا يجوز قطع أو استبعاد أية آية، هذا بالإضافة إلى أنه للآيات التي هي مقتضى شئون إلهية التقدم، كما يجب أن تفقه هذه الآيات في إطار كافة منظومات الدين الثابتة الراسخة، ومنها منظومة الأسماء والشئون الإلهية ومنظومة القيم الإسلامية.
وكل الآيات التي تتحدث عن القتال محكومة باسم الله "السلام"، ويُلاحظ أن هذا اللفظ هو أساسا اسم معنى محض (اسم مصدر)، ولا يُسمَّى كائن باسم المعنى إلا على سبيل المبالغة وتأكيد المعنى، لذلك فإن الله تعالى يأمر بالسلام وبالجنوح إلى السلم وبالصفح وبالتعارف بين الشعوب والقبائل والتنافس السلمي في أعمال الخير والبر.
وهو سبحانه الحقّ، لذلك لا يحب المعتدين، ولا يمكن التقرب إليه بما لا يحبه، وقد نهى عن العدوان وحذَّر الناس من أن يَجْرِمَنَّهمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ عَلَى أن يعتدوا، حتى لو كان لهذا الشنآن أسبابه الموضوعية.
*****
1