top of page

السبع المثاني

المثنى المُقتضَى

كل اسمٍ إلهي يشير بالأصالة إلى سمة إلهية، ولكل اسم إلهي أيضًا معانٍ مقتضاة في العالم الأمري، فالاسم "العليم" مثلا" يقتضي "العلم" كمعنى في العالم الأمري، هذا المعنى له تمثلاته وتجلياته ومظاهره التي لا حصر لها، ومنها ما يمكن أن يكون من تفاصيل الحقيقة الإنسانية، لذلك ما من إنسانٍ إلا وهو يعلم شيئًا ما.

وآثار سمة العلم قد تظهر على مخلوق فيتصف بذلك بكونه عالما بقدر طاقته وما لديه من العلم، فهذه صفة مقتضاة، وخاصة بهذا المخلوق، وهي بالطبع ليست عين السمة الإلهية، وإنما هي من آثارها، وتشير إليها.

والكائن يوصف بالأسماء الرحمية الواصفة (المشتقات) التي تشير إلى اسم المعنى، ولا يوصف باسم المعنى ذاته، إلا على سبيل المبالغة، فالإنسان الذي لديه علمٌ ما يوصف بأنه عالم، ولا يوصف بأنه علْم.

فمن المعلوم أن المخلوق يمكن أن يكون متصفًا بصفة تشترك من الناحية اللفظية مع السمة (الصفة) الإلهية، فالإنسان سميع بصير، والله تعالى سميع بصير، هذا مع الفارق اللانهائي بين الصفتين، فالصفة الإلهية واجبة ذاتية لانهائية تامة مطلقة، بينما الصفة التي للمخلوق هي محدودة مقيدة ناقصة، ولكن لولا ظهور المخلوق بالصفة المخلوقة لما عرف الإنسان شيئا عن الصفة (السمة) الإلهية.

فالرسول مثلا كما وصفه ربه "رؤوف رحيم"، والله تعالى هو الرؤوف الرحيم، فكون الرسول رؤوفًا رحيما هو من أثر الاسم الإلهي الرؤوف الرحيم، فالله تعالى هو المصدر الأوحد لكل حسن وكمال في الوجود، ولكي يفقه الإنسان شيئًا عن الرأفة والرحمة الإلهية فإنه يطالع آثارهما في المخلوقات الإلهية.

والإنسان جعله الله سميعًا بصيرا، والله تعالى سميع بصير، ولكن السمة الإلهية ذاتية أصلية بينما الصفة البشرية مجعولة، وهي تشير إلى السمة الإلهية، وتبيِّن شيئا من آثارها.

ولكل مثنى إلهي معانٍ مقتضاة في العالم الأمري، والمثنى المقتضى هو أثر المثنى الإلهي في الكيان المخلوق، فمن ظهر بآثار مثنى من المثاني الإلهية يُقال إنه متصف بهذا المثنى.

وبالطبع فالفرق هائل بين السمة الإلهية التي يشير إليها المثنى الإلهي وبين الصفة البشرية التي يتصف بها الإنسان، فللسمة الإلهية الوجوب والأصالة والعلو والتعالي المطلق فوق المكان والزمان والأكوان والتصورات والمفاهيم، بينما الصفة البشرية محدودة مقيدة وهي من آثار أسماء ربه الذي خلقه.

ومن وسائل التعبير عن هذا الفارق أن يكون الاسم المشير إلى السمة الإلهية معرَّفا ويُستعمل كعلَم على الذات الإلهية، أما الاسم الخاص بالإنسان فيكون عادة نكرة، فيقال مثلا إن هذا الإنسان سميع، ولا يُقال إن هذا الإنسان هو السميع، ويُقال إنه عالم، ولا يُقال إنه هو العليم.

فالمثاني مثلها مثل الأسماء المفردة التي قد يوصف بها الإنسان أو تعبر عنه من حيث ما لديه من ملكات وحواس، مثل: سميع، بصير، عالم، حكيم، قوي، عزيز، شهيد، .....، والفرق بين المثاني وبين هذه الأسماء المفردة أن المثنى يتضمن لفظين، كل واحدٍ منهما مثله مثل الأسماء المفردة، ولكنهما يجب أن يظلا ملتصقين للتعبير عن معنى المثنى، فالمعنى لا يمكن التعبير عنه بمجرد الجمع البسيط لمعنيي اللفظين، مثال: رؤوف رحيم أكبر في المعنى من رؤوف ورحيم أو رؤوف + رحيم.

وإيتاء أي إنسان مثنى من المثاني يعني إكسابه الصفة الخلقية أو الأمرية التي هي أثر السمة الإلهية، فمن أوتي مثلا المثنى "غني كريم" لابد أن يتصف بالصفة التي تفصيلها الغنى والكرم مع تقدم الغنى، وستكون أفعاله معبرة عن ذلك مصدقة لذلك ومظهرة لذلك، وستعمل آثار أعماله التي صدرت عنه بمقتضى هذه الصفة على زيادة قوتها في نفسه.

ولما كان لكل اسم إلهي آلاته وأدواته من الملائكة والجنود فإن هؤلاء ينجذبون إلى من ظهرت فيه آثار السمة الإلهية ويعملون لصالحه وفي اتجاه دعم وترسيخ الصفة في كيانه، وجنود الأسماء مشار إليهم في آياتٍ مثل:

{هُوَ الَّذِي أَنزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَّعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا} [الفتح:4]، {لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَكَانَ ذَلِكَ عِنْدَ اللَّهِ فَوْزًا عَظِيمًا (5) وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (6) وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (7)} الفتح.

ويُلاحظ أن الآيات قد بينت مهام الجنود في كل حالة.

*******

إن إيتاء المثاني المقتضاة إنما يكون بعد تعين الحقيقة الإنسانية والإنية، بحيث يمكن أن يُخاطب الإنسان ككائن مستقل، فهو بمثابة إضافة إلى الماهية الأولية، لا يُغير من الإنية، لذلك هو يكون لمن سبق وجود نفوسهم وجودهم في الدنيا.

وإذا كان لإنسان أكثر من مثنى فهذه المثاني هي في الحقيقة لوازم وتفاصيل اسمٍ أعظم خاصّ بهذا الإنسان، وفي ذلك إشارة إلى أنه سيكون منوطًا به أداء وإنجاز عمل أو أكثر من عملٍ هام.

إن لبعض الأسماء الإلهية حواس وملكات في الكيان الإنساني، فالاسم "السميع البصير" يقتضي حاسة السمع، والاسم السميع يقتضي ملكة الاستجابة.

فإيتاء الإنسان مثنى من المثاني يعني تزويد كيانه الجوهري بحاسة أو ملكة إضافية، تمكنه من إدراك نوع معين من الكيانات والتعامل معها.

مثال:

إيتاء إنسان ما المثنى "العليم الحكيم" يعني تزويده بملكة تجعله يدرك الأمر المحكم وراء التفاصيل الظاهرة أو المحتجب بالتفاصيل الظاهرة، فالإنسان يزود بتلك الملكة بمجرد ظهور نفسه، ثم توقظها وتنميها المشاهدات والخبرات.

أما إيتاء إنسانٍ ما المثنى "الحكيم العليم" فيعني تزويده بملكة تجعله يدرك الأمر المحكم قبل وأثناء تفصيله، فلا ينشغل عنه بالتفاصيل الظاهرة، بل هو لا يعبأ كثيرا بالتفاصيل، وهو لذلك قادر على استخلاص أكبر قدر من التفاصيل من الأمر المحكم، ذلك لأنه لا ينشغل عن الأمر المحكم بأي تفصيل من تفصيلاته.

*******

إن من خصائص الرسول أنه أوتي سَبْعًا مِّنَ الْمَثَانِي، وَأوتي الْقرءان الْعَظِيم، قال تعالى:

{وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِّنَ الْمَثَانِي وَالْقرءان الْعَظِيم} [الحجر:87]

فهذا الإيتاء أمرٌ خاصّ، وفي الآية إشارة إلى أن المصطفين الأخيار قد يؤتون بعض المثاني، وبعض سور القرءان.

ولخاتم النبيين النصيب الأوفر من ذلك، فلقد أوتي القرءان العظيم كله في مرتبته الذاتية، والمتضمنة لكل المراتب الأخرى.

وبهذا الإيتاء كان لديه الاستعداد لتلقي القرءان واستقباله منَزَّلا ومنْزلا، وكان لديه الملكات اللازمة لتبيينه وتعليم الناس وتزكيتهم به.

*******

1

bottom of page