top of page

ثورة يناير (مجموعة قصصية)

1عائلة ماركسية

نشأ سامي في واحدة من أشد المناطق العشوائية فقرا، بمجرد أن تعلم كيف يمشي أطلقه والداه في الحارة يتربى فيها ويكتسب شتى الخبرات والمهارات كما فعلوا من قبل بأخيه الأكبر منه، كانوا يقيمون في حجرة صغيرة في بيت متهالك توجد به دورة مياه واحدة، وكان الإلقاء بالأبناء في الشارع هو الحل الأمثل لأكثر مشاكلهم.

تعلم من أطفال الشوارع كل مفاسد الأخلاق والموبقات، كان أبوه يعمل في أحد المصانع القريبة، وكانت أمه تعمل بائعة خضر في السوق المجاورة، كان أبوه المتفرعن مثالًا للانحطاط وسوء الخلق، كانت الفترة التي يقضيها في المنزل جحيما لا يطاق؛ صياح وصراخ ومشادات كانت تنتهي عادة بأن تتلقى الأم ضربًا مبرحا على يد الوالد الشرس الذي لم يكن يلقي بالًا لصراخ الطفلين وعويلهما بل ربما تلقى أحدهم ركلة ألقته بعيدا أثناء الشجار، أما الجيران فقد تعودوا على هذا السيناريو اليومي ولم يعد يثير فضولهم ولا يستدعي تدخلهم.

وما إن يحل الليل إلا وينطلق الوالد من البيت بعد أن يكون قد ملأ جوفه مما تيسر من المأكولات الشعبية وأتبعها بكوب من الشاي الأسود، كان والده إما أن يذهب إلى بيت أحد الأصدقاء الذي يماثله في طباعه حيث يسهرون ليتعاطوا ما تيسر من المخدرات أو يذهب إلى أحد المقاهي الصغيرة ليقتل وقته مع زملائه في الدردشة ولعب الطاولة وتعاطي المخدرات أيضا.

كانت تحدث بين الحين والآخر مشاجرات في القهوة وفي غيرها، كانت هذه فرصته دائمًا ليفك عقده ويثبت ذاته، كانت المشاجرات تنتهي دائمًا لصالحه، كان يتباهى بذلك أمام ابنيه ويحثهم على أن يكونوا رجالًا مثله.

شهد ابناه بالفعل مشاجرات عديدة انتهت باندحار خصومه، كان هذا موضع فخر لهما ونقطة مضيئة في حياتهما المظلمة الكئيبة، مضت حياتهم على هذا المنوال.

كان الولد قد التحق بالمدرسة الابتدائية التي سبق أن طُرِد منها أخوه الأكبر (غانم) لسوء خلقه وعدم انتظامه وفشله المستمر، لم يبال أبوه بذلك بل سعد به، كان ينظر إلى الولد كوسيلة لتحصيل الكسب السريع لتحسين أحواله المعيشية.

ألحقه بالعمل بإحدى الورش التي كان يعمل بها أحد أصدقائه، كان الوالد بالطبع يستولي على كل أمواله، كان هو يخشى مصير أخيه، لقد لمس عن كثب أحواله الكئيبة المضنية، حاول أخوه الأكبر ذات مرة أن يطالب بشيء من حقوقه فكان نصيبه علقة ساخنة كادت تنسيه اسمه، انطوى على نفسه ولاذ بصمت مطبق، خوفًا من مصير أخيه تشبث بالمدرسة كطوق نجاة.

فوجئ بأنه أشد التلاميذ بؤسًا في المدرسة البائسة وأقذرهم من حيث المظهر، حاولت إدارة المدرسة التخلص منه ولكن دون جدوى، لقد كان حريصا على ألا يقترف أي خطأ وألا يستجيب لأي استفزاز فضلًا عن أدائه كل الواجبات وكل ما يوكل إليه من أعمال.

لقد أدرك من مخالطة زملائه مدى ما كان عليه من سفالة وانحطاط، أخجلته الأخلاق والطباع السيئة التي تشبع بها من صحبته لأبناء الشارع، لذلك كان شديد الحرص في كل سلوكه وتصرفاته، تمكن بسرعة من تهذيب سلوكه.

تحول ازدراء المدرسين له إلى العطف والمساندة، ورغم أنه لم يكن ذا إمكانيات ذهنية عالية بل كان متوسط الذكاء فقد عوض ذلك بالجهد والمثابرة والتركيز الشديد، أخذ يحصل على درجات عالية في المدرسة، كان يأتي بالشهادة ليريها لوالديه فكان يجد الفرحة في عين أمه فقط بينما لا يكترث بها والده، لم يجد أي تغيُّر في معاملته له، لم يسمع منه أبدًا كلمة تشجيع أو إشادة، كانت الإشادة دائمًا بأخيه الأكبر الذي أصبح من ممولي الأسرة.

كان يتلقى من والده من حين لآخر وبطريقة عشوائية قسطًا وافرًا من التقريع والتوبيخ وكأنه عبء ثقيل لا قبل للأسرة بتحمله، هذا رغم أنه كان لا يأكل إلا قليلا ولا يطالب لنفسه بأية ملابس جديدة، ضاعف ذلك من شعوره بالقهر والظلم.

أما الأم فلقد أصبح هو فتاها المدلل، لقد كان في الحقيقة ابن أمه كما كان يلقبه أبوه، كان شبيها بها في جسمها الضئيل وملامحها، بينما كان أخوه غانم أشبه بأبيه في طول قامته ومتانة بنيانه.

كانت أمه تحب أن تسمع منه أخبار تفوقه وتستزيده منها، قرر أن يعلمها القراءة والكتابة، قبلت بكل سرور وأريحية أن تتتلمذ على ابنها، ملأ حياتها الكئيبة المظلمة بهجة وأنسًا وسرورًا، ذهبت بها الآمال إلى أبعد ما يمكن أن يخطر ببال أحد، أصبحت تترقب بكل شوق عودته إلى المنزل من المدرسة لتتفانى في خدمته وتتفنن في إعداد أصناف الطعام المفضلة عنده، هذا رغم أنه كان يأكل ما يقيم بالكاد أوده حتى لا يثقل عليهم.

كانت حريصة على أن تسمع منه بالتفصيل ماذا فعل في المدرسة، عرفت كل أسماء المدرسين والمدرسات الذين حدثها عنهم، كان ينقل إليها ثناءهم المستمر عليه، أصبحت تختلس من أموال البيت ما تستطيع لكي تنفحه به، ولتحفظ له كرامته أمام زملائه.

أما والده فاستمر سادرًا في غيه، إن حاجته إلى المزيد من المخدرات أخذت تتزايد، ومما ضاعف من المشكلة الارتفاع المستمر لأسعارها، أخذ يدبر لأمر جديد.

ذات مرة سمع أباه يصارح أمه برغبته في إلحاقه بالعمل معه في المصنع؛ هم الآن في حاجة إلى عامل صغير ولن يرفضوا له طلبا، إنها فرصة قد لا تعوض.

تملكه الهلع والرعب، لم يكن يقوى على مواجهة والده، وهو لا يستطيع أن يتحمل علقة ساخنة مثل التي نالها من قبل أخوه الأكبر؛ فهو أضعف منه بكثير جسما، ولكن لم يكن أمامه حل إلا الدفاع عن مستقبله، إنه مقبل على امتحان الشهادة الإعدادية، جابهه أبوه برغبته، حاول انتقاء أفضل ما لديه من الألفاظ ليرفض بلباقة.

كان لعباراته المنتقاة بعناية تأثير مدمر على أبيه، لقد ظن أنه يتعالى عليه ويسخر منه، انهال عليه ضربا بيديه ورجليه، اشتد إحساس الولد بالقهر والظلم، كانت قد تولدت لديه كراهية مريرة للظلم، كان قد تعلم من جوّ المدرسة النظيف إحساسا بقيمة الكرامة، لم يكن قد تعلم بعد أن يضبط مشاعره، صمم على ألا يبكي أو يصرخ.

لمح والده في عينيه نظرة استهانة وتحدٍّ وإصرار لا عهد له بها، أثاره ذلك أكثر وأكثر، انهال عليه ضربا من جديد فتهاوى.

تلقت أمه نصيبًا وافرا من الضربات الساحقة وهي تحاول أن تدافع عنه، أدركت بغريزتها أن الأمر خطر؛ إنه من الممكن أن يقتله، أن يقتل شعاع الأمل الذي أضاء حياتها وأعطاها معنى والذي سينقذها من حياة الذل والفقر، ولكن لا مفرّ، لقد جنّ جنون زوجها وركبه شيطان مريد.

رأت شبح الموت يحلق في المكان فقررت أن تتلقاه هي بالنيابة عن فلذة كبدها، لا معنى للحياة عندها بدون ولدها، لم تكن تتصور أن تعيش من بعد بدونه أو أن تتحمل آلام فقدانه، لم تتردد، اختارت مصيرها، ألقت بجسدها عليه واستسلمت لقدرها، جُنَّ جنون الرجل فأخذ يضاعف لها الركلات بكل قوة لتصل إليه هو، ولكنه لم يستطع أن ينتزعها من فوقه إلا من بعد أن أصبحت جثة هامدة.

علا صراخ الولد عندما أدرك حقيقة ما حدث، ذُهل الوالد وغُلِب على أمره.

كان صراخ الولد العالي والجنوني والمتصل قد استدعى كل الجيران الذين أدركوا أن أمرًا جللًا قد حدث هذه المرة، حاول الوالد الهرب، فلم يستطع، أحاطوا به وتكاثروا عليه، بدأ يضرب فيهم بعشوائية، اشتد بهم الغضب، إنه لو كان في ظروف عادية لربما استطاع أن يتصدى لهم كلهم، ولكنه هو نفسه كان شبه منهار، أوسعوه ضربا، كان الولد يراقب ما يجري في ذهول، التقت عيناه بعيني أبيه للحظة!

خُيِّـل إليه وكأنه يستنجد به، صرخ لمرة واحدة وربما لأول مرة منذ فجر طفولته "بابا".

حاول أن يخترق أجسادهم إليه، ولكن ما ذا يفعل العود النحيل الطري وسط تلك الأجسام السميكة الصلبة، تهاوى الرجل تحت أقدامهم، ربما كانت هذه أول مرة يتلقى فيها مثل هذه الهزيمة المهينة، ذُهِل الولد وأخذ يصرخ في جنون.

احتضنته إحدى جاراتهم وذهبت به بعيدا، كان مظهر أبيه المهزوم المقهور المخضب بالدماء لا يقل سوءًا عن مظهر أمه الصريعة، سلَّم الرجال والده إلى الشرطة.

رغم العلاقة شديدة التعقيد بينه وبين والده فقد اكتشف أنه كان يحبه حبًّا جما، ربما لم يدرك ذلك إلا في هذه اللحظة، كان يباهي الآخرين بقوته التي حُرِم هو من مثلها بين أقرانه، كان يقنع نفسه بأن أباه يحبهم أيضًا حبا جمّا، وأنه ليس إلا ضحية لسوء خلقه وإدمانه، وقبل ذلك للفقر الرهيب المدقع.

ولكن الخوف الرهيب من المستقبل يكاد يفتك الآن به، لقد انهار كل شيء في لحظة عابرة.

1

bottom of page