top of page

نظرات في التاريخ العام

المسجد الأقصى والإسراء

الإسراء

كان المكانُ الذي يشغله المسجد الأقصى الآن قبلةَ المسلمين الأولى، فالدين عند الله واحد؛ هو الإسلام به أُرسل كل الرسل، ولقد بدأ بصورة بسيطة ثم أخذ ينمو ويكتمل مع الزمن مواكبا لتطور الإنسان وتقدمه ودافعا إليه، وكان يتخللُ ذلك نزولُ شرعةٍ ومنهاجٍ من حينٍ لآخر لإصلاح الأحوال الخاصة بالأقوام والأمم، وهذه الشرائع والمناهج من الممكن أن تتعدد.

ولكن كان التطور يمضي باتجاه الوفاء بكل ما يلزم الإنسانية الشاملة والعالمية، ولقد بدأ الإسلام رسميًا بإبراهيم عليه السلام، وبلغ في سياق اكتماله ذروة كبرى مع موسى عليه السلام، ثم ذروة مع مجمل أنبياء بني إسرائيل ثم ذروة كبرى مع المسيح عليه السلام، إلى أن آن أوان اكتمال الدينِ وتمامه، وقد حدث ذلك بالرسالة المحمدية التي تلقاها خاتم النبيين صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ، فبلغ الدين أوجَ كماله، وأصبح رسالة عالمية للناس كافة، وقد تضمن علوما جديدة وشرائع جديدة، ونسخ ما نسخ من الشرائع السابقة الخاصة وأبقى ما أبقى، فالمسجد الأقصى هو عنوان وحدة الدين.

فالمسجد الأقصى هو قبلة المسلمين الأولى، وهو البيت الذي كان مركز الرسالات السابقة، كما كان قبلتهم ومقر اعتكاف الأنبياء، ومحور اهتمام الأمة التي كانت تحمل الرسالة، فالدين واحد، وكان المسلمون بهذا الاعتبار يتخذون المسجد الأقصى قبلة في مكة، وبعد الهجرة مكثوا على ذلك مدة 16 شهرًا تقريبًا، وكلمة "المسجد" هي بالأصالة اسم مكان، فالعبرة بالمكان وليس بالبنيان، وهذا المكان هو الذي أسرى الله تعالى بعبده خاتمِ النبيين إليه ليلا، قال تعالى:

{سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلا مِنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} الإسراء

والمراد بـ (عبده) في القرءان كلِّه إذا وردت هكذا مطلقة بدون ذكر اسم العبد هو خاتم النبيين سيدُنا محمد وحده لا غيره، فهو العبد المطلق لله تعالى، وهو العبد المحض المضاف للهوية الإلهية، قال تعالى:

{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا (1)} الكهف، {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا (1)} الفرقان، {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (36) الزمر، {فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى (10)} النجم، {هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ آَيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (9)} الحديد

أما إذا كان المقصودُ غيرَه فلابد من ذكر اسمه، قال تعالى:

{ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا (2)} مريم.

فالعبد المطلق المضاف إلى الهوية الإلهية هو محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِه وسَلَّمَ، والله الذي أنزل على عبده الكتاب والفرقانَ والآياتِ البينات هو الذي أسرى به، وهو الذي أوحى إليه ما أوحى عندما كان قاب قوسين أو أدنى.

ومن أسمائه العَلَمية أيضًا الاسم "عَبْدُ اللَّهِ"، قال تعالى:

{وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا} [الجن:19]

والرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِه وسَلَّمَ قد انتقل من مكة إلى المسجد الأقصى في أورشليم (كان اسمها في ذلك الوقت إيليا اختصارا لاسمها الروماني إليا كابيتولينا) بأمر الله تعالى، والبراق هو الكائن الذي كان لازما لحماية جسده الشريف أثناء الانتقال الحقيقي إلى هناك، وفي المسجد الأقصى (المكان) أمّ النبيين في الصلاة، وفي ذلك إشارة إلى إمامته لهم وتقدمِه عليهم.

*****

قال تعالى:

{سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ البَصِير} [الإسراء:1]

فهو سبحانه الذي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى، وهو أيضًا الذي أمر موسى بأن يسري بعباده ليلا في قوله تعالى:

{فَأَسْرِ بِعِبَادِي لَيْلاً إِنَّكُم مُّتَّبَعُون} [الدخان:23]

وفي ذلك إشارة إلى أن الإسراء هو بالأجسام الحقيقية وفي نفس الإطار الزمني الخاص بهذا الكوكب الأرضي، فالإسراء بالنبي كان حقيقيا بمثل ما كان إسراء موسى بمن اتبعه حقيقيا، والفرق مع ذلك هائل، فالذي أسرى بالنبي هو الله تعالى المقدس والمنزه والذي هو عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِير، والذي أسرى ببني إسرائيل هو موسى عليه السلام.

والرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِه وسَلَّمَ قد انتقل من مكة إلى المسجد الأقصى في أورشليم (كان اسمها إليا في ذلك الوقت) بأمر الله تعالى، وكان يوجد ما يحيط بجسمه حمايةً له، وهناك أَمّ النبيين في الصلاة، وفي ذلك إشارة إلى إمامته لهم وتقدمِه عليهم، فالإسراء هو رحلة ترقٍّ في عالم الملك، أي في عالم الشهادة، وهو يتضمن استيعاب كمالات الأنبياء من حيث أنهم في عالم الشهادة، والإسراء يتضمن اختزال المكان والإشارةَ إلى نسبيته، والنص على أنه كان ليلا للتأكيد على أن الإسراء كان في عالم الشهادة، فالإسراء لم يكن رحلة منامية وإنما انتقالا حقيقيا.

ويزعم الكثير من (القرءانيين) و(المجتهدين) الجدد أن آية الإسراء خاصة بموسى عليه السلام ظنا منهم بأن الإسراء يجب أن يكون واحدا في القرءان كله!!! وهم يحاولون ليّ عنق هذه الآية لتؤيد أقوالهم.

والحق هو أنه كما قيل لموسى عليه السلام:

{فَأَسْرِ بِعِبَادِي لَيْلاً إِنَّكُم مُّتَّبَعُون} [الدخان:23].

كذلك قيل للوط عليه السلام:

{قَالُواْ يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَن يَصِلُواْ إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِّنَ اللَّيْلِ وَلاَ يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ إِلاَّ امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيب} [هود:81].

والفرق الهائل بين آية تقول إن الله سبحانه هو الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَك حَوْلَهُ لِيُرِيَهُ مِنْ آَيَاتِه وبين أن يأمر أحد الأنبياء بأن يسري بالناس هربا من العبودية أو الهلاك! ولكن المشكلة هي في هؤلاء (المجتهدين) الذين أضلهم الشيطان ودفعهم إلى إنكار اية مكرمة للرسول الأعظم!!

ويقول الكثير من (القرءانيين) و(المجتهدين) الجدد إنه لم يكن هناك مسجد في وقت الإسراء لأن المسجد الأقصى بناه الأمويون!! ولذلك يجب بيان ما يلي:

  1. المسجد أصلا مكان، وليس بالضرورة بناءً، فهو المكان الذي يسجد فيه الناس لربهم، والبناء القائم في المكان قد يتهدم ويُعاد بناؤه دون أن يعني ذلك انتفاء وجود المسجد، وقد حدث ذلك للكعبة نفسها عدة مرات.

  2. المسجد يستمد مكانته من أنه كان المكان الذي عمل فيه أنبياء بني إسرائيل؛ وهي الأمة الحاملة للرسالة قبل الأمة المحمدية، ففيه مثلا اعتكف زكريا ومريم ودخله المسيح عليهم السلام.

  3. الأمويون بنوا المسجد في هذا المكان لعلم الناس بأنه هو المسجد الأقصى المقصود في الآية، وقد اهتم المسلمون بأمره بمجرد فتح أورشليم-القدس، والذي بدأ البناء في المكان المعلوم هو عمر بن الخطاب وليس الأمويين، وكون الأمويين حاولوا استثمار الموضوع لصالحهم ليس بحجة ضد المسجد الأقصى، كما أن إعادة الأمويين بناء الكعبة بعد أن دمرها جيشهم بقيادة الحجاج الثقفي ليس بحجة ضد الكعبة!

  4. ويقول بعضهم: "وأين آثار الهيكل الذي بناه سليمان؟"، والجواب هو: "وأين ما عمله له الجن من مَّحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَّاسِيَاتٍ؟" إن أمر سليمان عليه السلام كله خارج نطاق المألوف، واختفاء آثاره وآثار الأنبياء كان لأن الله تعالى أراد أن يكون أمرهم غيبا عن الناس ليكون مجالا للإيمان، ومن المضحك أن يقول أحدهم إنه لن يؤمن بالنبي سليمان مثلا إلا إذا ثبت وجوده تاريخيا بالوثائق والأدلة الساطعة!!! ومع ذلك فمن يستطيع أن يجزم بأن كل آثار العالم القديم قد بقيت؟ ومن يستطيع أن يجزم أن كل ما بقي قد اكتشف كله؟

*****

والإسراء هو تجول وسفر وانتقال واعٍ حقيقي للنفس الإنسانية الحقيقية في أقطار الأرض وفي عالم الشهادة وهي في حال يقظتها وتمام وعيها لترى أيضا من آيات الله الكبرى، والأهم في هذا الأمر هو النفس بالطبع، ولا توجد مشكلة في أن تكون مصحوبة بالجسم، فكل هذه الأمور داخلة في مجال القدرة الإلهية، وهي لا تمثل أي خرق للقوانين والسنن، وإنما هي خرق للمألوف فقط، وهي مترتبة على إعمال أنساق أعلى منها، ويجب أن يعلم الناس أن الله تعالى يعيد خلق كل إنسانٍ مع الزمن، ولا مشكلة عنده في أن يعيد خلقه في مكانٍ آخر!

أما المعراج فهو صعود وتجوال حقيقي وسفر وانتقال للنفس الإنسانية الحقيقية، وهي الكيان الإنساني الجوهري، في أقطار السماوات وما فوقها وهي في حالة يقظتها وتمام وعيها لترى من آيات الله الكبرى.

ويجب العلم بأن السماوات هي عوالم حقيقية متدرجة في اللطافة والنوعية ونسق القوانين الحاكم عليها، وأنها تختلف عن الأجرام السماوية التي تشكل السماء الدنيا، والمعراج في هذه السماوات اللطيفة إلى الله تعالى لا يعني أبدا أي انتقال مادي، ولا يجوز أن يتصور الناس أن المعراج في السماوات إلى الله تعالى بمثابة رحلة فضائية، وهذا التصور المادي خاطئ ومضلل وتشبيهي.

والإسراء والمعراج هما قطبا حلقة رقي وعلو وتسامي أي نبي، لذلك فهما يتبادلان التأثير المؤدي إلى هذا التسامي والرقي.

*****

الإسراء هو رحلة ترقٍّ في عالم الملك، أي في عالم الشهادة، وهو يتضمن استيعاب كمالات الأنبياء من حيث أنهم في عالم الشهادة، والإسراء يتضمن اختزال المكان والإشارةَ إلى نسبيته، والنص على أنه كان ليلا للتأكيد على أن الإسراء كان في عالم الشهادة، والإسراء يكون بالإنسان حال كونه ذا جسم، وفي حياته هذه، قال تعالى لموسى عليه السلام:

{فَأَسْرِ بِعِبَادِي لَيْلاً إِنَّكُم مُّتَّبَعُون} [الدخان:23]،

وكذلك قيل للوط عليه السلام:

{قَالُواْ يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَن يَصِلُواْ إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِّنَ اللَّيْلِ وَلاَ يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ إِلاَّ امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيب} [هود:81]

فالإسراء لم يكن رحلة منامية وإنما انتقالا حقيقيا، والقول إلى المسجد الأقصى يعني تماما المكان الذي كان فيه المسجد وليس بالضرورة البنيان، فكلمة "مسجد" في اللسان العربي هي بالأصالة اسم مكان مشتق للدلالة على مكان وقوع الفعل مثله مثل: منزل، مجلس، مجرى، مسعى .... الخ.

أما المعراج فهو صعود وتجوال حقيقي وسفر وانتقال للنفس الإنسانية الحقيقية في أقطار السماوات وما فوقها وهي في حالة يقظتها وتمام وعيها، ولابد لأول معراج أن يكون مسبوقا بالإسراء، والإسراء هو تجول وسفر وانتقال واعٍ حقيقي للنفس الإنسانية الحقيقية في أقطار الأرض وفي عالم الشهادة وهي في حال يقظتها وتمام وعيها، وهو يعبر أيضاً عن اكتمال الكيان الإنساني الظاهري واكتمال الاستعداد لبدء المعراج.

ولقد قصّ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ على الناس كيف ارتقى رقيا سريعا حتى تجاوز كل المقامات والدرجات ووصل إلى المرتبة الأعلى فكان الآية الكبرى، ورأى الآية الكبرى، فرووا عنه ما استوعبوه، وظل الرواة يتناقلون شفاهيا ما رُوى عبر عشرات السنين قبل عصر التدوين، فمروية المعراج تشير إلى أصل صحيح، فلابد للنفس بعد ظهورها وبسعيها إلى ربها من الترقي من مرتبة أولية إلى مرتبة نهائية، ولابد من عمل في عالم الشهادة للوصول إلى العبودية القصوى والمرتبة العليا، ولابد من تحقق لطائف النفس بكمالاتها ومن تذوقها لمقامات من جُعلوا أئمة كل عالم لطيف، ولابد لخاتم النبيين من تجاوز كل العوالم اللطيفة والانفراد برب العالمين.

والترقي مفتوح إلى ما لا نهاية، والمقصود بالمرتبة النهائية في الرسالة هي نهاية ما يصل إليه الإنسان في حياته الدنيا.

فلقاء النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ بالأنبياء واحدا تلو الآخر ولقاؤه بكل نبي في سماء من السماوات هو إشارة إلى تحققه في حال كونه في عالم الشهادة بمراتبهم وتجاوزه لدرجاتهم، هذا مع كون كل واحد منهم وصل إلى ذروة كمالٍ معين، وأصبح في الذروة لكل من يتطلع إلى هذا الكمال ممن يتوافق معه.

والإسراء المذكور في القرءان هو بالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ من المسجد الحرام في مكة إلى المسجد الأقصى في المدينة المسماة بالقدس الآن، والمقصود بالمسجد هو المعبد الذي كان يتعبد فيه الأنبياء من قبل، أي المعبد الذي صلَّى فيه المسيح ومن أتى قبله من الأنبياء واعتكف فيه زكريا ونُذرت له مريم عليهم السلام، والعبرة بالمكان، ولقد هدم الأمويون الكعبة مرتين، وكان المسلمون يحجون إلى مكانها بلا حرج، وبافتراض أن الكعبة انهارت مثلا بسيل من السيول أو لأي سبب آخر الآن لما كان هناك من حرج في الحج إلى مكانها حتى يُعاد بناؤها، وهذا ما حدث بالفعل، وقد انتقل النبي ليلا من المسجد الحرام في مكة إلى المسجد الأقصى في القدس، والعبد المطلق المنسوب إلى الهوية الإلهية في القرءان هو النبي الخاتم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ وليس موسى عليه السلام.

ولا يجوز الالتفات إلى أقوال المؤرخ أو بالأحرى المخرف د. الصليبي الذي قام بنفي الشرق الأوسط كله من مكانه وحشره في عسير في جنوب الحجاز في سبيل أن يجعل من كتاب اليهود صحيحا تاريخيا ولدحض أي حق للمسلمين في المسجد الأقصى ولفتح مجالات للكيان الصهيوني ليتوسع من بعد، كما لا يجوز الالتفات إلى شتى اقتراحات المهاوييس الجدد وعبيد الشهرة التي تطلع من حين لآخر بهذا الخصوص.

ومطلع سورة الإسراء يشير إلى انتقال حمل الرسالة إلى الأمة المحمدية وانتهاء دور بني إسرائيل كأمة حاملة للرسالة وإلى تواريخ خاصة ببني إسرائيل، ويتضمن أسرارا ورموزا متعلقة بمصيرهم يدركها المؤهلون لذلك، ومن مطالع السور يمكن استخلاص بعض الأسرار المتعلقة بالأمور المستقبلية، وقد استخلص أبو الحكم عبد السلام بن برجان تاريخ استعادة بيت المقدس أيام صلاح الدين من مطلع سورة الروم، وذلك قبل استعادته.

*****

أما الصخرة فهي أسطورة لا أصل لها، ولم يكن يجوز بناء قبة عليها أبدا، فلا وجود في الإسلام لأشجار أو صخور مقدسة، ولو كان تقديس الأشياء جائزا لكان من الأولى أن تُبنى القبة على طور سينين الذي شهد التجلي الإلهي وكان فيه كلام الله تعالى لموسى عليه السلام، أو تُبنى على مكانٍ عاش فيه النبي بالفعل وتلقى فيه الوحي مثل بيته أو غار حراء، ومن المعلوم أن القبة المبنية على ضريح النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ بناها سلطان مصر محمد بن قلاوون سنة 678 هـ ثم أعاد بناءها السلطان قايتباي سنة 888 هـ، ولم يفكر أحد من قبل هذا في أن يبني قبة هناك.

ولا شك أن الأرض التي تضم جسد النبي هي أقدس من صخرة يزعمون بلا أي دليل أنها المكان الذي انطلق منه دابة اسمها البراق إلى السماء!!!! ولا يوجد أي نص قرءاني يشير إلى أهمية خاصة للصخرة، وقولهم بأنها كانت منصة انطلاق البراق إلى السماء بحكم أنها أعلى نقطة في المنطقة هو زعم مضحك، وليس للمعراج في السماوات إلى سدرة المنتهي أية دلالات مكانية، وهي لم تكن رحلة فضائية، ويجب العلم بأن البيت الذي كان يعيش فيه النبي والمكان الذي دُفن فيه أقدس من هذه الصخرة، أما اهتمام الأمويين بهذه الصخرة وإنفاقهم الأموال الهائلة لبناء قبة عليها فكان له أهدافه السياسية أساسا، وقد كان الحافز على ذلك هو إعلان عبد الله بن الزبير نفسه خليفة في الحجاز وسيطرته على المشرق الإسلامي واستفحال أمره، ومن المعلوم أن هذه القبة مصممة ليطوف الناس بها.

*****

إن المعراج هو اسم يُطلق على مجموعة التجارب السامية التي يمر بها النبي في سعيه نحو ربه وتلقيه الوحي منه وتحققه بمراتب الكمال، وهذا التحقق يتم بكل قوى وجود النبي وكل كياناته، وقد أشارت إليها سورة النجم، ويجب العلم بأن جنة المأوى والسدرة وغيرها أجلّ من أن تكون أكوانا مادية كالأرض مثلا، ولكنها أكوان واقعية حقانية أعظم وجودا من الأرض، وكذلك المعراج هو أكثر حقانية وواقعية من كل حقائق الأرض، وعندما يتحقق الإنسان بالحياة الحقانية في الدار الآخرة سيدرك عندها أن كل حياته الدنيوية بالنسبة لها كانت كأضغاث أحلام.

أما السؤال هل الإسراء كان بالروح أم بالجسد فهو سؤال خاطئ أصلا، ويدل على جهل عريق، ومن طرحه لا يعرف الفرق بين الروح وبين النفس، وهو من نتائج غلبة التصورات المادية الإسرائيلية الأعرابية على المذاهب وطبع الناس بطابعها.

ولكون المعراج يسمو فوق كل الخبرات البشرية العادية فلا توجد تعبيرات لغوية مألوفة للإنسان تصلح لشرحه وبيانه، وكل ما يمكن هو الإشارة إليه بالرموز، ولذلك ورد ذكره في آيات متشابهات في مطلع سورة النجم.

ويجب العلم بأن كلمة "رؤيا" لا تعني بالضرورة رؤيا منامية، ومن الغريب أن المسلمين الذين من المفترض أنهم يؤمنون بالغيب ويعلمون أن النبي الخاتم كان يتلقى الوحي من عالم الغيب تغلب عليهم التصورات المادية الفجة ويكفرون حقيقة بالغيب، وهذا بالطبع من تأثير الطبيعتين الإسرائيلية والأعرابية اللتين غلبتا على المذاهب الأعرابية الأموية العباسية بشتى صورها.

أما المرويات الشائعة فقد دخلها كثير من أساطير الفرس وأهل الكتاب، ولكن ذلك لا يجوز أن يُتخذ ذريعة لنفي المعراج، فلا نبي بدون معراج!

ويجب العلم بأن التعبير عن التجارب السامية الخاصة بالمصطفين الأخيار من الناس هو فوق الإدراك العادي ولا يمكن التعبير عنها إلا بأسلوب رمزي؛ أي بآيات متشابهات!

ومرويات الإسراء تندرج في إطار بيان هذا الموضوع، فلها أصل في القرءان، فلا يجوز أبدا التكذيب بكل ما تتضمنه، لقد ذكر القرءان بكل وضوح أنه هو الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَك حَوْلَهُ لِيُرِيَهُ مِنْ آَيَاتِه، وجاءت مرويات مبينة لذلك ومتسقة معه، فلا يجوز النفي المطلق لها أو التكذيب بها، وفي نفس الوقت ليس ثمة ما يلزم المسلمين بالإيمان بكل التفاصيل الواردة في هذه المرويات.

ورغم أن الرسول لم يتحدَّ أحدا بالإسراء أو المعراج إلا أن منكري النبوة في قرارة أنفسهم مصرون على أنه يجب اعتبارهما معجزتين ليتمَّ من بعد نفيهما بحجة أن الرسول لم يأت قومه بآيات أي معجزات!!! وهم في الحقيقة يتهمون القرءان بالتناقض، فالله تعالى يعتبر كتابه آية وآيات!

وكذلك طالما أثبت الله تعالى العلم ببعض الغيب لبعض رسله، وقال إنه يظهر على غيبه من ارتضى من رسول فلا يجوز لأحد نفي علم النبي ببعض الغيوب بإذن الله تعالى وإظهاره، وما المعراج إلا رحلة في عالم الغيب تجل عن الحسابات والقيود الزمكانية.

*****

إن كل تجارب السمو والرقي الجوهري يُطلق عليها إجمالا اسم المعراج (يمكن إطلاق أي اسم آخر)، ذلك لأنها تعبر عن الاقتراب الفعلي من الله تعالى (وهذا لا يعني قطع مسافات مادية)، ولابد لكل نبي من القسط الأوفر منها! ولكن المكذبين بعالم الغيب –وإن كانوا محسوبين على الإسلام- لا يأبهون بها، فهم يريدون الدين جدلا بيزنطيا أو مذهبا اجتماعيا أو مقولات يتصارعون بها مع الآخرين، النبي بشر، ولكنه مؤهل روحيا ووجدانيا ليتصل بعالم الغيب ويرى كبار الملائكة الذين لو رأى أحدهم بشر عادي لانفطر قلبه، ومنهم من يسمع مباشرة كلام ربه، ومنهم من رأى، ومَا كَذَبَ الْفُؤَادُ منه مَا رَأَى، ورأى ما يَغْشَى السِّدْرَةَ، ومَا زَاغَ الْبَصَرُ منه وَمَا طَغَى لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى، وبذلك كان شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا، وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُّنِيرًا.

*****

إن المعراج يعبر عن الرقي الإنساني الجوهري بعد الوجود في عالم الشهادة، وأثناء هذا الرقي يتحقق الإنسان ذو المدى الأبعد بمقامات من سبقوه إلى عالم الشهادة واحدا تلو الآخر ويتجاوزهم واحدا تلو الآخر، ويستوعب كل تفاصيل مقاماتهم ويتعرف على الأمور الموحاة في كل عالم من العوالم اللطيفة المتتالية والمتداخلة وعلى الكائنات التي تعيش في هذا العالم وتدبره وتفصله بإذن ربها، هذه العوالم هي أكثر حقانية من هذا العالم المادي الطبيعي، ولكل واحد من الأكابر معراجه الخاص.

والتعبير عن الحقائق العليا التي هي خارج نطاق الخبرة البشرية يستلزم دقة عالية، مثلا: القول بأن المعراج هو بالجسد يستلزم القول بالتجسيد وبتقييد الإله في مكانٍ ما، وهذا غير صحيح، والناس لا تعرف قيمة النفس ولا تعلم أنها هي الإنسان الحقيقي، وفي الوقت ذاته فرغم أن رقي الإنسان ككل لا يعني أساسا إلا رقي هذه النفس وتحققها بدرجات من القرب الإلهي الحقيقي فالقول بأن المعراج بالروح (ويقصدون بها النفس) يمكن أن يجعل الناس تظن أن المعراج حلم أو رؤية ليلية!! والمعراج بداهة أكبر من ذلك بكثير، هل وضحت المشكلة؟! لذلك قلنا إن المعراج يعبر عن الرقي الإنساني الجوهري بعد الوجود في عالم الشهادة ورحلة الإنسان صعدا إلى ربه، رغم أنه لا يترتب على ذلك أي انتقال مكاني، فالله تعالى ليس محصورا في أحد أركان الكون!

ولابد لكل نبي من معراج إلى ربه، وبالطبع لابد من تشابه مثل هذه التجارب كما تتشابه النبوات في جوهرها، لذلك فوجود قصة مشابهة عند الفرس مثلا لا يجوز أن يُتخذ ذريعة لنفي المعراج النبوي، وأمور المعراج المشار إليها في آيات متشابهات في سورة النجم هي من الأمور الغيبية، ومن الإيمانيات.

وإذا كان الإسراء هو ترقٍّ في عالم الشهادة ويترتب عليه اختزال المكان فالمعراج هو ترق في عالم الغيب ويترتب عليه اختزال الفواصل الزمنية.

الإنسان هو نقطة التمييز بين عالمي الغيب والشهادة، فالأمر نسبي، وعالم ما بداخل النواة الذرية مثلا هو غيب الآن بالنسبة للإنسان، فعالم الشهادة هو هذا العالم المألوف للإنسان، ولابد له من إطار زمكاني، أما ألفاظ مثل "السماء" و"السموات" فلها استعمالات عديدة في القرءان، والسياق هو الذي يحدد معناها، والسماوات السبع المنسوبة إلى الله هي سبعة عوالم متنوعة من حيث المادة (بالمفهوم العام) ونسق القوانين الحاكم والإطار الزمكاني اللازم، ولهذه السماوات نقاط أو لطائف مناظرة في الكيان الإنساني، وكلما تيقظت لطيفة منها لدى إنسان لأي سبب من الأسباب اشتد إحساسه بكائنات العالم المناظر، ولكل عالم من هذه العوالم نبي خاص بلغ الذروة في التفاعل مع هذا العالم والتحقق بعلومه، وخُتمت به الدرجات في هذا العالم.

والمعراج هو عملية ترقٍّ وتحقق فعلي بما في هذه العوالم العلوية، وفي هذه الرحلة القدسية كان لقاء النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ بنبي هذا العالم إشارة إلى تحققه بمقامه واستيعابه لعلومه حال كونه في عالم الشهادة، وهذه العوالم للطافتها متداخلة، لا يزاحم بعضها بعضا كما هو الحال في الكائنات المادية.

وبالطبع، كانت هذه الأمور أعلى من استيعاب الرواة فأنزلوا الخبر إلى مستوى إدراكهم واستيعابهم، وأصبحت المسألة رحلة فضائية تستلزم دابة مجنحة استعاروها من التراث الفارسي الأشوري البابلي كما استعاروا تفاصيل قصة رحلة موجودة لدى الفرس الزرادشتيين.

*****

سيظل سيدنا محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ في رقيٍّ دائم إلى ربه دون أن يلحقه أحد ممن هم من دونه، لأن حقيقته أشرف وأجمع، ولذا فمداه أبعد، وترقيه أسرع، ولكنه مهما ترقى سيظل عبداً لربه، بل إن هذا الترقي يعني تحققه بمزيد من العبودية، لذلك فإنه في حالات ترقيه الإسرائية والمعراجية قد وصفه الله تعالى بالعبودية قال تعالى:

{سُبْحَانَ الّذِي أَسْرَىَ بِعَبْدِهِ} (الإسراء: 1)،

وقال:

{فَأَوْحَىَ إِلَىَ عَبْدِهِ مَآ أَوْحَىَ} (النجم: 10)،

إن الله تعالى قد خلق رسوله الحبيب في أحسن تقويم، وأجمل فيه من صفات الكمال ومقاديره ما لا تسعه الأكوان، ثم أرسله رحمة للعالمين، ورتب من الأحداث والوقائع والابتلاءات ما هو قمين بإبراز وتفصيل ما أجمل فيه من صفات الكمال، فرآها الناس وعاينوها وعلموا أنه هو الرؤوف الرحيم المطاع الأمين الهادي البشير النذير والداعي إلى الله بإذنه والسراج المنير ذو الصفح الجميل، وكذلك هو القائد الفذ العظيم والقاضي العادل الأمين، فرأى الناس فيه المثل الأعلى والقرءان الحيّ يسعى والحجة البالغة والهدي والنور والآية الكبرى.

*****

إن ثمة تناظر بين معراج النبي المشار إليه بعبارات متشابهات في أول سورة النجم وبين ما حدث لموسى في سينين، فالأفق الأعلى يناظر الوادي المقدس طوى، والسدرة العلوية تناظر الشجرة، والوحي العلوي الغامض المسكوت عنه يناظر الكلام المسموع المذكور في القرءان، والدنو والتدلي يناظر التجلي، وما يغشى السدرة المشار إليه يناظر التجلي للجبل، وصدق رؤية الفؤاد وثبات البصر يناظر ما حدث لموسى عندما تجلى ربه للجبل، والفرق بين النبيين الكريمين هو الفرق بين الأمرين.

*****

إن الرسول قد روي للمستمعين كيف أسرى به وكيف عرج به إلى السماوات وما فوقها، وكانت الرواية طويلة وتتضمن تفاصيل لا عهد لأحد بها وليس لديهم ربما الألفاظ التي تعبر عن تلك التجربة غير المألوفة، ولكن الأمر واضح وضوحا إجماليا، فالوقائع المرئية تبين كيف تحقق النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ بكمالات من سبقه من الأنبياء تحققا ذوقيا واستوعبها وكيف تجاوزهم واحدا بعد الآخر، فهو ارتقى من حيث المقام والدرجة وفقا لمقتضيات الحكمة الإلهية، وذلك الرقى حدث بالطبع مرة واحدة ولم يكن ثمة داع لتكراره، ومنظومة أسماء الحكمة والتي تتضمن من المثاني الحكيم العليم والحكيم الخبير والعليم الحكيم .... تقتضي ألا يتحقق الإنسان بكل مراتب الكمال دفعة واحدة بل لابد من الترقي شيئا فشيئا، أما بعد أن تحقق بمقاماتهم واستوعب ما لديهم حق له أن يعرج مباشرة إلى ما فوق السماوات وأن يتابع سموه وترقيه إلى ما لا نهاية له من المقامات والدرجات.

ويلزم القول بأن العروج ليس برحلة مادية بالمعنى الدارج بل هو معراج للنفس السامية فهي تسمو إلى أعلى المراتب وتجول في الملكوت جولانا حقيقيا وتطالع الآيات الإلهية الكبرى مطالعة حقيقية من حيث ما اكتسبته أو ما تيقظ فيها من ملكات واستعدادات راقية يعبر عنها إجمالا بروح القدس، فما تراه النفس من حيث ذلك هي أمور حقانية وكل ذلك لا يستلزم انتقالا للجسم من مكانه.

ومما رآه ما قصه على الناس من مشاهد لمصائر الطائعين والعاصين، واختلاف الرواة في تلك التفاصيل إنما كان بسبب كثرة الوقائع وتعددها فلم يكن لفرد واحد أن يستوعب وأن يتذكر كل ما قيل خاصة وأن ما رواه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ لم يدون في محضره ولا في وقته وإنما دون من بعد ذلك كثير.

أما الصلاة فلقد كانت مفروضة منذ بداية البعثة النبوية وإنما حدد عددها في معراجٍ ذي أهمية خاصة، أما كونها خمسا في العمل وخمسين في الأجر فتلك سنة إلهية اقتضتها منظومة أسماء الرحمة والهدي، أما الحوار الذي دار بخصوص عددها فإنما كان في نفس النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ إذ تضمنت نفسه الحقيقة الموسوية والتي كانت أصلا من تفاصيل حقيقته، فلما تحقق بها واستوعبها في المعراج انتقلت إليه بالضرورة كل خبراتها وأذواقها وتجاربها، وبالتالي فهو لم يكن مضطرا للتنقل بين ربه سبحانه وبين موسى عليه السلام، ذلك لأن الله سبحانه محيط بالمكان والأكوان، وإنما دار الحوار في نفسه بين مقتضيات حقيقتين في أمر فوِّض إليه أصلا تحديده وفقا لخبراته وخبرات من سبقه والتي اكتسبها بالعروج والرقى، ثم حسم النداء الإلهي الأمر وثبت بذلك كونه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ قد أُرسل رحمة للعالمين، والتفاصيل التي أوردوها غير صحيحة، ولكن لها أصل هو التخفيف عن الأمة.

أما توزيع الأنبياء على السماوات فهو للدلالة على أن السماوات ليست كطبقات بناء مادي مثلا وإنما هي عوالم لطيفة تتفاوت في اللطافة كما تتفاوت أيضا في النوعية والقوانين والمقتضيات، لذلك لا يتحتم بالضرورة أن تعلو إحداها الأخرى بالمفهوم المكاني الدارج أو أن يحتوى الأعلى منها الأدنى إذ أنها غير مقيدة بالإطار الزمكاني المألوف وإنما يمكن أن تتجاور وأن تتداخل كما أن وجود نبي في سماء أعلى أو أدنى لا يعنى أفضليته المطلقة على نبي آخر وإنما هو بيان بالكيان اللطيف الذي كان غالبا عليه وللاسم الإلهي الذي يربه ويتولى أمره، ومن الجدير بالذكر أن الكيان الإنساني الجوهري يتضمن ما يناظر تلك السماوات السبع من اللطائف والتي يكون كل منها من مادة السماء المناظرة، ويلاحظ أن السماوات السبع شيء والسماء الدنيا شيء آخر.

أما وجود باب لكل سماء فإشارة إلى نقاط الاتصال والتداخل بين كل عالم والعالم الآخر والتي يمكن من خلالها الانتقال من عالم إلى عالم آخر، وفى ذلك أيضا إشارة إلى ضرورة إتيان البيوت من أبوابها.

والأرض نفسها مكونة من طبقات، وتوجد بوابات أو فتحات أو نقاط اتصال وانتقال فيما بينها.

أما الطَرْق فإشارة إلى ضرورة أن يصدر فعل إيجابي من الإنسان حتى يتم له ما يريد، فلكي يغفر له مثلا لابد أن يعرف أن ربه غفور رحيم ولابد أن يستغفره، أما الاستئذان بنفس الكيفية وبنفس الكلمات فإشارة إلى ثبات القوانين والسنن المتعلقة بالآداب فالترقي لا يجعل الإنسان في حل من أداء الواجبات والتمسك بالآداب.

وما رُوى عن الإسراء والمعراج يبين علو درجته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ على سائر الأنبياء والمرسلين والملائكة المقربين، وكذلك يبين علو درجة جبريل عليه السلام على خواص الأنبياء المرسلين، وهو يبين أيضا أنه طالما كان الإنسان حيا فإن فرصته في العلو والترقي تظل قائمة، ولذلك فإن خواص البشر نظرًا لطبيعة الإنسان يمكنهم تجاوز درجات ومراتب ومقامات كثير من الملائكة والذين خلق كل منهم في مقامه المعلوم في حين ندب الإنسان إلى السعي للتحقق بكماله والفوز بالدرجات العلى، ويتبين من أمر الإسراء والمعراج أن رؤية آيات الله الكبرى تكون على مراتب بحسب درجات الرقى الإنساني، وأعلى تلك المراتب أن يرى الآيات بأشد حواسه كشفا وهى البصر ويراها كلها دون أن تشغله آية عن الأخرى، فلا يزوغ البصر ولا يطغى، أما المرتبة التي تسبق الرؤية البصرية والتي تعنى الانكشاف التام للأمر المدرك فهي الرؤية الفؤادية أي من حيث الجانب الواعي من القلب الإنساني الذي يتضمن كافة الملكات القلبية من جانبها الإرادي أي الذي يمكن للإنسان توجيهه ويكون على وعى تام بمدركاته.

لذلك فالإنسان يكون على وعى بمجال إعمال الفؤاد، وهذا المجال يتضمن أساسا الكيانات الأمرية، فالرؤية الفؤادية ألطف من الرؤية البصرية، فبالفؤاد يرى الإنسان المعاني والأفكار كما هي ويدرك الأمور التي ليست لها صورة يتعلق بها الإدراك البصري كما يرى الكيان الأمري من كل كائن الرؤية الملائمة، أما الإدراك البصري فيعنى انكشاف الأمر تماما بالنسبة إلي الرائي وإن كان لا بد له من صورة لا تقترب من حقيقة الكيان إلا بقدر رقي الإنسان، ويمكن للإنسان الحريص على تزكية نفسه وتحقيق كمالها إذا ما سمت مرتبته أن يتحقق له الإدراك البصري في النهاية، أما الإدراك الفؤادي فهو للصفوة من أولى الألباب وقد يكون متبوعا بالإدراك البصري.

*****

الإسراء بالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَك الله حَوْلَهُ هو كما تقول السورة تماما؛ أي إن الإسراء تم به كله؛ بنفسه وجسمه، وكان هذا يستلزم حماية الجسم بآية إلهية، وهي بالطبع لم تكن دابة مجنحة، هذه الدابة المجنحة استعارها القصاصون من التراث الأشوري البابلي الفارسي.

وقد عرج بالرسول مرات لا حصر لها إلى السماوات العلى، وكان أولها قبل الإسراء، وبه تحقق بما هو أصلا مقدر له.

وفي أول معراج طاف الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآله وسَلَّمَ في الملكوت؛ أي في عالم الغيب المتعدد الأبعاد، وعرج إلى ربه وارتقى وتجاوز في ذلك درجات الأنبياء، وتذوق في كل مرحلة كل كمالاتهم الجوهرية وتحقق بها واستوعب خبراتهم واستوعب كمالاتهم في عالم الغيب كما استوعبها من قبل في عالم الشهادة.

ثم تحقق بدرجات أئمة الملأ الأعلى وتجاوزها إلى أن وصل إلى المكانة العليا مرتبة انفراده بربه التي لا يُنطق بها ولا يمكن لمخلوق أن يتخيلها أو أن تخطر بباله.

أما السؤال هل كان ذلك بالروح أم بالجسد فليس بسؤال صحيح، وكان عليهم أن يستبدلوا فيه بالروح النفس، ولا يدرى أحد كيف استمروا يرددون مثل هذا السؤال طوال أربعة عشر قرنا دون أن يفكروا في ماهية السؤال ذاته والذي هو خطأ محض، والحق هو أن الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآله سَلَّمَ قد وصل بذاته وكل كيانه إلى المكانة العليا وعاين التجليات العظمى بكل قوى وجوده، وتلك التجليات ليست بذات صورة، ولكن التجلي إذا اشتد فسيدركه الإنسان بكل كيانه ولطائفه وحواسه وستترجمه كل حاسة إلى أسمى ما لديها، فيتعلق البصر بنور جميل باهر ويتعلق السمع بأعذب الأصوات وبأعذب الكلام، وذلك في حين أنه يري بدون عينين ويسمع بدون أذنين، فالنفس الراقية لا تكون بحاجة إلى حواس الجسد.

ويجب العلم بأنه قد ثبت تماما أن واضعي المرويات من الفرس قد أدرجوا في مروية الإسراء والمعراج كثيرا من أسطورة كانت معرفة لديهم مما أعطى الفرصة لأعداء الله تعالى للتطاول على الإسلام والتشكيك في موضوع الإسراء وفي الإسلام ذاته، وكان ذلك بسبب عبيد السلف والمرويات، فيجب على محترفي التكسب بالدين العودة إلى كتاب الله تعالى والكف عن ترديد أساطير الفرس.

وحقائق الإسراء والمعراج هي أشد حقانية من حقائق الوجود المادي المألوف، بل إن حقائق الوجود المادي تبدو كخيالات وأوهام أو كسراب بقيعة مقارنة بحقائق الإسراء والمعراج!

*****

المسجد الأقصى

كان المكان الذي يشغله المسجد الأقصى قبلةَ المسلمين الأولى، فالدين عند الله واحد؛ هو الإسلام به أُرسل كل الرسل، ولقد بدأ بصورة بسيطة ثم أخذ ينمو ويكتمل مع الزمن مواكبا لتطور الإنسان وتقدمه ودافعا إليه، وكان يتخللُ ذلك نزولُ شرعةٍ ومنهاجٍ من حينٍ لآخر لإصلاح الأحوال الخاصة بالأقوام والأمم، وهذه الشرائع والمناهج من الممكن أن تتعدد، ولكن كان التطور يمضي باتجاه الوفاء بكل ما يلزم الإنسانية الشاملة والعالمية ولقد بدأ الإسلام رسميا بإبراهيم عليه السلام، وبلغ في سياق اكتماله ذروة كبرى مع موسى عليه السلام، ثم ذروة مع مجمل أنبياء بني إسرائيل ثم ذروة كبرى مع المسيح عليه السلام، إلى أن آن أوان اكتمال الدينِ وتمامه، وقد حدث ذلك بالرسالة المحمدية، فبلغ الدين أوجَ كماله وعالميته، فجاء بعلوم جديدة وبشرائع جديدة، ونسخ ما نسخ من الشرائع الخاصة وأبقى ما أبقى.

فالمسجد الأقصى هو قبلة المسلمين الأولى، وهو البيت الذي كان مركز الرسالات السابقة، كما كان قبلتهم ومقر اعتكاف الأنبياء، ومحور اهتمام الأمة التي كانت تحمل الرسالة، فالدين واحد، ولا يستطيع أحد أن يجادل في أن قبلة اليهود كانت تجاه أورشليم وأن قبلتهم داخل أورشليم هي في اتجاه الهيكل، وكان المسلمون بهذا الاعتبار يتخذون المسجد الأقصى قبلة في مكة، وبعد الهجرة مكثوا على ذلك مدة 16 شهرًا تقريبًا، وكلمة "المسجد" هي بالأصالة اسم مكان، فالعبرة بالمكان وليس بالبنيان، وهذا المكان هو الذي أسرى الله تعالى بعبده خاتمِ النبيين إليه ليلا.

واتخاذ المسجد الأقصى قبلة لفترة من الوقت يعبر عن المرحلة الانتقالية التي كانت لازمة لتكوُّن الأمة الجديدة الحاملة للرسالة واكتمالها، كما يعبر عن استمرارية الدين الواحد، فلقد بدأ الأمر بأَوَّل بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ، وهو الَّذِي بِبَكَّةَ، ثم انتقل إلى البيت الثاني الذي كان أقرب إلى مركز العالم القديم، وهو أورشليم في فلسطين، ثم عاد إلى حيث بدأ بعد أن اكتمل الدين.

والمسجد الأقصى هو المرادف الإسلامي لما يسميه أهل الكتاب بالهيكل أو المعبد، وأهميته وبركته مستمدةٌ من كونه المكانَ الذي تبارك بوجود أنبياءِ بني إسرائيل الذين خُتموا بالمسيح عليه السلام، وهو الذي كان يعمل فيه النبي زكريا، وفي محرابه بُشر بيحيى، وفي محرابه اعتكفت مريم، وكان فيه يأتيها الرزق من حيث لا يعلم الناس، وقد دخله المسيح الحقيقي، وكل هذا لا يتوفر لأي مكان آخر يمكن أن يزعموا أنه المسجدُ الأقصى.

وبيان أهمية المسجد الأقصى في الإسلام هو بيان بأن الدين واحد.

والهيكل الأول، هو الذي بناه النبي سليمان عام 960 ق.م وقد تم تدميره تدميرا عام 586 ق.م. على يد نبوختنصر ملك بابل الذي سبى اليهود إلى بابل، وفر نبيهم إرميا مع باقي الأسرة المالكة وأعيان اليهود إلى مصر.

والهيكل الثاني، بناه زروبَّابل بمساعدة الفرس بعد أن قضوا على مملكة بابل سنة 539 ق.م. وسمحوا لليهود بالعودة إلى فلسطين، وتم بناؤه عام 515 ق.م، وقام هيرودس الإدومي ملك اليهود بتوسيعه، سنة 20-18 ق.م، ومعبد هيرود هو الذي حلّ محل هيكل زروبابل وبنى حوله سورا، وحائط المبكى الحالي جزء من سور هيرود.

وقد دمر الجنرال الروماني تيتوس ابن الإمبراطور ڤسپاسيانوس الهيكل الثاني مع أورشليم عام 70 ميلادية، وذلك بعد ثورة اليهود الأولى سنة 66 ضد الرومان.

والجزء الباقي من أساسات سور هيرود قسم منه يعود إلى أواخر القرن السادس قبل الميلاد، وهو ما تبقى من سور هيكل زروبَّابل الذي كان واليا على اليهودية من قبل الفرس وقد أتم بناءه سنة 515 ق. م، وهو ليس في نفس مكان هيكل سليمان بالضبط، وقسم منه يعود إلى القرن الأول الميلادي وهو أساس سور هيرودس نفسه، وقد وسع هيرودس الإدومي معبد زروبابل.

وأرضية هذا المعبد هي التي أقيم عليها المسجد الأقصى وقبة الصخرة، والذي اصطحب الخليفة عمر إليه هم أهل إيليا، فهو لم يكن خافيا عنهم، وقد دمره القائد الروماني تيتوس سنة 70 م بعد ثورة اليهود الأولى على الرومان.

ومن المعلوم أنه من بعد قرار الإمبراطور هادريانوس بحظر دخول اليهود إلى أورشليم فقد سمح لهم الإمبراطور قسطنطين من بعده بالدخول إلى أورشليم (إيليا) مرة واحدة كل عام (في التاسع من آب) ليبكوا على أنفسهم ولينتحبوا عند ما تبقى من سور الهيكل، ولكن لا يوجد ما يؤكد بالضرورة أن حائط المبكى هو بالفعل من سور الهيكل القديم، وفي رأي أغلبية الحاخامين اليهود يكون الدخول إلى الحرم القدسي محظورا على اليهود منذ خراب الهيكل، فلذلك الحائط هو أقرب نقطة من مكان الهيكل التي يمكن لليهود الصلاة فيها حسب الشريعة اليهودية العصرية.

Following the Bar Kokhba revolt, Emperor Hadrian combined Iudaea Province with neighboring provinces under the new name of Syria Palaestina, replacing the name of Judea. The city was renamed Aelia Capitolina, and rebuilt it in the style of a typical Roman town. Jews were prohibited from entering the city on pain of death, except for one day each year, during the holiday of Tisha B'Av.

وهيكل سليمان موقعه مؤكد، وقد بُني خارج مدينة أورشليم اليبوسية على التل الأوسط، وقد تم تحديد خط السور الإضافي، وأمكن تحديد تاريخه بأنه تقريبا النصف الثاني من القرن العاشر قبل الميلاد، أي فترة حكم داود وسليمان.

قام الملك هيرود بتوسيع هيكل زروبابل والإضافة إليه حتى بلغت مساحته تقريبا ضعف المساحة الأصلية، لم يبق من هيكل زروبابل سوى أساسات سوره وأرضيته التي أُقيم عليها المسجد الأقصى وقبة الصخرة، والجزء الباقي مؤلف من قسمين قسم يعود إلى أواخر القرن السادس، وهو ما تبقى من سور هيكل زروبابل، وجزء يعود إلى القرن الأول وهو أساس سور هيرود نفسه، ويلتقي الأساسان بشكل واضح عند نقطة تقع على مسافة 33 م تقريبا إلى الشمال من الزاوية الجنوبية الشرقية لسور الحرم الحالي، والاكتشافات المتعلقة بسور المدينة وقناة سلوان تؤكد صحة روايات العهد القديم الخاصة بالملك حيزقيا Hezekiah الذي تعرض للهجوم الأشوري.

وتظهر البينات الأركيولوجية ما ورد من تفاصيل دمار أورشليم وخراب سورها في القرن في أوائل القرن السادس ق.م.، وكذلك في بقية مدن يهوذا، حيث ظهرت آثار انقطاع حضاري دامت قرابة قرن ونصف من الزمان.

وهناك أوصاف مفصلة لشكل المعبد وطريقة العبادة فيه كما كانت في القرن الأول للميلاد (فيما يسمى بـ"الهيكل الثاني" أو "هيكل هيرودس") في مؤلفات المؤرخ اليهودي الروماني يوسيفوس فلافيوس، وخاصة في مؤلفه "حروب اليهود" الذي يسرد سلسلة الأحداث التي أدت إلى التمرد اليهودي على الرومان وأحداث التمرد، كذلك توجد بعض الدلائل الأثرية التي تدعم أوصاف يوسيفوس فلافيوس مثل حجرتين تحملان نقوشا باللغة اليونانية تم العثور عليها في حفريات قرب الحرم القدسي (توجد إحداهما في متحف إسطنبول الأثري والأخرى في متحف روكفلر بالقدس)، وهي تحذر الرواد غير اليهود من الدخول في المكان المقدس، وبوابة تيتوس في روما المنقوش عليها صورة مسيرة جنود رومانيين يحمل كنوز الهيكل بعد انتصارهم على اليهود المتمردين عليهم في القدس وتدميرهم للهيكل سنة 70 م.

Many Jewish tombs from the Second Temple period have been rediscovered in Jerusalem. One example, discovered north of the Old City, contains human remains in an ossuary decorated with the Aramaic inscription "Simon the Temple Builder." The Tomb of Abba -also located north of the Old City- bears an Aramaic inscription with Paleo-Hebrew letters reading: "I, Abba, son of the priest Eleaz(ar), son of Aaron the high (priest), Abba, the oppressed and the persecuted, who was born in Jerusalem, and went into exile into Babylonia and brought (back to Jerusalem) Mattathi(ah), son of Jud(ah), and buried him in a cave which I bought by deed." The Tomb of Benei Hezir -located in Kidron Valley- is decorated by monumental Doric columns and Hebrew inscription, identifying it as the burial site of Second Temple priests. The Tombs of the Sanhedrin, an underground complex of 63 rock-cut tombs, is located in a public park in the northern Jerusalem neighborhood of Sanhedria. These tombs, probably reserved for members of the Sanhedrin and inscribed by ancient Hebrew and Aramaic writings, are dated to between 100 BCE and 100 CE.

المرجع:

https://en.wikipedia.org/wiki/Jerusalem#Overview_of_Jerusalem.27s_historical_periods

أما بالنسبة لأيام الهيكل الأول، فلا يوجد من غير الكتاب المقدس إلا دلائل أثرية وتاريخية غير مباشرة تذكر ملوك يهوذا في أورشليم (القدس) وعددا من وزراءهم وكهنتهم، بالأسماء المذكورة أيضا في الكتاب المقدس، كمن عبدوا الرب في الهيكل، ولكن دون ذكر الهيكل نفسه.

ولكن جود مملكة داود وسليمان ثابتة بالبينات التاريخية اللاحقة التي تثبت وجود مملكتي يهوذا وإسرائيل، ومما يثبت وجود هاتين المملكتين وجود أسماء بعض ملوكهما في السجلات الأشورية: عمري، أخاب، ياهو، منسي، منحيم.

*****

الذي قام بتدمير الهيكل الأول وسور أورشليم هو نبوختنصر البابلي، وبقيت المدينة خرائب لمدة قرن ونصف تقريبا، مما جعلها مفتوحة لأعداء كثيرين، وفي ذلك قال عزير عندما رآها وهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا: "أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا"، فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِئَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ.

وفي عام 458 ق.م. عادت دفعة من اليهود إلى أورشليم تحت قيادة عزير، وكان عزير هو النبي الذي أحيا الدين.

كان لنحميا دوره الهام كساقي للملك الفارسي ارتحشستا الأول Artaxerxes I حوالي عام 445 ق.م.، بعد حوالي 13 سنة من ذهاب عزرا إلى أورشليم. قام نحميا ببناء سور أورشليم، وقد تمَّ العثور على سور المدينة الجديد الذي بناه نحميا في أواسط القرن الخامس ق.م، وكذلك على جزء لا بأس به من سور هيكل زروبابل وسور معبد هيرود الموسع.

في عهد هيرودس اكتمل انحياز أورشليم نحو القدس الحالية، وقد تم العثور على العديد من البيوت والأبنية التي ترجع إلى تلك الفترة ومن بينها جزء من قصر هيرودس نفسه.

وقد تعرضت مدينة أورشليم للتدمير الروماني الانتقامي مرتين، كل مرة بعد ثورة عاتية ضد الرومان كبدتهم خسائر فادحة وضاع فيها شعار الرومان المقدس، وأصر اليهود في كل مرة على المقاومة حتى النهاية، وعندما قرر الإمبراطور هادريان محو كل أثر لليهود في فلسطين استعملت حجارة المدينة المدمرة لبناء المدينة الرومانية إيليا كابيتولينا.

وبعد أن أعلن الله تعالى غضبه على اليهود ولعنهم وجعل النبوة في غيرهم، وهم العرب، أصبح المسلمون أولى بتراث الأنبياء منهم، وكان الإسراءُ بخاتم النبيين إلى المسجد الأقصى وصلاتُه إماما بالأنبياء هناك إعلانا بذلك.

وكان مكان المعبد أو المسجد الأقصى هو القبلة طوال العصر المكي، واستمر ذلك حوالي 16 شهرا من مطلع العصر المدني، وكان المؤمنون يعلمون جيدا مكانة الكعبة ويحبونها، فكانوا يجمعون بين القبلتين في مكة بأداء الصلاة جنوب الكعبة، ولكن بعد الهجرة إلى المدينة أصبح من المستحيل أن يجمعوا بين القبلتين لكون الكعبة أصبحت جنوبا والمسجد الأقصى شمالا، ولكن كان هذا التحويل إيذانا بالتطور الجديد الذي حدث وإعادة الاعتبار لأول بيتٍ وضع للناس، وفي ذلك أيضاً إشارةٌ إلى المكانة العظمى للنبي الخاتم!

*****

كانت المدينة التي يوجد فيها المسجد الأقصى أو الهيكل (أي أورشليم) تُسمَّى في العهد البيزنطي بـ"إيليا، Aelia Capitolina" على اسم الإمبراطور الروماني إيليانوس هادريانوس الذي سحق ثورة اليهود الثالثة ضد الرومان بقيادة المسيح (غير المنتظر) بركوخبا (ابن النجم بالسيريانية) في الفترة (132-135م)، وشتتهم في الأرض، وباع أكثرهم رقيقا، وقد بنى هادريان مكان الهيكل معبدا رومانيا وأقام لنفسه ولربه جوبيتر تمثالين فيه، تهدم كل ذلك فيما بعد، وأصبح مكانُ الهيكل أو المسجد خاويا، وكان ممنوعا على اليهود دخول إيلياء إلا يوما واحدا في السنة ليبكوا على أطلال الهيكل، فهي كانت معروفةً لهم.

وهادريانوس هذا هو واحد من عمالقة الإمبراطورية الرومانية، ويعتبر من الأباطرة الخمسة الجيدين، وهو الذي شتت اليهود في الأرض، وهو الذي سمَّى هذه المنطقة سيريا پالستينا(Syria Palaestina) ، والتي اختصرت إلى پالستين فيما بعد.

بعد سحق ثورة اليهود حاول الإمبراطور هادريان اجتثاث اليهودية من فلسطين باعتبارها مصدرا مستمرا للقلاقل والثورات، تم حظر تطبيق شريعة التوراة والتقويم اليهودي، تم حرق كتب اليهود المقدسة في مراسم احتفالية على جبل الهيكل، عندما يتم ذكر هادريان يقول اليهود: "May his bones be crushed" وهو تعبير لم يُستخدم حتى مع ڤسپاسيان أو تيتوس الذين سحقا أول ثورة يهودية ضد الرومان، فضلا عن قيام تيتوس بتدمير الهيكل الثاني.

سُمِح لليهود بأن يعلنوا الحداد وأن ينوحوا ويبكوا هزيمتهم وإذلالهم مرة في السنة عند الحائط الغربي، وهو المتبقي من سور هيرودس الخاص بالهيكل الثاني، وذلك في التاسع من آب.

وفي عهد الخليفة عمر بن الخطاب تولى أبو عبيدة بن الجراح قيادة الجيش المكلف بالاستيلاء على إيليا، ولكنها استعصت عليه لمناعة أسوارها، فحاصرهم حتى كلوا وأرسلوا يطلبون الصلحَ وتسليمَ المدينة بلا قتال، واشترطوا أن يأتي الخليفة بنفسه ليتسلّم مفاتيحها منهم، فخرج عمر بن الخطاب من المدينة المنورة حتى وصل إلى هناك عام 15 هـ الموافق 636 م، وأعطى أهلَها الأمن وكتب لهم العهدة العمرية، وقد صحبه البطريرك "صفرونيوس" فزار كنيسة القيامة، ومن ثم أوصله إلى المسجد الأقصى؛ أي إلى مكان الهيكل، فهو لم يكن سرا، وكان في تلك الأيام عبارة عن هضبة خالية في قلبها الصخرة المعروفة، ثم أمر الخليفة عمر بن الخطاب ببناء المصلّى الذي سيكون مكانَ الصلاة الرئيس، وهو موقع "الجامع القبلي" اليوم، ويقع في الجنوب في جهة القبلة، وكان المسجد في عهده عبارة عن مسجد خشبي يتّسع لحوالي 1000 شخص، وبقي على حاله إلى زمن معاوية بن أبي سفيان.

بعد قيام الدولة الأموية في عام 41هـ الموافق 661 م على يد معاوية بن أبي سفيان، قام بتوسيع وتجديد بناء المسجد القبلي داخل المسجد الأقصى الذي بناه عمر بن الخطاب، فجعله من الحجر بدلاً من الخشب، ثم حدثت حركة تعمير ضخمة للمسجد في عهد الخليفة عبد الملك بن مروان الذي بدأ أيضًا بناء قبة الصخرة، وتواصلت في عهد ابنه الوليد بن عبد الملك، وقبة الصخرة هي عبارة عن قبة ذهبية فوق الصخرة الواقعة في قلب الأقصى، والتي تمثل أعلى نقطة في جبل البيت المقدس، والتي يزعمون أن معراج النبي إلى السماء تم منها، لتكون قبة للمسجد كاملاً.

فالخليفة الأموي عبد الملك بن مروان هو الذي أمر ببناء المسجد الأقصى وقبة الصخرة فوق الصخرة التي يقولون إنها صخرة المعراج!!!!، واكتمل البناء في عهد ابنه الوليد، والدليل عندهم على أن الصخرة هي صخرة المعراج هو أنها أعلى نقطة في المنطقة التي قيل إن المعراج حدث منها وكأن (البراق) لم يكن يستطيع الصعود إلى (السماء) إلا إذا اعتلى أعلى نقطة في المكان!!!!!!!! ولكن عبد الملك توفي قبل أن يتم بناء المسجد الأقصى فأكمله من بعده ابنه الوليد كما أكمل بناء قبة الصخرة، ولقد كان الناس يطوفون حول الصخرة من قبل اكتمال البناء كما يطوفون حول الكعبة وينحرون ضحاياهم يوم العيد، وكان عبد العزيز بن مروان من ناحيته يعرف في مصر أي يقف بالناس في المسجد الجامع يوم عرفة كما يقف الحجاج ليصرف الناس عن الحج!

وشدة اعتناء الأمويين بأمر فلسطين وأورشليم كان شأنا سياسيا، وكانت البيعة تتم لملوكهم في بيت المقدس، ذلك لأن مكة المكرمة كانت في يد عبد الله بن الزبير الذي نصب نفسه خليفة بمجرد هلاك اللعين بن الطليق يزيد بن معاوية، وكان الأمويون يخشون من ذهاب الحجيج إلى هناك فيميلون إليه، فجعلوا قبة الصخرة بمثابة الكعبة، وكان الناس يطوفون بها، وهي مصممة لذلك، وتم وضع ما يلزم من أساطير حولها لاجتذاب العامة والغوغاء إليها.

وقد استمرت الفتنة الكبرى فترة طويلة من 64 هـ إلى 73 هـ تخللتها حروب تبادلية مروعة بين كافة القوى المتناحرة، ولكن حتى بعدما دانت مكة المكرمة والمدينة المنورة بالولاء للأمويين فإن الخليفة السابع سليمان، نُصِبَ على كرسي الخلافة في بيت المقدس ثم في العاصمة دمشق بعد ذلك.

وكون بناء المسجد الأقصى قد تمَّ في عهد الأمويين لا يعني أنه تم بذلك إلغاء التاريخ والمسجد، فالعبرة بالمكان، ولقد تعرض المسجد الأقصى لزلازل مدمرة وأعيد بناؤه أو ترميمه عدة مرات في عهود الأمويين والعباسيين والفاطميين والمماليك والعثمانيين، وقد حدث نفس الأمر بالنسبة للكعبة فقد هدمت وأعيد بناؤها عدة مرات، وقد قام الأمويون بحرقها وتدميرها مرتين عند محاولتهم القضاء على ثورة عبد الله بن الزبير.

وقد كان الخليفة الأموي الوليد بن عبد الملك هو الذي بنى المسجد النبوي أيضًا، فهل يجوز اتخاذه مهجورا أو التشكيك في كل التاريخ الإسلامي الأول نتيجة لذلك؟

هذا مع العلم بأن البناء الذي أقامه عبد الملك وسُمِّي بالمسجد الأقصى لا يشمل بالضرورة كل مكان المعبد القديم، فالمنطقة كلها تمثل المسجد الأقصى، فهو مكان، وليس هو فقط البناء الذي أقامه عبد الملك وأكمله الوليد.

وقد تعرض المسجد الأقصى المبني للتدمير بفعل الزلازل عدة مرات، وأعيد بناؤه وتجديده عدة مرات، وامتلأ المكان حوله بالمنشآت التي حيك حول بعضها أساطير وخرافات، وأشهر الأبنية هناك هو قبة الصخرة، فهذه القبة هي مقامة أيضًا في الأرض التي هي المسجد الأقصى.

وموضوع قبة الصخرة هو شيء آخر، فلا صخور مقدسة في الإسلام، وحتى إن كانت هذه الصخرة قد وطأها بالفعل (البراق) عند صعوده إلى السماء فلا يجوز أن تُبنى عليها قبة، ولقد كان غار حراء الذي كان يتعبد فيه الرسول ونزل عليه فيه الوحي أو غار ثور أو حجرة النبي التي دُفِن جثمانه الشريف فيها أولى بالتقديس منها، ومن المعلوم أنه لم يهتم أي خليفة ببناء قبة على الحجرة النبوية، وكان من فعل ذلك هو الملك المصري قلاوون الصالحي ثم الملك المصري أيضا قايتباي أيام دولة المماليك.

فرغم روعة معمار قبة الصخرة فلا مكانة لها في الإسلام، إن الرسول لم يأمر أبدا ببناء أية قبة على أي شيء خاص به كان معلوما لقومه، ولم يبن أي خليفة راشد قبة على بيته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآله وسَلَّمَ أو على قبره رغم أنه كان معلوماً لهم، فكيف بني الأمويون قبة هائلة تكلفت ما لا حصر له من الأموال على صخرة كانت في بيت المقدس قيل إن المعراج كان من عندها؟ ولا يوجد أي دليل شرعي ثابت يقول بذلك أو يربط بين هذه الصخرة وبين الإسلام.

هذا مع العلم بأن كثيرًا من أهل السنة يقولون إن المعراج كان رؤية كما أن كتب المرويات أوردت ما يفيد بأن المعراج كان من بيته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ في مكة، كما أن المعراج غير الإسراء.

وكان هدف الخليفة السفاح عبد الملك بن مروان الذي من أقواله المأثورة: "من قال لي اتق الله ضربت عنقه" من بناء قبة الصخرة أن يجعل هذه القبة بديلا عن الكعبة وليصرف المسلمين عن الحج؛ حيث كانت مكة تحت سيطرة عبد الله بن الزبير بن العوام (وابن السيدة أسماء ذات النطاقين أخت السيدة عائشة)، وكان مسلمو الشام يطوفون حول الصخرة كما يطوفون حول الكعبة وينحرون ضحاياهم يوم العيد، وهي مصممة بحيث يطوف الناس بها، هذه حقائق تاريخية ثابتة، وبالطبع لن تعجب الجهل المتجسد وذوي المصالح، ولكن لا سبيل إلى إخفاء الحقائق.

وقد بدأ عبد الملك بن مروان ببناء القبة على صخرة بيت المقدس وعمارة الجامع الأقصى، وكملت عمارته‏ في عهد ابنه الوليد.

وفى كتاب "البداية والنهاية، الجزء الثامن" ينقل المؤرخ ابن كثير في أحداث عام 66: (وفيها‏: ‏ابتدأ عبد الملك بن مروان ببناء القبة على صخرة بيت المقدس وعمارة الجامع الأقصى، وكملت عمارته في سنة ثلاث وسبعين‏.‏)

ويقول عن سبب بنائه:

((وكان السبب في ذلك أن عبد الله بن الزبير كان قد استولى على مكة، وكان يخطب في أيام منى وعرفة، ومقام الناس بمكة، وينال من عبد الملك ويذكر مساوئ بني مروان، ويقول‏:‏ إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لعن الحكم بن أبي العاص وما نسل، وأنه طريد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولعينه، وكان يدعو إلى نفسه، وكان فصيحا، فمال معظم أهل الشام إليه‏، وبلغ ذلك عبد الملك فمنع الناس من الحج فضجُّوا، فبنى القبة على الصخرة والجامع الأقصى ليشغلهم بذلك عن الحج ويستعطف قلوبهم، وكانوا يقفون عند الصخرة ويطوفون حولها كما يطوفون حول الكعبة‏، ‏وينحرون يوم العيد ويحلقون رؤوسهم، ففتح بذلك على نفسه بأن شنع ابن الزبير عليه، وكان يشنع عليه بمكة ويقول‏:‏ ضاهى بها فعل الأكاسرة في إيوان كسرى، والخضراء، كما فعل معاوية‏.

ولما أراد عبد الملك عمارة بيت المقدس وجه إليه بالأموال والعمال، ووكل بالعمل رجاء بن حيوة ويزيد بن سلام مولاه، وجمع الصناع من أطراف البلاد وأرسلهم إلى بيت المقدس، وأرسل إليه بالأموال الجزيلة الكثيرة، وأمر رجاء بن حيوة ويزيد أن يفرغا الأموال إفراغا ولا يتوقفا فيه.

فبثوا النفقات وأكثروا، فبنوا القبة فجاءت من أحسن البناء، وفرشاها بالرخام الملون، وعملا للقبة جلالين أحدهما من اليود الأحمر للشتاء، وآخر من أدم للصيف، وحفا القبة بأنواع الستور، وأقاما لها سدنة وخداما بأنواع الطيب والمسك والعنبر والماورد والزعفران، ويعملون منه غالية ويبخرون القبة والمسجد من الليل.

وجعل فيها من قناديل الذهب والفضة وسلاسل الذهب والفضة شيئا كثيرا، وجعل فيها العود القماري المغلف بالمسك وفرشاها والمسجد بأنواع البسط الملونة.

وكانوا إذا أطلقوا البخور شمَّ من مسافة بعيدة، وكان إذا رجع الرجل من بيت المقدس إلى بلاده توجد منه رائحة المسك والطيب والبخور أياما، ويعرف أنه قد أقبل من بيت المقدس، وأنه دخل الصخرة، وكان فيه من السدنة والقوم القائمين بأمره خلق كثير، ولم يكن يومئذٍ على وجه الأرض بناء أحسن ولا أبهى من قبة صخرة بيت المقدس، بحيث إن الناس التهوا بها عن الكعبة والحج، وبحيث كانوا لا يلتفتون في موسم الحج وغيره إلى غير المسير إلى بيت المقدس.

وافتتن الناس بذلك افتنانا عظيما، وأتوه من كل مكان، وقد عملوا فيه من الإشارات والعلامات المكذوبة شيئا كثيرا مما في الآخرة، فصوروا فيه صورة الصراط وباب الجنة، وقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ووادي جهنم، وكذلك في أبوابه ومواضع منه، فاغتر الناس بذلك وإلى زماننا.

وبالجملة أن صخرة بيت المقدس لما فرغ من بنائها لم يكن لها نظير على وجه الأرض بهجة ومنظرا، وقد كان فيها من الفصوص والجواهر والفسيفساء وغير ذلك شيء كثير، وأنواع باهرة.))

ومن المعلوم أن خلافة بن الزبير قد انتهت بأن قتله جنود عبد الملك أبشع قتلة وصلبوا جسده مع جثة كلب منكسا، ولم يراعوا حتى مشاعر أمه التي جنوا هم ثمرة كفاحها وكفاح السابقين الأولين، ولقد كان أخوه عبد العزيز بن مروان يفعل مثل أخيه في مصر، فكان يقف بالناس يوم عرفة في المسجد الجامع كما يقف الحجاج.

إن هذا يبيِّن حقيقة نظرة الأسرة الأموية إلى الدين ومدى استهانتهم به وحرصهم على استغلاله لتوطيد ملكهم، لذلك كذبوا وافتروا على الدين وتركوا غيرهم من أكابر المنافقين والمفسدين يفعلون الشيء نفسه، فتكاثرت المرويات الموضوعة، ولقد أساءوا استغلال الدين لتوسيع أملاكهم، ولذلك يحبهم كل من يظن أن الإسلام هو مجرد سيف يضرب به الآخرين ويغزو ويستوطن بلادهم وينهب أموالهم ويسبي نساءهم.

ولا شك أن قبة الصخرة وكل ما أحيط بها أسطورة نفخ فيها الأمويون لمآرب خاصة بهم، والمسلمون الأوائل لم يبنوا أي قباب على بيت الرسل ولا على قبره، ومن الثابت أن الأمويين هم الذين بالغوا فيها لأسباب سياسية مثلما كانوا وراء وضع المرويات التي تجعل من الشام وأهله كيانات مقدسة لا يجرؤ أحد على المساس بها، ولقد كذبتهم الوقائع والأحداث على مدى التاريخ!!

يجب العلم بأن للمسجد الأقصى في القدس مكانته وقداسته في الإسلام، أما الصخرة وقبتها فهي أسطورة أموية.

*****

من كلامنا مع مجادل في شأن الصخرة:

لما أعلن عبد الله بن الزبير نفسه خليفة في مكة وخوفا من أن ينصرف الناس إليه بنوا قبة الصخرة وأمروا الناس بالحج إليها وكانوا يطوفون بها، أما المحسوبون على الإسلام في الشام وكانوا مضرب الأمثال في الجهل فقد كانوا يظنون أن بني أمية هم وحدهم أقارب الرسول وأن أعداءهم هم أعداؤه ولم يفيقوا إلا عندما فوجئوا بجيوش العباسيين تدوس بلادهم وتسحق الأمويين وتنبش قبور من هلك منهم.

هل تعلم ماذا فعل جيش ابن مروان بالكعبة؟ وهل تعلم كيف مثَّل أبشع مثلة بعبد الله بن الزبير بن العوام وابن السيدة أسماء بنت أبي بكر ذات النطاقين؟ وبالطبع هذا شيء وقدرته على إدارة الدولة بالأساليب الإجرامية (التي لا علاقة لها بالإسلام) شيء آخر، والآن إليك هذه الأسئلة التي فشل عبيد بني أمية في الإجابة عنها:

ما هي المكانة الشرعية لقبة الصخرة في الإسلام؟

من الذي حدد أن هذه الصخرة هي المكان الذي بدأ منه المعراج؟

لماذا بنيت عليها القبة أصلا ولم تبن مثلا على غار حراء الذي يؤمن كل مسلم أن بدأ نزول القرءان كان فيه أو على غار ثور الذي اختبأ فيه الرسول أثناء الهجرة؟

لماذا لم تبن قبة على بيت الرسول وقد حدث منه المعراج في روايات أخرى وفيه أيضا دُفن جسده الشريف؟؟ نحن ننتظر الإجابات!!

وكيف كان يريد عبد الملك أن يظهر عظمة الخلافة للفرس ألا تعلم أن دولة الفرس كانت قد انتهت منذ زمن بعيد أيام الخلفاء الراشدين؟ وإذا كان الهدف هكذا فلا يضفي على الصخرة قداسة دينية.

كون هذا المجرم قد نجح في القضاء على كل معارضيه قضاءً مبرما وفي إدارة الدولة بأساليب مكيافيلية فعالة أو أنه كان يريد استعراض عظمته أو عظمة ملكه للروم لا يعني الإسلام في شيء، وبالطبع لم يكن ثمة أمل في أن يريهم عظمة الإسلام باتباع تعاليمه.

*****

أسئلة فشل أتباع المذهب الأموي في الإجابة عليها: ما هي المكانة الشرعية لقبة الصخرة في الإسلام؟ ومن الذي حدد أن هذه الصخرة هي المكان الذي بدأ منه المعراج؟ ولماذا بنيت عليها القبة أصلا ولم تبن مثلا على غار حراء الذي يؤمن كل مسلم أن بدأ نزول القرءان كان فيه أو على غار ثور الذي اختبأ فيه الرسول أثناء الهجرة؟ ولماذا لم تبن قبة على بيت الرسول وقد حدث منه المعراج في روايات أخرى وفيه أيضا دُفن جسده الشريف؟؟ نحن ننتظر الإجابات!!

لماذا لم أتلق إجابة؟ ما هي القصة الحقيقية لهذه الصخرة؟ هل تعرف؟ الإجابة فيها مقتل عبيد الصخرة الذين يتبعون المذهب الأموي.

*****

في مناقشة مع بعض متبعي المذهب الأعرابي الأموي كان هذا الرد لقد نسبوا إلى الرسول القول: "صليت ليلة أسري بي عن يمين الصخرة"، ثم قالوا من عندهم: "والصخرة أعلى نقطةٍ في الأقصى وبالتالي ففهم قصة العروج للسماء يقتضي أن يكون المعراج!!!! على الأرجح!!!!!!!!!!!! منها لأنها أعلى نقطة في المسجد!!!!"، مع أنه لم يرد أي ذكر لذلك في المروية، وهكذا بناء على استنتاجهم الفطير يستنتجون هذا الاستنتاج المضحك الخطير: "لابد أن الانطلاق (الذي لم يرد له ذكر) نحو السماء (التي يظنون أنها كيان مادي أو إنها طبقات الجو العليا أو أنها أحد الكواكب!!!) حدث من أعلى نقطة، مع أن مروية أخرى قالت إنه حدث من على السرير في البيت ليلا، فلا حاجة لكي يتم المعراج إلى الذهاب إلى أعلى نقطة في فلسطين!!

وتبقى الأسئلة التي طرحناها بلا رد حتى الآن، ولا أتوقع أن يجرؤ أحدهم على الرد عليها، لماذا بنى عبد الملك بن مروان هذه القبة وهو الذي لم يبال جيشه بالكعبة ورجمها وتسبب في إحراقها؟؟؟ لم يقدم أحدهم أي رد علمي على الأسئلة المطروحة، بل اقترفوا مماحكات مألوفة، ولم أتعرض أبدا لمسألة المسجد الأقصى ليتم إقحامها في الرد، والرسالة الأصلية متعلقة بأمور عديدة فلماذا تم تجاهلها؟ والردود تضمنت أمورا أخرى لم يتم التعرض لها، أما أهل الشام فكانوا أجهل الناس بالدين طوال العصر الأموي، وكان أكثرهم من النصارى كما هو معلوم، أما المحسوبون على الإسلام هناك فكانوا من أهل القبائل الجافية، والقصص المضحكة عن مدى جهلهم بالدين وانحيازهم الأعمى للأمويين معلومة، ولو قال لهم معاوية إنه رسول الله لصدقوه، ولو أمرهم معاوية أن يطوفوا بقصره لما تخلفوا، فلا يجوز افتراض عقلانية ولا تدين حقيقي فيمن تسلط عليهم معاوية ويزيد، ولا يجوز الاستناد إلى مروية ظنية تصور العروج وكأنه انطلاق كائن من أعلى صخرة إلى السماوات العلى!!!!!! التي يظنون أنها كيان مادي!! ومن المعلوم أن أهل الشام قد ضربوا المحدث النسائي ضربا أفضى إلى موته عندما صارحهم بأنه لا توجد أحاديث في فضائل معاوية!!!

أما فيما يخص اليعقوبي فهو من أكبر المصادر التي استند إليها الذهبي الذي هو من العلماء الأثريين ومن مدرسة الصحابة وعدالة الصحابة، وله في ذلك نقل طويل في كتابه سير الأعلام والنبلاء والذي يتعدى 4600 صحيفة مزدوجة. فعليك أولا أن تسدد ضد هؤلاء.

ومن المعلوم تماما والثابت أن عبد الملك بن مروان بنى قبة الصخرة ليحج الناس إليها ويذبحوا عندها كبديل عن مكة أثناء سيطرة ابن الزبير عليها، وكون اليعقوبي الذي نقل عنه الذهبي (محدِّث عصره) وابن كثير (الأثري السلفي وتلميذ ابن تيمية) شيعيا لا ينفي صحة الواقعة، وكم من جرائم يندى لها جبين الإنسانية حاول أتباع المذهب الأموي طمسها والغطرشة عليها، ولم يكن للعباسيين أدنى مصلحة في تشويه سمعة الأمويين بعد أن أبادوهم، بل لقد وجدوا أنفسهم معهم في نفس الخندق وفي مواجهة نفس الأعداء، فتبنوا سياساتهم كما هو معلوم وعبروا علناً عن إعجابهم بهم.

أما الأمر الأخطر فهو أن تقديس الصخرة تم بإرشاد اليهود إذ كانت مقدسة عندهم!! وكانت مكان مبخرتهم، ولقد استعبد اليهود هذه الأمة من قديم وأثقلوا تراثها بخرافاتهم وأساطيرهم واستغلوا في ذلك رغبة شياطين الأمويين في استمرار تسلطهم والقضاء على معارضيهم والتوسع الإمبراطوري.

وفي عيد يوم الغفران يطلب فيه الشعب ككل الغفران من الإله، ولذلك، فإن الكاهن الأعظم كان يقدم في الماضي كبشين!! (قربانًا للإله نيابة عن كل جماعة يسرائيل) وهو يرتدي رداءً أبيض (علامة الفرح) وليس رداءه الذهبي المعتاد، وكان الكاهن يذبح الكبش الأوَّل في مذبح الهيكل ثم ينثر دمه على قدس الأقداس أما الكبش الثاني، فكان يُلقَى من صخرة عالية (الصخرة إياها) في البرية لتهدئة عزازئيل، وليحمل ذنوب جماعة يسرائيل، وقد انتقل ذلك إلى التراث الإسلامي مع بعض التعديلات اللازمة.

وموقع المسجد الأقصى هو كما هو معلوم، وهو مبني مكان الهيكل الذي خدم فيه أنبياء وكهنة بني إسرائيل والسيدة مريم ودخله السيد المسيح بالفعل.

والذي بدأ بناء المسجد وقبة الصخرة هو عبد الملك بن مروان وأكمل ذلك ابنه الوليد، كان الأمويون يقصدون إلى صرف الناس عن الحج إلى المسجد الحرام والطواف بالكعبة أثناء سيطرة عبد الله بن الزبير على الحجاز، وكانوا يلزمون الناس بالطواف بقبة الصخرة، رغم أنه لا قداسة ولا حتى مكانة لهذه الصخرة في الإسلام، وإنما كانت المكان الذي يضع عليه كاهن اليهود الأعظم المبخرة!!!

وبالافتراض جدلا أن المعراج بدأ كما يرجحون من على الصخرة، فلماذا بنى عبد الملك بن مروان (مضروب القفا-خبط باطل) ابن الوزغة الحكم (طريد رسول الله) قبة عليها؟ مع أن والده مروان ظل واليا على الحجاز لفترات طويلة لم يُعهد عليه أي صلاح ولا تقوى ولا أدنى اهتمام ببيت رسول الله ولا بمنازل الوحي؟ بل من المعلوم أنه هو الذي قضى على نسخة المصحف الأصلية!!! وهو الذي أجج الفتنة وقتل طلحة (أحد أكابر السابقين) خلسة في موقعة الجمل (رغم أنه كان معه في نفس الجيش!!!!) من أين أتت فكرة تقديس الصخرة وبناء قبة عليها وإلزام الناس بتعظيمها والطواف حولها؟ فهو لم يبنها عبثا بكل تأكيد وقد استغرق بناؤها سنين عديدة وأنفق عليها من المال الكثير.

*****

إنه لا قداسة للحجارة التي بنيت بها الكعبة أو أي مسجد آخر، العبرة بالمكان، ولقد تهدمت أو هُدمت الكعبة عدة مرات ثم أعيد بناؤها، وكذلك بالنسبة للمسجد الأقصى، العبرة بالمكان، فهو مبني مكان الهيكل الذي كان أنبياء بني إسرائيل يتعبدون، فهو ثاني بيت وُضع للناس وأول قبلة للمسلمين.

وبعد مبايعة عبد الله بن الزبير خليفة على المسلمين سنة 64 هـ بعد التدمير الأول للكعبة كان أمامَه أمران: إما أن يرمم الكعبة وإما أن يهدمَها ثم يعيدَ بناءها، فقرر هدمها وإعادة بنائها على قواعد النبي إبراهيم عليه السلام، وكان قد سمع من خالته السيدة عائشة أم المؤمنين حديثا يقول فيه النبي أن قريشا قد نقصوا من بناء الكعبة لأن أموالهم قصرت بهم وأنه لولا حداثة قريش بالإسلام لأعاد بناءها على قواعد النبي إبراهيم، فأعاد عبد الله بناءها على هذا النحو، وزاد بالفعل في بنائها لتكون على قواعد البناء القديم في عهد إبراهيم كما قام ابن الزبير بتوسعة المسجد الحرام، وقد تمت هذه التوسعة في السنة الخامسة والستين هجرية، وضاعفت من مساحة المسجد وبلغت مساحته عشرة آلاف متر مربع.

وبعد أن تمكن الجيش الأموي بقيادة الحجاج الثقفي من سحق مؤيدي عبد الله بن الزبير وقتله وصلب جثمانه وتدمير الكعبة للمرة الثانية كتب إلى الخليفة عبد الملك بن مروان أن ابن الزبير قد زاد في البيت ما ليس فيه وقد أحدث فيه باباً آخر، فأمر عبد الملك بن مروان الحجاج بن يوسف أن يعيد بناء الكعبة إلى ما كانت عليه في عهد قريش، وقد كتب إليه قائلا: "اهدم ما زاد فيها من الحجر"، فهدم الحجاج منها ستة أذرع وبناها على أساس قريش!!

وفي عهد السلطان العثماني أحمد الأول، حدث تصدع في جدران الكعبة وكذلك في جدار الحجر، وكان من رأي السلطان أحمد هدم بناء الكعبة وإعادة بنائها من جديد لكن علماء الروم (أي الأتراك) منعوه من ذلك، أما المهندسون فأشاروا عليه بدلا من ذلك بعمل نطاقين من النحاس الأصفر المطلي بالذهب واحد علوي وآخر سفلي، ومع ذلك لم تصمد الكعبة طويلا، وتهدمت جدرانها عقب أمطار غزيرة التي شهدتها مكة المكرمة يوم الأربعاء 19 شعبان 1039 هـ الموافق أبريل 1630م، وتحول هذا المطر إلى سيل عظيم، دخل المسجد الحرام والكعبة، وبلغ منتصفها من الداخل وحمل جميع ما في المسجد من خزائن الكتب والقناديل والبسط وغيرها، وخرب الدور واستخرج الأثاث منها، ومات بسببه خلق كثير، وقد سقط جدارها الشامي وجزء من الجدارين الشرقي والغربي، وسقطت درجة السطح، لذلك أمر السلطان مراد بسرعة عمارتها.

فأمر السلطان العثماني مراد الرابع بتجديدها على أيدي مهندسين مصريين في سنة 1040 هـ/1630مـ، وهو البناء الأخير والحالي للكعبة.

وهكذا فالكعبة مبنية الآن على قواعد قريش بأمر الأموي عبد الملك بن مروان ورغبة السفاح الحجاج الثقفي، وليس على قواعد النبي إبراهيم كما كان يتمنى خاتم النبيين، وفي ذلك إشارة إلى الحال الحقيقي للأمة!!

وبالطبع فحقيقة كون الكعبة قد هدمت وبنيت عدة مرات لا ينفي عنها مكانتها كقبلة للمسلمين! ولا مكانتها في شعائر الحج والعمرة! وكذلك الأمر بالنسبة للمسجد الأقصى (الهيكل أو المعبد)، فكون الجنرال الروماني تيتوس قد هدمه وكون الإمبراطور الروماني هادريانوس قد أقام مكانه معبدا وثنيا لا يغير من حقيقته شيئا!

فالمسجد الأقصى الموجود حاليا موجود في نفس مكان المسجد الأقصى المذكور في سورة الإسراء والذي كان هو القبلة الأولى، وهذا المسجد مبني مكان الهيكل الثاني الذي خدم فيه أنبياء بني إسرائيل ومنهم النبي زكريا، كما اعتكفت فيه السيدة مريم!

وقد تصدينا للمحاولات العبثية والمريبة للمؤرخ الصليبي ومن تابعه من المغفلين والمغرضين لجعل المسجد الأقصى في عسير أو في غيرها!

وليس لدى هؤلاء إلا الهراءَ للترويج لأفكارهم، فهم يريدون للأكذوبة أن تتحول إلى عقيدة بكثرة الترديد والتكرار والدعاية والاستهواء، والإنسان السوي لو قرأ كتابيْ الصليبي بهذا الخصوص سيصاب بالذهول لبشاعة خرافاته والتي ربما لم يكتب مثلَها إنسان آخر على مدى التاريخ!!! كما سيتألم لتفاهة منطقه وسخافة براهينه!

ورغم أنه كان يقدم أكاذيبه الهائلة بنوع من التحفظ وتعليق الأمر في انتظار الإثباتات الأثرية أو اكتشاف أية وثائق فإن دراويشه اعتبروا نظرياتِه ومقترحاتِه مسلماتٍ وحولوها إلى عقائد، وأخذوا يبنون عليها، ويتجاوزونه ويقولون ما لم يجرؤ هو على التصريح به، ومَن هم وراءَ ذلك النشاط يعلمون أن الهمج الرعاع والغوغاء لا يطلبون دليلا ولا حجة على ما ألحوا به على أسماعهم، بل بدون إلحاح أحياناً، يكفي أن يقال لأحدهم: "هل علمت أنهم أثبتوا أن داود وسليمان والهيكل كانوا في عسير في الجزيرة العربية وليس في فلسطين؟" حتى يصبحَ هذا القولُ عنده معلومة ثابتة بل عقيدة راسخة يعمل على الترويج لها بدوره!!

ولا يجوز الاستهانة بأمر كهذا أبدا، فلقد كانت الأكاذيب والأساطير والخرافات دائما من أكبر العوامل المحركة للتاريخ البشري، بل إنها تتفوق في ذلك على العوامل الاقتصادية، ولقد كان من أكبر أسباب الحرب العالمية الثانية مثلا إيمان أدولف هتلر بخرافة أن هناك عنصرا آريا نقيا وأن الألمان ينتمون إلى هذا العنصر!!

وباستمرار الترويج الإعلامي للقول بأن المسجد الأقصى ليس في فلسطين كما يفعل بعضهم عمدا أو جهلا أو رغبة في التعالم على الناس سيتلقى الناس ذلك بالقبول إياه!! وستصبح قضيةُ فلسطين قضية محلية صغيرة لا تعني العالم الإسلامي في شيء! وهذا ما يريده عتاة التخطيط الصهيوني، وعندها سيحققون لأنفسهم حلم القرون، وسيبنون الهيكل الثالث!!

وقد زعم بعضهم أن قبلة المسلمين كانت نحو القطب الشمالي، وأن هذه كانت قبلة الأحناف، ولكن لم يرد في سورة البقرة أي ذكر لشيء كهذا أبدا، والسورة تبين كيف هاج اليهود وماجوا عندما تمَّ تحويل القبلة، وآيات السورة تحذر من الالتفات إلى ما يثيرونه من حجج وإلى ما يريدون من جدل، كل ما في سورة يعني أن الذي تم التحول عنه هو قبلة اليهود من أهل الكتاب، وهي كانت ومازالت الهيكل في أورشليم، والنسخ الذي كان من محاور سورة البقرة هو نسخ القبلة القديمة الخاصة باليهود، وهم المقصودون بلقب أهل الكتاب لكونهم كانوا أمة من أمم المدينة، وآيات سورة البقرة تبين كل ذلك وتفند مزاعمهم وتصرح بعدم جدوى محاولة استرضائهم كما تبين سبب كون المسجد الحرام هو القبلة.

*****

إن موضوع قبلة اليهود في الصلاة محسوم، ولا يحتمل جدلا، وموجود في المِشنا بأن اليهود يقفون للصلاة مقابل مكان البيت المقدس الذي كان في القدس، وقد قال الحاخام سعيد الفيومي في كتابه الذي كتبه بالعربية:

"وأي راكب بحر أو نهر أو سفينة أو مركب ليس يعرف القبلة فليقصد ربه ويصلّي أمام وجهه أينما كان فإن عرف بيت المقدس منه فليستقبله من جميع أفاق العالم. ومن صلى فوق سرير أو كرسيّ أو وطاء مرتفع فصلاته غير جائزة، ولا يحلّ للمؤمن أن يأكلَ شيئا من الغد من قبل صلاة الغداة في كل يوم ولا يحل له أن يعمل عملا من الصنائع أو شغل إذا حضرت الصلاة أية صلاة كانت."

وقد جاء في موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية للدكتور عبد الوهاب المسيري: "ويتجه اليهودي في صلاته جهة القدس، وأصبح هذا إجراءً معتادا عند يهود الشرق كافة، أما في القدس نفسها، فيولي المصلي وجهه شطر الهيكل. وتوجد كتب عديدة للصلوات اليهودية لا تختلف كثيرا في أساس الصلاة والابتهالات، ولكن الخلافات تنحصر في الأغاني والملحقات الأخرى، وقد تغيَّرت حركات اليهود أثناء الصلاة عبر العصور، ففي الماضي كان اليهود يسجدون ويركعون في صلواتهم (ولا يزال الأرثوذكس يفعلون ذلك في الأعياد)، ولكن الأغلبية العظمى تصلي الآن جلوساً على الكراسي، كما هو الحال في الكنائس المسيحية، إلا في أجزاء معيَّنة من الصلاة مثل: تلاوة الثمانية عشر دعاء (شمونه عسريه)، فإنها تُقرَأ وقوفاً في صمت. ولا يخلع اليهود نعالهم أثناء الصلاة (باستثناء الفلاشاه والسامريين)".

فهل سيكف الصبية ودراويش المؤرخ كمال الصليبي عن الصراخ؟

وكما جاء عن العصر النبوي كانت هذه القبلة؛ أي قبلة اليهود هي القبلة الأولى، وما بدأه عمر بن الخطاب ثم الأمويون من بعده أنهم بنوا مصلى ثم مسجدا في هذا المكان الذي كان معلوما للناس ولليهود أنه مكان الهيكل القديم الذي دمره الرومان، فهو لم يكن مجهولا ولا سرا.

وفي مكة كان من الممكن الجمع بين القبلتين، ولكن بعد الهجرة إلى المدينة تعذر ذلك، وهذا ما حزَّ في نفس الرسول وجعله يتمنى تحويل القبلة إلى المسجد الحرام، وهذا ما سجله القرءان:

{قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاء فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوِهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُون} [البقرة:144].

ورغم الوضوح الشديد لهذه الأمور فلن يكف المغرضون ومن يتبعهم من الجهلة عن محاولة تضليل الناس وإلقاء ظلال من الشك حول هذه الأمور.

*****

يثير الجهلة والمضلون الجدد مشاكل لا تنتهي حول مكان المسجد الأقصى والقبلة الأولى!! وقد جعلوا المسجد الأقصى في سيناء مصر وفي بلاد الأمازيغ وفي النوبة وفي عسير ...الخ.

وإليهم هذا السؤال الذي يسحق مزاعمهم! ماذا عن قبلة اليهود؟ أليست هي أورشليم؟ هل عرف اليهود قبلة غيرها؟ ولماذا هاجوا وماجوا عندما تمَّ تغيير القبلة كما تحدث القرءان في فقرات مطولة في سورة البقرة؟! أليس هذا دليلا دامغا على أن المسلمين كانوا يصلون إلى نفس القبلة معهم قبل الأمر بتغيير القبلة، قبلة اليهود وقبلة المسلمين كانت باتجاه المعبد في أورشليم؛ أي المسجد الأقصى.

وسوء استغلال الأمويين للأمر لا يقدح في حقانيته.

*****

يأخذ د. يوسف زيدان وغيره من المحدثين العصرانيين على المسلمين أنهم بتبجيلهم مكان المسجد الأقصى في القدس (أورشليم أو إلياء قديما) فإنهم يشتركون بذلك مع اليهود ويثبتون لهم حقهم في القدس!!! وكأنه يجب على المسلمين أن يكفروا بكل ما يمكن يتفقوا فيه مع اليهود وبحقائق التاريخ حتى يثبتوا زيف كلام اليهود!! ومن يقل بذلك كأنه يلزم المسلمين بالكفر بالكثير من آيات القرءان وحقائق الدين وأكثر الأنبياء لكي يفند مزاعم اليهود!!!

إن الإسلام يلزم المسلم بالإيمان بكل أنبياء بني إسرائيل وبكل الأنبياء المذكورين في القرءان، وكلهم تقريبا يؤمن بهم اليهود أيضا، والمسلم ملزم أيضا بالإيمان بما ذكره القرءان من أن الله تعالى قد غضب عليهم للأسباب المذكورة والمفصلة في القرءان.

والمكان الذي كان يقع فيه الهيكل أو المعبد المقدس هو مقدس ومبارك عند المسلمين، وقد استمد قدسيته من وجود أنبياء بني إسرائيل بالذات وصلاتهم واعتكافهم فيه، وكان أولهم سليمان الذي بناه وآخرهم زكريا ويحيى والمسيح عليهم السلام، وهو المكان الذي كانت السيدة مريم عليها السلام تخدمه وتعتكف فيه أيضا، هذا الهيكل هو الذي تنبأ المسيح عليه السلام بأنه سيتم تقويضه، وجاء في إنجيل مرقص الإصحاح 13:

1وَفِيمَا هُوَ خَارِجٌ مِنَ الْهَيْكَلِ، قَالَ لَهُ وَاحِدٌ مِنْ تَلاَمِيذِهِ: «يَامُعَلِّمُ، انْظُرْ! مَا هذِهِ الْحِجَارَةُ! وَهذِهِ الأَبْنِيَةُ!» 2فَأَجَابَ يَسُوعُ وَقَالَ لَهُ: «أَتَنْظُرُ هذِهِ الأَبْنِيَةَ الْعَظِيمَةَ؟ لاَ يُتْرَكُ حَجَرٌ عَلَى حَجَرٍ لاَ يُنْقَضُ».

جاء في إنجيل متى الإصحاح 24:

1ثُمَّ خَرَجَ يَسُوعُ وَمَضَى مِنَ الْهَيْكَلِ، فَتَقَدَّمَ تَلاَمِيذُهُ لِكَيْ يُرُوهُ أَبْنِيَةَ الْهَيْكَلِ. 2فَقَالَ لَهُمْ يَسُوعُ: «أَمَا تَنْظُرُونَ جَمِيعَ هذِهِ؟ اَلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّهُ لاَ يُتْرَكُ ههُنَا حَجَرٌ عَلَى حَجَرٍ لاَ يُنْقَضُ!».

وجاء في إنجيل لوقا، الإصحاح 19:

41وَفِيمَا هُوَ يَقْتَرِبُ نَظَرَ إِلَى الْمَدِينَةِ وَبَكَى عَلَيْهَا 42قَائِلاً: «إِنَّكِ لَوْ عَلِمْتِ أَنْتِ أَيْضًا، حَتَّى فِي يَوْمِكِ هذَا، مَا هُوَ لِسَلاَمِكِ! وَلكِنِ الآنَ قَدْ أُخْفِيَ عَنْ عَيْنَيْكِ. 43فَإِنَّهُ سَتَأْتِي أَيَّامٌ وَيُحِيطُ بِكِ أَعْدَاؤُكِ بِمِتْرَسَةٍ، وَيُحْدِقُونَ بِكِ وَيُحَاصِرُونَكِ مِنْ كُلِّ جِهَةٍ، 44وَيَهْدِمُونَكِ وَبَنِيكِ فِيكِ، وَلاَ يَتْرُكُونَ فِيكِ حَجَرًا عَلَى حَجَرٍ، لأَنَّكِ لَمْ تَعْرِفِي زَمَانَ افْتِقَادِكِ».

وهذا ما تحقق بالفعل من بعد المسيح، وهو معلوم، فقد تم تدميره على يد القائد الروماني تيتوس عام 70 ميلادية بعد ثورة اليهود الأولى ضد الرومان، وقد قام هؤلاء بثورة عاتية أخرى ضد الرومان بقيادة المسيح المزعوم بركوخبا كبَّدوا الرومان فيها خسائر هائلة، وبعد فشل ثورة اليهود سنة 135 م صمم الإمبراطور الروماني هادريان على محو كل أثر لهم في المنطقة، تم محو أطلال المعبد، ولم يترك فيه حجرا على حجر، وتحوَّلت مقاطعة يهودا الرومانية إلى مقاطعة رومانية تُسمَّى سيريا پالستينا، وأعيد بناء أورشليم كمدينة رومانية سُمِّيت إيليا كاپيتولينا، ومُنع اليهود من دخولها أو العيش فيها، وقد شُيِّد تمثال لهادريان وهو يمتطي صهوة جواده عند قدس الأقداس، ولما اعتنق الرومان المسيحية تم محو الآثار الوثنية في مدينة إليا التي أصبحت تضم أماكن المسيحيين المقدسة لديهم.

وكان اليهود من بعد خير عونٍ لكل من ساعدهم على الرجوع إلى أورشليم، ولذلك ساندوا الفرس بقوة في الحروب الفارسية-البيزنطية واقترفوا مجازر مروعة ضد المسيحيين، وقد دفعوا الثمن باهظا عندما تغلب البيزنطيون بقيادة هرقل على الفرس إلى أن جاءهم الفرج من بعد على أيدي العرب.

فلا خلاف في أن المسلمين عندما دخلوا إيليا (أورشليم) لم يكن يوجد أي أثر للهيكل فيها، وهذا لا يعني اختفاء مكانه الذي كان معلوما تماما لليهود، وكانوا يحجون إليه، ومن المعلوم أن الحظر الذي فرضه عليهم الإمبراطور الروماني هادريان قد تم تخفيفه، وقد سمح الإمبراطور قسطنطين لليهود بأن يعلنوا الحداد وأن ينوحوا ويبكوا هزيمتهم وإذلالهم مرة في السنة عند الحائط الغربي، وهو المتبقي من سور هيرودس الخاص بالهيكل الثاني، فلم يكن المكان الذي كان يقع فيه الهيكل سرا، وقد انتقل العلم به بالتواتر المجتمعي والتاريخي بشكل لا يمكن التشكيك فيه لأي باحث جاد.

فهذه المنطقة التي تغيَّر اسمها على مدى التاريخ كان يعيش فيها بنو إسرائيل، والمسيح عليه السلام كان يتنقل في ربوعها وكان يعلم الحواريين على جبل الزيتون ويغتسل في نهر الأردن، وليس ثمة مجال للزعم بأن كل ذلك كان مختلقا.

وأقصى اتساع لمملكة بني إسرائيل في التاريخ القديم لم يشمل كل ما يعرف بفلسطين الآن، والساحل الكنعاني الممتد من شمالي يافا إلى جنوب غزة كان تابعا للحكم المصري وكان يستقل أحيانا تحت حكم الفينيقيين، وعندما اجتاحت شعوب البحر المتوسط الشام احتلت هذا الساحل، والفلستيون الذين أتوا من جزر بحر إيجة وجزيرة كريت أقاموا مدنا ومراكز حصينة في هذا الساحل، ومنها غزة وعسقلان، ولم تدخل هذه المدن تحت الحكم الإسرائيلي أثناء حكم داود وسليمان عليهما السلام، ولم يستولِ عليها اليهود إلا في عهد الأسرة الحشمونية وفي العصر الحديث.

أما تسمية المنطقة كلها بفلسطين فترجع إلى الإمبراطور الروماني هادريانوس، وقد سماها سوريا پالستينا(Syria Palaestina) ، والتي اختصرت إلى بالستين فيما بعد، وكان ذلك في إطار خطته لمحو أي أثر لليهود في المنطقة ومنعهم من تكرار الثورة على الرومان، ومن المعلوم أن ثوراتهم كانت موجعة، وقد هلك فيها مئات الألوف من الرومان ومن رعايا الإمبراطورية في مصر والشام، وقد فقد الرومان في هذه الثورات مرتين لواءهم المقدس أو النسر الروماني Legio aquilla، وهو أعظم وأقدس رمز عسكري تحمله الفيالق الرومانيّة، ويجب على الجيوش المحافظة عليه مهما كلّف من الوقت و الأرواح، ويُعدّ فقدانه أو ضياعه كارثة وعارًا كبيرا، وفقدان هذا النسر كان كارثة كبرى عندهم، لذلك كان انتقامهم من اليهود بعد قمع ثورتهم مروعا.

ومن المعلوم أن القبائل الناطقة بلغات سامية، والتي كانت تسكن هذه المنطقة من الكنعانيين والمؤابيين والإدوميين، قد تم تهويدهم بحد السيف في عهد الأسرة الحشمونية (يُعرفون أيضا بالمكابيين) التي هزمت السلوقيين (الإغريق المقدونيين) واستقلت بما يُسمَّى الآن بفلسطين إلى أن خضعوا للرومان، بل إن واحدا من أقوى ملوكهم وهو هيرودس كان أصلا إدوميا من حيث الوالد، ونبطيا من حيث الأم! وهو الذي قضى على سلالة الحشمونيين، وهيرودس هو الذي قام بأكبر توسعة للهيكل الثاني، وحائط المبكى هو جزء من السور الذي بناه له، أما اسم الكنعانيين، فقد اختفى، ولم يعد يُذكر في أي وثائق تاريخية بعد سنة 400 ق.م، بقي ذكر الإدوميين الذين تم تهويدهم بحد السيف، كذلك تم تهويد المؤابيين والعمونيين في عهد الأسرة الحشمونية، وفي عهدهم تمَّ لبني إسرائيل الاستيلاء على الساحل الفلسطيني بالكامل لأول مرة، وهو ما لم يحدث في عهدي داود وسليمان، وبكل ذلك فإن أكثر اليهود الذين كانوا في جنوب الشام في العصرين المقدوني والروماني لم يكونوا من بني إسرائيل الأصليين.

وقد كشف الآثاريون الإسرائيليون عن مزيد من التفاصيل عن اكتشافهم قبر الملك هيرودس، وهو الحاكم الذي عينه الرومان لحكم يهودا، وهو المعروف في الانجيل بأمره بقتل أطفال بيت لحم بعد فترة قصيرة من ميلاد يسوع (لم يثبت أنه فعل ذلك)، وقد أعلن البروفسور يهود نيتزر من معهد علم الآثار في الجامعة العبرية بالقدس، في مؤتمر صحافي في المعهد أن "البحث المديد عن قبر هيرودس الكبير انتهى الى الكشف عن آثار قبره على المنحدر الشمالي الشرقي من جبل هيروديوم"، وقد قدمت الجامعة أدلة جديدة من أسلوب الحياة الفخم للحقبة الرومانية، ولا يوجد مجال للتشكيك في ذلك، فهذا الملك لا يُعتبر منهم! فهو إيدومي.

فالوجود التاريخي لبني إسرائيل واليهود في فلسطين قديما هو أمر ثابت تاريخيا ودينيا، والتكذيب به يعني الكفر ببعض الأنبياء وبالكثير من آيات القرءان.

ولكن طبقا للإسلام -وهذا أمر ديني إيماني بحت- فإن الأمة الإسلامية هي الأولى بكل ما هو للأنبياء، فهي التي أُورثت الكتاب ونيط بها حمل الرسالة للعالمين، وذلك من معاني الإسراء بالنبي الخاتم إلى المسجد الأقصى (الهيكل المقدس) الذي باركه الله وبارك حوله وجعله مركزا للهدى والنور، وكما هو مقرر: العبرة بالمكان، وإذا كان عبد الملك بن مروان هو الذي أمر ببناء المسجد لأسباب سياسية، فهو أيضا الذي أعاد بناء الكعبة بعد أن هدمها جنوده أثناء قضائهم على عبد الله بن الزبير الذي نازعهم السلطة.

أما بناء قبة على صخرة اليهود وإلزام الناس بالطواف بها بدلا من الكعبة أثناء استيلاء ابن الزبير على الحجاز فهذه جريمة كبرى وإثم مبين.

أما كل محاولات القذف بالمسجد الأقصى بعيدا عن مكانه المعلوم في القدس فكلها تأتي في إطار تقويض معتقد ديني إسلامي لتفريغ القضية من بعدها الديني وجعلها شأنا محليا بين اليهود وبين الفلسطينيين، وكل ذلك إنما هو للتمهيد لبناء الهيكل الثالث، وإذا كان بعض الناس لا يتصورون أن يؤمن بعض أهل الغرب العلماني الراقي الموضوعي .... الخ بأسطورة يهودية فهم على الأقل مغفلون، ولا يجوز أن يفرضوا تبعات تغفيلهم على الناس.

ولم يكن د. يوسف زيدان أول من حاول القذف بالمسجد الأقصى بعيدًا عن مكانه، ولن يكون آخرهم، وقد سبقه إلى ذلك المؤرخ البروتستانتي اللبناني د. الصليبي الذي قذف بالشرق الأوسط كله إلى عسير!!! وتابعه بعض الحمقى والمغفلين والمشاغبين وعابدي الشهرة من المجتهدين الجدد والفيسبوكيين وغيرهم، وممن تابعه أيضًا بعض المرضى بالشوڤينية الذين أرادوا اختلاق تاريخ مقدس لبلادهم التي لم تكن موجودة ككيانات سياسية في الزمن القديم!!!

ومن يقرأ سورتي البقرة وآل عمران ويعلم ما هو يقيني من وقائع عصر البعثة يدرك جيدا ما يلي:

أن المسلمين كانوا يتخذون من المسجد الأقصى في الشمال قبلة كما كان يفعل بنو إسرائيل، وقد كان الرسول يتبع الصحيح من ملة إبراهيم، وهذا ما يسميه التراثيون بموافقة أهل الكتاب.

أنهم كانوا يستطيعون الجمع بين القبلتين في مكة، حيث كان يمكنهم الصلاة من جنوب الكعبة، فيكون المصلي والكعبة والقبلة الأولى على خط واحد.

أنه بعد الهجرة إلى المدينة في الشمال أصبح ذلك مستحيلا، وذلك ما أحزن المؤمنين وعلى رأسهم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ، حيث نشأوا جميعا على تعظيم بيت الله الحرام، واستمر الاتجاه نحو مكان المسجد الأقصى (إيليا) حوالي ستة عشر شهرا.

أنه حدث تحويل للقبلة نحو المسجد الحرام، وهذا ما أثار غضب اليهود، واعتبروا ذلك نسخا للحكم القديم وتجديفا، وتضمنت سورة البقرة الردود المفحمة عليهم، ومن الآيات التي تتضمن الردود عليهم بصفة خاصة مجموعة الآيات التي تتضمن آية النسخ، والتي تعني إمكانية نسخ حكم من أحكام رسالة سابقة بحكم من رسالة جديدة.

كان تحويل القبلة إلى مكانها الطبيعي إعلانا بمكانة الأمة الجديدة، وكان الإسراء بالنبي إلى هناك وصلاته إماما بالأنبياء إعلانا بأن هذه الأمة الجديدة هي الأولى بكل الأنبياء، قال تعالى:

{إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ (68)} آل عمران

ويثير الجهلة والمضلون الجدد مشاكل لا تنتهي حول مكان المسجد الأقصى والقبلة الأولى!! وقد جعلوا المسجد الأقصى في سيناء مصر وفي بلاد الأمازيغ وفي النوبة وفي عسير ...الخ.

وإليهم هذا السؤال الذي يسحق مزاعمهم! ماذا عن قبلة اليهود؟ أليست هي أورشليم؟ هل عرف اليهود قبلة غيرها؟ ولماذا هاجوا وماجوا عندما تمَّ تغيير القبلة كما تحدث القرءان في فقرات مطولة في سورة البقرة؟! أليس هذا دليلا دامغًا على أن المسلمين كانوا يصلون إلى نفس القبلة معهم قبل الأمر بتغيير القبلة، قبلة اليهود وقبلة المسلمين كانت باتجاه المعبد في أورشليم؛ أي المسجد الأقصى، وبالطبع لا قيمة لآراء من سيشكك فيما ورد نصًّا في سورة البقرة، فالأمر هاهنا هو أمر دين.

وسؤال آخر، لقد قام عمر بن الخطاب ببناء مسجد خشبي في مكان المسجد الأقصى، وقام معاوية بتوسعته، ثم بدأ عبد الملك بن مروان أكبر عملية توسعة له، لماذا لم يرد أي تشكيك في عملهم هذا من المؤرخين والمشايخ، ومنهم المعادون للأمويين؟

وسوء استغلال الأمويين للأمر وبنائهم للمسجد الأقصى لا يقدح في حقانيته بمثل ما أنه لا يقدح في حقانية الكعبة أنهم بنوها بعد أن هدموها.

وليس المقصد من كل هذا البيان مناقشة مدى شرعية قيام دولة إسرائيل في العصر الحديث واستنادهم إلى التاريخ الديني والقديم لإثبات ذلك، فهذه مسألة أخرى.

أما بخصوص حق اليهود المزعوم في فلسطين فيجب بيان ما يلي:

  1. على المستوى الديني فنحن المسلمين نؤمن بما هو موجود في القرءان، وقد طردهم الله تعالى من هذه الأرض وأعلن غضبه عليهم، فلا حق لهم فيها وإن عاش أسلافهم فيها لفترة محدودة، ومع ذلك فقد أمر الله تعالى ببرهم والإقساط إليهم طالما لم يقاتلوا المسلمين في دينهم ولم يخرجوهم من ديارهم ولم يظاهروا عليهم أعداءهم.

  2. هم لا يعترفون بالإسلام ولا بالقرءان ولا بما هو مقرر فيه بشأنهم، وهم متمسكون بالوعد المُعطَى لإبراهيم عليه السلام والذي قصروه هم بالتحايل والتزوير على إسحاق رغم إقرارهم بأن إسماعيل أكبر منه، ثم قصروه بالتحايل والتزوير على يعقوب-إسرائيل، وهذا مسجَّل عليهم في كتابهم المقدس.

  3. القدس هي محور ورمز هذا الصراع، وذلك لكونها مقر المسجد (الهيكل، المعبد)، الذي كان محور اهتمام كل أنبياء بني إسرائيل الذين خُتموا بالمسيح عليه السلام، والذي بشرهم بانقضاء دورهم ودمار مدينتهم وهيكلهم، وكان الإسراء إلى المسجد إعلانا بانتقال حمل الرسالة من أمة إلى أخرى.

  4. ولذلك لا مفر من الصدام بين الأمة الإسلامية وبين الصهيونية وحلفائها.

  5. على مستوى العهود والمواثيق الدولية المعاصرة لا يحق لأية مجموعة أن تحاول احتلال واستيطان دولة ما بحجة أن أسلافهم كانوا يسيطرون عليها في فترة من التاريخ، وفتح هذا الباب الآن يمكن أن يسبب حروبا دولية مدمرة وحروبا أهلية طاحنة في كافة أرجاء المعمورة! فأكثر الشعوب المقيمة في دولٍ الآن أتت إليها من خارجها وأطلقت أسماءها على المناطق التي استوطنتها، ومن الأمثلة السريعة:

  6. الفرنجة The franks وهم مجموعة قبائل جرمانية غربية قدموا من ألمانيا، وقد دخلوا التاريخ حوالي العام 260 م بغزوهم الراين بالإمبراطورية الرومانية، ثم وسـّعوا من نفوذهم بنهاية القرن الخامس على الأراضي الرومانية ليشمل هولندا وبلجيكا وشمال فرنسا، وبسببهم تغير اسم بلاد الغال إلى فرنسا.

  7. وقبائل الأنجلوسكسون Anglo-Saxons هم قبائل جرمانية غزت واستوطنت بريطانيا في القرنين الخامس والسادس، وأوطانهم الأصلية هي شمال ألمانيا وهولندا والدانمارك، وقد استوطنوا جهات بريطانيا الجنوبية والشرقية في القرن الخامس بعد الميلاد، وهم الذين غيروا اسم البلاد التي استوطنوها إلى إنجلترا.

  8. وكذلك الأمر بالنسبة لتركيا، فهضبة الأناضول من أقدم الأماكن التي عمرها الإنسان، واستوطنتها سلالات شتى منذ فجر التاريخ، ولم يدخلها الترك السلاجقة الذين قدموا من وسط آسيا إلا في القرن الحادي عشر الميلادي وتلاهم الترك العثمانيون في القرن الثالث عشر، وباستيلائهم على البلاد بدأ تتريك السكان الأصليين (أو بالأحرى من استوطنوها قبلهم).

  9. الدول الموجودة في قارتي أمريكا الشمالية والجنوبية، وتاريخهم حديث ومعلوم.

*******

1

bottom of page