top of page

نظرات في المذاهب

المصلحة المرسلة

المصلحة المرسلة


قالوا: المصلحة المرسلة؛ أي المطلقة هي في اصطلاح الأصوليين: المصلحة التي لم يشرع الشارع حكما لتحقيقها، ولم يدل دليل شرعي على اعتبارها أو إلغائها، وسميت مطلقة لأنها لم تقيد بدليل اعتبار أو دليل إلغاء، فهي المنفعة التي لم يشهد لها دليل خاص بالاعتبار او الإلغاء مع اتفاقها مع مقاصد الشريعة العامة.

والاستصلاح هو: بناء الأحكام على المصلحة المرسلة.

هذا الكلام يدل على قصور في إدراك حقيقة ومقاصد وعناصر دين الحقّ، فلا يوجد شيء مما يعتبرونه من المصلحة المرسلة إلا وهو من لوازم وتفاصيل دين الحق.

قالوا: ومثال المصلحة المرسلة المصلحة التي شرّع لأجلها الصحابة اتخاذ السجون، أو ضرب النقود، أو إبقاء الأرض الزراعية التي فتحوها في أيدي أهليها ووضع الخراج عليها، أو غير ذلك من المصالح التي اقتضتها الضرورات، أو الحاجات أو التحسينات ولم تشرع أحكام لها، ولم يشهد شاهد شرعي باعتبارها أو إلغائها.

وتوضيح هذا التعريف: أن تشريع الأحكام ما قصد به إلا تحقيق مصالح الناس، أي جلب نفع لهم أو دفع ضرر أو رفع حرج عنهم، وأن مصالح الناس لا تنحصر جزئياتها، ولا تتناهى أفرادها وأنها تتجدد بتجدد أحوال الناس وتتطور باختلاف البيئات. وتشريع الحكم قد يجلب نفعا في زمن وضررا في آخر، وفي الزمن الواحد قد يجلب الحكم نفعا في بيئة ويجلب ضررا في بيئة أخرى.

إن ما يسمونه بالمصلحة المرسلة ليس إلا عملا ببعض الأركان الدينية الكبرى المفتوحة والأركان الملزمة للأمة.

وما ألجأهم إلى القول بالمصلحة المرسلة واعتبارها أصلا من أصول الدين إلا ما يلي:

1. اعتبارهم أن الحالة البدائية التي كان عليها العرب والأعراب في القرن السابع الميلادي هي الأصل وأن الدين كان موضوعًا ليتعامل مع هذه الحالة، وأن كل ما اختلف عنها هو أمر جديد يجب الوصول إلى أحكام بخصوصه، ولذلك يضربون الأمثال بأشياء كانت معلومة للناس منذ آلاف السنين!!! فيقولون بكل فخر: من المصلحة المرسلة أن أبا بكر جمع الصحف المفرقة التي كان مدونا فيها القرءان!!!!! ألم يكتشف الإنسان منذ آلاف السنين من قبلهم أن تدوين الوثائق على الحجارة والبرديات هو الوسيلة للحفاظ عليها؟ وما هي المهام التي كان منوطا بهم القيام بها إذا لم يتخذوا كل السبل للحفاظ على كتاب الله؟ ألا يكفيهم أنهم أضاعوا أخبار السيرة الحقيقية وخطب الرسول الجامعة وأقواله بسبب إصرارهم على عدم تدوينها رغم أنهم أدركوا مدى شدة حاجتهم إليها؟

2. إهمالهم أكثر الأمور الدينية الماثلة في القرءان الكريم، وكان من أسباب ذلك ضحالة سقفهم الحضاري وشدة انصباغهم بتقاليد الجاهلية.

3. إحجامهم عن تدبر القرءان والنظر المتعمق في آياته.

4. اختزالهم الدين إلى مجرد نظام قانوني للحكم في القضايا الجزئية، فكان شغلهم الشاغل البحث عن عقوبة لكل إثم لم يحدد له القرءان عقوبة، أو إحداث عقوبة لكل مخالفة مستحدثة، بدلا من الدراسة العلمية لأسبابها وكيفية علاجها.

5. ترتب على ذلك التجاهل المطلق للجوانب الجوهرية من الدين، فظلوا كما كانوا جفاةً غلاظ الأكباد حتى في تعاملاتهم فيما بينهم، فكان امتشاق السيوف هو الحل الذي يبادرون إليه، ولم يلجئوا أبدا إلى مباحثات (دبلوماسية) لحلّ الخلافات إلا ذرًّا للرماد في العيون، وربما لم يخطر ذلك ببالهم أبدا، وظل الأمر كذلك إلى أن وطأ الاستعمار الغربي أعناقهم.

ولكل ذلك يتكلمون عن اتخاذ (الصحابة) السجون، أو ضرب النقود، وكأنها عمل بالمصالح المرسلة، ألم يكن كل ذلك معلومًا لكل الأمم منذ آلاف السنين، والقرءان ذكر هذه الأمور باعتبارهم يعرفونها، فهم لم يكونوا بمعزل تام عن الشعوب العريقة في الحضارة، وتطورهم من البدائية الشديدة إلى الأخذ بأسباب الحضارة استلزم أمورًا عديدة، لم يكن يجوز إقحامها في الدين، أو الاستدلال بها لإثبات أصل شرعي يُستعمَل لإحداث أحكام دينية.

ودين الحق يتضمن في بنيته كل ما يلزم للتعامل مع ما يستجد من أمور، ولكن من سماته الثابتة اليسر والاقتصاد في التشريع، وقد ترك كثيرًا من الأمور لأولي الأمر الحقيقيين، فهؤلاء مثلا هم المنوط بهم سنّ قوانين للتعامل مع المستجدات وفق منظومات دين الحق، وخاصة منظومات قيمه وسماته.

فإذا ما توصلوا مثلا إلى إثبات أن معاملة ما تتضمن إثمًا أو ظلما، فعليهم تبيين ذلك، وتجريم هذه المعاملة.

وإذا ثبت أن عملًا ما هو سرقة فيأخذ حكمها، وإذا كان أحد الأشخاص يمتهن هذا العمل فينطبق عليه الوصف "سارق" الذي يوجب إنزال العقاب المعلوم به.

أما إبقاء الأرض الزراعية التي فتحوها في أيدي أهليها ووضع الخراج عليها، فهذا عمل كل الغزاة منذ أقدم العصور، فالغزاة كانوا دائمًا من الشعوب أو القبائل البدائية، وهؤلاء كانوا سرعان ما يدركون أنه لابد من الإبقاء على أهالي الشعوب المقهورة لكونهم في ذاتهم ثروة وصانعي ثروة، ولا شأن للدين بمثل هذه الأمور، فالدين بريء من العدوان والسرقات على كافة المستويات.

*****

أكثر ما يسمونه بالمصالح المرسلة التي أطنبوا فيها ولعلعوا، وكان فرحهم باكتشافها أكثر من فرحة أرشميدس عندما اكتشف قانون الطفو أو فرحة هيزنبرج عندما اكتشف نظريته في ميكانيكا الكم، قائم ضمنًا على أن الدين لا شأن له بما ينفع الناس ويصلح أحوالهم، وهو يفترض ضمنا أن الإسلام نزل على قوم كانوا يعيشون في العصر الحجري، وأنه نزل أصلا لينغص عليهم حياتهم، وليبقيهم على ما كانوا عليه في عصرهم الجاهلي العتيد، وأنه لا يتضمن أي شيء ينفعهم في دنياهم، وهكذا كان على (الصحابة الأجلاء) أن يعيدوا اكتشاف ما تمَّ اكتشافه قبلهم بآلاف السنين، عملا بالمصلحة المرسلة، وأن يدونوا القرءان في مصحف واحد رغم عدم وجود نصّ يأمر بذلك، عملا بالمصلحة المرسلة، وأن يضربوا النقود وألا يقسموا البلاد التي استولوا عليها بما عليها من (العلوج) على الجنود الغزاة وإنما يبقون هؤلاء العلوج يزرعون الأرض ويكتفون هم بأخذ حصيلة أعمالهم ونتاج جهودهم .... الخ، عملا بالمصلحة المرسلة، وهكذا أيضًا أعادوا البلاد التي غزوها إلى العصر الحجري، وتمت صياغة الدين الأعرابي الأموي لإبقائهم في هذه الحالة (المثالية).

أما تاريخ المنطقة من بعد اندحارهم فيتلخص في أن أحفاد ضحاياهم تبنوا تراثهم وكرَّسوا أنفسهم له، وأخذوا يتلقون الضربات الانتقامية من الشعوب الأخرى نيابة عنهم، وهكذا هلك الملايين في البلدان المحسوبة على الإسلام تحت أقدام الصليبين والمغول والتتار والإسبان والبرتغاليين والإنجليز والفرنسيين والإيطاليين والأتراك بسبب شدة تمسكهم بتراث من قهروا أجدادهم وأذلوهم وطبقوا عليهم أحكام الصغار، وكان يقاوم ذلك بعض من احتفظوا بشيء من إنسانيتهم السوية، فقاموا بانتفاضات فردية أو جزئية لإعادة الاعتبار إلى روح الدين أو للعمل بأوامره الحقيقية أو لمحاولة اللحاق بركب الحضارة.

وقالوا: المصلحة المرسلة هي التي اقتضتها البيئات والطوارئ ولم يشرع الشارع أحكاما لتحقيقها، ولم يقم دليل منه على اعتبارها أو إلغائها، مثل المصلحة التي اقتضت أن الزواج الذي لا يثبت بوثيقة رسمية لا تسمع الدعوى به عند الإنكار، ومثل المصلحة التي اقتضت أن عقد البيع الذي لا يسجل لا ينقل الملكية، فهذه كلها مصالح لم يشرع الشارع أحكاما لها، ولم يدل دليل منه على اعتبارها أو إلغائها، فهي مصالح مرسلة.

ودليلهم على الاحتجاج بها:

أن مصالح الناس تتجدد ولا تتناهى، فلو لم تشرع الأحكام لما يتجدد من مصالح الناس، ولما يقتضيه تطورهم واقتصر التشريع على المصالح التي اعتبرها الشارع فقط، لعطلت كثير من مصالح الناس في مختلف الأزمنة والأمكنة، ووقف التشريع عن مسايرة تطورات الناس ومصالحهم، وهذا لا يتفق وما قصد بالتشريع من تحقيق مصالح الناس.

ودليلهم أمران:

قالوا: ((إن لم يفتح باب المصلحة المرسلة جمد التشريع الإسلامي، ووقف عن مسايرة الأزمان والبيئات، ومن قال: إن كل جزئية من جزئيات مصالح الناس، في أي زمن وفي أي بيئة قد راعاها الشارع، وشرع بنصوصه ومبادئه العامة ما يشهد لها ويلائمها، فقوله لا يؤيده الواقع، فإنه مما لا ريب فيه أن بعض المصالح التي استجدت لا يظهر شاهد شرعي على اعتبارها ذاتها)).

قلنا: إن كل ما استجد من أمور وأجهزة وعلوم ونظم منذ أن تحرر الإنسان شيئا فشيئا من سطوة الأوهام كان بعلم وتدبير الله الذي ختَمَ بالقرءان رسالات الأديان، ولقد أعلن الله تعالى أنه لم يخلق الناس عبثا، وأنه لم يتركهم سدى، فكل أمرٍ للإنسان مصلحة فيه وجب القيام به لكونه من لوازم وتفاصيل العمل الصالح على كافة المستويات، والعمل الصالح هو كل عمل يقوم به الإنسان من حيث إنه حامل للأمانة ومستخلف في الأرض ومكلف باستعمارها بحكم أن الله تعالى قد خلق له كل شيء فيها.

وهناك أعمال صالحة منوطة بالفرد، وأعمال صالحة منوطة بالكيانات الإنسانية الكبرى، ومنها الأمة.

ولقد تضمن الدين كل ما يلزم للتعامل مع المستجدات من أسس ومبادئ وقيم وسنن.

وما نشأت الحاجة إلى القول بالمصلحة المرسلة إلا لكونهم انقلبوا على أعقابهم واختلقوا دينًا أعرابيا أمويا متوافقا مع مستوى الأعراب الحضاري وجاهليتهم العتيدة ومكرِّسا للجهل والتخلف، فتصوروا أن أي شيء من لوازم الحضارة هو أمر بعيد عن الدين، ولا يمكن أن يدخل فيه إلا من باب ما أسموه بالمصلحة المرسلة، هذا في حين لم يجد اليهود أنفسهم مثلا مضطرين إلى إحداث شيء كهذا في دينهم، ولم يجدوا من يتصدى لكل محاولة للأخذ بأسباب الحضارة، بل ساهموا هم فيها على قلة عددهم مساهمة تفوق مساهمات المليارات من أتباع الدين الأعرابي الأموي الجهلوتي الهمجي.

وقد استدلوا على أن ما يسمونه بالمصلحة المرسلة أصل من أصول التشريع بالقول بأن الصحابة قد عملوا بها عندما جمعوا القرءان في مصحف واحد، وكذلك بإيقاع عمر بن الخطاب الطلاق بالثلاث بكلمة واحدة!!

قولهم بأن جمع القرءان في مصحف واحد كان عملا بالمصلحة المرسلة (يقصدون أنه لم يكن ثمة أمر شرعي يلزمهم بذلك) يدل على أن قائل هذا الكلام كان يعيش في العصر الحجري، ويتكلم عن قوم كانوا كذلك أيضًا، ألم تكن البشرية تعلم قبلهم بآلاف السنين أن حفظ النصوص يقتضي تدوينها على الحجر وعلى الجلود وعلى البرديات؟ أم هل كانوا يظنون أن حفظ القرءان يقتضي أن يكون مبعثرا على أشياء متناثرة يمكن أن تدخل داجن حي لتأكلها؟ هل لابد من النص الحرفي على البديهيات وإعادة اكتشاف قوانين فيثاغورث من جديد؟ وما هي المهمة التي كانت منوطة بهم إلا حفظ كتاب الله والدعوة إليه واتخاذ ما يلزم لذلك؟

وعمل (الصحابة) والذي جاء عبر مرويات ظنية فهو لا يصلح للاحتجاج به في الأحكام الجزئية فضلا عن أن يُتخذ وسيلة لإحداث أصل ديني يترتب عليه تشريع ديني ويذكر مع القرءان الكريم في نظم واحد.

والذي لا شك فيه أن القرءان كان مجموعا في العصر النبوي وأن أقصى ما يمكن أن يكونوا قد فعلوه هو نسخه من الأصل الذي كان عنده.

أما إيقاع عمر بن الخطاب الطلاق بالثلاث بكلمة واحدة، فهو مخالفة صارخة لكتاب رب العالمين وإحداث خطير في الدين لم يؤد إلى مصالح بل ترتب عليه كوارث، ومن العار أن يفخروا بهذا الخطب الجلل والكارثة الكبرى، ومن الشرك الاستدلال به لإحداث أصل ديني يُذكر مع القرءان.

إن كل ما قيل إنه مصلحة مرسلة يمكن أن يندرج تحت أصل ديني حقيقي دونما حاجة إلى إحداث القول بالمصلحة، إنشاء الكليات العسكرية ومصانع السلاح مثلا يندرج تحت باب إعداد القوة اللازمة لإرهاب أعداء الأمة، إنشاء المدارس هو لتزويد الناس بالعلوم والمهارات التي تمكنهم من القيام بالأعمال الصالحة واستعمار الأرض والقيام بواجبات الخلافة فيها، وهو أيضًا يندرج تحت باب إعداد القوة اللازمة لإرهاب أعداء الأمة، قوانين المرور لمنع قتل الناس لأنفسهم وتقليل الضرر والقيام بالقسط والحفاظ على المال والوقت والموارد، توثيق العقود هو لحفظ الحقوق ولإحقاق الحقّ والقيام بالقسط وتقليل الخلافات والفتن الجزئية، وهكذا، وكل هذه أمور دينية.

وبالنسبة للأمثلة على المصلحة المرسلة التي يقدمونها نقول:

المثال الأول: ضرب العملة السائرة

القرءان تحدث عن شعب يتعامل بالعملة، كما تحدث عن أهل الكهف وكيف كانوا يتعاملون بالعملة، والعرب كانوا يتعاملون بالعملة البيزنطية (الدينار) الذهبي أو الفارسية (الدرهم) الفضي، والقرءان تحدث عن كنز الذهب والفضة، فاستعمال العملة أمر كان أمرا معلوما ومعمولا به لتسهيل التجارة، ولا يوجد أي حاجة لإصدار أمر ديني باستعمال العملة، فالقرءان يخاطب أقواما يعقلون ويفقهون، ولا توجد حاجة للنص على أمر كهذا بمثل ما أنه لا حاجة لنص في كتاب ديني على كيفية الأكل والشرب والجماع، فالقرءان لم ينزل على أمة كانت تعيش في الكهوف، وإنما على أمة كانت قبيلة منهم تتحكم في واحد من أكبر الطرق التجارية بين أرقى دول عصرهم.

فليس ثمة حاجة إلى شرح فوائد استعمال العملة إلا لقوم همج ليس لهم أدنى نصيب من الحضارة! والأخذ بمنجزات الحضارات هو من لوازم تحقيق مقاصد الدين.

المثال الثاني:

وضع الإشارات التي تنظّم السير في الطرقات ووجوب الوقوف عندها فوضعها في المدن الكبيرة من الضروريات التي يؤدي الإخلال بها الى تلف الأنفس والأموال فيجب على ولي الأمر وضعها وعلى الناس الالتزام بها.

المثال الثالث:

تسجيل عقود الزواج والمواريث في سجلات خاصة هذا من لوازم الحفاظ على الحقوق والحفاظ على الأسرة في العصر الحديث، ومن مقاصد الدين العظمى الحقيقية إعداد الأسرة الصالحة.

المثال الرابع: الالتزام بإخراج بطاقات الجنسية ورخص القيادة ومعاقبة المخالف لذلك فهذه كلها مما تدعو الحاجة إليه من ضبط الأمن ومعرفة الأنساب والمحافظة على الأرواح والأموال، هذه كلها أمور لازمة لتحقيق مقاصد الدين في العصر الحديث، فلم يعد من الممكن أن يعيش الإنسان هملا في صحراء لا ينتمي إلا إلى قبيلته.

والخلاصة هي أن العمل بمنظومات دين الحق، وخاصة منظومات أركانه ومقاصده وقيمه يغني عن القول بالمصلحة المرسلة.

*******

1

bottom of page