نظرات في المذاهب
36
الـمُطـلَـق والـمقَـيَّــد
المطلق لغة: ضد المقيد، واصطلاحا: ما دل على حقيقة بلا قيد، فهو الخالي من القيد في معناه الأولي.
فالمطلق لفظ خاص لم يقيد بقيد لفظي يقلل شيوعه، فألفاظ مثل عربي، طائر، حيوان، كتاب، رجل ... الخ ألفاظ يشير كل منها إلى فرد واحد شائع في جنسه.
المقيد اصطلاحا: ما دل على حقيقة بقيد؛ كقوله تعالى:
{فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ ....} [النساء:92]
والفرق بين اللفظ المطلق وبين اللفظ المقيد: أن المطلق هو ما دل على فرد غير مقيد لفظا بأي قيد في نطاقه، مثل: عربي، طائر، حيوان، كتاب، رجل، والمقيد هو ما دل على فرد مقيد لفظا بأي قيد، مثل: عربي مصري، طائر أبيض، حيوان أليف، كتاب فلسفة، رجل رشيد.
والجمع المنكر، يلحقه الإطلاق والتقييد كالخاص، فاللفظ تلاميذ جمع منكر يشير إلى أفراد شائعين، أما تلاميذ مجتهدون فهو لفظ مقيد بما يقلل شيوعه، ويقصره على بعض أنواعه.
الدليل الشرعي للمطلق إذا لم يرد ما يقيده يجب حملة على إطلاقه، كما هو الحال في قاعدة العام إذا لم يخصص يحمل على عمومه.
وإذا ما ورد ما يدل على تقييد المطلق وجب حمل المطلق على المقيد، والمراد بحمل المطلق على المقيد كمصطلح إن المجتهد إذا نظر بالدليل فوجده من حيث وضعة اللغوي مطلقًا ولكنه وجد دليلاً أخر في اللفظ أو بلفظ أخر مستقل يقيد إطلاق ذلك المطلق وجب عليه أن يفهم المطلق على ما يقتضيه دليل التقييد، فيكون المعنى الشرعي هو المعنى المقصود من المقيد.
ومن المخصص المتصل: الشرط، وهو لغة: العلامة، والمراد به هنا: تعليق شيء بشيء وجودا، أو عدما بأحد أدوات الشرط.
قالوا: ((ومثال تخصيص الكتاب بالقياس: قوله تعالى:
{الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَة}
خصّ بقياس العبد الزاني على الأمة في تنصيف العذاب؛ والاقتصار على خمسين جلدة))
قولنا: لا يجوز تخصيص حكم قرءاني بالقياس، وينطبق على العبد الزاني الحكم العام.
والمشكلة أنهم استنتجوا حكم العبد الزاني بالقياس، ثم اعتبروا هذا الاستنتاج مثالا ودليلا على إعمال القياس!
وكان من الممكن لهم مثلا أن يجعلوا عقوبة العبد الزاني كعقوبة الأمة الزانية إذا ثبت أن العدل يقتضي ذلك، ولكن ذلك لا يجدي لوجود نصّ صريح غير مخصص، فعقوبة العبد الزاني ليس مسكوتًا عنها ليتم تحديدها بالقياس، ومن العجيب تناقضهم مع أنفسهم، فهم القائلون بأنه لا تخصيص للعامّ إلا بنصّ أو دليل.
وها هو قولهم:
((أما العام الذي لم يخصص أو لا يمكن تخصيصه فهو قطعي في العموم، لذلك فهو قطعي الدلالة على استغراقه لجميع أفراده، فاللفظ العام موضوع حقيقة لاستغراق جميع ما يصدق عليه معناه من الأفراد، واللفظ حين إطلاقه يدل على معناه الحقيقي قطعا، فالعام بدون قرينة تخصصه يدل على العموم قطعا، ولا يصرف عن معناه الحقيقي إلا بدليل)).
والمطلق يفهم على إطلاقه إلا إذا قام دليل على تقييده، فإن قام الدليل على تقييده كان هذا الدليل صارفا له عن إطلاقه ومبينا المراد منه.
قالوا: ((قوله تعالى في سورة الأنعام:
{قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَا أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّما عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَّسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ} [الأنعام:145]،
الدم هنا مقيد بالمسفوح، فالمراد بالدم في آية المائدة الدم المسفوح المنصوص على تحريمه في آية الأنعام، لأن الحكم في الآيتين واحد وهو التحريم، والسبب الذي بني عليه الحكم فيهما واحد وهو كونه دما، فلو كان الدم محرم مطلق الدم خلا القيد وهو "مسفوحا" من الفائدة)).
يغني عن ذلك قولنا بأن الحكم الموزع على آيات يجب تجميعه في عبارة واحدة؛ قد تتضمن مثلا تقييدا أو استثناءً أو مزيدا من البيان.
قالوا كمثال على تخصيص السنة بالكتاب: ((قوله صلّى الله عليه وسلّم: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله....". خص بقوله تعالى:
{قَاتِلُواْ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُون} [التوبة:29]
)).
والمشكلة هي أنهم اعتبروا المروية نصًّا مطلقا وناسخا لكل آيات الدعوة السلمية، هذا مع أن (ال) فيها هي العهدية، فالحديث هو عن قوم الرسول بالذات حتى يكف (الصحابة) عنهم بمجرد تلفظهم بالشهادة، وليس ليكرهوهم على الإيمان بها.
فالمشكلة أنهم اعتبروا "الناس" في المروية نصًّا مطلقًا، ثم اعتبروا المروية نصًّا مطلقًا، هذا مع أنهم لا يحيطون علمًا بكل ظروف وملابسات وتاريخ المروية، وإذا كان آيات القرءان بالنسبة لمسألة معينة يبين ويقيد بعضها بعضا فإنهم اعتبروا المرويات نصوصًا مطلقة لا يقيدها شيء، هذا رغم أنهم زعموا أن دورها هو تبيين ما هو مبهم في القرءان وتقييد مطلقه وتفصيل مجمله، وهم هنا يجعلون القرءان هو الذي يقيد ما يسمونه بالسنة.
وللوصول إلى الحكم القرءاني في مسألة القتال يجب تجميع كل الآيات التي تحدثت عنه والنظر فيها جميعا مع العلم بأن الحكم الذي هو مقتضى سمة أو شأن إلهي له التقدم على غيره، وهو في هذه المسألة وارد في الآية:
{وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِين} [البقرة:190]
وآيات القرءان تنص بكل وضوح على الشروط التي يجب توفرها في القتال المشروع.
1