top of page

خَاتَمَ النَّبِيِّينَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِه وسَلَّمَ

الشَّفَاعَةُ 2

الشَّفَاعَةُ 2


قال تعالى:

{من ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاء وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ }البقرة255، {مَّن يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُن لَّهُ نَصِيبٌ مِّنْهَا وَمَن يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُن لَّهُ كِفْلٌ مِّنْهَا وَكَانَ اللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُّقِيتا} النساء85، {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُم مِّنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ} الأنبياء28، {أَمِ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ شُفَعَاء قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لَا يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلَا يَعْقِلُونَ} الزمر43، {فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ }المدثر48، {وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى }النجم39

كل هذه الآيات تبين وتؤكد وجود الشفاعة، ولا تنفيها، ولكنها تؤكد أنها محكومة بقوانين وسنن إلهية تجعل بعض الناس ينتفعون بها والآخرين لا ينتفعون، واقتضت السنن الإلهية أن الشفاعة ينالها الإنسان بسعيه، فهي لا تُعطى مجاناً لأحد، وليس فيها أية محاباة، والإنسان ينتفع بها في حياته ويرى أثرها في نفسه، وكما توجد شفاعة حسنة ينتفع بها الإنسان توجد شفاعة سيئة تلحق به أضرارا بالغة، وهو بسعيه وعمله يحدد نوعية الشفاعة، والشفاعة الحسنة هي نوع من التأثير ينتفع به الإنسان من إمكانات ومرتبة من هو أعلى منه في مراتب الإيمان والقرب من الله تعالى لسبب من الأسباب!

*****

ربما كان أكثر الناس انتفاعا بالشفاعة هم المؤمنون المذنبون، ذلك لأن هؤلاء عادة ما يقترفون المعاصي وهم مغلوبون على أمرهم لضعف عزمهم، فيبادرون بالتوبة والصلاة على النبي والاستغفار، قال تعالى: {....وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ جَآؤُوكَ فَاسْتَغْفَرُواْ اللّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُواْ اللّهَ تَوَّابا رَّحِيما}النساء64، والآية حكمها عام لكل المسلمين! وبالطبع لن ينتفع بها من يسيئون إلى الرسول! أما الطائعون المؤدون لظواهر العبادات فكثيراً ما يوقعهم الشيطان في العُجب والافتتان بأنفسهم والازدراء لغيرهم، لذلك قلما ينتفعون بالشفاعة المحمدية!

*****

لله الشفاعة جميعًا كما أن العزة لله جميعا، والعزة هي مع ذلك كما قال الله تعالى: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ}المنافقون8، فهي أيضاً وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ، ولا تعارض، ولله الشفاعة جميعا ولا شفاعة لأحد من دونه ولكن هناك الشفاعة بإذنه ولمن ارتضى! قال تعالى: {...مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاء وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} البقرة255، {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُم مِّنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ }الأنبياء28، {يَوْمَئِذٍ لَّا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً }طه109

والرسول بالفعل هو شفيع لأمته الحقيقية، ولا جدوى من إنكار الشفاعة التي هي بإذن الله! ومن أنكرها فقد كفر للأسف بآيات قرءانية عديدة وبحقيقة وجودية عظمى!

قال تعالى:
{مَّن يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُن لَّهُ نَصِيبٌ مِّنْهَا وَمَن يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُن لَّهُ كِفْلٌ مِّنْهَا وَكَانَ اللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُّقِيتاً} النساء85
الشفاعة هي فعل يترتب عليه تأثير من كائن على كائن آخر، وهو محكوم بسنن كونية، والكائن المؤثر يمتلك من الإمكانات ما يسمح له بهذا التأثير، وقد يكون إماماً في الخير أو إماماً في الشر، ومن الإمكانات ما يُعرف الآن بالشخصية الكاريزمية، لذلك فعلى من يمتلك مثل هذه الخاصية ألا يستعملها إلا في الخير، ذلك لأنه يتحمل المسئولية عن كل ما ترتب على أفعاله وأقواله وتأثيراته، والآية تؤكد ذلك بإسناد الأمر إلى الاسم الإلهي "المقيت"، والذي يتضمن معاني الحفظ (بمعنى التسجيل الدقيق) للأفعال والأقوال والاقتدار على ذلك.

*****

قال تعالى:

{...إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ }الأنعام57، {....إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ }يوسف40، {....إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ }يوسف67، {ثُمَّ رُدُّواْ إِلَى اللّهِ مَوْلاَهُمُ الْحَقِّ أَلاَ لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ} الأنعام62، {وَهُوَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ }القصص70، {وَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ }القصص88.

وقال أيضا:

{إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ إِنَّ اللّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ إِنَّ اللّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً }النساء58، {إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللّهُ وَلاَ تَكُن لِّلْخَآئِنِينَ خَصِيماً }النساء105، {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ عَمَّا جَاءكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً....} المائدة48، {وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللّهُ إِلَيْكَ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللّهُ أَن يُصِيبَهُم بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ} المائدة49،

إن من أكبر الأخطاء التي لا يقع فيها الناس التفرقة بين الآيات القرءانية، وهذا مما يؤدي إلى كفرهم ببعض الكتاب فيقعون في أخطاء فادحة يخسرون بسببها الدنيا والآخرة، وهذا ما حدث مع من رفعوا شعار "لا حكم إلا لله"، فهم أساءوا فقه الطائفة الأولى من الآيات المذكورة وكفروا بالطائفة الثانية، وكفروا بذلك بالمنهج القرءاني وبالمصطلحات القرءانية؛ فاستدرجوا إلى الهلاك!

ويجب العلم أولا بأن لله تعالى بالأصالة السمات (الصفات) الواجبة المطلقة، والحكم منها، كما أن له الأفعال المترتبة على ذلك، فالأحكام النهائية المطلقة على الناس وأفعالهم هي له وحده؛ لا شريك له فيها، ومنها الأحكام والأقضية يوم الفصل بعد الحساب.

ولكن لابد للسمات والأفعال الإلهية من آثار في هذا العالم المخلوق، فلابد للأمر الكلي المطلق من أمور نسبية مقيدة لا تتناهى عددا، لذلك لابد لهم من حكام وقضاة يحكمون بينهم كما لابد لهم من نصوص يستندون إليها في إصدار أحكامهم ومن قيمٍ يستلهمونها ويأتمُّون بها لعمل ذلك، وهذا ما تشير إليه وتتضمنه الطائفة الثانية من الآيات، لذلك فليس لأحدهم أن يقف أمام القاضي أو الحاكم ليقول له: "اسمع يا هذا، ليس من حقك أن تحكم، فلا حكم إلا لله وأنت بذلك تختلس سلطة إلهية"! ورغم وضوح هذا الأمر البديهي فقد هلك ما لا حصر له من المسلمين ومن المحسوبين على الإسلام بسبب عدم إدراكهم له.

فالحكم لله تعالى من حيث أن كل شيء يجري وفق قوانينه وسننه ومن حيث أنه هو الفاعل الحقيقي والمؤثر الحقيقي، وكل ما هو سواه آلاته وأدواته، والحكم للناس من حيث ما يشوب الأحكام من قصور لا سند له ولا سبب له إلا قصورهم الذاتي وأصلهم العدمي.

وما قيل بالنسبة للحكم هو سارٍ أيضا بالنسبة للسمات والأفعال الأخرى مثل: العزة، الأمر، الشفاعة...

والمسلمون الحقيقيون ينعمون في حياتهم الدنيا بالشفاعة المحمدية، وسيرون أثر ذلك في يوم القيامة!

*****

قال تعالى:

{وَاتَّقُواْ يَوْماً لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئاً وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ}البقرة48، {وَاتَّقُواْ يَوْماً لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئاً وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلاَ تَنفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ }البقرة123، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَنفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خُلَّةٌ وَلاَ شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ }البقرة254، {مَّن يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُن لَّهُ نَصِيبٌ مِّنْهَا وَمَن يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُن لَّهُ كِفْلٌ مِّنْهَا وَكَانَ اللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُّقِيتا}النساء85، {لَا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِندَ الرَّحْمَنِ عَهْدا}مريم87، {يَوْمَئِذٍ لَّا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلا}طه109، {وَلَا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِندَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَن قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ}سبأ23 (تثبت شفاعة الملائكة)، {قُل لِّلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعاً لَّهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ }الزمر44، {وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَن شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ}الزخرف86، (شفاعة الشهداء)، {فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ }المدثر48، (هم الذين تصفهم الآيات، أي من ورد ذكرهم في سياق الآيات)، {اللّهُ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاء وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} البقرة255، {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُم مَّا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاء ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاء لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنكُم مَّا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ }الأنعام94، {وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَـؤُلاء شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللّهَ بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلاَ فِي الأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ }يونس18، (الآية تتحدث عن المشركين الذين عبدوا الأشياء من دونه ليقربوهم إليه زلفى).

{يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُم مِّنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ} الأنبياء28، شفاعة الملائكة، {وَلَمْ يَكُن لَّهُم مِّن شُرَكَائِهِمْ شُفَعَاء وَكَانُوا بِشُرَكَائِهِمْ كَافِرِينَ }الروم13، {أَمِ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ شُفَعَاء قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لَا يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلَا يَعْقِلُونَ }الزمر43.

إن آية الأنبياء 28 شديدة الوضوح، هناك شفاعة إذا ارتضى الله تعالى ذلك، وهنا شفاعة للملائكة، هؤلاء الملائكة مِّنْ خَشْيَة ربهم مُشْفِقُونَ، فهم لن يشفعوا إلا لمن ارتضى الله، وهذا يعني أن ثمة سنن إلهية حاكمة على الأمر.

*****

إنه يمكن للإنسان ولو كان مؤمنا أن يقع في المعاصي بل أن يرتكب الكبائر، ذلك لأن الإيمان يتفاوت من حيث القوة من شخص لآخر، وقد لا يكفي ما لدى الإنسان من رصيد إيماني للتغلب على ما يتعرض له من إغراءات، ولكن المؤمن الحقيقي لا يقتحم المعاصي دون وجل أو خوف، ولا يتتبعها في مظانها، ولكنه يقع فيها مغلوبا على أمره، وعلى هذا الإنسان أن يبادر بالتوبة النصوح والاستغفار حتى لا تحيط به آثار معاصيه فتضطره إلى الكفر بالدين الذي يحول بينه وبين ملذاته وحينئذ لا تنفعه شفاعة الشافعين، فالشفاعة ليست بالأمر العشوائي الاعتباطي، كما أنها ليست بمحسوبية ولا بمحاباة، ولكنها خاضعة لسنن إلهية لا تبديل لها ولا تحويل يعبر عنها بالإذن الإلهي، فهي أمر حقاني لا باطل فيه ولا أهواء ولابد لها من استعداد أصلي لدى الإنسان لقبول آثار الهداية قد تخفيه آثار المعاصي ولكنها لا تمحوه، أما من فقد هذا الاستعداد بما اكتسبه من الآثام فلا جدوى منه ولا تقبل الشفاعة فيه.

إن أولى الناس بشفاعته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ هم أتباعه المباشرون الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه ولم يبدلوا ولم ينقلبوا على أعماقهم ولم يفتتنوا في دينهم ولم تستحوذ عليهم الدنيا، ومن كانوا حريصين على اتباع النور الذي أُنزل معه وعلى توثيق الصلة به بالصلاة والتسليم عليه.

وللعلماء العاملين والعباد الصالحين شفاعة فيمن يتعلم منهم ويتأسى بهم ويتلقى منهم ويتزكى على أيديهم.

والشفاعة الحسنة المقبولة هي التي تتم وفق سننه الدينية التي مجالها الإنسان المخير، أما الشفاعة السيئة فهي التي تحاول المخالفة عن هذه السنن، وطالب الشفاعة السيئة هو من يظن أن في شفيعة من الألوهية شيئا أو من يظن فيه القدرة على تجاوز السنن الإلهية، أما طالب الشفاعة الحسنة فهو الذي يرى أن شفيعه يعمل بإذن ربه وبالتوافق مع سننه.

أما من أقدم على المعاصي غير هياب واقترف الكبائر اعتمادا على شفاعة مرجوة فهو إنما يغامر بمصيره ويأمن مكر ربه ويُستدرج به من حيث لا يعلم إلى ما فيه الخسران المبين، فلابد لكل معصية يقترفها من أثرٍ سيئ على باطنه، وقد تصل إلى قلبه فيسود بها وجهه، وربما يختم عليه فلا يستطيع التوبة.

إن أثر الشفاعة لابد أن يعود على الإنسان في مرحلة من مراحل حياته، ولابد أن يجد آثارها في نفسه، ولكن لابد من يومٍ تنقطع فيه إمكانية الشفاعة أصلا بالنسبة لإنسانٍ ما.

*******

والعمل الصالح يشفع لصاحبه، ذلك لأثره الطيب على باطنه الذي سيظهر في يوم القيامة، كذلك آثار أعماله الصالحة ذات الأثر الطيب المستمر مثل العلم النافع والصدقة الجارية.

*******

قال تعالى:

{وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ (58) وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آَتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ (59)} التوبة

الحديث هو عن طائفة من أهل القرن الأول يريدون أن يأخذوا من الصدقات ما لا حق لهم فيه، فإذا لم ينالوا منها ما يرضيهم فإنهم يعيبون الرسول بشأنها، ولم يذكر القرءان أسماءهم حتى يعلم الناس حقيقة أهل القرن الأول فلا يفتتنون بهم ولا يُغالون في شأنهم، وبذلك لا يبقى لهم إلا الالتزام بالأمر القرءاني الخاص بأهل القرن الأول، وهو:

{وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلاَ تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيم} [الحشر:10]

ويلاحظ أن الاستغفار هو فقط لمن سبق بالإيمان، وأن الآية لم تخصص وإنما أجملت وأطلقت فيما عدا ذلك، والاستغفار لهم من حيث أنهم إخوة سبقوا بالإيمان، وليس لأنهم سادة أو أرباب مقدسين.

كما يُلاحظ أن المأمور به هو الاستغفار لهم، وليس الصراخ المدوي بالترضي عنهم، أما الترضي والتبشير بالجنة فهو لكل الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وفقًا للمفهوم القرءاني، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ (7) جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ (8)} البينة

وقد كان أولى بمن يلمزون أن يحسنوا الظن بالله ورسوله وأن يعلنوا أن الله تعالى هو موضع رغبتهم.

والقول {حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ} ثابت ومتحقق لكل مؤمن وضع ثقته في الله ورسوله، وهو يثبت أن عطاء الرسالة لم ينقطع وأن الشفاعة مستمرة.

*******

الشفاعة ليست بالأمر الاعتباطي، بل هي محكومة بنسق من السنن، هي من تجليات الإذن الإلهي ومقتضياته، فلابد أن يكون الشفيع على درجة من الصلاح والتقوى والقبول عند رب العالمين، كما يجب أن يكون لدى المشفع فيه الاستعداد لتقبل آثار الشفاعة حتى وإن كانت إرادته واهية وعزمه ضعيفا، ويجب أن تكون الشفاعة قبل أن تحيط به آثار خطاياه وقبل أن يُختم على قلبه، وتظهر آثار الشفاعة في الدنيا في الصحوة المفاجئة والتوبة النصوح والإقلاع المفاجئ عن المعاصي والرغبة الشديدة في تدارك ما فات.

والشفاعة هي أمرٌ باطن، وسيكشف عنه يوم القيامة، فيعلم الإنسان عندها من كان شفيعه.

وهناك الشفاعة في يوم الحساب، وهي محكومة بأمرين إلهيين، هما الإذن والرضى، وهما يتمثلان في نسقٍ من السنن، فالله تعالى هو الذي يستخدم الشفيع طبقًا لسنن صارمة إظهارا لعدله وحقانيته وفضله، وتكريمً للشفيع.

فالشفاعة أسمى وأرقى مما يظنه أكثر الناس؛ من أنكرها، ومن عوَّل عليها، وهي من لوازم ومقتضيات الاستواء على العرش.

أما المأذون لهم بالشفاعة فهم الرسل والأنبياء والملأ الأعلى وخاصة حملة العرش والشهداء.

*******

1

عدد المنشورات : ٦٥١

bottom of page