نظرات في المذاهب
33
غير الواضح طبقًا لأقوال الأصوليين
قال الأصوليون إن غير الواضح من النصوص وهو ما لا يدل على المراد منه بنفس صيغته، فمعناه مستتر لذاته أو لأمر آخر، ويتوقف فقه المراد منه على أمر خارجي، وهو أربعة أنواع:
الخفي، المشكل، المجمل، المتشابه.
فإذا كان يمكن أن يُزال خفاؤه بالبحث والاجتهاد فهو الخفي أو المشكل، وإن كان لا يمكن أن يزال خفاؤه إلا بنصٍّ من الشارع نفسه فهو المجمل، وإن كان لا سبيل إلى إزالة خفائه أصلًا فهو المتشابه.
وهذه الأقسام بمزيد من التفصيل هي:
1. الخفي
الخفي هو اللفظ الذي يدل على معناه دلالة ظاهرة، ولكن عرض له شيء من الخفاء بسبب غير لفظه، ومن ذلك أن يكون في انطباق معناه على بعض الأفراد نوع غموض وخفاء تحتاج إزالته إلى نظر وتأمل، فيعتبر اللفظ خفيا بالنسبة إلى البعض من الأفراد.
ومنشأ هذا الغموض أن الفرد فيه صفة زائدة على سائر الأفراد أو ينقص عنها صفة، أو يكون له اسم خاص أو اسم شرعي، فهذه الزيادة أو النقص أو التسمية الخاصة تجعله موضع اشتباه، فيكون اللفظ خفيا بالنسبة إلى الفرد، لأن تناوله لا يفهم من نفس اللفظ، بل لابد له من أمر خارجي.
فالخفي هو لفظٌ وُضِعَ لمفهوم له أفراد عرَضَ لبَعْضِ أفرادِهِ خفاءٌ، كاختصاص ذلك البعض باسم خاص.
وهم يضربون عادة المثل التالي:
((لفظ السارق معناه ظاهر، وهو آخذ المال المتقوم المملوك للغير خفية من حرز مثله. ولكن في انطباق هذا المعنى على بعض الأفراد نوع غموض، كالنشال(الطرّار) فإنه آخذ المال في حاضر يقظان بنوع من المهارة وخفة اليد ومسارق الأعين، فهو يغاير السارق بوصف زائد فيه جرأة المسارقة، ولذا سمي باسم خاص. فهل يصدق عليه لفظ السارق فتقطع يده، أولا يصدق عليه فيعاقب تعزيرا؟ وقد ثبت بالاجتهاد اتفاقا وجوب قطع يده من طريق دلالة النص، لأنه أولى بالحكم من جهة أن علة القطع أكثر توافرا فيه، وكذا كل لفظ دل دلالة ظاهرة على معناه ولكن وجد خفاء واشتباه في انطباق معناه على بعض الأفراد يعتبر اللفظ خفياً بالنسبة إلى الأفراد)).
قلنا:
المثل الذي يقدمونه عادة لا ينطبق عليه تعريفهم، فاللفظ "سارق" معلوم معناه لغويا، أما انطباق الاصطلاح على من سرق فهو أمر لا يعود إلى طبيعة اللفظ ولا إلى استعماله في العبارة، وإنما يعود إلى طبيعة منهج التعامل مع معطيات الدين، فاللفظ "سارق" هو أيضًا مصطلح شرعي، ولكنه مصطلح شرعي مفتوح.
فيجب هاهنا التفريق بين السارق بالمعنى اللغوي وبين السارق بالمعنى الشرعي، ومن تنطبق عليه العقوبة هو السارق بالمعنى الشرعي، وتعريف السارق بالمعنى الشرعي ينطبق بالأولى على سارق مال جماعة من الناس أو أمة منهم، أو سارق أكفان الموتى، فالسارق شرعًا هو من يمتهن أخذ ما لا يحل له من أموال الناس.
وهم ينظرون إلى من ينطبق عليه الحكم وحده وليس إلى الفعل في ذاته، ولا ينظرون عادة إلى حقوق الضحايا أو إلى حق الأمة.
وفي تعريفهم للسارق قصروا معنى خفية على ضحية السرقة، واعتبروا النشال غير سارق لأنه سرق لمهارته من هو حاضر يقظان، والحق هو أن تعريف السارق الذي يستحق النكال المعلوم لا يجوز أن يكون بهذه الدرجة الهزيلة التي أوصلوه إليها، السارق هو من امتهن أخذ ما لا يحل له من أموال الناس خفية، فهو من امتهن الاستيلاء على أموال غيره بغير حق، ومن يسرق من مال الأمة لا تُرفع عنه العقوبة لشبهة أن له نصيبا من المال وإنما يجب أن تطبق عليه بصرامة، وهو قد جمع إلى جريمة السرقة خيانة الأمانة، وعلى أولي أمر الأمة سنّ ما يلزم من القوانين لمعالجة هذا الوضع، وعلى الناس طاعتهم لوجوب طاعة أولي الأمر.
ويجب تذكر دائمًا أن الدين ليس بالأصالة مدونة قانونية لتحديد أشكال العقوبات، فهو لم يضع لكل كبيرة من كبائر الإثم عقوبة دنيوية.
ولكون "السارق" مصطلحا شرعيا مفتوحا فتعريفه لا يجوز أن يتقيد بالسقف الحضاري للبيئة العربية في الحجاز في القرن السابع الميلادي، فقد استجدت أنواع عديدة من السرقة بسب اطراد التقدم.
قالوا: ((والطريق لإزالة هذا الخفاء هو بحث المجتهد وتأمله، فإن رأى اللفظ يتناول هذا الفرد ولو بطريق الدلالة جعله من مدلولاته فأخذ حكمه، وإن رأى اللفظ لا يتناوله بأي طريق من طرق الدلالة لم يجعله من مدلولاته فلا يأخذ حكمه، وهذا مما تختلف فيه أنظار المجتهدين)).
قلنا: الاجتهاد ليس إلا إعمال ملكات وفق آليات، ولابد من توفر المنهج السليم للوصول إلى قول سليم، والسارق هو من امتهن الاستيلاء على ما ليس حقا له من حقوق الناس، أو هم في غفلة عنه، أما السرقة المقترنة بخيانة الأمانة فتكون مسبوقة بأن كيانًا إنسانيا قد ائتمنه بعلم.
وغير واضح الدلالة يتضمن ما له اسم شرعي مفتوح، وما كان كذلك يمكن لأولي الأمر تحديد مصاديقه في كل عصر ومصر، فالسرقة الآن أصبحت أشد تنوعا بكثير مما كانت في الزمن الماضي، وبالتالي اتسع مفهوم السارق ليشمل ما استجد منها، وتحديد العقوبة في مثل هذه الحالات هو مفوض إليهم أيضا.
والأصوليون مولعون بمحاولة عمل المستحيل لإيجاد أمثلة لمصطلحاتهم، ومن ذلك قولهم: ((إن من الخفي ما كان ظاهر الدلالة على معناه، ولكن عرض له الخفاء بسبب معارضته لنص آخر)).
فهم بذلك يأخذون النص لوحده فيدركون منه معنى ظاهرا بالنسبة لهم، ويتكرر هذا بالنسبة لمصدر آخر، وبذلك يصبح كل نص مأخوذا لوحده خفيا ومثالا يصدق تعريفاتهم، ثم يحاولون من بعد النظر ومحاولة التوفيق لإزالة الخفاء.
ومنهجهم هذا خاطئ أصلا، وهو يؤدي بالضرورة إلى نتائج خاطئة، ولا يجوز استخلاص معنى خاص بمسألةٍ ما من عبارة مأخوذة لوحدها طالما توجد عبارات أخرى تعالج نفس المسألة، يجب أخذها جميعا في الاعتبار منذ البداية، ولا حاجة لاستعمال مصطلحات في مثل هذه المسائل.
*******
2. المشكل
المراد بالمشكل في اصطلاح الأصوليين هو اللفظ الذي خفيت دلالته على معناه لذاته، فهو الذي لا يدل بصيغته على المراد منه، بل لابد من قرينة خارجية تبين ما يراد منه، وهذه القرينة في متناول البحث.
فسبب الخفاء في الخفي ليس من نفس اللفظ، ولكن من اشتباه في مدى انطباق معناه على بعض الأفراد لعوامل خارجية، وأما سبب الخفاء في المشكل فمن اللفظ ذاته لكونه مستعملا عادة لأكثر من معنى، ولا يفهم المعنى المراد منه بنفسه أو لتعارض ما يفهم من نص مع ما يفهم من نص آخر.
فالمشكل ما كان الخفاء فيه من نفس الصيغة، وغالبًا ما يكون الخفاء فيه من تعدد معاني اللفظ، أي يكون من المشترك اللفظي.
ذلك لأن اللفظ المشترك مستعمل عادة وعرفا لأكثر من معنى واحد، ليس في صيغته دلالة على معنى معين مما وضع له، فلابد من قرينة خارجية تعينه، كلفظ القرء في قوله تعالى:
{وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوَءٍ} [البقرة:228]،
فإنه موضوع في اللغة للطهر وللحيض، فأي المعنيين هو المراد في الآية؟ وهل تنقضي عدة المطلقة بثلاث حيضات أو بثلاث أطهار؟
قال بعضهم إن القرء في الآية المراد منه الطهر، والقرينة هي تأنيث اسم العدد لأنه يدل لغة على أن المعدود مذكر وهو الأطهار ولا الحيضات، وهذه ليست بقرينة، فالعبرة في قاعدة تأنيث أو تذكير العدد بنوعية اللفظ المستعمل وليس بمعناه.
والحق هو في قوله تعالى:
{وَاللاَّئِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِن نِّسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاَثَةُ أَشْهُرٍ وَاللاَّئِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُوْلاَتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا} [الطلاق:4]،
فإنه جعل مناط الاعتداد بالأشهر عدم الحيض، فدل على أن الأصل هو الاعتداد بالحيض، فالقرء هو الحيض.
قال تعالى:
{وَاللاَّئِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِن نِّسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاَثَةُ أَشْهُرٍ وَاللاَّئِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُوْلاَتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا} [الطلاق:4]
فقد عوَّل على انقطاع المحيض في الآية لتقرير الأحكام، وإيجاب العدة على المطلقة هو يعرف براءة رحمها من الحمل، والذي يعرف هذا هو الحيض لا الطهر، ولذلك فأُوْلاَتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ.
ويجب هنا القول بأن ما يُسمى بأسماء الأضداد ينشأ من الاستعمال البشري للغة بطريقة مجازية، وذلك شائع دائما بينهم، فقد يسمون -مثلا- الخائب بالفالح أو البخيل بالكريم على سبيل التندر والتنديد به فيشيع هذا الاستعمال، فيظن الناس من بعد أن كلمة "فالح" أو "كريم" من أسماء الأضداد، وليست كل الأمور بهذا الوضوح، ولذلك يجب الاستقراء لاستخلاص المعاني الأصلية للألفاظ، وتوجد أمثلة مشهورة عديدة في التاريخ العربي.
والقرءان يستعمل الكلمات العربية بمعانيها الصحيحة، وليس وفق ما أضفاه عليها الناس من معانٍ لأي سبب من الأسباب.
قالوا: (( وقد ينشأ الإشكال في النصوص عند مقارنة بعضها ببعض، أي يكون كل نص مأخوذا لوحده ظاهر الدلالة على معناه ولا إشكال في دلالته، ولكن الإشكال في التوفيق والجمع بين هذه النصوص، وسائر النصوص التي ظاهرها التعارض.
والطريق لإزالة إشكال المشكل هو الاجتهاد. فعلى المجتهد، إذا ورد في النص لفظ مشترك أن يتواصل بالقرائن والأدلة التي نصبها الشارع إلى إزالة إشكاله وتعيين المراد منه، وإذا وردت نصوص ظاهرها التخالف والتعارض، فعلى المجتهد أن يؤولها تأويلاً صحيحاً يوفق بينها، ويزيل ما في ظاهرها من اختلاف، وهاديه في هذا الدليل: إما نصوص أخرى، أو قواعد الشرع أو حكمة التشريع)).
والحق هو أن الإشكال وبالتالي وجود المشكل إنما ينشأ من منهجهم في التعامل مع نصوص وألفاظ القرءان، فهم دأبوا على اقتطاع أصغر جزء ممكن من العبارة القرءانية ثم تفسيره بمعزل عن الأجزاء الأخرى التي اقتطعوها أيضًا، وبذلك تنشأ ظاهرة الإشكال، ومن ثمَّ يسندون إلى أنفسهم مهمة التوفيق بين التعارضات التي لا وجود لها إلا في خيالهم وأنفسهم.
وقد سبق ذكر بعض ما يلزم للتعامل مع القرءان.
وبذلك يمكن أن يتبين لهم أن مصطلحاتهم بخصوص الخفي والمشكل خاطئة أو نسبية، ويمكن فقه النصوص القرءانية بدونها، ولا يجوز تسمية نص بالمشكل طالما أنه يمكن اتباع المنهج القرءاني لإدراك دلالاته.
وقد يُستعمل الاسم في القرءان بالفعل بأكثر من معنى لوجود صلات وعوامل مشتركة بين هذه المعاني، واتباع المنهج القرءاني هو الكفيل بتحديد المعنى المقصود، ولا يجوز هاهنا الزعم بأن أحد المعاني هو المعنى الأصلي ثم إتباع ذلك بالزعم بأن المعاني الأخرى مجازية، أو يتبعون أي سبيل آخر.
ومن ذلك زعمهم بأن كلمات مثل يد أو عين تعني فقط أسماء الأعضاء المعلومة، ثم زعمهم أن هذه هي المعاني الصحيحة عندما تنسب هذه الأسماء إلى الله تعالى نفسه، فالعبارات ليست مشكلة، وإنما المشكلة هي في أنفسهم.
إنه يجب دائمًا البدء بتحديد المسألة المراد معرفة القول القرءاني فيها، ثم تجميع كل النصوص القرءانية التي ذكرت شيئًا ما عنها، ثم النظر فيها جميعا كنصٍّ واحد، وعندها يتبين أنه لا إشكال.
*****
3. المجمل
وهو في اللغة: المبهم، اسم مفعول من الإجمال بمعنى الإبهام أو الضم، يقال: أجمل الأمر، أي: أبهمه.
والمراد بالمجمل في اصطلاح الأصوليين اللفظ الذي لا يدل بصيغته على المراد منه، ولا يوجد قرائن لفظية أو حالية تبينه، فسبب الخفاء فيه لفظي لا عارض، فهو ما خفيت دلالته على معناه لذاته.
فالمجمل هو الذي اختلط فيه المرادُ بغير المراد، فسمي مجمَلا، واصطلاحًا: ما ينطوي في معناه على عدة أحوالٍ وأحكام قد جمعت فيه، ولا يمكن معرفتها إلا بمبيِّن، ويكون التبيين ممَّن أجمَلَ الخطاب، وليس ثم إلا نصوص الكتاب العزيز.
وبذلك تظهَرُ المفارَقة بين (المجمل) و(المشكل)، فإذا كان كلٌّ منهما قد ثبت الغموضُ فيه من الصيغة نفسِها، فإن ما يميز المجمَلَ عن المشكل هو أن طريق إدراك المراد من المجمَل، لا يكونُ إلا من جهة المجمِل؛ إذ هو وحده الذي يستطيع أن يبيِّنَ صوره وجزئياته المتشعبةَ، في حين ثبت طريقُ درك المشكل بالقرائن الخارجة، التي قد تكون نصًّا منفصلا أو قياسًا أو عملا.
وينقسم المجمَل إلى ثلاثة أنواع:
1. ما كان غيرَ مفهوم قطعًا قبل التفسير؛ لغرابة لفظِه.
وهم يأخذون كأمثلة ألفاظ مثل القارعة، والطارق مع أن النصوص التالية لها تبينها!!!
2. مفهوم المعنى لغةً، لكن ذلك المعنى ليس هو المراد شرعًا؛ كالربا والصلاة والزكاة، وغيرها من المصطلحات الشرعيةِ، التي نقَلها الشارع من معانٍ لغوية مألوفة إلى معانٍ شرعية غريبة، ومن هنا لم يعرف السامعُ المرادَ منها إلا عن طريق السماع من المصدر الناقل لها نفسِه؛ لأن (مطلق الزيادة التي يدل عليها لفظُ الربا، وكذلك الدُّعاء والنَّماء اللذان يدل عليهما لفظُ الصلاة والزكاة، لم يبقيَا مرادينِ بيقين، ونقلت هذه الألفاظ إلى معانٍ أخرى شرعية).
3. مفهوم معناه لغة، لكن الإجمال فيه حصل من تعدُّد المعنى، الذي يدل اللفظُ عليه، وتوارده على ذهن السامع بالتساوي دون مرجِّح، وذلك هو المشترك عندما تنعدمُ الأدلةُ والقرائن التي تحدِّدُ المعنى المراد منه.
وفي كل الأحوال، فإن البيانَ اللاحق بالمجمَلِ يجعله من أنواع واضحِ الدلالة إن كان البيان شافيًا، أو يجعَلُه في الأقل في رتبة المشكل من خفي الدلالة إن لم يكن البيان بذلك الوصف؛ لأنه حينئذٍ يتاح للاجتهاد لحل الإشكال.
والحقّ أن المشكل والإشكال هو في عدم اتباعهم للمنهج القرءاني والتصرف والتعامل مع القرءان وكأنهم مجموعة من العجم المحايدين غير المؤمنين.
فالإشكال نشأ أصلًا بسبب الإعراض عن التدبر والمسارعة إلى اتهام آيات القرءان بلا دليل.
*****
ومن المجمل الألفاظ المشتركة التي يتعذر تعيين المراد منها والألفاظ التي نقلت من معانيها اللغوية إلى معانٍ اصطلاحية دينية.
قالوا: ((فمن مجمل الألفاظ التي نقلها الشارع عن معانيها اللغوية ووضعها لمعان اصطلاحية شرعية خاصة، كألفاظ الصلاة والزكاة والصيام والحج والربا، وغير هذا من كل لفظ أراد به الشارع معنى شرعيا خاصا لا معناه اللغوي.
فإذا ورد لفظ منها في نص شرعي كان مجملا حتى يفسره الشارع نفسه. ولذا جاءت السنة العملية والقولية بتفسير الصلاة وبيان أركانها وشروطها وهيئاتها، وقال الرسول "صلوا كما رأيتموني أصلي"، وكذلك فسر الزكاة والصيام والحج والربا وكل ما جاء مجملا في نصوص القرءان)).
والحق هو أن الألفاظ التي أعطاها القرءان معاني اصطلاحية تصبح بذلك مصطلحات قرءانية، والقرءان هو مصدرها الأعلى، والسنن العملية المتواترة هي مصدر رسوم الشعائر كإقامة الصلاة والحج، أما مضامينها فتستخلص من القرءان وما يصدقه وفق منهج قرءاني صارم، ولا يوجد أي داعٍ لتسميتها بالمجمل، هي مصطلحات قرءانية دينية.
فإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة مصطلحات قرءانية، يمكن إدراك تفاصيلها، فإن لم تتوفر يجب أن يجتهد المرء للقيام بها وفق الفقه القرءاني، فالصلاة صلة بين العبد وربه، فيجب العمل على دعم وترسيخ هذه الصلة، والزكاة حق للفقراء والمساكين في أموال الأغنياء، فيجب أن يخصص المسلم جزءا من أمواله للفقراء يؤديه كل حولٍ مناسب، وهي دورة هذا المال، فزكاة المحصولات الزراعية مثلا تؤدى عند الحصاد.
وقد اختلفوا في لفظ "الربا"؛ هل هو مجمل يحتاج إلى بيان و"ال" فيه للجنس أم هو من باب الظاهر لأن معناه كان معلوما للعرب و"ال" فيه للعهد.
والحق أن "الربا" موضح في القرءان، فهو المقابل (المضاد) للقرض الحسن، وهو الذي يتضمن ظلمًا بأحد الطرفين، هو عادة الطرف الأضعف، وهو الذي يؤدي إلى مضاعفة رأسمال المقرض أضعافا مضاعفة على حساب المدين العاجز عن السداد.
والمشكلة تنشأ من محاولة إلزام الألفاظ بتقسيماتهم ومصطلحاتهم، ولفظ الربا هو مصطلح شرعي، تبين مضمونه آيات القرءان وما هو معهود عند العرب أيضا.
وهناك نوعٌ من الربا كان معلومًا للعرب هو ربا الفضل، وقد ورد النهي عنه في المرويات:
في مروية عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ، وَالفِضَّةُ بِالفِضَّةِ، وَالبُرُّ بِالبُرِّ، وَالشَّعِيرُ بِالشَّعِيرِ، وَالتَّمْرُ بِالتَّمْرِ، وَالمِلْحُ بِالمِلْحِ، مِثْلًا بِمِثْلٍ، سَوَاءً بِسَوَاءٍ، يَدًا بِيَدٍ، فَإِذَا اخْتَلَفَتْ هَذِهِ الأَصْنَافُ فَبِيعُوا كَيْفَ شِئْتُمْ إِذَا كَانَ يَدًا بِيَدٍ» أخرجه أحمد ومسلمٌ.
وفي مروية عن أبي سعيدٍ الخدريِّ رضي الله عنه أنَّ رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم قال: «لَا تَبِيعُوا الذَّهَبَ بِالذَّهَبِ إِلَّا مِثْلًا بِمِثْلٍ، وَلَا تُشِفُّوا بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ، وَلَا تَبِيعُوا الوَرِقَ بِالوَرِقِ إِلَّا مِثْلًا بِمِثْلٍ، وَلَا تُشِفُّوا بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ، وَلَا تَبِيعُوا مِنْهَا غَائِبًا بِنَاجِزٍ».
فالمرويات تبين أن التعامل إنما يكون بالقيمة الحقيقية للأشياء، وبالأشياء ذات القيمة الحقيقية.
فالبيع بالمقايضة كثيرًا ما يدخل فيه الغبن الفاحش وكثيرًا ما يقع به الضرر، وربا الفضل هو ربا في مبادلة أو مقايضة، أما وقد أصبحت المعاملات مالية، فلم يعد ثمة مشكلة، والمرويات تبين تحريم نوع من الربا كان معهودًا لهم.
فكل صور الربا التي تتضمن ظلمًا بأحد الأطراف محرمة من حيث أن الظلم محرم، ولأن أكل أموال الناس بالباطل محرم.
ولكن الربا الذي هو محرم تحريما شديدا بالقرءان هو ربا الإقراض الذي يترتب عليه مضاعفة مال المقرض أضعافًا مضاعفة على حساب المدين العاجز عن السداد.
قالوا: ((ومن المجمل اللفظ الغريب الذي فسره النص نفسه بمعنى خاص، كلفظ القارعة في قوله تعالى:
{الْقَارِعَةُ (1) مَا الْقَارِعَةُ (2) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ (3) يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ (4)} [القارعة]، ولفظ الهلوع في قوله تعالى : {إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا (19) إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا (20) وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا (21) } [المعارج]، أو الطارق في قوله تعالى: {وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ (1) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ (2) النَّجْمُ الثَّاقِبُ (3)} الطارق.
والحق هو أنه لا غرابة في لفظ "القارعة"، فهو صيغة مبالغة لاسم الفاعل من الفعل "قرع" مثلما أن طاغية وداعية ونابغة هي صيغ مبالغة من الأفعال الآتية على التوالي: طغى، دعا، نبغ، وإذا كان القرءان قد استعمل لفظ "القارعة" استعمالا خاصا وأكسبه مدلولا اصطلاحيا فصَّله في نفس السورة فما هو الداعي لتسمية اللفظ بالمجمل الغريب؟!
أما لفظ "هلوع" فهو مفسر بما ذُكِر من بعده، ولا يوجد أي غموض فيه.
خلاصة أقوالهم:
((فكل لفظ لا يفهم المراد منه بنفسه بسبب وضعه لغة لأكثر من معنى إذا حفت به قرائن يمكن أن يتوصل بها إلى تعيين المراد منه فهو المشكل.
وكل لفظ لا يفهم منه المراد بنفسه إذا لم تحف به قرائن يتوصل بها إلى فهم المراد منه فهو المجمل.
فسبب إجمال اللفظ إما كونه من المشترك الذي لا تحف به قرينة تعين أحد معانيه، أو إرادة الشارع منه معنى خاصًّا غير معناه اللغوي، أو غرابة اللفظ وغموض المراد منه.
والمجمل بأي سبب من هذه الأسباب الثلاثة لا سبيل إلى بيانه وإزالة إجماله وتفسير المراد منه إلا بالرجوع إلى الشارع الذي أجمله، لأنه هو الذي أبهم مراده ولم يدل عليه لا بصيغة لفظية ولا بقرائن خارجية، فإليه يرجع في بيان ما أبهمه.
وإذا صدر من الشارع بيان للمجمل ولكنه بيان غير واف بإزالة الإجمال صار به المجمل من المشكل، وفتح الطريق للبحث والاجتهاد لإزالة إشكاله، ولم يتوقف بيانه على الرجوع إلى الشارع، لأن الشارع لما بين ما أجمله بعض التبيين فتح الباب للبيان بالتأمل والاجتهاد. ومثال ذلك الربا، ورد في القرءان مجملاً وبينه الرسول بحديث الأموال الربوية الستة)).
من الغريب أن يصفوا ما يسمونه بالمشكل أنه هو الذي حفت به قرائن يمكن أن يتوصل بها إلى تعيين المراد منه!!
فإذا كان اللفظ قد حفت به قرائن يمكن أن يتوصل بها إلى تعيين المراد منهفلماذا يسمونه بالمشكل؟! ما هي المشكلة؟! إن هذا اللفظ يمكن باتباع المنهج القرءاني تحديد معناه والفراغ من أمره، ولكن المشكلة هي أنهم مصرون على النظر إلى اللفظ في أصغر جملة يمكن أن تتضمنه دون النظر إلى ما يحفّ به من قرائن، والإصرار على محاصرته وإطلاق أحد الأسماء عليه.
ومن إساءة الأدب مع الله تعالى أن يقولوا: "وإذا صدر من الشارع بيان للمجمل ولكنه بيان غير واف بإزالة الإجمال صار به المجمل من المشكل"، ومن الأولى أن يُقال لهم:
"وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنتُم بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُم مِّنْ الْخَاسِرِين"،
وكذلك خسرت معهم الأمة التي رفعتهم فوق رؤوسها، وما هو غير واف بالنسبة لهم من المقصود أن يكون هكذا، وذلك لأن مدلولاته ومصاديقه تتطور باختلاف العصر والمصر وباطراد التقدم.
وكان يجب عليهم إخراج الأسماء (المصطلحات) القرءانية أو الدينية من مصطلحاتهم، وأن يعلموا أن الأسماء القرءانية ليست مصطلحات فقط بالمعنى القانوني والشكلي، وإنما هي أسماء دينية عامة تشمل أسماء مثل: القيامة، الساعة، الحاقة، القارعة، إقامة الصلاة، إيتاء الزكاة، الجنة، النار، .... الخ.
*****
المجمل في اصطلاحهم ما دل على أحد معنيين لا مزية لأحدهما عن الآخر بالنسبة إليه.
وقولهم: (على أحد معنيين) أخرج النص، فإنه يدل على معنى واحد معين، وقولهم: (لا مزية لأحدهما على الآخر) أخرج الظاهر، فإنه يدل على معنيين لكن أحدهما أرجح من الآخر.
وقولهم: (بالنسبة إليه) أي: بالنظر إلى اللفظ المجمل وحده، وإن كان أحد المعنيين راجحا بالنسبة لدليل آخر بيَّن المجمل، وذلك لأن الإجمال لم يعد باقيا في شيء من نصوص الوحي التكليفية، فهي قد بينت أكمل بيان.
وإذا كانت نصوص الوحي التكليفية، بإقرارهم قد بُيِّنت أكمل بيان، فلماذا يصفون بعض ألفاظ القرءان بالمشكل وبالمجمل؟ ألم يكن من الأفضل تبجيل وتوقير القرءان وتنزيهه عن التحكمات اللغوية؟
قالوا: والنصوص المجملة الباقية على إجمالها لا يتعلق بها تكليف، مثال المجمل الذي بيِّن: قوله تعالى:
{وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [الأنعام141]
فقد قام الدليل على أن الحق الواجب في المال هو الزكاة ومقاديرها معلومة، وذهب بعض العلماء إلى أن المراد بالحق هنا: الصدقة المطلقة منه يوم الحصاد بما تجود به نفس المالك من غير تحديد.
نقول: قوله تعالى
{وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ}
هو أمر قرءاني محكم، لا سبيل إلى التشكيك فيه، وهو أمرٌ مفتوح، بمعنى أن تحديد هذا الحقّ من مهام أولي الأمر الحقيقيين في كل عصر ومصر، والأمر يلزم المؤمنين بأن يؤدوا الحقّ عند الحصاد، وهذا هو تمام الحول بالنسبة للمحاصيل الزراعية.
وعلى ذلك لا يكون هناك مجمل لم يبين، ولكن يوجد متشابه استأثر الله بعلمه أو علمه الراسخون في العلم دون غيرهم، كما قال تعالى:
{هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ} [آل عمران7].
وقد اختلف القراء في الوقف أين يكون؟
فمن وقف عند لفظ الجلالة: (إلا الله)، قال: إن المتشابه ما استأثر الله بعلمه، ومثل له بحقائق ما يقع يوم القيامة، من وزن الأعمال ونصب الصراط والعبور عليه ونحو ذلك، وبكيفيات صفات الله جل وعلا.
ومن وقف عند لفظ العلم، قال: إن الراسخين في العلم يعلمون المتشابه، وفسر المتشابه بما غمض معناه حتى لا يعرفه إلا الراسخون في العلم. ولكل من الفريقين حجج في ترجيح ما ذهب إليه، والآية محتملة للأمرين.
1