top of page

قصص الأنبياء

من قصة نوح عليه السلام

من قصة نوح عليه السلام


قال تعالى:

{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (25) أَنْ لَا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ (26) فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ (27) قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآَتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ (28) وَيَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ (29) وَيَا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (30) وَلَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلَا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْرًا اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنْفُسِهِمْ إِنِّي إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ (31) قَالُوا يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (32) قَالَ إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ إِنْ شَاءَ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (33) وَلَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (34) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرَامِي وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ (35) وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آَمَنَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (36) وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (37) وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ (38) فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ (39) حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آَمَنَ وَمَا آَمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ (40) وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (41) وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلَا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ (42) قَالَ سَآَوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ (43) وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (44) وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ (45) قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ (46) قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ (47) قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلَامٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ (48)} هود

كان نوح عليه السلام أول رسول من كبار الرسل، وهو من أولي العزم من الرسل الذين طال صبرهم مع قومهم، قال تعالى:

{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلاَّ خَمْسِينَ عَامًا فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُون} [العنكبوت:14]

وهو أول من أُرسل إلى قومٍ كافرين مشركين، وبرسالته بدأ الدين الذي شرعه الله تعالى للناس، قال تعالى:

{شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلاَ تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَن يَشَاء وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَن يُنِيب} [الشورى:13].

ورسالة نوح كانت خاصة بقومه، ولم يرد أبدا أنها كانت رسالة للعالمين، ومن البديهي أنه لن يُعذب أو يهلك بالغرق إلا من رفض رسالته من قومه، والنصّ على أن ذريته هم الباقون يعني أنهم الباقون من قومهم.

في عهد نوح عليه السلام لم يكن البشر يسكنون كافة أرجاء الكرة الأرضية، وإنما كانوا مركزين في أماكن محددة، وكان قوم نوح يعيشون بمعزل عن باقي البشر كما تبين ذلك الآيات.

وفي قصة نوح عليه السلام لم يغرق إلا قوم نوح وليس كل البشر، ولم يحمل معه في السفينة إلا زوجين فقط مما يلزمهم من الدواب التي كانت تعيش في أرضهم والتي كانت ملكا لهم وذات نفعٍ لهم؛ فقد حمل من كل نوع يلزمهم للحياة بعد انتهاء الطوفان زوجين فقط لا غير؛ أي لا أكثر من ذلك، وهذا هو الممكن في الوقت المتاح من بعد أن فار التنور، وهو علامة بدء الطوفان، قال تعالى:

{حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آَمَنَ وَمَا آَمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ (40) وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (41)} هود.

أما "الكافرون" الذين دعا عليهم فهم الذين كفروا برسالته من قومه، قال تعالى:

{وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا (26) إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا (27)} نُوح

والأرض المذكورة هي الأرض التي كان يعيش عليها قومه، فكلمة "أرض" لا يراد بها في القرءان عادة كل الكوكب الأرضي؛ هذا اصطلاح حديث، الأرض هي ما يقل الإنسان بصفة عامة، أو القوم المعنيين بصفة خاصة، أداة التعريف هنا للعهد وليس للحصر، ولذلك وردت في آيات عديدة بمعنى "مصر"، وبمعنى مكة وما حولها، وبمعنى أرض كنعان.

والخطاب هو بأن يحمل من كلٍّ زوجين اثنين؛ أي من كل نوع يملكونه، فالخطاب موجه لقوم نوح فقط، والأصل في العموميات التخصيص بالملائم، والخطاب هاهنا كان ومازال متعلقا بقوم نوحٍ فقط، والمقصود ألا يحملوا أكثر من زوجين مما يلزمهم حتى لا يثقل الفلك بحمل كل أنعامهم التي كانوا يملكونها، ذلك لأنه لا يوجد ما يضمن لهم في المنطقة التي ستستقر فيها السفينة أن يجدوا مثلها، والله تعالى كان الأعلم بالمكان الذي ستستقر فيه السفينة.

إنه يجب العلم بأن الأصل في العموميات التخصيص بما يقتضيه السياق، والقرءان يخاطب قومًا يعقلون ويفقهون، فالأصل في مفهوم كلمة "كل" أو مفهوم التعبير "كل شيء" هو التخصيص بما يقتضيه السياق القرءاني بصفة عامة والسياق الذي ورد أحدهما فيه بصفة خاصة وكذلك المنطق وطبائع الأمور؛ فهو لا يعني بالضرورة كل ما خلقه الله تعالى أو اقتضته أسماؤه، وهناك آيات قرءانية عديدة تقدم أمثلة على ذلك، ومنها:

قال تعالى: {فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ (24) تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (25)} الأحقاف.

فمن البديهي أن هذه الريح لم تدمر إلا ما صادفته في منطقة قوم عاد أي في بلادهم، ولم تدمر كل ما على سطح الكوكب الأرضي ولا بالطبع ما هو موجود في السماء.

{إِنِّي وَجَدتُّ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيم} [النمل:23]

فملكة سبأ لم تؤت بالضرورة من كل شيء بصفة مطلقة، ولا يحتاج هذا إلى أي إثبات، فهي على الأقل لم تؤت ما أوتيه سليمان عليه السلام مثلا.

{ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَامًا عَلَى الَّذِيَ أَحْسَنَ وَتَفْصِيلاً لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَّعَلَّهُم بِلِقَاء رَبِّهِمْ يُؤْمِنُون} [الأنعام:154]

فكتاب موسى عليه السلام لم يتضمن مثلا تفصيلا للقرءان العظيم، وإنما تفصيلا لكل ما يلزم قومه من أمور الدين.

وبالطبع لا يجوز الأخذ بالتصورات الصبيانية من أنه حمل معه من كل نوعٍ من دواب الأرض زوجين؛ فيل وفيلة ووحيد قرن ووحيدة قرن وأسد ولبؤة (أم العباس، أم كلثوم، أم الحارث)، ونمر ونمرة (أم فارس) ودب ودبة وفهد وفهدة (كشماء) وثعلب وثعلبة (أم عويل) وذئب وذئبة وهرّ وهرة وفأر وفأرة (أم راشد)، وحمار وحمارة (أم جحش، أم نافع) وذئب وسنداوة .... الخ، وكما سبق القول فالأصل في العموميات التخصيص بما يقتضيه السياق، فلا حاجة مثلا لكي يأخذ معه الدواب المائية ولا البرمائية، إنه يجب العلم بأن القرءان يخاطب قوما يعلمون ويفقهون ويعقلون، ويأمر بالنظر والتدبر.

كما أن توجيه الخطاب لمخاطب يكون بما هو معهود لديه، وبما يفقهه جيدا.

ولا يمكن من بعد أن جاءت علامة الخطر وفار التنور أن يحشد في السفينة آلاف الأنواع من كافة دواب الأرض قبل أن تغمر الماء كل الأرض، هذا عمل يقتضي مئات إن لم يكن آلاف السنين بالنسبة لإمكانات عصرهم، فالأمر هو لكيلا يكون كل واحد منهم حريصا على أخذ كل ما يملك من الأنعام معه.

والكلام في كل السور التي أوردت قصة نوح هو على قومه وعلى أرض قومه فقط، قال تعالى:

{وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آَمَنَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (36) وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (37) وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ (38) فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ (39) حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آَمَنَ وَمَا آَمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ (40) وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (41)} هود

فالآيات شديدة الوضوح وتبين بكل جلاء أن نوحا لم يُرسل إلا إلى قومه وليس إلى الناس أجمعين ولا إلى البشرية جمعاء، وبالطبع لم ينج من قومه إلا من آمن معه، ومنهم أهله، قال تعالى:

{إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (1) قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (2) أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ (3)} نوح.

وقد كان ذلك معلومًا لمن جاء من بعد نوح عليه السلام، وكانوا قريبين من موطنه الأصلي في اليمن، ومنهم عاد؛ قوم هود عليه السلام، قال تعالى:

{وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ (65) قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (66) قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (67) أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ (68) أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً فَاذْكُرُوا آَلَاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (69)} الأعراف.

أما دعاؤه عليهم في آخر السورة فهو: {وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا (26) إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا (27) رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالدى وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَبَارًا (28)} نوح

وقد كان ذلك من بعد أن تلقى الوحي المذكور في الآيات: {وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آَمَنَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (36) وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (37)} هود

فالكافرون والظالمون الذين دعا عليهم هم من كفروا به وبرسالته وظلموه وظلموا الذين آمنوا وظلموا أنفسهم وليس كل الكافرين والظالمين مطلقا في كل مطلق الأرض.

وقال تعالى:

{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ (72) فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ (73) إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (74) وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ (75) وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (76) وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ (77) وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآَخِرِينَ (78) سَلَامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ (79) إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (80) إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (81) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآَخَرِينَ (82) وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ (83)} الصافات.

فظاهر الآيات قد يوحي بأنه لم ينج إلا أهله ولم يبق إلا ذرية أبنائه، مع أن الآيات الأخرى التي أوردت نفس القصة تحدثت عن فئة أخرى من الناس قد آمنت به، قال تعالى:

{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (25) أَنْ لَا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ (26) فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ (27)} هود.

فآيات سورة الصافات جاءت في سياق بيان نعمة الله تعالى على عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ بصفة عامة وعلى نوحٍ عليه السلام بصفة خاصة، {وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ}

فالآيات تؤكد على فضل الله تعالى على نوح وأن ذريته كانت هي الباقية، والتعريف للتأكيد، والآيات لا تعني أبدا هلاك ولا انقراض المؤمنين الآخرين الذين ركبوا معه في الفلك ولا هلاك الأقوام الأخرى.

ولذلك جاء في آيات أخرى: {ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا (3)} الإسراء.

فالآية تنص على أن من كانوا مع نوح كان لهم ذريتهم، ولو كان الكلام على أبناء نوح فقط لقال "ذرية نوح" وليس "ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ".

ولقد ذكر القرءان أن الطوفان قد حدث بسبب الأمطار والعيون التي تفجرت من الأرض وليس من البحار والمحيطات، قال تعالى:

{فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ (10) فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ (11) وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ (12) وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ (13)} القمر

وبالطبع لا يوجد من مياه الأمطار ولا من مياه العيون ما يكفي لغمر كل الكوكب الأرضي بالمياه إلى ارتفاع يغمر جبالها ويقضي على كل الكائنات البرية الحية فيها، ولا يوجد أي أثر لشيء من ذلك، ولكن الناس نقلوا أساطير أهل الكتاب وفرضوها فرضًا على القرءان ورفضوا أن يسيروا في الأرض وأن ينظروا فيما فيها من آيات ولم ينظروا في آيات الله تعالى في الآفاق ليعرفوا الحقائق بل ذهبوا ليتتلمذوا على أهل الكتاب ولينقلوا عنهم أساطيرهم، فظلوا عند مستوى الأطفال السذج بينما تقدم من عملوا بمقتضى الآيات القرءانية وإن لم يعلموها.

ولم يكن قوم نوح يعيشون في بيئة غزيرة الأمطار، قال تعالى:

{فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا (10) يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا (11) وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا (12)} نوح

فهذا نصّ محكم يبين أنهم كانوا يعيشون في بيئة شحيحة الأمطار، لا أنهار فيها.

لذلك فهم لم يكونوا في بلاد بين النهرين، ولا عند منابع هاذين النهرين.

هذا مع أن ما يُسمَّى بنهر الفرات هو في الحقيقة، طبقًا للاصطلاح القرءاني والعربي، بحر الفرات، وبحر الفرات أكبر من أن يكون نهرا.

وخطاب هود لقومه، يبين أنهم كانوا يعيشون قريبًا من قوم نوح، قال تعالى:

{أَوَعَجِبْتُمْ أَن جَاءكُمْ ذِكْرٌ مِّن رَّبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِّنكُمْ لِيُنذِرَكُمْ وَاذكُرُواْ إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاء مِن بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً فَاذْكُرُواْ آلاء اللّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُون} [الأعراف:69]

وهو يبين أيضًا أنهم كانوا يعيشون في بيئة شحيحة الماء، قال تعالى:

{وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلاَ تَتَوَلَّوْاْ مُجْرِمِين} [هود:52]

وخطاب صالح لقومه، يبين أنهم كانوا يعيشون قريبًا من قوم هود، قال تعالى:

{وَاذْكُرُواْ إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاء مِن بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِن سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا فَاذْكُرُواْ آلاء اللّهِ وَلاَ تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِين} [الأعراف:74]

وخطاب شعيب لقومه، يبين أن أقوام نوح وهود وصالح ولوط كانوا يعيشون في أماكن متقاربة، قال تعالى:

{وَيَا قَوْمِ لاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي أَن يُصِيبَكُم مِّثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِّنكُم بِبَعِيد} [هود:89]

وكل ذلك يبين أنهم كانوا يعيشون في بقعة محدودة من الأرض، شحيحة الأمطار، ولا أنهار فيها.

*****

ولقد حمل نوحٌ معه في السفينة ما يلزمهم من الأزواج في حياتهم الجديدة، فمن البديهي أن الطوفان قد أغرق كل قوم نوح، ومعهم كل الدواب المستأنسة اللازمة لحياتهم، ولم تكن الهجرة إلى أرضٍ أخرى متيسرة لهم في ذلك الزمن السحيق، وهذا مما يؤكد أنهم كانوا بمعزل عن التجمعات السكانية، وذلك مما ينفي أن تكون قصة نوح قد حدثت في منطقة ما بين النهرين المتصلة بكل البلاد من حولها.

قال تعالى: {حَتَّى إِذَا جَاء أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ} هود40

فمن الواضح أن الوقت الذي كان متاحًا لنوح، من بعد أن رأى العلامة، كان لا يكفي لشحن كل أنواع الكائنات الأرضية كما جاء في أساطير بني إسرائيل والتي نقلها عنهم السلف المقدس، وإنما المراد أن يكتفي مما لديهم من دواب بزوجين فقط لا أكثر من كل نوع، وحتى لا يحاول كل فرد منهم أن يأتي بدوابه كلها! وحتى يستطيع قومه استئناف حياتهم من بعد، ويجب تذكر دائما أن الأصل في العموميات هو التخصيص بالملائم.

والقرءان ليس مسئولا عن مبالغات بني إسرائيل الأسطورية.

إن الواقعة هي الآية وليست الفلك، وهي التي تعيها أذن واعية!

قال تعالى: {إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ (11) لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ (12)} الحاقة

والسلام كان على بعض من معه وليس كلهم، فشرط النجاة والسلام التام كان معلقًا ببقائهم على ما كانوا عليه أو رقيهم.

قال تعالى: {قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلاَمٍ مِّنَّا وَبَركَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِّمَّن مَّعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُم مِّنَّا عَذَابٌ أَلِيم} [هود:48]

الأمر كان موجها إلى نوح عليه السلام، وقد نفذه بقدر استطاعته، والآية لا تخص بالسلام والبركات كل من ركب أو تعلق بالسفينة، بل توعدت بالعذاب بعضهم.

*******

1

bottom of page