حقيقة مصطلح الصحبة
أبو بكر يؤمن إيمانا لا يتزعزع بأن أَبَا سُفْيَانَ هو شَيْخ قُرَيْشٍ وَسَيِّدهمْ!
قال الإمام مسلم في صحيحه رقم (2540) : حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمٍ، حَدَّثَنَا بَهْزٌ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ قُرَّةَ، عَنْ عَائِذِ بْنِ عَمْرٍو: " أَنَّ أَبَا سُفْيَانَ، أَتَى عَلَى سَلْمَانَ، وَصُهَيْبٍ، وَبِلَالٍ فِي نَفَرٍ .
فَقَالُوا : وَاللهِ مَا أَخَذَتْ سُيُوفُ اللهِ مِنْ عُنُقِ عَدُوِّ اللهِ مَأْخَذَهَا .
قَالَ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: أَتَقُولُونَ هَذَا لِشَيْخِ قُرَيْشٍ وَسَيِّدِهِمْ؟
فَأَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرَهُ، فَقَالَ: « يَا أَبَا بَكْرٍ لَعَلَّكَ أَغْضَبْتَهُمْ، لَئِنْ كُنْتَ أَغْضَبْتَهُمْ، لَقَدْ أَغْضَبْتَ رَبَّكَ» فَأَتَاهُمْ أَبُو بَكْرٍ فَقَالَ: يَا إِخْوَتَاهْ أَغْضَبْتُكُمْ ؟ قَالُوا: لَا ؛ يَغْفِرُ اللهُ لَكَ يَا أُخِي "
فتلك المروية تبين ما يلي:
1. أن من لا ينتمون إلى الجنس العربي كانوا أقرب إلى تفهم عالمية الإسلام وأكثر تحررا من أوهام الجاهلية.
2. يُلاحظ أن أبا بكر لم يقل لهم إنه أخوكم في الدين!!
3. أنه إلى ذلك الحين أي بعد السنة الثامنة من الهجرة لم يكن أبو بكر الصديق -وهو من هو- قد تحرر تماما من أوهام الجاهلية فقد كان لا يزال يعتقد أن أبا سفيان هو شيخ قريش وسيدها وكأن الإسلام لم يغيِّر هذه الأوضاع، ولقد كان هو أحق الناس بأن يدرك أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هو سيد قريش وشيخها بل سيد العالمين، وإذا كان يريد مجاملة أبى سفيان فكان عليه ألا يفعل ذلك بالمساس بمكانة سيده ومعلمه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولقد أثبت بموقفه هذا حاجته إلى المزيد من التزكية النبوية ولهذا عنفه الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ واضطره إلى الاعتذار إلى السادة الحقيقيين الجدد الذي عرفوا الحق فعلت مكانتهم، لقد كان على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يستكمل تزكيته فتجاهل ما أخبره به ولم يعره أدني اهتمام ولم يهتم بالتعليق عليه واضطره إلى الذهاب إلى أهل الصفة لاسترضائهم، ولقد وعي الصديق هذا الأمر، وعندما تولي أمر المسلمين لم يكن يبالي بأبي سفيان وكان يرفع صوته فوق صوته حتى أن أباه استغرب الأمر كما سيرد، وأنبه هو أيضا إذ لم يكن هو الآخر قد تحرر تماماً من آثار الجاهلية.
4. لم يبال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأبي سفيان فلم يكن له أية كرامة تستدعى الحفاظ عليها فلقد رضي هذا لنفسه أن يكون من المؤلفة قلوبهم ولو تسرَّب الإيمان إلى قلبه لرفض ما يؤدى إليه من مال لتأليف قلبه ولأنفق من ماله الخاص لنصرة الإسلام حتى تصح توبته، ولكنه ظل حريصا على هذا المال حتى منع.
5. وهذه المروية تلقى ضوءا على أسلوب الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في تزكية أصحابه فهو لم يكن يداهن أو يساوم أو يجامل، ولا شك أيضا أن كثيرا من أمثال هذه الآثار قد اندثر ولم يدون، وقد تشمئز قلوب عبيد الأسلاف من أن يسمعوا مثل هذا الكلام وما ذلك إلا لإعراضهم عن القرءان ولجهلهم بقدر الرسول الأعظم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم؛ ولقد كان عليهم أن يعلموا أن الأميين كانوا من قبل في ضلال مبين وأن الله تعالي قد أناط بالرسول أن يعلمهم وأن يزكيهم وأن يخرجهم من الظلمات إلي النور.
ولقد حدث أن كان الخليفة أبو بكر يصيح على أبى سفيان فسمعه والده فقال له: (أعلى أبى سفيان تصيح وترفع صوتك؟ لقد عدوت طورك وجزت مقدارك)، فهذا رجل يُعد عندهم من الصحابة لم يكن يعلم ما يعلمه أي طفل مسلم الآن وهو أن ابنه أبا بكر كان أفضل مما لا يحصي عدده من أمثال أبى سفيان، وهذا يدل علي أنه لا يمكن الاحتجاج بتصرفات من أسموهم بالصحابة ولا إلزام الناس كافة بها، وهذا يدل أيضا على مدى تغلغل الإرث الجاهلي في نفوسهم وأنه كان لابد من مرور عشرات السنين ومعاناتهم المريرة من آثار الجاهلية حتى يتحرروا منها، ولكن الذي حدث بالفعل هو أنه تمت صياغة المعطيات الدينية وفق ما لم يستطيعوا التخلص منه من إرث الجاهلية، فلم يستطع العرب والأعراب من بعد القرن الأول أن يرتفعوا بالإسلام وإنما أنزلوا الصياغة الدينية إلى حضيضهم، أو بالأحرى اختلقوا دينا بديلا هو الدين الأعرابي الأموي لم يأخذ من الإسلام إلا قليلا وأكثر ما أخذه الشكليات.
*******
1