ثورة يناير (مجموعة قصصية)
عباس السلفي 1
وُلد لأسرة فقيرة فقرًا مدقعًا في أحد أحياء القاهرة الشعبية، نشأ طويل القامة عريض المنكبين متين البنيان شديد القوة.
لم يكن يميل إلى جو المدرسة الكئيب إذ كان يفضل الحركة والعمل والنشاط، كانت كل علاقته بالدين هي التعصب لما ألفى عليه والديه، كانت أمه هي التي ترعاه، كانت مواردهم تنحصر في معاش أبيه الضئيل، لذلك كان عليه أن يعمل كيفما اتفق لكي يسد حاجات أسرته التي كانت تشمل بالإضافة إلى والدته طفلة صغيرة، كان يعلم أنه بكل تأكيد أفقر الطلبة في فرقته الدراسية، كان ينظر بحسرة إلى زملائه الذين لا يعانون مثله من شظف العيش والخوف من الغد.
كان يحب الصداقة ويستمتع بصحبة الأصدقاء، وكانوا هم يصطحبونه في رحلاتهم، كان وجوده بينهم يعطيهم إحساسا بالأمن ويشجعهم على التحرش بالآخرين واستفزازهم، أما هو فمن ناحيته فقد كان بالفعل يتسم بالعدوانية ويستمتع بالعراك وينفس فيه عن شعوره بالنقص تجاه الآخرين، ولقد دخل بالفعل في معارك كثيرة كانت دائما تنتهي بتغلبه على خصومه مما كان يزيد من ثقته بنفسه، لم يكن الأمر أمر قوة بدنية فحسب -وقد كان يستمتع بقدر هائل منها- بل كان أمر مهارة وجرأة وسرعة استجابة وسرعة ردود أفعال وكأنه خُلِق مقاتلًا بالفطرة.
كان من بين أصدقائه فتى مسيحي اسمه سمير صليب، كان يتميز بالتفوق الدراسي والانضباط الشديد والالتزام الديني، إنه يعرفه جيدا لأنه كان يجلس بجانبه طوال العام الدراسي الأول له في المدرسة، وكان يجمع بينهما أنهما طوال الأعوام الدراسية الأولى لهما كانا شبه منبوذين من باقي التلاميذ وإن اختلف السبب، ولقد استمرا معًا في نفس المدرسة طوال المرحلتين الإعدادية والثانوية أيضا، ساهم كل ذلك في توطيد عرى الصداقة فيما بينهما.
كان يرى هذا الطالب وهو يخوض أحيانا في جدل ديني مع بعض الطلبة المسلمين، لم يكن عباس ذا اهتمامات دينية عميقة، ولم يكن يفقه معظم ما يقال في تلك المحاورات والمجادلات الدينية، كان لسان حاله يقول: ربما لو كان هؤلاء لا يجدون قوت يومهم مثلي لكفوا عن مثل هذا الجدل، رغم الصداقة القديمة فإنه كان يمقته بشدة عندما يراه يخرج صورة معينة يتأملها ثم تنساب دموعه، كان يكره كل مظاهر الضعف.
كان العصر عصر الرئيس (المؤمن) الذي قرر اللعب بالورقة الدينية للقضاء على خصومه الناصريين، فبدأت بوادر ما يسمى بالفتن الطائفية تطل برأسها.
قرر المسيحيون في الحيّ تحويل العيادة الصغيرة التي كان أكثر أبناء الحي يترددون عليها إلى كنيسة ضخمة، اتخذوا كل ما يلزم من إجراءات في سرية تامة، روَّع هذا النبأ المسلمين في المنطقة عندما علموا به، لم يكن يوجد بالحي إلا بعض الزوايا الصغيرة التي لا تكفي المسلمين في صلوات الجمعة مما كان يضطرهم إلى الصلاة في كل الشوارع المحيطة بتلك الزوايا في حين لا يوجد من المسيحيين في الحي ما يكفي لملأ أصغرها.
وهكذا أصبح بناء كنيسة في منطقتهم استفزازا غير محتمل لهم.
كان لابد من الرد المناسب، وجدوا ضالتهم في الأرض المجاورة للكنيسة، كانت (خرابة) يقيم بها أسرة مسيحية فقيرة يعولها (عربجي)، كان صاحب الأرض المسلم قد أعياه أمر هذا العربجي، لم تفلح أي وسيلة قانونية لإخراجه منها.
ذهب إليه ممثلون عن الحي فأعلن في حضورهم أنه متنازل عن الأرض ليقام عليها مسجد إذا ما تمكنوا من إخراج هذا العربجي، تأهب الناس لمعركة دامية، وجدوا ضالتهم في عباس، ونادوا به بطلا في معركتهم المحتملة مع العربجي وشركائه الذين عسكروا في الأرض للدفاع عنه، لم يطل الانتظار طويلا، سرعان ما زحف شبان الحي في ليلة مقمرة بقيادة عباس إلى الـ(خرابة)، نشبت معركة هائلة أبلى فيها عباس بلاء حسنًا وانتهت بطرد العربجي وإخراجه من الخرابة مثخنا بالجراح وقد لاذ المدافعون عنه بالهرب بعد أن أخذ كل منهم نصيبا وافرا من اللكمات والركلات والكدمات، لم يشأ عباس أن يشاركه أحد في شرف تحطيم عربة العربجي، قام بذلك لوحده، حتى الحمار المسكين لم يسلم من بطشه، لقد أثبت أنه عند حسن ظن الناس به.
بدأ على التوّ العمل في المسجد والكنيسة معا، كان المسجد ينمو رشيقا نحيلا بينما كانت الكنيسة تنمو كقلعة من قلاع القرون الوسطى، أما عباس فقد ذاع صيته وعلا نجمه.
وفي أحد الأيام استدعاه شيخ الزاوية ووعظه موعظة حسنة بعد أن أثنى على جهاده وحسن بلائه، حثه على الالتزام الديني، سعد عباس أخيرًا عندما رأى نفسه محور اهتمام رجلٍ كهذا، سارع إلى تقبيل يديه وقدميه.
عهد بأمره إلى أحد زملائه الملتزمين لكي يعلمه أصول دينه التي هي المذهب السلفي، شكا إليه عباس تعثر أحواله المادية فوعده خيرا، تاب عباس وارتدى الزي السلفي الرسمي، وأمسك بالسواك، وأطلق لحيته التي تبيَّن أنها كثة بطريقة لافتة للنظر، أصبح هو فخورا بلحيته، أخذ زملاؤه يرمقونه بإعجاب، دبروا له عملًا كسباك في وقت كانت هذه المهنة قد أصبحت مربحة.
لم تتحسن أخلاقه كثيرا، ولم يكتسب من المعارف الدينية شيئا يعتد به، وهو في الحقيقة لم يقصِّر في طلب تلك المعرفة، ولكنه وجد أن مذهبه يغنيه عن بذل أي جهد يذكر، كان أكثر ما يتردد أمامه: "اتبعوا فقد كفيتم، الخير في اتباع من سلف، ما ترك الأوائل للأواخر شيئا، إياكم ومحدثات الأمور"، "التزمي يا أختاه" .... الخ.
ولكنه كان واثقا تماما من أنه عند الحاجة سيجد دائما من يرشده ومن يحل له مشاكله، لقد كان ذا إيمان عامي بكل ما يعنيه ذلك من معنى.
كان ما يقال له عن الدين من أول مصدر لقيه هو الدين، لم يكن أصلًا ذا ميول دينية عميقة ولم يجد لدى زملائه ما يعينه على تزكية نفسه وتحسين أخلاقه، ولكن أصبح له مكانة متميزة، كان مظهره السلفي المهيب يفرض حضوره على الناس.
أصبح المسيحيون في الحيّ يخشونه ويتقون شره، أعطى لنفسه الحق في أن يطالب الناس بالالتزام بالإسلام كما يفقهه هو، ما أسهل أن يمارس الإنسان التدين على غيره! نال المتصوفة أو الذكِّيرة أو القبوريون جانبا معتبرا من اعتداءاته، هذا رغم أنه يعلم أن والده كان يتردد على زاويتهم ويصطحبه معه إلى هناك في صغره.
أصبحت المجادلات الدينية شغل الناس الشاغل، سرعان ما تبين له أن زميله القبطي القديم سمير هو بطل هذه المجادلات، وجد أن زملاءه حديثي العهد بالإسلام مثله لا يستطيعون الصمود له، رغم الصداقة القديمة فإنه كان يضمر له ازدراءً انقلب إلى كراهية أخذت تتضاعف.
حدث أن شهد مناظرة بين هذا المسيحي وبين مجموعة من أصدقائه السلفية أبلى فيها بلاء حسنا وأقام عليهم الحجج من كتبهم، لم تسعفهم معارفهم ولا مذهبهم، مما أدى إلى تفاقم الأمر قلة درايتهم بالمسيحية وتاريخها مع تمكنه هو من أمهات كتبهم.
رأى أن زملاءه بحاجة ماسة إلى جهوده المعلومة، أسرَّ إليهم بما ينوي فعله؛ أن يلقن هذا القبطي المغرور درسا يكف بعده عن إثارة المشاكل، أوصاه زملاؤه بالحذر، كان يعرف الكثير عنه بحكم الصداقة القديمة، ولكنه أعاد دراسة سلوكيات فريسته المنتظرة جيدا حتى يتجنب أي خطأ.
1