top of page

خلاصة الموقف من المرويات

خلاصة مركزة للموقف من المرويات

1.من الثابت أنه كان ثمة نهيٌ صارم في العصر النبوي عن كتابةِ أي شيء إلا القرءان، وبذلك التزم الخلفاءُ الراشدون وخيرُ القرون من المسلمين، وقد تصدوا بقوةٍ وحزم لكل من حاول أن يجعل كتابا في الدين مع كتاب الله تعالى، وحقائقُ التاريخِ الدامغة تقول بذلك، ولقد التزم المسلمون بالنهي النبوي طوالَ أكثرِ من قرنين، ولم يجرؤ أحد على مخالفته، إلا محاولة من عمر بن عبد العزيز لم تكتمل، ولذلك لا يوجدُ أي كتاب موثق (مثل القرءان الكريم) معتمدٌ يتضمنُ أقوالَ الرسول أو سيرتَه ويكون مجمعا عليه، ولا يمكن لأعتى شيطان مريد أن يجادلَ جدالا حقيقيا في شيء من هذا أبدا.

2.الشرطُ الشرعي المقررُ للإلزام في أي أمر من أمور الحياة كالتداين مثلا هو وجود وثيقة مكتوبة بحضور شهود حقيقيين عدول، والإلزامُ في المجال الديني أشد خطورةً بكثير خاصة وأن الرسالة المحمدية هي الرسالة الخاتِمة، والله تعالى يرسل رسله مزودين بالبينات والحجج والبراهين وبسلطان مبين لكيلا يكون للناس عليه حجة، ولا توجد أيةُ وثيقة حقيقية تنصّ على أقوال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ، والمقصود بالوثيقة القولُ المنسوب إليه موقعا عليه من الشهود الحقيقيين بأمرٍ من سلطة شرعية وباعتماد منها.

3.الرسول كان ملزما ومأمورا بالبلاغ المبين بحكم أنه رسول، ولذلك كان يجب أن تصلَ كل أوامر الدين لكافة المسلمين إما في كتب موثقة وإما بالتواتر الحقيقي المانع لأي اختلاف، وإقرارُ جامعي المرويات أن أكثر مروياتهم آحادية وأنهم كانوا يضربون أكباد الإبل ليحصلوا على بعضها عند واحد في أقصى الأرض يُدينهم ويُقيم الحجج عليهم، فالإسلام ليس ديانةً سرية، وعملهم هذا يجعل ما جمعوه آثاراً تاريخية وليس أحكاما دينية ملزمةً للعالمين!

4.النبي الخاتم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ لم يكن ينطق عن الهوى، وكذلك كل النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، ولكنه لم يكن مجرد جهاز استقبال بل كان إنسانًا كاملا يجتهد كما أمره ربه، ولم يكن ينتظر وحيا في كل أمرٍ يُعرض عليه أو قضية يُطلب منه الحكم فيها، بل كان يحكم وفق الأسس والقيم القرءانية، وبالنظر فيما هو متوفر من الأدلة وشهادات الشهود، وقضية اليهودي الذي اتهموه ظلما بالسرقة فنزلت تسع آيات تبرئ ساحته معلومة، ومنها: 

{وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا (113)} النساء، 

والرسول بالطبع لم يكن ينطق بالضرورة بما سينسبه إليه بعض الناس في القرن الثالث الهجري.

5.الإسلامُ لم يبدأْ من الصفر في العصر النبوي؛ ذلك ظن الذين كفروا، ولكن الرسالة المحمدية كانت تتويجًا لرسالات الأنبياء السابقين التي تتضمن أوامر بالإيمان بالله وحده وبإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة والصيام والركوع والسجود والتوبة والتقوى والاستغفار والشكر لله....الخ، والرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ كان مأمورا في القرءان باتباع ملة ابيه إبراهيم عليه السلام، وبعض كيفيات أداء بعض العبادات كالصلاة والحج ترجع إلى هذه الملة، وقد تم إجراء بعض التعديلات فيها بالرسالة المحمدية، ولقد انتقلت العباداتُ العملية بالتواتر العملي المجتمعي الجماهيري، فلقد أدَّاها مع الرسول عشرات الألوف نقلوها إلى مئات الألوف، نقلوها إلى ملايين، ودونها أئمة "الفقه" قبل مولدِ جامعي الآثار والمرويات، ولم يكن للمتسلطين أية مصلحة في المخاطرة بتحريف كيفيات الصلاة ولم يرو التاريخ أن أحدًا منهم حاول ذلك إلا ما كان من فعل بعض مجرمي الأمويين، وقد تصدَّت الأمة لهم في حينه، بل كان للمتسلطين مصلحةٌ مؤكدة في حمل الناس على الغلو في أمر العبادات العملية وتوثينها وحث الناس على تفريعها والتفنن في تفصيل حركاتها وشغل أنفسهم بها، وكانوا يقولون عندما يسمعون عن أحد الصالحين أنه انشغل بأمور العبادات التقليدية: "نِعْم ما شغل به نفسه"، أما القرءان فقد تضمن علومًا وأوامر جديدة بخصوص العبادات.

6.لا يمكن إلزام العالمين إلى يوم الدين بتراث شفهي ظل ملقى على قارعة الطريق لأكثر من مائتي سنة يضع فيه من يضع ويحرِّف فيه من يحرف ويدلس فيه من يدلس، خاصة وأنه قد عصفت بالأمة فيها فتن مظلمة مدلهمة وكان هناك الكثيرون ممن يكيدون لهذا الدين، كان هناك المنافقون والموتورون والمتآمرون من أهل الكتاب، وكان هناك فئات تتصارع وتريد أقوالا دينية تجتذب بها الأنصار، بل كان هناك تجارٌ يريدون الترويج لبضاعتهم، وكان هناك أيضًا بعض من أراد جذب الناس لأداء بعض العبادات بالتفنن والمبالغة في وصف ثوابها من النعيم وعدد الحور العين!! وقبل كل ذلك كان هناك الشيطان الرجيم الذي كان يسخر جنوده للإلقاء في التراث الديني وتحريفه، فلم يرد أي نص على أنه اعتزل العمل بعد نزول الرسالة الخاتمة.

7.من الثابت أنه لأسباب لا مجال لذكرها الآن أن الوضع والتحريف في المرويات كان هو القاعدة، وأن وجود مروية صحيحة كان هو الاستثناءَ النادر، فكان الموضوعُ والمحرف من المرويات حوالي مائة ضعف الصحيح منها كما أقر الجامعون بذلك، ولقد قال البخاري إنه كان يحفظ حوالي 600000 مروية لم يصحح منها إلا حوالي 6000، أي أن النسبة 1%، ورُوي كلام مماثل عن غيره، وبذلك يثبت أن الوضع والتحريف كان هو الأصل، وأن الصحيح من المرويات هو الاستثناء.

8.ومن الثابت أيضا أن موضوع السند نفسه ومعه كل ما يتعلق به لم ينشأ إلا بعد حدوث الفتن.

9.لا يجوز القذف بأي قول يحاول أن يلقي في روع الناس أن تدوين المرويات كان كتدوين القرءان كأن يقول أحد المدلسين الكذابين إن من جمع هذا هو من جمع ذاك، فمثل هذا الزعم لا قيمة له أصلا، وهو يحاول أن يضع الأمة على حافة الهاوية: إما أن تؤمنوا بكتب المرويات، وإما أن تكفروا معها بالقرءان!!

10.القول بصحة مروية يعتمد على خلف في المنطق؛ أي مخالفة منطقية A logical fallacy، هي الدور أو الاستدلال الدائري Circular reasoning، والدور في المنطق هو توقف الشيء على ما يتوقف عليه، ويسمى الدور المصرح، وفيه يتوقف "أ" على "ب" وبالعكس، وهو خُلف أو مغالطة أو استدلال خاطئ، وأوضح الأمثلة عليه تعريف الصحابي وصحة المروية، فهم يثبتون كون فلان من الصحابة بورود ذلك في مروية صحيحة، ولكن لكي تكون المروية صحيحة يجب أن يكون راويها صحابيا!! ولا ينطلي مثل ذلك إلا على من يؤمن مسبقا بالمقدمة، وبالنتيجة أيضا!!

11.ولقد ظهر فجأة بعض العجم في أزمنة متقاربة في القرن الثالث الهجري وأسندوا إلى أنفسهم –دون تكليف من سلطة دينية رسمية- مهمةَ جمع ما هو متداول من آثار وتمحيصها وفق معايير وضعوها بأنفسهم وطبقوها بأنفسهم في إطار مذهبهم، ولم يقم بذلك مثلا أحد من عرب المدينة الذين كانوا بالتأكيد أعلم بالآثار من هؤلاء العجم بحكم أنهم أحفاد من رووها، أما نتائج عمل هؤلاء فلم تعتمدها من بعد أية سلطة رسمية، ولا يجوز القول بأن الأمة قد تلقت عملهم بالقبول، ذلك لأن الأمة كانت قد تمزَّقت من قبل، وكان المحسوبون على الإسلام قد فَرَّقُوا دِينَهُمْ وأصبحوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ، وعامة الناس لم يكن لهم أي شأن بعمل هؤلاء الرواة.

12.لا توجد نسخ أصلية لكتب المرويات، ولا يوجد حتى ما يثبت أن الكتب المتداولة الآن منسوخة عن النسخ الأصلية التي كتبها جامعو المرويات، بل ثمة ما يثبت عكس ذلك، أما من يسمونهم بأصحاب الشأن، ولم يعينهم أحد أصحابا للشأن فهم لم يُجمعوا أبدًا على تلقي هذه المرويات بالقبول، كما أنه ليس من حق أتباع مذهب واحد أن يزعموا أنهم الأمة أو أن يطبقوا الحرم Excommunication على كل أتباع المذاهب الأخرى.

13.جُلُّ المرويات التي جمعوها كانت مرويات آحادية لا تحقق الشرط الشرعي اللازم وهو وجود شاهدي عدل على الأقل، فزعموا أن كل من قالوا إنه "صحابي" هو عدل ويمكن القبولُ بشهادته لوحده، وهذا القول (باطل X باطل)باطل، فلا قيمة له، فلا توجد مرتبةٌ دينية اسمها الصحبة، وآيات القرءان تقوِّض تعريفَهم واصطلاحهم، وتعريفهم يتضمن ادعاء صفات إلهية لعلماء الجرح والتعديل، والآية الآتية تدحض ما يُسمَّى بعلم الجرح والتعديل وتجتثه من جذوره وهي: {وَمِمَّنْ حَوْلَكُم مِّنَ الأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُواْ عَلَى النِّفَاقِ لاَ تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُم مَّرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ} التوبة،101 فالآية تنفي عن الرسول العلم بالمنافقين، فلا يمكن أن يكون جامعو المرويات الذين أتوا بعد الرسول بأكثر من مائتي سنة عالمين بما لم يعلمه هو في عصره، ولا يمكن أن يعلموا ما تخفي صدور من جاء من بعدهم! ولا يمكن أن يكون المنافقون الذين أسهبت في وصفهم آخر سور القرءان نزولا قد تبخروا فجأة بعد انتقال الرسول، بل إنه من البديهي أن أعدادهم تضاعفت وأن شراستهم قد اشتدت وأن مؤامراتهم كانت من أسباب فتنٍ كقطع الليل المظلم ضربت الأمة ومزقتها وفرقت دينها.

14.وضع كل محدِّث لنفسه مجموعة من القواعد للحكم على المرويات، وطبقها بنفسه، ولا يوجد ما يضمن الكمال المطلق لهذه القواعد ولا في أسلوب تطبيقها، ولا يمكن لأحد ادعاء العصمةِ المطلقة لجامعي ونقاد المرويات، وكل ذلك يقلل من مصداقيةِ عملهم ويجعله مشوبا بأخطاء فادحة كما أن ذلك يقلل إلى أدنى حد من احتمال صحة المروية.

15.كل ذلك يجعل احتمال صحة المروية أمرا ظنيا احتماليا، وهذا ما دفعهم إلى اختلاق مراتب وتصنيفات للمرويات، هذا في حين أنه لا يوجد على وجه الحقيقة إلا التصنيف التالي: مرويات صادقة تمامًا، وهذه قد يكون بعض ما ورد فيها قد نُسِخ، ومرويات يوجد فيها حق ممتزج بباطل، هذا الباطل ناتج عن تحريف متعمد أو عن أخطاء بشرية، ومرويات باطلة تماما.

16.تصحيح المرويات كان يستند إلى بعض الأباطيل وعلى رأسها تعريفهم لمن يسمونهم بالصحابة وما رتبوه عليه من القول بعدالتهم والتي أبطلوا بها الشروط القرءانية الواجبة للأخذ بالقول وهي وجود البرهان المبين أو الآية البينة أو الكتاب الموثق بمحضر شهود حقيقيين عدول، وتعريفهم للصحابة باطل بطلانًا مطلقا، فهو ليس بمصطلح قرءاني ديني، ومن يحاول أن يُعمِله يختلس لنفسه سلطات إلهية ويزعم لنفسه ما نفاه الله تعالى عن نبيه ويزعم لنفسه أو لغيره القدرة على الاطلاع على السرائر، واستعمال هذا المصطلح لتصحيح مروية يتضمن دوراً، وهو باطل وخلف!

17.ليست الخطورة فقط فيما قبلوه من الخطأ بل أيضًا فيما استبعدوه مما يُحتَمل أن يكون صحيحا، فإذا كانوا قد أخطئوا في تصحيح مئات المرويات فقد أخطئوا أيضًا في رفض عشرات الألوف منها، وكان الرفض أساسًا لأسباب مذهبية وخوفًا من بطش الحكام، ورفض هذا العدد الهائل من المرويات الصحيحة يؤدي لا محالة إلى خلل في معرفة الأوزان النسبية للأوامر الدينية ويجعل من المستحيل تكوين صورة صحيحة للدين عن طريق ما تبقَّى من المرويات.

18.القرءان هو المصدر الأوحد لأمور الدين الكبرى، والمصدر الأعلى لأموره الثانوية، ولم يرد في القرءان أيُ تبشير بظهور جامعي المرويات لكي يتمَ فرضُ الإيمان بهم وبأفعالهم على الناس، وهم لم يأتوا بآيات أو ببرهان مبين يثبت أنهم كانوا معصومين، ولا يجوز لأحد إحداث عقائد لا أصل لها في القرءان وبالأحرى لا يجوز له إلزامُ الناس بها، فلا يجوز لأحد مثلا أن يُطالب الناس باعتقاد أن البخاري أصح كتاب بعد كتاب الله، وأقصى ما يمكنه قوله هو: "هذا هو رأيي في هذه المسألة والذي ترجح عندي"! وبالطبع فلكل إنسان الحق في اختيار ما يؤمن به، ولكن ليس له أن يزعم أن اختياره هو الاختيار الوحيد الصحيح.

19.من الثابت بالقرءان الكريم أن الدين لم يكتمل إلا قبيل انتقال الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ وأن التشريع كان يتدرج بالناس، فلم تُفرض عليهم الأوامرُ دفعةً واحدة، لذلك قد توجد مروية صحيحة بالفعل ولكن لا يجوز العمل بها خاصة وأن جامعي المرويات لم يدوِّنوا معها بصفة عامة زمن صدورها ولا ملابساتها.

20.ومن الثابت وجود مرويات تتضمن تطاولا على الله وكتابه ورسوله، ومرويات لا يجوز أبدًا أن تُحسب على أي دين من الأديان، والدين الذي يتضمن نصوصًا تطعن في أسسه وتقوض بنيانه هو دين باطل، لا يمكن أن ينتج بشرًا أسوياء.

21.كما ثبت على مدى التاريخ أن بعض المرويات كان لها آثارها الكارثية على الإسلام والأمة والبشرية جمعاء.

22.كل ما سبق ذكره يعني أنه لا يمكن أن تمثل المروياتُ الدينَ تمثيلاً صادقا ولا أن تُظهِر الأوزان النسبية لأوامره ولا أن تعتبر نصوصا مطلقة تامة فيما تعالجه من أمور.

23.ومع كل ذلك فلابد من معرفة أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ كان منوطًا به مهام عديدة بالنسبة لقومه، وهي ثابتة بنصوص آيات القرءان الكريم، فهو كان يعلِّم قومه ويزكيهم ويعلمهم ما لم يكونوا يعلمون ويبشر وينذر ويدعو إلى الله ويحكم بينهم ويبين لهم ما غمض عليهم، وقد كان منوطا به أن يحقق فيهم وبهم المقصد الدين الأعظم بأن يجعل منهم الأمة الخيرة الفائقة، وقد كان بلا ريب وليّ أمر هذه الأمة، وقد كان بالفعل يتولى كافة أمورهم، فلابد أنه فعل أفعالا وقال أقوالا بمقتضى كل ذلك، وكان كل ذلك لازماً له ليتحقق بكماله المنشود وليبلغ درجته الرفيعة.

24.وقد كان يعلمهم القولَ القرءاني في كل مسألة باعتبار أنه الأعلم بما نزل منه وأنه أعلمُ الخلق به وبمنهجه في إيراد الحقائق، فالقرءانُ بالفعل مبين ومبيِّن وتبيانٌ لكل شيء لمن كان على درجة عالية من العلم والرقي الذهني والوجداني، وكان الأرقى في كل ذلك هو الرسول، هذا فضلا عن أن حفظة كل ما أُنزل من القرءان كانوا دائما قليلين، لكل ذلك لابد أن الرسول كان يبيِّن لهم القرءان بالقرءان ويوضح لهم ما غمض عليهم.

25.وثمة أمر قرءاني موجه إلى الرسول والمؤمنين باتباع ملة إبراهيم، وكان الرسول يعمل بمقتضى ذلك، وأعماله وأقواله كانت مبينة لهذه الملة، وتفصيلها لم يرد في القرءان بحكم أنها كانت معلومة لهم، وهو بالتأكيد الذي طهرها مما لحق بها بهديٍ من ربه.

26.ولما كان من سمات الرسالة الخاتمة العالمية والشمول والصلاحية لكل زمان ومكان فإنه توجد أوامر قرءانية هي بالأصالة ذات طبيعة مفتوحة، فلم يتم لذلك النص على كل عناصر مجالاتها ومصاديقها وهي أنواع: (أ) منها ما هو قابل للاجتهاد والإبداع والتنوع، ومنها الأوامر بذكر الله والتسبيح له، قال تعالى: 

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا (41) وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (42)} الأحزاب، وقال: {وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (25) وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا (26)} الإنسان، {وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا (8)} المزمل، سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1) الْأَعْلَى، فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (52} الْحَاقَّةُ، ولقد كان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ باعتباره أول المسلمين وأول العابدين أول عاملٍ بهذه الأوامر الإلهية، لذلك صدرت عنه صيغ لذكر الله والتسبيح قياما بهذه الأوامر، وهي تحاكي ما هو في القرءان وتستلهم منه، وبعضها مجرد تكرار لما هو فيه، وقد نقلها الناس عنه، ومنها مثلا صيغ التسبيح في الركوع والسجود، وهي مجرد التزام بالأوامر القرءانية، لذلك فلا يوجد أي مبرر للإعراض عنها، ومن يأخذ بها يكون منفذا للأمر بالذكر، ومنفذا للأمر بطاعة الرسول ومنفذا للأمر بالتأسِّي به، قال تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (56)} النور، {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآَخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا (21)} الْأَحْزَاب، 

ويلاحظ أنه يوجد نص صريح على التأسي بالرسول في الذكر الكثير لله، (ب) ومنها أوامر قرءانية تتنوع وتتسع وتتطور مصاديقها بمضي الزمن واطراد التقدم، وذلك بمعنى أنه تستجد أمور يمكن أن تكون من مجالاتها، ومنها العمل الصالح، ولقد بيَّنه الرسول لقومه بسلوكه، ويجب على المسلمين التأسي بجوهره ولبه، (ج) ومنها أوامر تتضمن مصطلحات قرءانية تتنوع وتتسع وتتطور مصاديقها بمضي الزمن واطراد التقدم، وذلك بمعنى أنه تستجد أمور يمكن أن ينطبق المصطلح عليها، ومن ذلك المصطلحات: فقير، مسكين، الفاحشة، الخمر، .... الخ، ولقد بيَّن الرسول لقومه في عصرهم معناه.    

27.لكل ذلك فلا يمكن أبدًا أن يكون كلُّ هذا التراث باطلا بطلانا مطلقا، وهذا هو السند القرءاني المنطقي الذي يبرر النظر في المرويات.

28. والرسول منع الكتابة في عصره، ولكنه لم يمنع التداول الشفهي لأقواله والتحديث بها، بل أمر بذلك، فمنْعه الكتابة كان له أسبابه المعلومة، وعلى رأسها وجود حزب قوي من المنافقين غير المعلومين، وأمره بالتحديث عنه كذلك "حدثوا عني ولا حرج" يعني أنه كان يريد لبعض أقواله أن تُحفظ بالطريقة المعهودة عند العرب، فهو لم يأمر أحدا بلزوم الصمت المطبق عن فترة العصر النبوي، وبالتأكيد كان الرسول يعمل ويتحدث بمقتضى الذكر الذي أنزله الله تعالى عليه ليبين للناس ما نُزِّل إليهم.

29. ووجود المروية في كتب المرويات لا يثبت إلا أن ثمة احتمالا لأن يكون لها أصل صحيح، وهذا كافٍ لاعتبارها، ولكنه لا يكفي للجزم بصحتها، ولابد من قرينة تثبت أن لها بالفعل أصلا صحيحا، هذه القرينة هي اتساقها التام مع دين الحق المستخلص من القرءان ومما ثبت أن له أصل صحيح من الآثار، وثبوت أن للمروية أصل صحيح يجعلها تنضم لنسيج الدين أو بنيانه، ويجعل من الممكن الاعتداد بها عند النظر في الآثار الأخرى.

30.ولكل ذلك لابد من معيار دقيق وصارم للحكم على المروية، هذا المعيار القرءاني المنطقي هو ضرورةُ اتساقها مع دين الحق المستخلصِ من القرءان الكريم وإمكانُ اندراجها في إطاره، ودين الحق ممثل في منظومات سننه وقيمه وسماته وأركانه ومقاصده، والتأكيد على ذلك لأن القول القرءاني بخصوص أية مسألة موزع –وفقا للنهج القرءاني- على آيات عديدة، فنحن نأخذ بالمروية التي تحقق هذا الشرط حتى وإن ضعَّفها الرواة، كما نرفض المروية المتعارضة مع القرءان الكريم رفضا تاما حتى وإن زعموا لها التواتر، أما المرويات التي تتعرض لأمور لم يرد لها ذكر أو أصل في القرءان فتُعتبر من الأمور غير المطروحةِ أصلا، ويُترك أمرها للعلماء المتخصصين في اللغات ومقارنة الأديان والتاريخ...الخ، والأمة بالطبع ليست ملزمة بانتظار نتائج أبحاثهم، فلا يمكن لدين الحق أن يكون معلقاً بمثل هذه الأمور.

31.علامة المروية ذات الأصل الصحيح أن يمكن الاستغناء عنها بالقرءان، وهذا الأساس يستلزم بيانا خاصا.

32.لا يجوز المبادرة برفض مرويةٍ منسوبةٍ إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ دون تقديم أسباب قوية كتعارضٍ لا يمكن دفعُه مع نصٍّ قرءاني محكم أو مع أصلٍ قرءاني ثابت أو مع أي عنصر من عناصر دين الحق المستخلص منه وفق منهج قرءاني صارم.

33.يجب التمييزُ بين المرويات المتعلقة بأمور دينية وبين المرويات المتعلقة بمحض وقائع تاريخية، فهذه يكون الحكم عليها لعلماء التاريخ المتخصصين، أما المروية الدينية فترتب على الناس التزامات دينية، فيجب الرجوع في أمرها إلى ما هو أعلى منها وهو القرءان الكريم.

34. لا يجوز التمييز في أمر المرويات بين ما يسمونه بالعلم وبين ما يسمونه بالعمل، هذا من الاستهزاء والسخرية والاستخفاف الذي ألقاه إليه الشيطان وجعلهم يقدمون ما يسمونه بـ(أمور الحلال والحرام) على كل الأمور الأخرى التي تساهلوا فيها، المعيار يجب أن يكون واحدا، وما قالوا إنه من الفروع قد يكون من لوازم الأوامر القرءانية الكبرى التي أهملوها، ومنها الأوامر بذكر الله أو النص على أسمائه الحسنى أو شئونه.

35.في كل الأحوال لم يكن من الممكن أبدًا أن تمثل المرويات دين الحق تمثيلا صادقا كاملا، وذلك لأن الدين لم يكتمل إلا قبيل انتهاء العصر النبوي، ولم يكن من الممكن في ظل الصراع الدامي المصيري بين الذين آمنوا وبين الذين كفروا أن يتم تسجيل كل أقوال الرسول وأفعاله في توقيتاتها الحقيقية مع تسجيل كل ظروفها، وبالطبع لا يمكن العلم بالمعاني الحقيقية لأقوال معزولة عن سياق الأحداث الذي قيلت فيه.

36.ومع كل ذلك فلا خوف على دين الحق، فهو ماثل بتمامه في القرءان الكريم، فهو الرسالة التي حفظها الله تعالى للعالمين، وذكر فيه وها الأصدق حديثا أنه الكتاب المبين والمبيَّن والتبيان لكل شيء والمهيمن على سائر الكتب المنزلة، لذلك يجب اتخاذه المرجع الأوحد في أمور الدين الكبرى والمرجع الأعلى في الأمور الثانوية. 

بالطبع سيرفض إبليس ومن اتبعه من شياطين الإنس والجن مجرد النظر في هذه الخلاصة، وسيرفضون بكل قوة عرض المروية على دين الحق المستخلص من القرءان الكريم!! ولن يتركوا المسلمين ليخرجوا من الهوة السحيقة التي تردوا فيها والتي تجعلهم الآن شر أمة أخرجت للناس!! وسيرفضها أيضا –لأسباب شتى- من كفروا كفرا مطلقا بالمرويات مثل من يسمون بالقرءانيين!!

1

bottom of page