top of page

أمور دين الحق

تعدد الزوجات

تعدد الزوجات


إن الأصل في الزواج هو تحمل المسئولية تجاه النفس والزوجة والأسرة والأمة والبشرية جمعاء، فهو الوسيلة الطبيعية اللائقة بالإنسان لحفظ نوعه وبقائه، والزواج في المجتمعات القديمة وكل ما يتعلق به كانت تمليه طبيعة الظروف والأحوال، ومن المعلوم أنه في العالم القديم كانت الكثرة العددية والقوة العضلية هي العوامل الأساسية في الصراع من أجل البقاء ضد كل الآخرين، وكان الرجال هم وقود هذه الحروب، لذلك كان تعدد الزوجات هو الحل لمثل هذه المشاكل، وبذلك أقرت واعترفت كل الأديان الحقيقية، وبعد حرب الثلاثين عاما مثلا والتي هلك فيها ملايين الألمان اضطرت السلطات للسماح بتعدد الزوجات لاستعادة الطاقة السكانية.

وفي العالم القديم لم تكن توجد مؤسسات لرعاية أسر القتلى في الحروب وغيرها، فلم يكن مفهوم دولة الرعاية والتكافل والرفاه قد ظهر، ولم يؤسس الرسول دولة ذات أجهزة مثل الدول الحديثة، بل أسس أمة كان يدبر أمورها كرسول نبي وليس كرئيس أو ملك.

والحلّ الذي يقدمه الإسلام للمشكلة المذكورة هو أن تُضمّ الأسرة التي فقدت عائلها إلى من هو قادر على رعاية شؤونهم والقيام بحقوقهم بالعدل {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِي الْيَتَامَى فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاء مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُواْ فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلاَّ تَعُولُواْ} النساء3

فهذا أمر متعلق بإباحة طريقة لحفظ حقوق عائلات من فقدوا من يعولونهم لأي سبب من الأسباب ويُخشى عليهم من التعرض للظلم والجور والضياع في مجتمع كان الرجل هو العائل وهو الذي يأتي لأسرته بما يقيم أودهم، والقول "مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ" هو تعبير بياني، والمراد به بقدر الاستطاعة، فقد يكون عدد القتلى كثيرا بحيث يقتضي الأمر أن يضم إلى أسرته الأصلية أسرا عديدة، وكون الأمر للإباحة لا يعني أنه أمر ملزم، فالإسلام دين عالمي صالح لكل زمان ومكان ويلبي كل احتياجات التطور، وهو يقدم هنا وسيلة صالحة لكل المجتمعات، فمن وجد حلًّا آخر لا يتضمن تحليل حرام فليتقدم به، وكل إنسان بمقتضى الإسلام مسئول عن البحث عن أفضل السبل لتحقيق العدالة ومنع الظلم.

وفي هذا العصر مازالت بعض الأسر في صعيد مصر مثلا تلزم الشقيق الذي فقد شقيقه بأن يضم أسرته إليه بتزوج أرملة شقيقه، وفي ظل غياب نظام رعاية حقيقي تضطر الأرملة للعمل في أية مهنة لكي تتمكن من كسب عيشها وعيش اليتامى من أبنائها.

فلا شأن لهذه الآية بموضوع تعدد الزوجات، فهو باق على حكمه الأصلي الفطري وهو الإباحة في نطاق العرف، ولكن ما جاء به الإسلام هو منظومة قيمه الحاكمة على هذا الأمر ومنها العدل والقسط واحترام الحقوق والكرامة .... الخ.

وبالنسبة للرسول فقد كان مأمورا باتباع ملة إبراهيم، وهي تقول بإمكانية تعدد الزوجات، وكان له مقاصده الشرعية المعلومة من كل زيجة، وكلها كانت لخدمة الدعوة والعمل لصالح إنجاحها أو برا ببعض أتباعه أو تأليفا لقلوب الأعداء لحقن الدماء، ولذلك كانت كل زوجاته باستثناء عائشة من الأرامل أو ممن سبق لهن الزواج، ولو أراد لكان له أفضل نساء العرب وأجملهن وأشرفهن!

*******

القرءان لم يتعرض صراحة لموضوع تعدد الزوجات، وإنما ألمح إلى إمكانه في نصوص محكمة، وبذلك فقد تركه لمقتضيات الفطرة والعرف ولأحوال كل عصر ومصر ولظروف كل إنسان على حدة، ولا يجوز تعميم أحكام منصوص عليها فيه مذكور فيه أسبابها، كما لا يجوز استخراج أحكام أخرى منها بالقياس، وهناك حالات عديدة سيضطر الناس فيها إلى إباحته منها:

1. هلاك أعداد كبيرة من الرجال مثلما يحدث في الحروب، وقد اضطر الألمان بعد حرب الثلاثين عاما إلى إباحة تعدد الزوجات.

2. وجوب رعاية اليتامى وأمهاتهن.

3. انتشار حالات العنوسة لأي سب من الأسباب.

فالزواج لتكوين أسرة أو لحماية أسرة من الانهيار من الوظائف الاجتماعية، ولا يجوز النظر إليها من الناحية الجنسية فقط، والعلاقة بين الزوجين هي مودة ورحمة، ومن أسس ذلك حفظ حقوق العشرة، ومراعاة المشاعر والأحاسيس.

ويجب أن يتذكر الإنسان دائما أن متاع الدنيا قليل وأنه من دناءة الهمة والتقاعس عن طلب الكمال أن يجعل الدنيا أكبر همه أو مبلغ علمه، فالاكتفاء بزوجه واحده يغلق بابا من أبواب الظلم ويحمي الإنسان من الانشغال الشديد بالدنيا.

ولا يجوز الإسراف في مثل هذه الأمور، ويجب أن يتذكر الإنسان دائمًا أن الآخرة خيرٌ له من الأولى.

ولأولي أمر الأمة اتخاذ كل ما يلزم من إجراءات وسنّ ما يلزم من قوانين لضمان تحقيق العدل، فتحقق العدل هو الذي له الأولية العظمى، وتحقيق العدل يعني مراعاة مصالح كل الأطراف التي لها علاقة بالأمر.

*******

لا يوجد أي نص قرءاني قطعي الدلالة يوجب تعدد الزوجات أو يحرمه، فمسألة تعدد الزوجات متروكة على ما كانت عليه في ملة إبراهيم، وهو الإباحة وفقًا للعرف، والأمر محكوم بكل قيم الدين الكبرى، فلها التقدم المطلق على ما هو في حكم المباح، فالمقصد الديني الأعظم والأمر الأكبر هو القيام بالقسط والحكم بالعدل، فالقسط والعدل وإيثار الآخرة من القيم الكبرى المقدمة والتي لها السيادة والحكم.

وهذا أيضا ثابت من فحوى آيات قرءانية عديدة مثل تلك الموجهة إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ، وذلك من لوازم كون الإسلام رسالة عالمية خاتمة وصالحة لكل زمان ومكان.

وكانت توجد دائما حاجة إلى هذا التعدد بسبب الحروب الكثيرة والمستمرة التي يهلك فيها أعداد كبيرة من أصلح وأقوى الرجال، وفي ألمانيا بعد حرب الثلاثين عاما التي هلك فيها أكثر من ربع السكان أمروا بتعديد الزوجات وضيقوا نطاق الرهبانية.

وإنما يوجد في القرءان حثٌّ على الزواج بأكثر من واحدة كحل مجتمعي لظاهرة اليتامى مع التأكيد الشديد على مراعاة العدل، وذلك كان لازما بشدة في مجتمعات بدائية لا توفر للناس أي أساليب رعاية أو تكافل اجتماعي على المستوى العام مما يؤدي إلى إمكانية ضياع الأسرة التي هلك عائلها.

والروح العامة للقرءان تحبذ فيما عدا ذلك الحدّ إلى أقصى مدى من اتباع الشهوات الدنيوية أو جعلها شغل الإنسان الشاغل، وتؤكد أن متاع الدنيا قليل وأن الآخرة خير وأبقى وأن الله خير وأبقى، وأنه لا يجوز الانشغال بالدنيا عن القيام بأمور الدين الكبرى.

قال تعالى:

{زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآَبِ (14) قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (15) الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آَمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (16) الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ (17)} آل عمران، {..... قُلْ مَتَاعُ الدَّنْيَا قَلِيلٌ وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِّمَنِ اتَّقَى وَلاَ تُظْلَمُونَ فَتِيلا} [النساء:77]، {كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَما الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُور} [آل عمران:185]، {يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَار} [غافر:39]، {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلاَدِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُور} [الحديد:20]

وفي المجتمعات البهيمية البدائية المتخلفة فإن الشغل الشاغل للذكور هو المتع الحسية والأمور الجنسية، ويترتب على ذلك بالضرورة ازدراء الأنوثة واضطهاد المرأة وأكل حقوقها بالباطل وشيوع الظلم، لذلك لا حرج على أولي الأمر من تقييد تعدد الزوجات بقانون في الظروف العادية الطبيعية، وذلك من لوازم العمل بالروح العامة لدين الحق وتحقيق الرقي العام للناس وحفظ الحقوق والقيام بالقسط وضمان تحقيق العدل، وذلك من المسؤوليات الجسام الملقاة على عاتق أولي الأمر.

*****

- لم يتعرض القرءان أبدا لموضوع تعدد الزوجات! بل تركه على ما كان عليه!

- وآية النساء متعلقة بأحكام اليتامى، ولا علاقة لها بتحديد عدد الزوجات، فذلك أمر متروك لظروف الزمان وتطورات الأحوال.

وطبقا للقرءان فإن المؤمن مأمور بألا يتعلق بمتاع الدنيا القليل الفاني، وأن يعلم أن الآخرة هي خير وأبقى، لذلك فمن الأفضل له الاكتفاء بزوجة واحدة إلا للضرورة القصوى، وذلك بمقتضى وجوب تحقق المودة والرحمة بينه وبين زوجته، والتعدد غير المبرر يمس ذلك بلا جدال، وكذلك بمقتضى أنه لن يستطيع أن يعدل مهما حاول.

ويجب أن يعلم الشخص الشرقي أنه ليس بالفرْج وحده يحيا الإنسان، وأن عليه أن يكبح جماح غرائزه، وهذا الأمر هو متروك لظروف العصر والمصر ودرجة الرقي والتقدم، ومن حق السلطة القائمة أن تحدد عدد الزوجات بقانون وضعي، وذلك بمقتضى موازين الأمور الدينية، وما يترتب عليها من ترتيب للأولويات، فالقيام بالقسط وتحقيق العدل وضمان سلامة الأسرة أهم بكثير من إسراف الذكور في إشباع شهواتهم، كما أن ذلك قد يدفع الذكور لكي يسعوا إلى أن يكونوا بشرًا أسوياء ورجالًا حقيقيين، وذلك من لوازم تحقيق مقاصد الدين العظمى.

وتنظيم هذه الأمور بقانون لا يعني تحريم شيءٍ حلال، وإنما يعني إلزام الفرد بمتطلبات الأمة، وبالعمل على الرقي بنفسه، وتقديم القيم العليا على الشهوات الفردية الجزئية.

مثال: شرب الماء مباح، ولا يملك أحد تحريمه، ولكن قد تحدث أمور تستدعي تقنين استعماله لمصلحة الجميع، وللقيام بالقسط والحكم بالعدل فيما بينهم، ومنها أنه قد يشح مثلا، فهذا التقنين ليس بتحريم.

والقرءان يوضح جيدا أن التعدد يمكن أن يكون أداءً لواجب اجتماعي، وليس لمجرد العبَّ من متاع الدنيا، فضلا عن أنه يوضح أن الزواج هو ميثاق غليظ تأخذه المرأة من الرجل.

ولكن قد تستجد ظروف مثل الحروب الهائلة التي تلتهم أعدادا كبيرة من الذكور فيكون الواجب تشجيع التعدد كمهمة قومية اجتماعية دينية وليس كمجرد وسيلة لإشباع المتع الحسية والإسراف فيها، فالأمة يجب أن تكون قوية، والعدد الوفير من السكان هو دائما من أسباب زيادة ثقل الأمة.

وواجبات الرسول والمهام المنوطة به وأحوال وظروف قومه وعاداتهم والعمل على نجاح الدعوة كل ذلك كان يقتضي منه أن يعدد زوجاته، وكان الزواج من ابنة زعيم القبيلة المهزومة مثلا جبرا لخواطرهم وتأليفاً لقلوبهم وتجنباً للمزيد من سفك الدماء، فلم يكن ذلك أبدا لشدة ولعه بالأمور الجنسية، بل كان ذلك عبئا يُضاف عليه.

وقد انتهى نظام الرق واستعباد الناس رغم أنف المحسوبين ظلمًا على الإسلام والذين خرجوا لاستعباد الناس ونهب أموالهم وسبي نسائهم، وجعلوا من بلادهم أكبر سوق لتجارة الرقيق في العصور الوسطى، فلا يجوز لأحد أن يعمل على إحيائه، ويجب على المجتمع الدولي أن يضرب بيد من حديد على أيدي الجهلة المتخلفين والمجرمين الذين يسعون إلى إحيائه.

ومع ذلك فوجود التشريعات الخاصة بالتعامل مع الرق كان أمرًا لازما للشريعة التامة الكاملة، فهذه التشريعات كان لابد منها للتعامل مع وضع قائم وتخفيف وطأة عيوبه، ولا يعني أية دعوة إلى ترسيخ نظام الرق.

*****

القرءان لم يتعرض صراحة لموضوع تعدد الزوجات، وإنما ألمح إلى إمكانه، وحثَّ عليه فيما يتعلق بالإقساط في اليتامى.

وبذلك فقد تركه لمقتضيات الفطرة ولأحوال كل عصر ومصر، ولظروف كل إنسان على حدة وحسن تقدير أولي الأمر.

ولا يجوز إطلاق أحكام مقيدة منصوص عليها في أمور خاصة، كما لا يجوز استخراج أحكام من النصوص بالقياس، وهناك حالات عديدة سيضطر الناس فيها إلى إباحة تعدد الزوجات، وقد سبق ذكرها.

فالزواج لتكوين أسرة أو لحماية أسرة من الانهيار أو لحماية الأرامل من الانحراف هو من الوظائف الاجتماعية، ولا يجوز النظر إليه من الناحية الجنسية فقط، وأفضل الحلول الممكنة لأسرة فقدت عائلها أن يتزوج رجل صالح من أرملته وأن يضم أبناءها إلى بيته.

ويجب أن يتذكر الإنسان دائما أن متاع الدنيا قليل، وأنه من دناءة الهمة والتقاعس عن طلب الكمال أن يجعل الدنيا أكبر همه أو مبلغ علمه، فالاكتفاء بزوجه واحدة هو أقرب إلى القيام بالقسط وتحقيق العدل، وأحرى بأن يغلق بابا من أبواب الظلم، وهو يحمي الإنسان من الانشغال الشديد بالدنيا، ويجعله يجيد استغلال طاقاته فيما هو أجدى وأنفع.

*****

إن الأصل في الزواج هو تحمل المسئولية تجاه النفس والزوجة والأسرة والأمة والبشرية جمعاء، فهو الوسيلة الطبيعية اللائقة بالإنسان لحفظ نوعه وبقائه، والزواج في المجتمعات القديمة وكل ما يتعلق به كانت تمليه طبيعة الظروف والأحوال، ومن المعلوم أنه في العالم القديم كانت الكثرة العددية والقوة العضلية هي العوامل الأساسية في الصراع من أجل البقاء ضد كل الآخرين، وكان الرجال هم وقود هذه الحروب، لذلك كان تعدد الزوجات هو الحل لمثل هذه المشاكل، وبذلك أقرت واعترفت كل الأديان الحقيقية، وبعد حرب الثلاثين عاماً مثلا والتي هلك فيها ملايين الألمان اضطرت السلطات للسماح بتعدد الزوجات لاستعادة الطاقة السكانية.

وفي العالم القديم لم تكن توجد مؤسسات لرعاية أُسر القتلى في الحروب وغيرها، فلم يكن مفهوم دولة الرعاية والتكافل قد ظهر، ولم يؤسس الرسول دولة ذات أجهزة مثل الدول الحديثة، بل أسس أمة كان يدبر أمورها كرسول نبي وليس كرئيس أو ملك، والحلّ الذي يقدمه الإسلام للمشكلة المذكورة هو أن تُضمّ الأسرة التي فقدت عائلها إلى من هو قادر على رعاية شئونهم والقيام بحقوقهم بالعدل {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِي الْيَتَامَى فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاء مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُواْ فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلاَّ تَعُولُواْ} النساء3

فهذا أمر متعلق بإباحة طريقة لحفظ حقوق عائلات من فقدوا من يعولونهم لأي سبب من الأسباب ويُخشى عليهم من التعرض للظلم والجور والضياع في مجتمع كان الرجل هو العائل وهو الذي يأتي لأسرته بما يقيم أودهم، والقول "مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ" هو تعبير بياني، والمراد به بقدر الاستطاعة، فقد يكون عدد القتلى كثير بحيث يقتضي الأمر أن يضم إلى أسرته الأصلية أسراً عديدة، وكون الأمر للإباحة لا يعني أنه أمر ملزم، فالإسلام دين عالمي صالح لكل زمان ومكان ويلبي كل احتياجات التطور، وهو يقدم هنا وسيلة صالحة لكل المجتمعات، فمن وجد حلا آخر لا يتضمن ظلما أو جورا أو تحليل حرام فليتقدم به، وكل إنسان بمقتضى الإسلام مسئول عن البحث عن أفضل السبل لتحقيق العدالة ومنع الظلم.

وفي هذا العصر مازالت بعض الأسر في صعيد مصر مثلا تلزم الشقيق الذي فقد شقيقه بأن يضم أسرته إليه بتزوج أرملة شقيقه، وفي ظل غياب نظام رعاية حقيقي تضطر الأرملة للعمل في أية مهنة لكي تتمكن من كسب عيشها وعيش اليتامى من أبنائها، وهذا ما يعرضها لأخطار شديدة وخاصة في المجتمعات المحسوبة ظلمًا على الإسلام حيث يظن كل ضالٍّ مجرم أنها هدف سهل لنزواته.

فلا شأن لهذه الآية بموضوع تعدد الزوجات، فهو باق على حكمه الأصلي الفطري وهو الإباحة، ولكن ما جاء به الإسلام هو منظومة قيمه الحاكمة على هذا الأمر ومنها العدل والقسط واحترام الحقوق والكرامة.... الخ.

وبالنسبة للرسول فقد كان مأمورا باتباع ملة إبراهيم، وهي تقول بإمكانية تعدد الزوجات، وكان له مقاصده الشرعية المعلومة من كل زيجة، وكلها كانت لخدمة الدعوة والعمل لصالح إنجاحها أو برا ببعض أتباعه أو تأليفا لقلوب الأعداء لحقن الدماء، ولذلك كانت كل زوجاته باستثناء عائشة من الأرامل أو ممن سبق لهن الزواج، ولو أراد لكان له أفضل نساء العرب وأجملهن وأشرفهن!

إن الزواج في الإسلام هو مسئولية ووظيفة دينية اجتماعية وسبيل إلى تحقيق المقاصد الدينية والوجودية، ولقد حث القرءان الرجال المسلمين على أن ينكحوا من النساء اليتامى في مجتمعهن (أي اللاتي افتقدن العائل والموارد لأي سبب من الأسباب) أو التي ترعى اليتامى، والإسلام لا يتحمل وزر من جعل شغله الشاغل حشد أكبر عدد من النساء والجواري في بيته، فأمثال هؤلاء كانوا من أكبر أسباب تقويض مقاصد الدين وصد الناس عنه.

*****

يجب الإلمام بموقف الإسلام الحقيقي من موضوع تعدد الزوجات وكذلك الإلمام بطبيعة المهام المنوطة بالرسول، ولا يجوز أبدا أن يكون المسلم في موقف الدفاع، فدين الحق متين البنيان، ولا يوجد في الإسلام ثغرات لكي يلزم الدفاع عنها!

ومن المعلوم أن مصداقية كتب السيرة محدودة جدا، وأنه لا توجد مصادر حقيقية لتتحدث عن هذه الأمور، وليس ثمة من كتاب ديني له المصداقية الكاملة إلا القرءان الكريم، ولا يجوز النظر إلى الدين بمنظار ديانة ملفقة من خرافات الشرق الأوسط القديمة.

وفي الحقيقة ترك القرءان موضوع تعدد الزوجات على ما كان عليه؛ أي تركه لظروف العصر والمصر مع التزهيد في متاع الدنيا!

وآية النساء متعلقة بأحكام اليتامى في مجتمعات لم تكن فيه أية مؤسسات لرعايتهم، ولم تكن هناك دولة لتكون مسئولة عنهم، ولا علاقة لهذه الآية بتحديد عدد الزوجات، فذلك أمر متروك لظروف الزمان وتطورات الأحوال.

وطبقا للقرءان فإن المؤمن مأمور بألا يتعلق بمتاع الدنيا القليل الفاني، وأن يعلم أن الآخرة هي خير وأبقى، لذلك فمن الأفضل له الاكتفاء بزوجة واحدة إلا للضرورة القصوى، وذلك بمقتضى وجوب تحقق المودة والرحمة بينه وبين زوجته، وبمقتضى أن الزواج ميثاق غليظ ومتطلباته عسيرة، والتعدد غير المبرر يمسّ كل ذلك بلا جدال، وكذلك بمقتضى أنه لن يستطيع أن يعدل مهما حاول.

ويجب أن يعلم المحسوب على الإسلام أنه ليس بالفرج وحده يحيا الإنسان، وأن عليه أن يكبح جماح غرائزه، وأنه لن يحقق مقاصد الدين العظمى من جعل إشباع حاجات فرجه والإسراف في ذلك أكبر همه ومبلغ علمه، والرقي على المستوى الجوهري يستلزم تخفيف التعلق بالجسم البشري الطيني.

وموضوع تعدد الزوجات هو متروك لظروف العصر والمصر ودرجة الرقي والتقدم، ومن حق السلطة القائمة أن تحدد عدد الزوجات بقانون وضعي.

والقرءان يوضح جيدا أن التعدد يمكن أن يكون أداءً لواجب اجتماعي، ومن ذلك كفالة اليتامى، وليس لمجرد العبّ من متاع الدنيا، فضلا عن أنه يوضح أن الزواج هو ميثاق غليظ تأخذه المرأة من الرجل بكل ما يعنيه ذلك.

فالزواج في القرءان هو ميثاق غليظ، أما عند سدنة المذاهب التي حلت محل الإسلام فهو عقد انتفاع ببضع، فهم أقل من مستوى الأنعام، ولم يستطيعوا أبدا أن يفقهوا معنى أن يكون الزواج مودة ورحمة، وأنه لابد من تحقق العدل والقسط فيه.

ولكن قد تستجد ظروف مثل الحروب الهائلة التي تلتهم أعدادا كبيرة من الذكور فيكون الواجب تشجيع التعدد كمهمة قومية اجتماعية دينية وليس كمجرد وسيلة لإشباع المتع الحسية، فالأمة يجب أن تكون قوية، والعدد الوفير من السكان هو دائما من أسباب زيادة ثقل الأمة.

وواجبات الرسول والمهام المنوطة به وأحوال وظروف قومه وعاداتهم والعمل على نجاح الدعوة كل ذلك كان يقتضي منه أن يعدد زوجاته، وكان الزواج من ابنة زعيم القبيلة المهزومة مثلا جبرا لخواطرهم وتأليفًا لقلوبهم وتجنبًا للمزيد من سفك الدماء، فلم يكن ذلك أبدا لشدة ولعه بالأمور الجنسية، بل كان ذلك عبئا يُضاف عليه.

*****

قال تعالى:

وَإِنْ خِفْتُمْ أَلا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلا تَعُولُوا} النساء3

إن المسلمين قد ظنوا أن الآية تلزمهم بألا يجمعوا في وقت واحد بأكثر من أربعة زوجات مع أن الآيات لا تقول بذلك، ولكن ذلك قد صار عرفًا لهم، فيجب دائما اعتباره، خاصة وأنه يتسق مع مقاصد الدين، وكذلك في وجود مجتمعات مولعة بالأمور الجنسية.

أما الأمر بالعدل بين الزوجات فهو للتأكيد ولبيان أن الأمر بالعدل أوجب في هذه الحالة، فالأمر بالعدل من أقوى الأوامر القرءانية، ولكن قد وجب هاهنا التأكيد عليه وأن من يرى أنه أعجز من أن يقوم به فعليه ألا يورط نفسه فيما يستوجب إنزال العقاب به، فالظلم هو الإثم الأكبر، وحتى لا يظن الإنسان أن ذلك تكليف بالمستحيل فقد بينت آية أخرى أنه لا حرج فيما يتعلق بالميل الخاص؛ أي بالأهواء القلبية، ولكن لا يجوز أن يترتب على ذلك إلحاق الظلم بالزوجة الأخرى.

ويجب دائما تذكر أن الإسلام هو دين لإصلاح أحوال أناس حقيقيين وليس لإصلاح أحوال الملائكة!

*****

قال تعالى:

{وَآَتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا (2) وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا (3) وَآَتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا (4) وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا (5) وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آَنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا (6)} النساء

هذه الآيات تعالج أساسا مشكلة اليتامى في مجتمع لا توجد فيه مؤسسات لرعايتهم ولا يوجد نظام للتكافل أو التضامن الاجتماعي، ولقد ضل المفسرون عن المعاني العربية والأسلوب العربي بطريقة غريبة ومريبة.

والقرءان موجه إلى قوم يفقهون ويعقلون، والنساء في جواب الشرط لابد أن لهن علاقة بالشرط ذاته، فهن النساء ذوات الصلة بموضوع اليتامى واللائي سيؤدي نكاحهن إلى تحقيق القسط بالنسبة إليهم، لذلك فهي تشمل أمهاتهن أو من بلغن درجة النساء من البنات اليتامى، وفحوى الآية يبين أن النكاح يكون للنساء فقط، وليس للبنات غير البالغات.

والقرءان يعبر بأقل عدد من الكلمات عن القدر الأكبر من المعاني، لذلك قال "فإن خفتم" فالحث على نكاح أكثر من واحدة هو هاهنا خاص بما يتعلق بقضية اليتامى.

ومن يتزوج أم اليتامى يصبح بمثابة أبٍ لهم، ويكون ملزما بأن يقسط إليهم، وبذلك يحقق الشرط المذكور في الآية، فإن لم يستطع أن يعدل –العدل هنا هو بين النساء بصفة عامة وليس بين النساء من أمهات اليتامى بصفة خاصة- فليكتف بواحدة أو بما ملكت يمينه.

ولا يوجد في القرءان نص قطعي محكم مطلق غير مشروط يتعرض لموضوع التعدد أو ينهى عنه، وإنما التعدد هو ما يقتضيه فحوى خطاب آيات منها تلك الموجهة إلى الرسول، فحكمه على ما هو عليه، وهو الإباحة مع اعتبار العرف، لذلك فالآيات تحث الناس على استعمال ذلك لحل مشكلة اليتامى، وهذا يتضمن أن يكون النكاح وظيفة اجتماعية، وليس استكثارا مما زُيِّن لهم من الشهوات.

والآية الثانية تنهى عن أكل أموال اليتامى ظلما، فلا يجوز أن يتبدل المؤمن الخبيث بالطيب، بل يجب عليه أن يتمسك بالطيب، وهو ما يحل عنه، وأن ينتهي عن الخبيث، وهو ما يحرم عليه، وأكل أموال اليتامى ظلما هو حوب كبير، ومن يحوب حوبا يكتسب إثما، والإثم محرم ومنهي عنه.

والآية الثالثة تتضمن شرطًا وجوابه، والتفسيرات التقليدية تتجاهل تماما وجود الشرط، وتطلق الجواب، والشرط هو الخوف من ألا يقسطوا في اليتامى، ذلك لأنه أثناء الجهاد كان المقتول في سبيل الله تعالى يترك أزواجه وأطفاله اليتامى بلا عائل مما يعرضهم لذل الحاجة ولافتقاد الأمن الأسري، وفي ذلك ظلم لهم وجور عليهم، فالآية تتضمن حثًّا للناس على أن ينكحوا ما طاب لهم من هؤلاء النساء بشرط العدل، فالآية ليست نصا في مشروعية النكاح، فهو من سنن الفطرة وليست نصا لإباحة تعدد الأزواج، فلقد كان مباحا في ملة إبراهيم، وهو لم ينسخ ولم يبدل.

كذلك ليست الآية أمرًا بوجوب تعدد الأزواج، ولقد استنبطوا من التوقف عند (رباع) أن ذلك هو العدد الشرعي للزوجات الذي يجب ألا يزاد عليه وألزم الناس بذلك من حيث أنه قد أنيط به الضبط النهائي لبعض التشريعات.

فالرابط بين الشرط وجوابه أن يكون النساء المأمور بنكاحهن من اليتامى أو من راعيات اليتامى أي من اللاتي توفى عنهن آباؤهن أو أزواجهن تاركين أولادهم وبناتهم وإياهن للأمة في بيئة لا توفر رزقاً أو عملا للنساء، ولقد أدرك المسلمون بإرشاد الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ أن التوقف عند (رباع) يعني أن هذا هو الحد الأقصى المسموح به للجمع بين النساء بصفة عامة وليس فقط في تلك الحالة الخاصة، وبذلك التزموا ولا جناح عليهم في ذلك إذ هم منهيون عن الإسراف في كل ما يتعلق بمتاع الدنيا.

أما تعدد الزوجات فقد كان أمرا مباحا في ملة إبراهيم والأنبياء من بعده، والآيات القرءانية لم تتعرض لهذا الأمر، فهو أمر مسكوت عنه ومتروك لظروف وأحوال كل عصر ومصر، ولم يأت نص يتضمن أمرا مطلقا غير مشروط للرجل بأن يتزوج حتى أربعة نساء، وكل ما أحدثه الناس في مثل هذه الأمر لا علاقة ضرورية لها بالإسلام وإنما لها علاقة بأحوال وظروف الناس ودرجة تطورهم.

وليس من حق أحد أن يلغي مدلول الشرط ولا مدلول الأمر المشروط، بل إن كل الناس ملزمون باتباع هذا الكتاب الذي أنزل إليهم من ربهم، وكل قول منسوب إلى أحد عباده مهما عظم شأنه هو ابتلاء للناس تقام به الحجة على المشركين منهم وهم أكثرهم.

والآيتان الثانية والثالثة تقدمان أيضا حلًا لمشكلة يتامى النساء اللاتي لديهن أموال أو غير ذلك ويخشى أن يتعرضن للظلم على أيدي أوليائهن فلقد شرع للمسلمين أن يتزوجوا منهن مع الالتزام بالحد الأقصى المبين.

والآيات هنا تتحدث بالأصالة عن حقوق اليتامى وليس عن حقوق الرجال في اقتناء النساء.

وكما قلنا فالآية لم تتعرض لموضوع تعدد الزوجات، وإنما تحث على تعدد مشروط، أما التعدد بغير الشرط المذكور فهو أمر متروك لظروف التطور، وأحوال العصر والمصر، ولأولي الأمر أن يسنوا من القوانين ما يحقق الصالح في هذا الأمر.

فالحث على التعدد إنما هو لعلاج مشكلة اليتامى، أما بصفة عامة فيجب التحفظ في التعدد خشية اقتراف ظلم أو جور.

ولقد بينت آيات واردة في سورة آل عمران بما لا يدع مجالا للشك أن ثمة ما هو أفضل من شهوات الدنيا المزيَّنة للإنسان كالنساء مثلا، ولقد ذكرت الآيات منها التقوى والأيمان والصبر والصدق والقنوت وإنفاق المال والاستغفار بالأسحار، قال تعالى:

{زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآَبِ (14) قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (15) الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آَمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (16) الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ (17)} آل عمران

وكل ذلك يبين أنه على المسلم ألا يجعل شغله الشاغل شهوة النساء حتى لو كان ذلك عن طريق النكاح المباح، فالإنسان مأمور بألا يسرف، فعليه ألا يجعل الدنيا ومتاعها القليل أكبر همه أو مبلغ علمه، ولو كان للقيم العليا والمشاعر الوجدانية السامية وعشق الكمال السيطرة على كيان الإنسان لما تضخم عنده أمر شهوات الفروج ولما انشغلوا بها هذا الانشغال المَرَضي الذي اشتهرت به الحضارة العربية، ولما أصبح المحسوبون على الإسلام من السلف والخلف من المهووسين بالأمور الحسية والجنسية.

ولم يتعرض القرءان لموضوع مدة الزواج، فهو أمر متروك للزوجين، والأصل في الزواج المودة والرحمة، وهذا ما يوجب استمراره، وإلا فإن الأمر مفوض لأولي الأمر الشرعيين وللعرف السائد، وقاعدة أن العقد شريعة المتعاقدين، وهذا الحكم سارٍ أيضا في موضوع العدد، فمن حق الزوجة أن تشترط في عقد الزواج –وهو ميثاق غليظ- ألا ينكح عليها امرأة أخرى إلا بإذنٍ منها، فحقه في النكاح ليس حقا مطلقا.

والزواج في الإسلام وظيفة اجتماعية ومسئولية في مجتمعات كان الأبناء يتشردون إذا فقدوا عائلهم ولم يكن للنساء بحكم التقاليد أي مورد للرزق عن طريق العمل ولم يكن هناك دولة ومؤسسات اجتماعية

وبالنسبة لليتامى لا يتحقق الإقساط بمجرد رعايتهم عن بعد، فهم لابد أن ينشؤوا في أسرة لها عائل حقيقي خاصة في المجتمعات القديمة الآبائية الذكورية.

ولا شك أن الزواج من أم اليتامى يحصنها ويحميها من الوقوع في الفاحشة، ويوفر مأوى آمن للأولاد اليتامى ويكفل لهم تربية آمنة وسليمة في أسرة طبيعية فيها أب وأم، فيوفر لهم الرعاية المتكاملة.

*****

القرءان لم يتعرض لمسألة عدد الزوجات وتركه على أصله، وإنما حثَّ القادرين على التزوج من يتامى النساء ومن الأرامل، والمقصود بمصطلح "ما ملكت أيمانكم" الإماء في حالة وجود نظام الرقيق.

والعبارة القرءانية "مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ" لا تعني بالضرورة التوقف عند أربعة! وإنما هذا ما ظنه الناس!

أما زيجات الرسول فكانت لخدمة أغراض الدعوة، وكما قال القرءان قد كان هناك من هن خير منهن، والعدد الذي اجتمع عنده لم يرد إلا عن طريق السيرة المشكوك فيها.

وعدد الزوجات مفوض لتقدير أولي الأمر الحقيقيين والأعراف ولكل فرد، فأنت لا تستطيع وليس لك أن تخالف العرف في هذه المسألة طالما استقر في أذهان الناس هذا التحديد.

ولكن يجوز الزيادة إذا نشبت حروب أكلت عددا من الرجال يخل بتوازن الأمة.

إن الزواج بقدر ما هو لازم لتلبية الاحتياجات الفطرية للإنسان هو وظيفة اجتماعية، وهو محكوم بمنظومة القيم الإسلامية، ومن أركان تلك المنظومة الحكمة والرحمة والحكم بالعدل والقيام بالقسط

فتعدد الزوجات لا يجوز أن يكون لمجرد تلبية النزعات الذكورية والشهوانية.

لكل ذلك فلأولي أمر الأمة أن يضعوا ما يلزم من الضوابط للحفاظ على سلامة الأمة وتماسكها ولإحقاق الحق والقضاء على الجوز والظلم.

*******

1

bottom of page