نظرات في المذاهب
35
المشترك ودلالته
اللفظ المشترك، هو المستعمل لمعنيين أو أكثر بأوضاع متعددة، أي يدل على هذا المعنى أو ذاك، كلفظ العين هو مستعمل في اللغة للباصرة ولعين الماء الجارية وللشمس وللذهب وللجاسوس. ولفظ المولى للسيد وللعبد، والفعل بان بمعنى انفصل وظهر وبعُد.
فالاشتراك يتحقق بتعدد المعاني التي يشير إليها اللفظ، والعموم يتحقق بدلالة اللفظ على شمول جميع الأفراد التي يصدق عليها من غير حصر، والخصوص يتحقق بدلالة اللفظ على الفرد أو الأفراد المحصورين التي يصدق عليها من غير شمول.
وأسباب وجود الألفاظ المشتركة في اللغة كثيرة، ومنها اختلاف القبائل في استعمال الألفاظ للدلالة على المعاني.
فاللفظ "يد" مثلا له استعمالات معنوية عديدة، وكانت شائعة بين العرب لهذا اللفظ، فاللفظ "يد" في اللغة العربية لفظ مشترك بين كل ما استعملوه المعاني.
ومن الأسباب أن يوضع اللفظ على سبيل الحقيقة لمعنى، ثم يستعمل في غير ما وُضِع له مجازا أو اصطلاحا أو عرفا، ثم يشتهر استعمال هذا اللفظ في المعنى المجازي أو الاصطلاحي أو العرفي حتى يتناسى الناس ذلك، فيقرر علماء اللغة أن اللفظ موضوع لهذا.
ومن الأسباب أن يكون ثمة شيئا مشتركا بين المعنيين فتطلق الكلمة على كلٍّ منهما لهذا الشيء المشترك، ومن ذلك لفظ "المولى" لكل من السيد والعبد، فإن معناه في الأصل الناصر، وللفظ أحرم دلالة زمانية ومكانية، ومعناها الأصلي: تلبس بحالة يحرم عليه بسببها شيء كان حلالا له، فيُطلق على الدخول في الأشهر الحرم وعلى الدخول في أرض الحرم، ولفظ قرء فإن معناه الأصلي كل وقت اعتيد فيه أمرٌ خاص، ولذلك فإن معناه الصحيح بالنسبة للمرأة الوقت الذي اعتيد فيه حيضها، فحالة الطهر ليست بأمرٍ خاص.
ومن الأسباب أيضًا ضيق ذات اليد وقلة حيلتهم أمام المستجدات الحضارية التي ظهرت وتعددت أو لضرورة التحديد الدقيق في العلوم، فاضطروا إلى استعمال ألفاظ معلومة المعاني للدلالة على تلك المستجدات أو للتحديد الدقيق لمصطلحات العلوم، ومن ذلك لفظ الأرض والنجم والكوكب والبحر والنهر والسيارة، والدولة .... الخ، هل تظنون أن معاني هذه الألفاظ الشائعة الآن هي نفس معانيها في القرءان؟! لفظ الأرض مثلا يُستعمل لكل ما يقل الإنسان في أي مكان أو زمان، في الدنيا أو في الآخرة، في هذا الكوكب أو في غيره، ولفظ البحر يُطلق على المتسع المائي الكبير عذبا كان أم ملحا أجاجا، فمن الخطأ -طبقا للقرءان- أن تقول نهر النيل، والصحيح هو: بحر النيل، أما مصطلحات الجغرافيا فهي شيء آخر، ولفظ السيارة في القرءان ليس هو السيارة المعلومة الآن .... الخ.
ومنها أن اسم الفاعل واحد من أفعال ثلاثية لا تختلف إلا في تشكيل الحرف الثاني، ومنها أن صيغ المبالغة أو الصفة المشبهة قد تستعمل بمعنى اسم المفعول.
وكذلك أن صيغة الجمع لبعض الألفاظ التي تأخذ صورة اسم الفاعل والمختلفة المعاني قد يتشابه، ومن ذلك مثلا كلمة "القواعد".
وأيًّا كان سبب وقوع الاشتراك في الألفاظ فإن الألفاظ المشتركة بين معينين أو أكثر ليست قليلة في اللغة، وهي واردة في القرءان، وعلى سبيل المثال فقد استعمل القرءان اللفظ "عين" والمثنى والجمع منه بمعانٍ عديدة، ولا إشكال في ذلك، فلابد من أن يرد في السياق ما يوضح المعنى المذكور، هذا مع العلم بأنه لا يجوز تحويل الوسيلة إلى مقصد، فاختيار الألفاظ يكون بمقصد إيصال معاني الآيات، فليس ثمة داعٍ للتعنت والإصرار على أن اللفظ مشكل طالما لا توجد مشكلة، هل ثمة مشكلة لدى من لديه السليقة العربية في أن يفقه معاني الآيات الآتية:
{وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلاَ تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُواْ إِنَّهُم مُّغْرَقُون} [هود:37]، {وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُوم} [الطور:48]، { وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ (12) وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ (13) تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ (14)} القمر، {فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (57) وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ (58)} الشعراء
بالطبع لا توجد مشكلة إلا للمتعنتين أو من يريدون افتعال مشاكل حيث لا مشاكل!
والمشترك قد يكون اسما كما تقدم، أو فعلاً كصيغة الأمر، أو حرفا مثل الواو للعطف وللحال.
قالوا: ((إن كل لفظ مشترك بين معنى لغوي ومعنى شرعي إذا ورد في نص شرعي، فمراد الشارع منه معناه الذي وضعه له)).
ولذلك، فمن قواعدهم: إذا ورد في النص الشرعي لفظ المشترك، فإن كان مشتركا بين معنى لغوي وبين معنى اصطلاحي شرعي، وجب حمله على المعنى الشرعي، وإن كان مشتركا بين معنيين أو أكثر من المعاني اللغوية وجب حمله على معنى واحد منها بدليل يعينه، ولا يصلح أن يراد بالمشترك معنياه أو معانيه معا.
قلنا: استعمال كلمة شرعي هاهنا موهمة، خاصة وأنهم يضربون الأمثال بكلمات عامة مثل "العين" و"اليد" مثلا، فهذه القاعدة غير عامة، بل إن السياق هو الذي يحدد المراد باللفظ المشترك، ويجب أن يؤخذ في الاعتبار التعبير اللغوي المركب أيضًا، فهو يختلف في المعنى عن الألفاظ المفردة، فـ"إقامة الصلاة" و"إيتاء الزكاة" تختلفان من حيث المعنى عن اللفظين اللغوين "صلاة" و"زكاة"، "ومقيمو الصلاة" يختلفون عن المصلين".
فالتركيب الإضافي الاصطلاحي لا يرد في القرءان إلا بمعناه الاصطلاحي هو وما يُشتق منه، ومن ذلك "إِقَامَ الصَّلاَةِ"، "إِيتَاء الزَّكَاةِ"، "حج البيت"، ... الخ.
ولا يجوز تفكيك مثل هذه المصطلحات، فكل واحد منها هو كلٌّ واحد.
وقالوا: ((إذا كان اللفظ المشترك الوارد في النص الشرعي مشتركًا بين عدة معان لغوية، وجب الاجتهاد لتعيين المعنى المراد منها، لأن الشارع ما أراد باللفظ إلا أحد معانيه، وعلى المجتهد أن يستدل بالقرائن والأمارات والأدلة على تعيين هذا المراد)).
قلنا: الأولى هو البحث عن معنى الآية القرءانية، والقرءان هو الذي يعين للفظ معناه الخاص الوارد في الآية، والمعاني القرءانية متسقة متماسكة، لا تعارض فيما بينها.
أما ما لم يحدده القرءان تحديدا تاما فقد فوَّض بذلك أمره للتطور وتقدم الحضارة والاختلاف من عصر ومصر إلى عصر آخر ومصر، وبذلك ترك لأولي الأمر تحديد الوصف الدقيق لأداة الجلد في العقوبات والتوصيف الدقيق للمؤلفة قلوبهم والفقراء والمساكين، والتوصيف الدقيق للسارق وتحديد مدى قطع يده والتوصيف الدقيق لكلٍّ من الفقير والمسكين، والاختلافات الواردة تبين ذلك.
قالوا: ((ولا يصح أن يراد باللفظ معنيان أو أكثر من معانيه معا، بحيث يكون الحكم الذي ورد في النص متعلقً وقت واحد بأكثر من معنى، لأن اللفظ ما أراد به الشارع إلا معنى واحد من معانيه، ووضعه لمعان متعددة إنما هو على سبيل البدل، أي أنه إما أن يدل على هذا أو ذاك، فأما دلالته على هذا وذاك في وقت واحد، فهو تحميل اللفظ ما لا يدل عليه لا بطريق الحقيقة ولا بطريق المجاز، فلا يصح أن يراد بالقرء في الآية الطهر والحيض معا، بحيث أن المطلقة إن شاءت تربصت ثلاثة أطهار، وإن شاءت تربصت ثلاثة حيضات، لأن اللفظ لا يدل على هذا بأي طريق من طرق الدلالة)).
ما قالوه ليس عامًّا، فإذا جاز في الأحكام والمعاملات فقد لا يصح في غير ذلك، وعلى سبيل المثال فالأمر:
{وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ}
له معنيان، والمخاطب به الفرد، والجماعة أيضًا.
واللفظ المشترك يجب أن يُنسب إلى كل كيان كما يتناسب مع حقيقة هذا الكيان، ومن ذلك الصلاة والسجود، فالصلاة المنسوبة إلى الله تعالى أسمى من كل المدارك البشرية، وإنما تُعرف بآثارها، وهناك صلاة من الرسول على المؤمنين، وكذلك صلاة منهم عليه، وسجود الكائنات لله تعالى يعني الخضوع المطلق لسننه، والإنسان من حيث حقيقة جسمه ملزم أيضًا بالسجود المعلوم.
ويجب تذكر دائمًا أن القرءان ليس مدونة قانونية بالمعنى المعلوم، وأن من سماته اللازمة اليسر ووضع الحرج والإصر والأغلال عن كاهل الناس والصلاحية لكل زمان ومكان، ولذلك لم يحدد عقوبات دنيوية على كل ما يمكن تصوره من جنايات، ومع ذلك يصرّ المتصدرون في الدين على تجاهل كل ذلك ومعاملة آيات القرءان كنصوص قانونية ومحاولة إخضاعها للوازم ذلك.
1