top of page

نظرات في المذاهب

32

مناقشة تفصيلية لكلام الأصوليين في "واضح الدلالة"

مناقشة تفصيلية لكلام الأصوليين في "واضح الدلالة"

قسَّم الأصوليون الواضح الدلالة إلى أربعة أقسام:

الظاهر، والنص، والمفسر، والمحكم: وهي في وضوح دلالتها على هذا الترتيب التصاعدي، فالمحكم أوضحها دلالة، ويليه المفسر، ثم النص، ثم الظاهر، وتظهر ثمرة هذا التفاوت عند التعارض.

1. الظاهر

الظاهر هو اللفظ باعتبار دلالته على معنى متبادر منه وليس مقصودا أصليا بسوق الكلام، هذا مع احتمالية للتفسير والتأويل، وأن يكون منسوخا، أي هو ما دل على المراد منه بنفس صيغته من غير توقف فهم (الأصح فقه) المراد منه على أمر خارجي، ولم يكن المراد منه هو المقصود أصالة من السياق، ويحتمل التأويل، فهو اللفظ باعتبار دلالته على معنى متبادر منه وليس مقصودا أصليا بسوق الكلام.

فمتى كان المراد يفهم من الكلام من غير حاجة إلى قرينة، ولم يكن المقصود الأصلي من سياقه، يعتبر الكلام ظاهرا فيه.

وعندهم أن الظاهر يقبل التأويل والتخصيص والنسخ.

فالظاهر هو اللفظ الذي يدل على معناه بنفس صيغته من غير توقف على أمرٍ خارجي، ولم يكن مسوقا بالأصل لإفادة هذا المعنى، واحتمل التأويل إن كان خاصا، أو التخصيص إن كان عامًا.

نقول: كلامهم هذا مفتعل وغريب، فقولهم إن المفهوم ليس هو المقصود الأصلي من سوق الكلام هو زعم بحاجة إلى إثبات، والإثبات منهم لن يكون إلا ظنيا في أمرٍ لا مجال للظن فيه، أو اجتهادا بشريا غير معصوم، ولا مجال لديهم لمساءلة الله تعالى، ولا يمكن أن يجدوا نصًّا يقول بأن هذه العبارة ليست مقصودة بالأصالة من سوق الكلام، وهم لم يستطيعوا أن يزعموا ذلك إلا باقتطاع جملة من سياقها.

ولا وجود في القرءان لآيات منسوخة لتُتخذ معيارا من معايير التقسيم.

ويقدمون عادة الأمثلة الآتية:

مثال:

قالوا: ((إن قوله تعالى: 

{وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: 275]،

 ظاهر في إحلال كل بيع وتحريم كل ربا؛ لأن هذا معنى يتبادر فهمه من لفظي "أحلّ وحرّم" من غير حاجة إلى قرينة، وهو غير مقصود أصالة من سياق الآية، لأن الآية مسوقة أصالة لنفي المماثلة بين البيع وبين الربا ردا على الذين قالوا: 

{إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا}

 لا بيان حكميهما، وحل البيع وحرمة الربا من الأحكام الجزئية التي كان من الجائز نسخها في عهد الرسالة)).

بداية فإن قولهم "وحل البيع وحرمة الربا من الأحكام الجزئية التي كان من الجائز نسخها في عهد الرسالة" هو قول مدحوض دحضا تاما، فالحكمان واردان في نص قرءاني قطعي الدلالة، ولا وجود في القرءان لآيات منسوخة أصلا، وآيات القرءان المحكمة لا يمكن إبطال أحكامها، ومن الكفر المبين والضلال المشين قولهم في كبيرة من كبائر الإثم: إنه كان الجائز نسخ تحليل البيع وتحريم الربا في عهد الرسالة، فكيف كان يمكن نسخ تحريم الربا بينما يتوعد الله تعالى من لم يتب عنه بحرب منه؟!

وقولهم "الآية مسوقة أصالة لنفي المماثلة بين البيع وبين الربا" هو مجرد زعم لا يمكن أن يأتوا عليه بأي برهان مبين، ولا يجوز لأحد القطع بأن الآية مسوقة فقط لمجرد نفي المماثلة بين البيع وبين الربا، فالكل يعلم أن البيع ليس مثل الربا، واختلاف المبنى يعني بالضرورة اختلاف المعنى، ولكن من قالوا  إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا" إنما كانوا يقصدون المماثلة في الحكم، ويريدون القول بأنه بذلك لا مجال لتحليل البيع وتحريم الربا، والرد إنما هو على قصدهم هذا، وهو الحكم الملزم للناس، والمفهوم من الرد عليهم أيضًا هو أن أمر التحليل والتحريم هو شأن إلهي أصلا، فهذا من مفهوم النص بالإضافة إلى الإخبار عن حل البيع وتحريم الربا، وهذه المعاني كلها مقصودة من السياق.

سيقولون: "ولكن توجد نصوص أخرى تنهى عن الربا"، والجواب هو أن هذا هو الأسلوب القرءاني، فالله تعالى يصرِّف الآيات ويكرر الأوامر والنواهي لمقاصد عديدة يمكن استنباطها، ومنها إعطاء كل أمر وزنه القرءاني أو الشرعي، وثمة فرقان بين النهي عن شيء وبين النص على تحريمه.

والله تعالى لا يدخل في محاققة مع الناس، وإنما يعطي الحكم النافع والملزم، ورده هو على مقاصدهم من سوق كلامهم، وليس على مجرد الألفاظ التي صدرت عنهم، ومن المعلوم أن النظم القرءاني له طبيعته الخاصة، وكل ما تتضمنه العبارات القرءانية مقصود لذاته.

والعبارة 

{وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} 

في الآية 

{الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَن جَاءهُ مَوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّهِ فَانتَهَىَ فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُون} [البقرة:275] 

هي وفق مصطلحنا من المحكم؛ فهي واضحة الدلالة، ولا تحتمل النسخ أو التأويل، والمحكم هنا هو بالمعنى الخاص، أي إنه هو المقابل للمتشابه، حيث أن كل آيات الكتاب قد أحكمت بالمعنى العام.

والأصوليون بقولهم إن تلك العبارة من الظاهر يقولون إنها أضعف أقسام الواضح من حيث الدلالة، وقولهم هذا غريب، ذلك لأن تحريم الربا من أقوى أوامر التحريم في القرءان، ففي الآية السابقة نصٌّ على أن المصرين عليه هم أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُون مثل من يقتل مؤمنا متعمدا، وكذلك قال تعالى:

{أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (278) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ (279)} البقرة

لذلك فمنهجنا يتفوق على منهجهم بكثير، وهو يقوم على النظر في قوة الأمر أو النهي من حيث المعنى ومن حيث المبنى؛ أي من حيث درجات التأكيد في العبارات اللغوية التي ورد فيها الأمر أو النهي سواء أكان الأمر مؤكدا بذاته أو لوروده مقترنا بأمرٍ آخر حكمه معلوم من حيث درجة التأكيد، فهذا من باب الالتزام بالميزان القرءاني للأمور.

فالذي يعنينا نحن هو الأمر القرءاني؛ وهذا يتضمن العلم بمضمون وتفاصيل ووزن هذا الأمر، هذا الوزن يعتمد أساسا على قوة ودرجة تأكيد العبارات اللغوية التي ورد فيها الأمر.

ولا يعنينا اقتطاع عبارة من سياقها لإثبات قاعدة أو لإعطاء معنى لمصطلح.

أما معنى أو مفهوم مصطلح الربا فالآيات تتكامل وتتضافر لتبينه.

ونصّ الآية الكامل هو: 

{الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَن جَاءهُ مَوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّهِ فَانتَهَىَ فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُون} [البقرة:275]

فالآية ليست مسوقة فقط لمجرد بيان اختلاف البيع عن الربا، بل هي لتبيين بشاعة الربا، ولا يجوز الزعم بأن العبارة مسوقة لتبيين أحد معانيها العديدة، والآية تتضمن أحكاما أخرى، فهل سيقولون أيضًا إن الآية ليست مسوقة لتبيينها؟

كما لا يجوز اقتطاع عبارة من الآية لفرض قول مسبق عليها.

مثال آخر

قال الأصوليون: ((قوله تعالى: 

{فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً} [النساء: 4]،

 ظاهر في إباحة نكاح ما حل من النساء لأن هذا معنى يتبادر فهمه من لفظ، فانكحوا ما طاب لكم منهن من غير توقف على قرينة، وهو غير مقصود أصالة من سياق الآية؛ لأن المقصود أصالة من سياقها هو قصر العدد على أربع أو واحدة كما قدمنا)).

قولنا: بل إن نكاح ما طاب من النساء ذوات الصلة باليتامى هو المقصود بالفعل من السياق، وكيف لا يكون مقصودا وهو جواب شرط موجود في الآية؟ ولكن المشكلة هي أنهم دأبوا على اقتطاع عبارة من السياق وتفسرها بمعزل عن باقي الآية وسياق الآيات، وها هو السياق:

{وَآَتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا (2) وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا (3)} النساء

فالآيات تتعلق بحفظ حقوق اليتامى وخاصة في مجتمعات بدائية لم يكن فيها مؤسسات لرعاية اليتامى والضمان والتكافل الاجتماعي، ومن ينكح أمًّا أو أكثر من أمهات اليتامى سيحميهم من أن يجور الناس عليهم، ولكن عليه هو في المقابل ألا يجور على زوجته الأصلية.

وليس من حق أحد القطع بأن المقصود أصالة هو قصر العدد على أربع، بل يمكن القول بأن الآية لا تقصد إلى أي تحديد إلا في حالة الخوف من ألا يعدلوا، ولكن هناك أوامر عامة بعدم التبذير أو الانشغال بمتاع الدنيا القليل، ومن علم عناصر دين الحق يعلم أنه ملزم بالقيام بما يشغله عن الانغماس في متاع الدنيا وإهدار إمكاناته فيها.

وهذه الآيات توضح أن النكاح هو قيام بمسؤوليات اجتماعية، هذا بالإضافة إلى أنه من سنن الفطرة، ولقد أكد القرءان عليه بأن ذكر من يحل للرجل من النساء، وذلك بذكر من يحرمن عليه، قال تعالى:

{وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آَبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلًا (22) حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالَاتُكُمْ وَبَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (23) وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآَتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (24) وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآَتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلَا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (25) يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (26)} النساء

فلا علاقة للآية بما يريدون فرضه عليها.

مثال آخر:

قالوا: ((وقوله تعالى: 

{وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا} [الحشر:7] 

ظاهر في وجوب طاعة الرسول في كل ما أمر به وكل ما نهى عنه؛ لأنه يتبادر فهمه من الآية، وليس هو المقصود أصالة من سياقه، لأن المقصود أصالة من سياقه هو: ما آتاكم الرسول من الفيء حين قسمته فخذوه، وما نهاكم عنه فانتهوا.))

قولنا: الآية كاملة تقول: 

{مَّا أَفَاء اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لاَ يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاء مِنكُمْ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَاب} [الحشر:7]

فالآية تتكلم أساسا في موضوع توزيع الفيء، والفعل "آتى" غير الفعل "أمر" كما يعلم أي عربي، وأقرب الأفعال إلى معناه هو الفعل "أعطى"، واختلاف المبنى يوجب بالضرورة اختلاف المعنى، وما يؤتَى هو الذي يمكن أن يؤخَذ، والأمر بالطاعة ورد صراحة في القرءان في آيات عديدة، فلم يكن ثمة حاجة ملحة إلى صرف هذه الآية عن معناها، وأخذ ما أوتي هو من الالتزام بالطاعة، ولكنه ليس عين الطاعة وليس بالضرورة كل الطاعة.

فالأمر بطاعة الرسول هو أمرٌ ثابت لكل المسلمين أما الأمر الوارد في هذه الآية فهو بالأصالة أمرٌ خاص بأتباعه المعاصرين له، والآية تبين أنهم كانوا يتنازعون في الغنائم وكانوا لا يرضون بما يقسمه الرسول لهم، ومن مقاصد ذكر ذلك حماية المسلمين من الغلو في أمرهم.

فالقول بأن المعنى الظاهر هو وجوب طاعة الرسول هو اختزال للمعنى الخاص للآية وللمقصد منها.

مثال: إذا قال الأب لابنه: "إذا أعطيتك شيئا من هذا الطعام فخذه وارض به، وإذا منعتك شيئا فلا تطلبه".

لا يجوز القول بأن العبارة ظاهرة في وجوب طاعة الابن لأبيه برًّا به، فهذا المعنى عام ومقرر، ولكن هاهنا معنى خاص أيضًا لا يجوز إلغاؤه.

وبذلك يتضح أن كل أدلتهم لبيان شرح "الواضح" مفتعلة وغير صحيحة، ولا فرق بينه وبين النصّ، ولا جدوى من تعريف هذا "الواضح"، ولذلك نسمي النص بالظاهر حتى لا يحدث لبس بين النص بالمعنى المقرر في الأصول وبين النص بمعنى محض العبارات اللغوية في وثيقةٍ ما Texts، أما كلمة واضح فيجب أن يبقى لها معناها اللغوي المعلوم.

*******

2. النص

النص في اصطلاح الأصوليين: هو ما دل بنفس صيغته على المعنى المقصود بالسوق أصالة، دلالة تحتمل التفسير والتأويل والنسخ، فمتى كان المراد متبادرا فهمه من اللفظ، ولا يتوقف فهمه على أمر خارجي، وكان هو المقصود أصالة من السياق، يعتبر اللفظ نصا عليه.

وهم يضيفون إلى ذلك أنه قابل لما يسمونه بالنسخ، ولا مجال للقول بوجود نص قرءاني منسوخ، فذلك من الكفر المبين.

فالنصّ هو اللفظ الذي يدل على معناه بنفس صيغتِهِ، وكان مسوقا بالأصل لإفادة هذا المعنى، ويحتملُ التخصيصَ والتأويل.

فقوله تعالى 

{وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: 275] 

نصّ على نفي المماثلة بين البيع والربا، لأنه معنى متبادر فهمه من اللفظ ومقصود أصالة من سياقه، وهو في مصطلحهم ظاهر في تقرير حل البيع وتحريم الربا.

فهم يزعمون أن المعنى الذي كان مطلوبا من الجملة هو الردّ على القول بأن البيع مثل الربا، وبالتالي فالجملة نصّ بهذا المعنى!

ووفق مصطلحنا، فقوله تعالى نصٌّ وظاهر في نفي المماثلة بين البيع وبين الربا وفي تقرير حل البيع وتحريم الربا، وهو أيضًا محكم وقطعي الدلالة في كل ذلك؛ فلا يحتمل تأويلا.

وعندما نقول يوجد نصّ يحرم الربا فالمقصود بالنص هو العبارات القرءانية المعلومة الموثقة، ولا يوجد ما يمنع استعمال الفعل "نصَّ" بمعناه اللغوي المعلوم، النصّ هو العبارة اللغوية ذاتها بما تحمله من معان، وله صورة مسموعة، وصورة مكتوبة.

وقوله تعالى: 

{وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا} [الحشر:7]

نص على وجوب طاعة الرسول في قسمة الفيء إعطاءً ومنعا لأنه المقصود من سياقه.

قالوا: وحكم النص حكم الظاهر، فيجب العمل بمدلوله حتى يقوم دليل على تفسيره أو تأويله أو (نسخه).

وبالطبع لا مجال للقول بإمكانية نسخ نصّ قرءاني بأي معنى من معاني النصّ.

فإذا كان النص عاما بقي على عمومه حتى يقوم دليل على تخصيصه، وإذا كان مطلقا بقي على إطلاقه حتى يقوم دليل على تقييده.

وكل من الظاهر والنص واضح الدلالة على معناه، أي لا يتوقف فهم المراد من كل منهما على أمر خارجي، ويجب العمل بما وضحت دلالة كل منهما عليه.

أما التأويل فمعناه في اللغة: بيان ما يؤول إليه الأمر، وقال تعالى: 

{ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} [النساء:59]،

 ومنه المآل.

ومعناه في اصطلاح الأصوليين: صرف اللفظ عن ظاهره إلى معنى يحتمله بدليل ظني أو احتمالي، أما التفسير فيكون الصرف بدليل قطعي.

وهو كالتفسير يلحق المجمل والمشكل والخفي من أنواع خفي الدلالة، كما يلحق الظاهر والنص من أنواع ظاهر الدلالة.

ومن المقرر أن الأصل عدم صرف اللفظ عن ظاهره، وأن تأويله أي صرفه عن ظاهره، لا يكون صحيحا إلا إذا بني على دليل قرءاني أو علمي، ويجب أن يكون متسقا مع معناه الأصلي؛ أي مع ظاهره.

قالوا: ((ومن أمثلة التأويل الصحيح: تخصيص عموم البيع في قوله تعالى: 

{... وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ...} [البقرة:275]، 

بالأحاديث التي نهت عن بيع الغرر، وعن بيع الإنسان ما ليس عنده، وعن بيع الثمر قبل أن يبدو صلاحه، وهذا من تأويل الظاهر، لأن الآية كما قدمنا، نص ظاهر في إحلال كل بيع ونص في المماثلة)).

قولهم هذا مبني على منهجهم الخاطئ والمفتعل والمستفزّ في الوقت ذاته، وهو المتمثل في إصرارهم على اقتطاع أصغر جزء ممكن من الآية ومن السياق ثم استنتاج أحكام منها، ثم الاشتغال بنفي أو تخصيص أو نسخ ما استنتجوه هم، ثم الزعم بأن المخصص أو المنسوخ هو النص القرءاني ذاته!!!

أما من ينظر إلى النص من خلال العلم بدين الحق بقيمه ومثله وسننه فسيدرك أنه لا يوجد أي تأويل أو تخصيص، والحق هو أنه هناك فرق بين مصطلح "البيع" الشرعي أو الديني، وبين معنى "البيع" لغويا.

فالبيع الشرعي يجب أن يكون محكوما بمنظومة القيم الإسلامية، أي يجب ألا يكون مشوبا بظلم أو غش أو خداع لأحد الأطراف، ومظاهر هذه الآثام كثيرة، وهي تتطور وتتسع بمضي الزمن، وإذا لم يؤدّ المشتري الثمن كاملا يكون الجزء المتبقي دينا عليه للبائع يجب توثيقه.

ولما كانت صور البيع تتجدد وتتطور بمضي الزمن فإنه على أولي الأمر البتّ في كل ذلك وتحديد مدى اتساق ما يستجد أو يتطور مع أسس الدين وقيمه وموازين أموره.

*****

قالوا: ((وتخصيص عموم المطلقات في قوله تعالى: 

{وَأُوْلَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنّ}[الطلاق:4]

. وتقييد الدم المطلق في قوله تعالى:

{ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالْدَّمُ}[المائدة:3]،

 بقوله تعالى: 

{أَوْ دَماً مَّسْفُوحا} [الأنعام:145].

 وهكذا من كل تخصيص أو تقييد، قضى به التوفيق بين نصوص القرءان والسنة)).

والحق هو أن للقرءان نظمه الفريد لأسباب عديدة بيَّنا بعضها كثيرا، لذلك قد يأتي الحكم الخاص بمسألةٍ ما موزعا على آيات أو على سور عديدة، والحكم في أي مسألة هو جماع كل ما ذُكِر عنه في كل الآيات.

مثال بالنسبة للمطلقات:

الْمُطَلَّقَاتُ يُطلَّقن لعدتهن فيَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوءٍ، وَاللاَّئِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِن الْمُطَلَّقَاتُإِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاَثَةُ أَشْهُرٍ، وَاللاَّئِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُوْلاَتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ أما الْمُطَلَّقَاتُ منهن مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا

فالقرءان يخاطب قوما يفقهون ويعقلون ويعلمون أن المقصد هو إبراء الرحم وحفظ الأنساب، كما أنه يخاطب قوما يتأدبون مع كلام ربهم، فلا يوجد أي تخصيص أو نسخ، بل إنه توزيع للحكم على آيات عديدة طبقا للنظم القرءاني، فلم يكن فرض الأحكام هو المقصد القرءاني الوحيد، وكل آية قيل إنها من آيات الأحكام تتضمن بالضرورة أمورا أخرى، هي عادة أهم من الأحكام، والشهر هو الشهر القمري الطبيعي؛ أي الذي ينتهي عندما يعود القمر إلى الوضع الذي بدأ به.

وقالوا كمثال آخر: ((وكذلك تأويل الشاة في قول الرسول: "في كل أربعين شاة شاة"، والصاع من تمر في حديث المصراة: "من اشترى شاة مصراة فهو بالخيار بين أن يمسكها وبين أن يردها وصاعا من تمر"، فإن ظاهر الحديث الأول أنه لا يجزئ في زكاة الأربعين شاة إلا واحدة منها، ولا تجزئ قيمتها، وظاهر الحديث الثاني أنه إذا رد المشتري الشاة المصراة لا يجزئ في تعويض البائع عما احتلب من لبنها إلا صاع من تمر)).

الأصل هو أنه لم يرد في القرءان أي تحديد خاص بإيتاء الزكاة، وذلك أمر بديهي، فمن سمات الإسلام الراسخة العالمية والصلاحية لكل زمان ومكان، فتحديد كل ما يختص بالزكاة منوط بأولي الأمر (الحقيقيين) في كل عصر ومصر، ولو كانت التفاصيل التي التزموا بها في العصر النبوي ملزمة للعالمين إلى يوم الدين لكان لزاما عليهم عمل مدونة معتمدة بذلك تُكتب في حضور شهود عدول، فإيتاء الزكاة هو حقوق مالية وليس كحركات أداء الصلاة التي يمكن نقلها بالتواتر.

والقول بأنه في كل أربعين شاة شاة هو موجه لقوم الرسول الذين آمنوا به، والمقصود به تحديد النسبة التي من الواجب أن يؤدوها قياما بركن إيتاء الزكاة والمناسب لبيئتهم التي كانت تتعامل أساسا بالمقايضة، وإلا فما هو الحكم فيمن لديه 73 شاه مثلا؟ فالأمر لا يحتاج إلى تأويل، بل إلى إدراك مقاصد الدين وإلى فقه دلالة القول وفحوى الخطاب.

والقول "لا يجزئ في تعويض البائع عما احتلب من لبنها إلا صاع من تمر" يعني أنه لابد من معيار للاحتكام إليه لتحديد القيمة، وقد أصبح أدق وأعدل معيار الآن هو النقود المعلومة، وليس مطلوبا من المسلم الآن أن يشتري بماله صاعا من تمر أو من برّ لكي يعطيها مثلا للمسكين أو الفقير لكي يبيعها بدوره ليحصل على ما يحتاجه بالفعل، ومن يلزم المسلمين بذلك يقر بأن دينه هو خاص بالبدو والأعراب، فعليه أن يغرب بدينه عن وجه الإسلام العالمي الصالح لكل زمان ومكان.

فالأمر ليس أمر تأويل، وإنما يقدم النصّ النماذج التي يمكن النظر فيها وإدراك مضمونها ومفهومها، وكل نص هو محكوم أصلا بكل مقاصد الدين العظمى وقيمه الكبرى، وإلا فإنه يمكن القول بأن من يملك مليار دولار لا تجب عليه زكاة لأنه لم يرد للدولار ذكر في مصادر التشريع.

والحديث يوضح أيضًا أنه في المجتمعات البدائية التي لا تعرف النقود يمكن التعامل بالأشياء العينية.

والمقصد من إيجاب صاع من تمر هو تعويض البائع عما أتلفه من لبن شاته، فعليه ردّ قيمة ما استهلكه أو أتلفه، فالأمر محكوم بضرورة الحكم بالعدل والقيام بالقسط.

ويجب تذكر دائمًا أن الرسول كان يحمل رسالة خاصة إلى قومه، كانت تجسيدًا وتفعيلا لما يلزمهم ويلزم عصرهم من دين الحق، فلا يجوز تقييد دين الحق بما أُلزموا به في عصرهم.

ومن التأويل غير المقبول تأويل قوله تعالى: 

{... فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ...} [المائدة:89]،

 بإطعام مسكين واحد عشر مرات.

فالمقصود إطعام هذا العدد إما إطعاما فعليا، كما هو أيسر في المجتمعات البدائية التي تعز فيها النقود أو إعطاء عَشَرَةِ مَسَاكِينَ من المال ما يكفي لإطعامهم من أوسط ما يعرفه من وجبت عليه الكفارة من طعام، فالأمر لمن وجبت عليه الكفارة ينتهي بإخراجه المال لمن أيقن أنهم مساكين وفقًا لعرف عصره وبالمقدار الكافي لإطعامهم وفقًا لعرف عصره، فالمسكين والطعام في ألمانيا ليسا كالمسكين والطعام في ألبانيا، وبافتراض أن المساكين استعملوا المال في أغراض أخرى فلا وزر عليه في ذلك.

ويجب تذكر دائما أن القرءان يخاطب قوما يفقهون ويعقلون، فليس المقصد من إطعام المسكين مثلا أن يضع المطعم الطعام في فمه بيده كما هو لازم كلام الحرفيين والظاهريين!

فلا يجوز أبدًا إلزام نصوص القرءان بالمعاني العامية الدارجة أو الحرفية بمعزل عما هو ثابت من سمات الدين وأسسه وقيمه وسننه.

***

والتأويل المقبول هو ما لا يلغي المعاني الأصلية الثابتة بل يثريها، ويلقي مزيدا من الضوء على معانيها ولا يأباه اللفظ؛ بل يحتمل الدلالة عليه بطريق الحقيقة أو المجاز، ولم يعارض نصا صريحا ولا عنصرا من عناصر الدين الثابتة.

وفتح باب التأويل على مصراعيه بدون حذر واحتياط، قد يؤدي إلى الزلل والعبث بالنصوص ومتابعة الأهواء، أما التأويل الصحيح فهو ما دل عليه دليل من نص قرءاني أو دليل مما استخلص من القرءان من المبادئ والأسس والسنن.

***

النصّ في اللغة: الكشف والظهور، يقال: نصت الظبية رأسها إذا رفعته وأظهرته، ومنه منصة العروس، وهو الكرسي الذي تجلس عليه.

وفي الاصطلاح: يطلق النص في مقابلة الظاهر والمجمل، ويكون المقصود به: ما دل على معناه دلالة لا تحتمل التأويل.

مثل دلالة قوله تعالى: 

{فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} [النور4]

 على مقدار الجلد.

وقيل: ما دل على معناه ولم يحتمل غيره احتمالا ناشئا عن دليل.

وعلى هذا فالاحتمال الذي لا دليل عليه لا ينقض قوة الدلالة، ولا يجعل اللفظ ظاهرا بل يبقى في مرتبة النص.

ويطلق النص في مقابل الدليل العقلي أو الدليل من المعنى فيكون المقصود به النقل، سواء أكان نصا صريحا أم ظاهرا أم مجملا. وهذا كما يقول الفقهاء دليلنا النص والقياس، فإنهم لا يقصدون النص بمعناه المقابل للظاهر بل المقابل للقياس ونحوه. ثانيا: الظاهر:

وهو في اللغة: خلاف الباطن، وهو الواضح، يقال: ظهر الأمر إذا انكشف.

وفي اصطلاح الأصوليين: ما احتمل معنيين هو في أحدهما أظهر.

وهذا يدل على أن الظاهر صفة للفظ؛ لأن اللفظ هو الذي احتمل معنيين، وقد يطلقون لفظ الظاهر على المعنى الراجح الذي دل عليه اللفظ مع احتمال غيره احتمالا مرجوحا، فيقولون: هو الاحتمال الراجح.

ومثاله: دلالة الأمر على الوجوب مع احتمال الندب، ودلالة النهي على التحريم مع احتمال الكراهة، كقوله صلى الله عليه وآله وسلم: "صلوا كما رأيتموني أصلي" (متفق عليه).

وهكذا كل حقيقة احتملت المجاز ولم تقم قرينة قوية تدل على ذلك فهي ظاهرة في المعنى الحقيقي.

وقد يعرفون الظاهر بما كانت دلالته على المعنى دلالة ظنية لا قطعية؛ تفريقا بينه وبين النص.

*******

3. المفسَّر

المفسر في اصطلاح الأصوليين: هو اللفظ باعتبار دلالته على معنى مقصود بالسوق أصالة أو تبعا، فهو ما دل بنفسه على معناه المفصَّل تفصيلًا لا يبقى معه احتمال للتأويل أو التفسير، ولكنه قابل للنسخ.

أي هو اللفظ الذي يدل على معناه المسوق لإفادتِهِ دون أن يحتمل تأويلا أو تخصيصا لكنه يحتمل النسخ زمن الرِّسالة.

ويُعدُّ مِنَ المُفسَّر كل لفظٍ جاء مُجملاً ثمّ بيَّنه كألفاظِ الصَّلاةِ والحجِّ جاءت مجملةً في القرءان ثمّ فسّرتها الممارسات العملية للرسول.

فمن ذلك، أن تكون الصيغة دالة بنفسها دلالة واضحة على معنى مفصل، وفيها ما ينفي احتمال إرادة غير معناها، كقوله تعالى في قاذفي المحصنات: 

{فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً...} [النور:4]،

 فإن العدد المعين لا يحتمل زيادة ولا نقصا، وقوله تعالى: 

{وَقَاتِلُواْ الْمُشْرِكِينَ كَآفَّةً...} [التوبة:36]،

 فإن كلمة كافة تنفي احتمال التخصيص.

ومن ذلك أن تكون الصيغة قد وردت مجملة، وقد أكسبها القرءان معنى اصطلاحيا بالإضافة إلى معناها اللغوي، والأصل في شكليات العبادات هو اتباع ما تواتر، فلا يجوز تغيير أية عبادة من حيث الشكل، فشكليات الصلاة وشعائر الحج لا مجال فيها لتأويل، أما إيتاء الزكاة فهو أمرٌ آخر، فهو متعلق بحق ناس على ناس، وهو يتضمن نقل جزء من مال الغني إلى الفقير لصالح هذا الفقير، ولا يجوز أن يضار الفقير بذلك أو أن يقل نصيبه الذي يمكن أن ينتفع به، فلا شكليات في موضوع إيتاء الزكاة.

والمفسر نوعان؛ مفسر بذاته لا يحتاج إلى ما يبينه، أو مفسر بغيره من النصوص القطعية الدلالة، ولا فرق بين النوعين، فالمفسر يستخلص معناه من كل ما ذكره القرءان عنه، فإذا كان بينا ولم يذكره القرءان إلا مرة واحدة أو ذكره عدة مرات بنفس المعنى كان المعنى الأول، وإن كان استخلاص معناه يستلزم أكثر من نص كان النوع الثاني.

إن المنهج القرءاني يعتبر كل ما ورد عن أمرٍ ما في القرءان نصًّا واحدا يبين بعضه بعضا ويفسر بعضه بعضا، ولا يجوز هاهنا تجاهل ما ورد مصاحبًا للأمر من أسماء وشؤون وسنن إلهية.

وحكم المفسر: أنه يجب العمل به كما فصِّل، ولا يحتمل أن يصرف عن ظاهره.

وقالوا: ((ويقبل حكم المفسر النسخ، فالتفسير الذي ينفي احتمال التأويل هو التفسير المستفاد من نفس الصيغة، أو المستفاد من بيان تفسيري قطعي ملحق بالصيغة صادر من المشرع نفسه، لأن هذا البيان من القانون. وأما تفسير الشراح والمجتهدين، فلا يعتبر جزءا مكملًا للقانون ولا ينفي احتمال التأويل، وليس لأحد غير الشارع نفسه أن يقول فيما يحتمل التأويل المراد منه هو كذا لا غير)).

وبالطبع لا مجال للقول بوجود آيات قرءانية منسوخة، ومن الواضح أن قائلي هذا القول لا يكادون يرون في الآية إلا ما يعنيهم، وهو ما اختزلوا إليه الدين من أحكام شرعية عملية.

ويظهر من مقارنة التفسير بالتأويل، أن كلًّا منهما تبيين للمراد من النص، ولكن التفسير تبيين للمراد بدليل قطعي من الشارع نفسه، ولهذا لا يحتمل أن يراد غيره، أما التأويل فقد لا يكون الدليل فيه مباشرا، وإنما يستلزم إلماما بالأسس العامة والثوابت الراسخة.

*******

4. المحكم

المحكم في إصلاح الأصوليين: هو اللفظ باعتبار دلالته على معنى مقصود بالسوق، وغير محتمل للتفسير أو التأويل أو النسخ.

فهو ما دل على معناه الذي لا يقبل إبطالا ولا تبديلا بنفسه دلالةً واضحة لا يبقى معها احتمال للتأويل، وكان هذا المعنى هو المقصود بالسوق، فهو لا يحتمل التأويل أو إرادة معنى آخر غير ما ظهر منه، لأنه مفصل ومفسر تفسيرا لا مجال معه للتأويل، فهو كالمفسر في وضوح دلالته، ولكنه أقوى منه دلالة على المعنى.

فهو اللفظُ الذي دلَّ على معناه المَسُوق له بصيغتِهِ، ولا يحتمل التأويل ولا يحتمل التخصيص ولا النسخ في زمن الرِّسالة، ذلك لأن الحكم المستفاد منه:

a. محكم لذاته، وهو الذي لا يقبل النسخ لمعناه، وهو حكم أساسي من قواعد الدين لا يقبل التبديل: كعبادة الله وحده، والإيمان برسله وكتبه، أو من أمهات الفضائل التي لا تختلف باختلاف الأحوال: كبرِّ الوالدين، والعدل.

b. محكم لغيره، وهو حكم فرعي جزئي، ولكن دل الشارع على تأبيد تشريعه كقوله تعالى في قاذفي المحصنات:

 {وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدا} [النور:4].

قالوا: ((وحكمه أنه يجب قطعا العمل به، ولا يحتمل صرفه عن ظاهره ولا نسخه، وإنما قلنا لا يقبل النسخ، لأنه بعد عهد الرسول وانقطاع الوحي والتنزيل، صارت الأحكام الشرعية التي جاءت في القرءان والسنة كلها محكمة لا تقبل نسخا، ولا إبطالا، إذ لا توجد بعد الرسول سلطة تشريعية، تملك إبطال ما جاء به أو تبديله)).

وبالطبع لا مجال لإقحام القول بالنسخ في التصنيف لثبوت بطلانه، والقرءان كتاب أحكمت آياته؛ فلا نسخ فيها، أما الجهاد، الذي يضرب به بعضهم المثل، فهو ليس حكما فرعيا جزئيا، وإنما هو أمرٌ قرءاني كبير وركن من أركان الدين، فالأمر به أمرٌ محكم ثابت، وكلام النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ هو بيان لما جاء في القرءان.

ومع أن العبارات التي تتحدث عن أمور الدين الأخرى محكمة بالنسبة للمعاني الظاهرة الشائعة إلا أن ذلك لا ينفي عنها معانيها الأخرى؛ أي تأويلها بالمعنى الحقيقي للتأويل والذي يتلقاه من الناس أكثرهم استعدادا عندما يكون العصر قد أصبح مهيأً لذلك.

قالوا: ((وهذه الأنواع الأربعة للواضح الدلالة، متفاوتة في وضوح دلالتها على المراد منها كما قلنا، ويظهر أثر هذا التفاوت عند التعارض.

فإذا تعارض ظاهر ونص يرجح النص، لأنه أوضح دلالة من الظاهر من جهة أن معنى النص مقصود أصالة من السياق، ومعنى الظاهر غير مقصود أصالة من السياق، ولا شك في أن المقصود أصالة يتبادر إلى الفهم قبل غيره، فلهذا كانت دلالة النص أوضح من دلالة الظاهر، ولهذا يرجح الخاص على العام عند التعارض، لأن الخاص مقصود أصالة بالحكم، فاللفظ نص فيه، وهو في العام غير مقصود أصالة بل في ضمن أفراد.

ومثال هذا قوله تعالى بعد عد المحرمات من النساء: 

{وَأُحِلَّ لَكُم مَّا وَرَاء ذَلِكُمْ} [النساء:24]،

 مع قوله تعالى: 

{فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً} [النساء: 4]، 

فالآية الأولى ظاهرة في إحلال زواج خامسة لأنها مما وراء ذلكم، والآية الثانية نص في قصر إباحة الزواج على أربع، فلما تعارضا رجح النص لقوته في وضوح دلالته، وحرم زواج ما زاد على أربع.))

وبالطبع لا وجود لأي تعارض في القرءان، وكل نظرية تؤدي إلى ظهور تعارض في القرءان هي بالضرورة باطلة.

ولا ينشأ التعارض إلا عند من قيد نفسه بتعريفاتهم ومصطلحاتهم ومنهجهم وفقههم، وقوله تعالى: 

{وَأُحِلَّ لَكُم مَّا وَرَاء ذَلِكُمْ} [النساء:24] 

ظاهر فقط في حلِّ أن يبتغوا بأموالهم نكاح من لم يُحرمَّن من النساء، وهو يتحدث عن النوعية، وليس العدد، ولا يجوز تحميله أكثر من ذلك لكي يتسنى من بعده القول بأن قولا آخر قيده أو خصصه أو نسخه، وهذا القول يجب أن يُفسر في إطار عناصر وقيم وسنن دين الحق ذات الصلة.

ومن الغريب أن يقولوا "فالآية الأولى ظاهرة في إحلال زواج خامسة لأنها مما وراء ذلكم"!!!!! فإلى ماذا يشير اسم الإشارة؟ وها هو النص:

{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالَاتُكُمْ وَبَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (23) وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآَتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (24)} النساء

إنه لا يوجد أي تعارض، فآية التحليل تتحدث عن الأنواع، أما آية الإقساط في اليتامى فتتحدث عن العدد.

أما المشكلة فهي أنهم يقتطعون بضع كلمات من النص ليمكنهم فرض رأيهم عليها، وهم يرفضون دائمًا النظر في السياق القريب، وهمهم هو التماس أي دليل لمصطلحاتهم.

وكما سبق القول لا يمكن الزعم بأن العبارة مسوقة لكذا وغير مسوقة لكذا، العبارة مسوقة لتعطي معانيها وتقرر ما فيها من أحكام، فلا فرق بين الظاهر وبين النص.

*****

ومن النظر في التقسيم السابق يجب التأكيد على أنه لا يوجد شيء اسمه "غير مسوق ليؤدي معنى"، ولا يوجد آيات قرءانية منسوخة، والأولوية يجب أن تكون للمعنى والقول القرءاني، وليس لاستعمال النص القرءاني لإثبات قواعد خارجية ومصطلحات بشرية.

فلا جدوى من كل هذه التقسيمات، والمنهج القرءاني أولى بالاتباع، فالمنهج القرءاني يقدم الأمر (العنصر، الحكم، القول) الديني أولا، ويحاول استخلاصه من القرءان ككتاب كلي واحد، وهو لا يحاول أن يتقيد بنظرة جزئية إلى العبارات القرءانية محاولا وضعها تحت التقسيمات التراثية ومحاولة إرغامها على أن تكون دلائل على قواعدهم ومصطلحاتهم.

*****

إذا تعارض النَّص والمفسَّر، قُدِّم المفسَّرُ؛ لأنَّهُ أكثرُ وضوحًا

فيكون العملُ بالمفسّر، لأنّه أكثرُ وضوحا، فتصلي، مثلا، صلواتٍ كثيرة بوضوءٍ واحد وبنفس الوقت.

وإذا تعارض النص مع المحكم قُدِّم المحكم .

مثالُهُ: قولُهُ تعالى: 

{وَأُحِلَّ لَكُم مَّا وَرَاء ذَلِكُمْ}

فالآية بدلالة النص تدل على جواز التزوج بأي امرأة من عدا المُحرمات اللاتي ذكرن في الآية التي قبلها .

وهذا يتعارض مع النص المحكم {ولا أن تنكحوا أزواجَهُ من بعدِهِ أبدا} .

فالآية الأولى عامة في كل النساء، وهذا العموم يتعارض مع تحريم نكاح أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، فيقدم المحكم .

قولهم هذا محاولة لإثبات مصطلحاتهم بعمل المستحيل، ومن المعلوم أنه توجد آية محكمة تقول:

 {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ .....} [الأحزاب:6].

ويجب التذكير هنا أن الحكم الخاص بزوجات النبي هو حكم خاص، ولذلك يجب العلم بما يلي:

ماذا كان يمكن أن يحدث لو لم يتم اعتبار زوجات النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ أمهات للمؤمنين؟

كان كل الطامعين في التسلط على الناس سيتسابقون على الزواج منهن، ليجعل كل فائز منهم بذلك وسيلة لاستخفاف العرب والعراب وزيادة نفوذه، وكان ذلك سيؤدي إلى تمزيق الأمة تمزيقًا مبكرا وتعريض مصير الإسلام نفسه للخطر.

فلم يكن الأمر مجاملة للرسول ولا تمييزا له على الناس.

وقد استطاع شخص واحد هو (الصحابي الجليل) عبد الله بن الزبير خداع إحداهن، وهي خالته السيدة عائشة حتى خالفت عن الأمر الإلهي وخرجت معهم، وكان ذلك من الفتن العظمى والكوارث الكبرى التي ضربت الأمة.

ومن المعلوم أن الحزب القرشي لم ينتفع بذلك، وإنما انتفع به الأمويون الذين قضوا على ابن الزبير ومثلوا به وصلبوه بعد أن هدموا الكعبة فوق رأسه ورأس من بقي معه.

1

bottom of page