top of page

شهود على عصر (قصص وحوارات)

حوار بين مصري وبين سوري في أول السبيعينيات من القرن الماضي

وفي الكلية أتيح لأمجد المجال ليتعرف على أنماط أخرى من البشر، وكان أبرزَهم السوريون، ولاحظ في أحدهم ولعًا بالشعر وحماسًا شديدا للإسلام وتفاخرا دائمًا بالحضارة الإسلامية، وبذلك أصبح أقربهم إليه، وكانا كثيرًا ما يتجاذبان أطراف الحديث في مثل هذه الأمور، وذات يوم دار هذا الحوار:

السوري: يبدو أنك لستَ مصري الأصل رغم تعصبك الشديد لمصر!

المصري: لماذا؟

السوري: بسبب ملامحك!

أمجد: دعك من موضوع الملامح.

السوري: كما أن لديك علمٌ كبير بالتاريخ وتمكن من العربية وولاء للعروبة لم نلمسه في المصريين!

أمجد: هل مثل هذه الاهتمامات من الصفات الوراثية؟

السوري: بمعنى؟!

أمجد: أنت تستبطن، ربما دون أن تدري، القول بأن السوري هو الذي لديه علمٌ كبير بالتاريخ، والمتمكن من العربية، والذي لديه ولاء للعروبة، وأن كل من يكن كذلك لابد وأن يكون سوريا أو من أصل سوري! وأن المصري هو عكسه تماما!

السوري: وما الصحيح؟

أمجد: الصحيح أن هذه الصفات موزعة على الناس بنسب متفاوتة لأسباب عديدة، وقد تكون نسب وجودها في سوريا أعلى من أي مكان آخر، ولكنها ليست صفات وراثية متأصلة في جينات السوريين وحدهم.

السوري: المصريون، وأنت منهم، تهتمون اهتمامًا شديدا بالتاريخ الفرعوني، وتنصبون تمثال رمسيس في ميدان كبير، لماذا كل ذلك؟

أمجد: وماذا في ذلك؟

السوري: تاريخنا يبدأ بالرسالة المحمدية، المفروض أن يكون اهتمامكم الأكبر، وربما الأوحد، بالتاريخ العربي الإسلامي، وأن تتركوا التاريخ القديم للمؤرخين، العروبة هي العامل المشترك فيما بيننا والذي يجب أن نعض عليه بالنواجذ.

وأخذ السوري يشيد بالتاريخ الإسلامي وبالإسلام والفتوحات العربية الإسلامية التي وصلت إلى حدود الصين شرقا، وإلى قلب أوروبا غربا ...

أمجد: أنتم تحفظون هذا التاريخ عن ظهر قلب، وجميل أن تحبوا العروبة والإسلام هذا الحب القوي الجارف.

السوري: هذا طبيعي!

أمجد: ولكن لماذا لا تصلي؟!

السوري: (بِدَّك) تهديني؟

أمجد: ماذا؟ ألست مسلما؟!

السوري: الإسلام عندنا كان أيديولوجية لتوحيد العرب، ومحمد كان زعيما عربيا أسس الدولة العربية التي سادت وانتشرت وعلت في الأرض، ونحن نسعى إلى إعادة هذه الأمجاد.

أمجد: ألا تؤمنون بسيدنا محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ كرسول نبي جاء برسالة الإسلام للناس كافة؟

السوري: نؤمن به كزعيم ورائد للقومية العربية

أمجد: ألا تؤمنون بالدين؟

السوري: الدين وسيلة، نأخذ منه ما يلزمنا، يمكن أن نأخذ منه حثه على النظافة وإتقان العمل، ولكن ليس له أن يأمرنا بأشياء لا معنى لها كالصلاة والصيام .... الخ.

أمجد: غريبٌ هذا، هل يوجد من أمثالك كثير هناك؟

السوري: نعم!

أمجد: بهذا يتبين الفرق بين أمثالك وبين المصريين.

السوري: كيف؟

أمجد: أنتم تعتبرون الدين أيديولجية في خدمة القومية العربية وللتعامل مع الطوائف الأخرى، أما المصري فالدين عنده فوق ذلك، ولا علاقة له بقومية ولا بغير قومية، وإيمانه بربه عميق، لا يغيب عن باله بسهولة، حتى وهو يسرق مثلا، فإنه يرجو التوفيق منه! والراقصة مثلا تتوسل إلى ربها في قرارة نفسها أن تنال إعجاب الجماهير، وهي تضمر في أنفسها أنها ستتوب يومًا ما، وستحج وتعتمر، وأكثرهن تحاول أن تكفر عن (رقصها) بعمل الخير!!

السوري: وأنتم أيضًا لا تعتبرون أنفسكم عربا، وإنما يتشدق حكامكم بذلك فقط! العروبة عندنا! وزعيمكم جمال عبد الناصر يقرّ بأن سوريا هي قلب العروبة النابض.

أمجد: هنيئًا لكم!

هذا كان جزءا من حوار في أوائل السبيعينيات قبل حرب أكتوبر وقد استكمل بعدها، وكان ذلك بالطبع قبل الغزوة الوهابية الشرسة، وما صاحبها من صحوة شيطانية همجية.

أدرك أمجد أنه يجب العمل على الفهم الحقيقي لنفسيات الشعوب المختلفة، بل لنفسيات مكونات كل شعب، وذلك أول شروط التعايش السلمي المثمر.

والأعداء يستثمرون علمهم بهذه النفسيات للتفريق والتخريب وإحداث الفتن.

أما الشعوب التي استعذبت دور الضحية التي تتآمر عليها كل ذرات الوجود فتريد فقط من يتملقها ويعتبرها نفاقًا كائنات مقدسة ويخدعها بمعسول القول!

كتب أمجد:

(((وقد رأيت من السوريين أيضًا من يريد أن يحد للدين حدودا لا يجوز أن يتعداها، وكان أحدهم مشهورا بإلحاده، وكان هو بالذات محبوبًا من المصريين لأخلاقه (الدمثة)، وذات مرة كتب على السبورة قصيدة المتنبي الشهيرة التي مطلعها: "عيد بأي حال جئت يا عيد" والتي تتضمن هجاءً مقذعا للمصريين، وبالطبع لم يسبب ذلك أية مشاكل بسبب جهل الطلبة المصريين المعهود وسذاجتهم!

لقد كان هؤلاء السوريون القوميون لا يطيقون سماع أي شيء عن مصر الفرعونية القديمة ولا عن مصر البطلمية، وذات مرة كنت أروي لهم كيف فتح المصريون في عهد الدولة الفرعونية الحديثة بلادهم ففوجئت بأنهم يجهلون ذلك وينكرونه بشدة.

إنهم يريدون من المصريين أن يتناسوا تاريخ مصر وألا يذكروا منه إلا تاريخها بعد الإسلام الذي لا يؤمنون هم به كدين ولا يعملون به!

لقد كان ظهور حزب البعث التعس كارثة على أهل المشرق العربي، لقد أصابهم بحالة حادة من السكيزوفرينيا الجماعية والمراهقة السياسية، ولقد عرفت الفروق الحادة بين شخصية المصري وبين شخصية السوري، إن المصري مهما اشتط في حياته ومهما طغى أو بغى أو فسق هو متدين في أعماقه، ولا يمكن إلا فيما ندر أن يكون ملحدا، ولابد له -مهما تمادى في الضلال- من الإيمان والتوبة ولو بعد حين، وهكذا آمن فرعون -أو بالأحرى أظهر ما كان مستكنا في نفسه- وأعلن إسلامه عندما أدركه الغرق فنجاه ربه ببدنه، أما السوريون فمن السهل أن يوجد بينهم ملحدون عتاة، وكان بعضهم لا يتورع عن سب أقدس المقدسات، وذات مرة تمادى أحدهم في ذلك، وكان مضرب المثل في سوء الخلق، ولقد دفع لتوه الثمن غاليا.

وبعد حرب أكتوبر قال أحد السوريين: "وهل تظنون أننا مثلكم نظل نصرخ أثناء المعركة (الله أكبر)؟" فقال أحد المصريين: "ولذلك هزمتم هزيمة منكرة".

ومع ذلك كان يوجد بعض السوريين الورعين، إنه يبدو أن الشام هي أرض المتناقضات، ولقد أدركت لماذا سُلِّط الصليبيون والتتار وجند تيمور لنك عليهم يسومونهم سوء العذاب في حين نجت مصر والمغرب العربي من مثل هذا الشر المستطير، إنه لم يكن من قبيل المصادفة أن حقق حزب البعث التعس نجاحاته في سوريا والعراق، ولقد لاحظت أن عرب ما يسمى بالهلال الخصيب مهما اختلفوا فإنهم اجتمعوا على أنهم لا يحبون مصر حبا صادقا وأنها بالنسبة إليهم ليست إلا ورقة يمكن استخدامها ضد بعضهم البعض في شجاراتهم التافهة.

ولكن كان يوجد بالفعل ما يجمع بين الطلبة المصريين والسوريين في ذلك الحين، وهو حب عبد الناصر والإيمان بالثورة والتقدم وكراهية الرجعية، وعندما حدثت محاولة الانقلاب في المغرب وقيل إنه تم إعلان الجمهورية المغربية هلل الفريقان فرحا وتعالت هتافاتهم وتبادلوا التهاني، ورغم فرحي عندها بالخلاص من طاغية مجرم فإنني لم أطرب كثيرا بعد أن خبرت عبثية تلك النظم المسماة بالجمهوريات، ولقد عاينت كيف أنه بسقوط النظام الملكي في مصر حل محل الملك الوديع المتحضر مجموعة من عتاة المجرمين والمفسدين في الأرض، وهم بالطبع لم يولدوا كذلك، ولكنهم لم يصمدوا أمام إغراء السلطة كما صمد الملك بحكم تأهيله.

ومن الفروق الملحوظة بين السوري وبين المصري:

السوري يحاول إثبات أن كل شخص ناجح في مصر وفي المنطقة وربما في العالم من أصل سوري، أو انتفع بإنجازات السوريين.

أما المصري فيؤمن بأن كل مصري عظيم ناجح أو مشهور من بعد العصر القديم هو غير مصري، فالمصري فقط هو خامل الذكر، مجهول الأصل، كادح مهزوم، أو سياسي فاشل أو فاسد!

لذلك يعمل المصريون، مثلا، على التجاهل التام لأبطالهم العظام في كافة الحروب القديمة والحديثة، ولا يكاد يوجد من يعرف أسماء طابور هائل من المصريين الذين حققوا لمصر أمجادًا هائلة في شتى المجالات منذ بدأت نهضتها الحديثة أيام محمد علي الذي أخرج مصر من بحر الظلمات العثماني، رغم أنف المصريين ومشايخهم المتخلفين!)))

 *******

1

bottom of page