نظرات في المذاهب
56
مسألة الأدلة
إنهم يسمون مصادر الدين ومراجعه بالأدلة، ولديهم بذلك أدلة عديدة، ويوجد شبه إجماع في كافة المذاهب السنية على الأدلة الآتية: "الكتاب، السنة (وفق مفهومهم عنها وتعريفهم لها)، الإجماع، القياس"، وهم نظريا يقدمون الكتاب على غيره، ولكنهم عمليا وواقعيا يقدمون (السنة) عليه، وهم يتفننون في صياغة العبارات التي تقول بذلك، ومنها: السنة حاكمة على الكتاب وقاضية عليه، السنة تقيد مطلق القرءان وتبين مبهمه وتفصل مجمله وتحل مشكله، حاجة الكتاب للسنة أشد من حاجة السنة للكتاب.... الخ.
وقد يستبشع بعضهم مثل هذه المقولات، فلا ينطق بها، بل ربما ينكرها، ولكنه يعمل بكل سهولة بها وبمقتضياتها، فالخلل في المنطق هو من أهم خصائص سدنة الدين السني.
وليست المشكلة هي في الاختلاف في بعض المسائل والأحكام المحدودة، ولكن المشكلة هي أن بنيان الدين السني بكافة صوره مأخوذ من المصادر الثانوية، فمنها يأخذ أسسه وأركانه وموازينه وروحه وجلّ عناصره، وهم بالفعل لا يأخذون من القرءان إلا ما يوافقها، فهم يأخذون موازين الأمور بالفعل من هذه المصادر الثانوية، وعلى سبيل المثال فأركان الدين عندهم مأخوذة من خبر آحاد منسوب إلى عبد الله بن عمر، وبهذا الخبر لم يضربوا القرءان فقط، وإنما ضربوا معه مرويات أخرى عديدة!
ولكون الأدلة أو مصادر الدين متعددة عندهم تعددًا حقيقيا فإنه كان لابد لهم من الحديث عن الترتيب بين الأدلة، أما في دين الحق فالمصدر الأوحد لكل أمور الدين الكبرى هو القرءان الكريم، وهو المصدر الأعلى لأمور الدين الثانوية، فهو المصدر بالأصالة، وكل المصادر الأخرى لا تستمد شرعيتها ومصداقيتها إلا منه.
وهذا هو مختصر كلامهم في الترتيب بين الأدلة:
الترتيب بين الأدلة
إذا اتفقت الأدلة السابقة (الكتاب والسنة والإجماع والقياس) على حكم أو انفرد أحدها من غير معارض وجب إثباته، وإن تعارضت، وأمكن الجمع وجب الجمع، وإن لم يمكن الجمع عمل بالنسخ إن تمت شروطه.
وإن لم يمكن النسخ وجب الترجيح.
فيرجح من الكتاب والسنة:
النص على الظاهر.
والظاهر على المؤول.
والمنطوق على المفهوم.
والمثبت على النافي.
والناقل عن الأصل على المبقي عليه، لأن مع الناقل زيادة علم.
والعام المحفوظ (وهو الذي لم يخصص) على غير المحفوظ.
ويقدم من الإجماع: القطعي على الظني.
ويقدم من القياس: الجلي على الخفي.
*******
الأصل عند الأصوليين يُستعمل في معانٍ منها: الراجح، الدليل، القاعدة، وما يُثبت وظيفة عملية عند الجهل بالحكم، أو ما يتفرّع عليه غيره .... الخ.
والحقّ أن أهم معانيه أنه: المصدر، المرجع.
*****
قالوا إن الفقه هو: العلم بالأحكام الشرعية الفرعية عن أدلتها التفصيلية، وقالوا أيضًا إنه مجموعة الأحكام الفرعية وإن لم تكن معلومة.
وبالطبع لا علاقة لكلمة فقه بالمواضيع التي جعلوها عنوانًا عليها، ومن يعلم أن كلمتي فقه وفهم متقاربان من حيث المعنى لن يستسيغ أن يُطلق كلمة "فهم" على ما يسمونه بالفقه، ولكنه الاعتياد فقط.
وما يسمونه بالفقه يتعلق بالفعل بعملية إثبات العبادات العملية والمعاملات والأحكام ... الخ بالأدلة من المصادر التي يقرون بها، وكذلك استخراج أحكام لما قد يستجد من أمور.
ورغم زعمهم بأنهم لا يأخذون إلا بما يسمونه بالأدلة الشرعية المعلومة إلا إنهم في الحقيقة يأخذون من التاريخ وعلوم اللغة، ومما هو من التاريخ سير الرجال وخاصة الرواة، فهو ليس مذكورا في أي دليل شرعي، وكذلك ما يسمونه بأسباب النزول.
وبالطبع فإن الدين أكبر من أن يكون مدونة للأحكام ذات الصبغة القانونية، والدين بصورته الكاملة يكون من مصادره السنن الكونية، التي هي من تجليات السنن الإلهية، والتي هي بدورها من مقتضيات الأسماء الحسنى الإلهية.
وقالوا في تقييد "الفقه" بالفرعية أنه لإخراج أصول الدِّين وأصول الفقه من (الفقه)، فما هو دليلهم أن ما يسمونه بأصول الدين، وهي إيمانياته، ليست من الفقه في الدِّين، وأين مقاصد وسنن وقيم الدين؟
وهل الجاهل بأصول الدِّين وإيمانياته وقيمه وسننه ومقاصده مع علمه بالأحكام الشرعية الفرعية يمكن اعتباره حقًّا فقيها في الدِّين؟
وإذا كان من وضعوا هذه المصطلحات كانوا على وعي بطبيعة عملهم فإن من جاء من بعدهم استفزهم محدودية عملهم، فعملوا على تضخيم هذا (الفقه)، أما العامة فقد اعتبروهم رجال دين بالمعنى المعلوم للملل الأخرى!!
وقالوا إن التقييد بالعملية هو لإخراج العلم بالأحكام النظرية، وبذلك أخرجوا الإيمانيات (العقيدة) من الفقه، وجعلوا الفقه مختصًّا فقط بأعمال الجوارح، وبذلك أصبح دورة ضبط وتقنين الأداء الروتيني للعبادات والمعاملات والأحكام والسلوك اليومي.
1