التقويم الحقيقي وبدايات شهر رمضان الحقيقي وأشهر الحج
النسيء والتقويم
النسيء والتقويم
إن الهدف من أضافة شهر التقويم هو الإبقاء على الاعتدال الخريفي في رمضان والانقلاب الشتوي في ذي الحجة، حيث إن (السنة القمریة) أقصر من السنة الشمسیة بـ 10.875 یوما، أي إن بدایة كل شهر قمري تتقدم كل سنة من 10 إلى 11 یوما، بمعنى أن بداية الشهر العربي في سنة شمسية ما تأتي مبكرة عن تاريخ قدومها في السنة الماضية، فإضافة شهر التقويم هي لمنع أن يكون هذا القدوم المبكر كافيا لينتهي الشهر قبل أن تبدأ الظاهرة المميزة له.
والناس يعترضون على تقويم التقويم في حساب السنين، ويُطالبون بتوفر أمر صريح بذلك، مع أنه لا يوجد نصّ صريح على أسماء كل الشهور، فلم يذكر القرءان إلا اسم شهر واحدٍ منها، ولا يوجد أي أمر بتقويم الشهور الذي يحدث بلا حرج، ولا مفرّ من عمله.
فجعل الأشهر 30 أو 29 يومًا بالتبادل هو تقويم لا مفر منه، وهو يحدث ولا يوجد أي أمرٍ به، ومن المعمول به الآن إضافة یوم كبیس إلى شهر ذي الحجة كل 2-3 سنة، وعليه تقوم برامج تحويل التواريخ، وهذا تقويم لا مفر منه، وهو يحدث، ولا يوجد أيضًا أي أمرٍ به.
فالتقاویم الهجریة المطبوعة وبرامج التقاویم تستعمل مفهوم الشهر الحسابي، وليس الشهر القمري الطبيعي، أي تعتمد شهورا قمریة متناوبة بالطول بین 29 و30 یوم
فمن المعلوم أن القمر یستغرق في المتوسط للدوران حول الأرض 29 یوم و12 ساعة و44 دقیقة و2.816 ثانیة، أي يستغرق أي تساوي حوالي 29.530588 يوما، فجعل الشهر 29 أو 30 يوما هو لحل مشكلة النصف يوم أو الـ12 ساعة، ویضاف الیوم الكبیس لتعویض الكسور أو الدقائق والثواني لكل شهر.
فلابد من تقويم أيضًا على مستوى الأشهر، وهذا يستلزم إضافة 11 یوما موزعة على مدة 30 سنة قمریة لتعدیل الفرق بین عدد أیام 30 (سنة قمریة) كما هو متبع في التقاویم الهجریة الحالیة التي تفرض تناوب 29 یوم و 30 یوم للشهر القمري
ولكن العرب لم یكونوا بحاجة إلى فعل ذلك، فلا دلیل على أن العرب كانوا يصرون على هذا التناوب في عدد أیام الشهر القمري
فبافتراض أنهم لم يرو هلال أحد الشهور في توقيته المقدر فسيرونه في الليلة التالية، وفي كل الأحوال ستحسم رؤية هلال الشهر التالي الأمر.
فهناك إصرار على أن إضافة شهر التقويم هو النسيء المحرم مع أنهم يقومون بنفس الفعل بالنسبة للشهور، فيجبرون كسورها، ويضيفون يومًا كبيسًا كل سنتين أو ثلاثة إلى ذي الحجة، أو بالأحرى بعد انتهاء شهر ذي الحجة.
فإضافة شهر للتقويم بعد ذي الحجة كل سنتين أو ثلاثة هي كإضافة يوم للتقويم كل سنتين أو ثلاثة.
فمن العجيب أنهم يلجؤون للتقويم بعملهم هذا وبإضافة يوم إلى ذي الحجة بدورية معينة، ويحرمون ذلك بالنسبة للأشهر.
*******
من المعلوم أن هذه الأمة أضاعت عرى الإسلام عروة عروة، وأن المحسوبين على الإسلام قد اتبعوا سنن من قبلهم شبرا بشبر وذراعا بذراع وخالفوا التحذيرات النبوية المشددة، وضرب بعضهم رقاب بعض، وتنافسوا الدنيا، وتصارعوا من أجل السلطة، وفرقوا دينهم وكانوا شيعا، لم يفلت من بطشهم بالكاد إلا القرءان الكريم، ومن أضاعوا الدين لن يعز عليهم إضاعة التقويم القويم! بل لقد أسقطوا حرمة الأشهر الحرم، فأصبحوا أسوأ من أهل الجاهلية، إن أقصى ما كان يمكن للأعراب فعله تأخير حرمة محرم إلى صفر، أما من بعد أن انقلبوا على أعقابهم فقد أبطلوا حرمة كل الأشهر الحرم إبطالا تاما.
إنه يجب تصحيح أخطاء هذه الأمة التي أضاعت الصيام والحج مثلما أضاع بنو إسرائيل الصلاة.
*******
الذي أضلَّ الأمة في موضوع التقويم هو خلطهم بين أمرين لا علاقة بينهما:
1. النسيء المحرم، وهو تلاعب بالأشهر الحرم لكي يستأنفوا الصيد أو القتال أو الإغارة على بعضهم البعض، وذلك وفقا لرغبات ذوي السطوة منهم، ومن ذلك تأخير حرمة شهر المحرم، فلم يكونوا يستطيعون الانقطاع عن أعمال السطو المسلح والإغارة لثلاثة أشهر متصلة، ومن البديهي أن يتصدى الإسلام لأمرٍ كهذا.
2. إضافة ما يلزم للتقويم، وهو ما يعادل شهرا في التوقيت اللازم، بحيث يتم تدارك تأثير انزياح الأشهر عن المواسم المناخية، وهذا أمر علمي منطقي لا علاقة له بالأديان، وإنما له علاقة بمعنى التقويم ووظائفه، والآخذون بالتقويم الشمسي تعلموا أن يضيفوا وحدات زمنية كل فترة معينة لتلافي تأثير الانزياحات الممكنة لأي سبب من الأسباب.
والمشكلة أن الإعلان عن الأمرين كان يتم في موسم الحجة، ليُطبق في بداية السنة القادمة، وأن مصطلح "النسيء" كان يُستعمل للدلالة على الأمرين.
بل إنه يمكن بسهولة استنتاج أنهم بدأوا شيئا فشيئا استغلال مسألة إضافة شهر التقويم للتلاعب بالأشهر الحرم، فاختلط عليهم الأمر.
وقد كان لدى العرب مثل غيرهم هيئة مختصة بأمور التقويم، لا رادّ لقضائها، ولا معقب لحكمها، هم النسأة، جمع ناسئ، وكانت وظيفة الناسئ هي تحديد السنة التي يجب فيها إضافة شهر التقويم وإعلان ذلك على الناس يوم الحج الأكبر، وكان ذلك هو النسيء الأصلي، فهذه الإضافة كانت تؤدي إلى فرملة وتأخير (نسأ) تقدم (السنة القمرية) للحفاظ على الهوية المناخية للشهور، أي لتتسق (السنة القمرية) مع السنة الشمسية.
وآلية النسء كانت أن يُضاف شهر قمري قبل بداية السنة الجديدة.
وطالما أن الناسئ كان يعلن عليهم أنه لا رادّ لما يقضي به ولا معقب لحكمه في أمور التقويم فقد بدأوا يطلبون منه تأخير حرمة شهر المحرم، فكان يستجيب لهم، ومن هنا ظهر مفهوم النسيء المذموم، ولكونه كان مفهومًا وملموس العاقبة لديهم، بينما لم يكن يفقه أمر التقويم أكثرُهم، فقد طغى مفهوم النسيء المذموم على المفهوم الأصلي، ومن الواضح أنهم بدأوا يتلاعبون بإضافة شهر التقويم ذاته لانتهاك حرمة الشهر الحرام.
فالتحريم كان منصبًّا على النسيء بالصورة التي استقر عليها قبل العصر النبوي واستمر أثناءه، لذلك تم التنديد به، والنهي عنه، وكان المقصود بذلك أساسًا الحفاظ على هوية الأشهر الحرم، وحمايتها من الانتهاك.
والمشكلة أنه من بعد الرسول صار الانتهاك الإجرامي للأشهر الحرم أمرًا مشروعًا بينما صار التقويم النافع هو الأمر المحرم!!!
*****
إن عملية إضافة أيام بأي طريقة من الطرق لكي يظل التقويم تقويما هو أمر ضروري، وقد أجمعت عليه البشرية جمعاء، ولم يخالف فيه إلا البدائيون الهمج الذين لا يريدون تقويما أصلا ولا يحتاجونه، فهم أضل من البهائم، فالبهائم مفطورة (مبرمجة) على معرفة الفصول المناخية والتكيف معها دونما حاجة إلى تقويم، أما البدائيون المتشبثون بهمجيتهم، فرغم علمهم بحاجتهم إلى تقويم، فإنهم يرفضونه، أو يحيون وفق أي تقويمٍ آخر مع استمرار الزعم بأن لديهم تقويما.
أما النسيء المذموم فهو التلاعب بالأشهر الحرم بالتأخير، أي بنقل حرمتها إلى شهر آخر يأتي بعدها لأغراض غير قانونية مثل الشروع في الإغارة أو الصيد أو الاستمرار في الحرب، فالنسيء يعني ويتضمن التأخير، التأخير فقط، وليس التقويم ولا التقديم مثلا، قال تعالى:
{إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُواْ يُحِلِّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِّيُوَاطِؤُواْ عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللّهُ فَيُحِلُّواْ مَا حَرَّمَ اللّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِين} [التوبة:37]
فالآية واضحة تمام الوضوح، النسيء يعني التأخير، وكل الآثار أوضحت ماذا يعني هذا التأخير؛ هو نقل حرمة شهر من الأشهر الحرم مثل "محرم" مثلا إلى شهر آخر يأتي بعد "محرم"، فمحل الفعل منهم هو شهر معلوم من الأشهر الحرم المعلومة، وكان التحليل والتحريم منهم يتضمن مراعاة عدد الأشهر الحرم، وكان ذلك يستلزم أحيانا تغيير عدد الأشهر في السنة، وذلك ما استلزم التأكيد على عدة الشهور في الآية:
{إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَات وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ ....} [التوبة:36]
والتي تشير إلى أن الأشهر قمرية لكون الأشهر الحرم قمرية، كما يشير العدد اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا إلى كون السنة شمسية باعتباره أكبر عدد من الأشهر القمرية بالمفهوم الطبيعي العام يمكن أن تحتويه السنة الشمسية.
فلا علاقة للتقويم بالنسيء المحرم، فالنسيء المحرم هو نقل حرمة شهر أو أكثر من الأشهر الحرم المعلومة إلى شهر يأتي بعدها، وذلك لأغراض دنيوية ومنها استمرار القتال أو الرغبة في الصيد الجائر.
مثال:
شهر المحرم من الأشهر الحرم، يتم نقل حرمته إلى شهر صفر مثلا، وبذلك يصبح شهر صفر حراما من بعد أن كان حلا.
وفي ذلك قال شاعرهم الكميت:
ونحن الناسئون على معدّ***شهور الحل نجعلها حراما
ولا حاجة للرجوع إلى المعاجم هنا لمعرفة معنى الفعل "نسأ" مثلا!! هناك أولا وقبل كل شيء المنطق القرءاني والمنطق القويم، النسيء المحرم طبقًا لكلا المنطقين هو تأخير شهر أو أكثر من الأشهر الحرم، ولا يمكن أن يكون المعنى هنا زيادتها، والآية شديدة الوضوح وكاشفة عن مقاصدهم، فالمقصود من فعلهم هو: "لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ".
والمنهج القرءاني يوجب النظر إلى الآية في سياقها، قال تعالى:
{إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (36) إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (37)} التوبة
فمن الواضح أن الكلام عن الأشهر الأربعة الحرم، فلا مجال للقول بأن النسيء هنا تعني الزيادة، المعنى الوحيد للنسيء هنا هو تأخير (وليس زيادة) الأشهر الحرم وفقًا لأهوائهم وأغراضهم الدنيوية؛ أي لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّه، وما حرمه الله تعالى في الأشهر الحرم معلوم وهو القتال وصيد البر للمحرمين!
ومن الواضح أن الحديث هو عن تأخير عشوائي وفق الأهواء وليس عن تصحيح منتظم ومتفق عليه، وقد ثبت بالفعل أنهم كانوا يطلبون ذلك من شخص مسؤول فيستجيب لهم.
ويجب التدقيق في كلام المعاجم، فالذي بدأ كتابتها كانوا من العجم للأسف، ثم نقل العرب عنهم!!!
ويجب دائما النظر إلى المعنى القرءاني المستعمل، فالقرءان هو المصدر والمرجع الأعلى لمعاني مصطلحاته، فعند النظر في شأن مصطلحٍ ما يجب النظر في كل الآيات التي ورد فيها، وهي التي تحدد المعنى الدقيق المطلوب، وهو المعنى الحقيقي والأصلي للمصطلح الذي لا يجوز العدول عنه استنادا إلى ما تورده المعاجم من احتمالات متعددة لمعنى اللفظ أو المصطلح.
*****
إن قوله تعالى:
{إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُواْ يُحِلِّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِّيُوَاطِؤُواْ عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللّهُ فَيُحِلُّواْ مَا حَرَّمَ اللّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِين} [التوبة:37]
واضح تمام الوضوح، والنسيء المذموم مشروح في الآية، فهو تأخير شهر من الأشهر الحرم عن موضعه المعلوم لانتهاك حرمة الشهر باقتراف ما حرمه الله فيه.
فالآية تتحدث عن نسيء معهود ومعلوم لهم كانوا يتعمدون فيه تحليل شهر -محدد بالاسم- على الأقل من الأشهر الحرم وتحريم غيره، وكان شهر المحرم بالذات هو الذي يتعرض للتأخير وذلك لطول حرمانهم من الإغارة والسطو طوال شهري ذي القعدة وذي الحجة، خاصة من بعد أن استنفدوا أموالهم في الأسواق التي كانت تسبق الحج في شتى ضروب التجارة واللهو.
وهناك من زعموا دون أي مبرر وجود خطأ في تشكيل الآية!! وبالطبع لا قيمة لزعمهم هذا ولا لما بنوه عليه.
ومن الواضح أن الرسول كان يلتزم في أمر التقويم بما كان عليه العرب، فطوال أكثر فترة البعثة قبل فتح مكة لم يكن للرسول سلطة على كافة القبائل العربية، وكانت الأمور وتوزيع المهام بين القبائل العربية وبطونها كما كانت عليه في العصر الجاهلي، بل إنه بعد فتح مكة ظلت بعض الأمور مثلما كانت عليه في العصر الجاهلي إذا لم تكن متعارضة مع الإسلام، ولقد حجَّ أبو بكر بالناس في ذي القعدة كما يقولون، وهذه حُجَّة على من قصروا الحج على شهر ذي الحجة، وذلك بغض النظر عن احتمال وجود تحريف نتيجة عمل العرب بالنسيء، فتداول الخبر وصموده يدل على وجود أصلٍ له.
وحجة أبي بكر كانت مع العرب الذين كانوا يعملون بالنسيء، فلم يكن إعلان القطيعة مع المشركين قد حدث، فهو لم يحدث إلا في هذه الحجة كما هو معلوم.
ولم يرد أي ذكر لطائفة العادين من بعد العصر النبوي، ولم يرد أي أثر يدل على أن أحدًا حلّ محلهم، هذا مع أن مفاتيح الكعبة، مثلًا، ظلت في حوزة من كانت عنده، وفي تفسير {إِنَّ ٱللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ ٱلأَمَـٰنَـٰتِ إِلَى أَهْلِهَا} ذكروا، كما في تفسير الألوسي: ((أخرج ابن مردويه من طريق الكلبـي عن أبـي صالح عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: "لما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة دعا عثمان بن أبـي طلحة فلما أتاه قال: أرني المفتاح فأتاه به فلما بسط يده إليه قام العباس فقال: يا رسول الله بأبـي أنت وأمي اجعله لي مع السقاية فكف عثمان يده، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أرني المفتاح يا عثمان فبسط يده يعطيه، فقال العباس مثل كلمته الأولى فكف عثمان يده، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا عثمان إن كنت تؤمن بالله واليوم الآخر فهاتني المفتاح، فقال: هاك بأمانة الله تعالى، فقام ففتح الكعبة، فوجد فيها تمثال إبراهيم عليه السلام معه قداح يستقسم بها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما للمشركين قاتلهم الله تعالى وما شأن إبراهيم عليه السلام وشأن القداح وأزال ذلك، وأخرج مقام إبراهيم عليه السلام وكان في الكعبة؛ ثم قال: أيها الناس هذه القبلة، ثم خرج فطاف بالبيت، ثم نزل عليه جبريل عليه السلام ـ فيما ذكر لنا، برد المفتاح فدعا عثمان بن أبـي طلحة فأعطاه المفتاح ثم قال: {إِنَّ ٱللَّهَ يَأْمُرُكُمْ} الآية."
فلم يرد أن الرسول استدعى أحدًا من العادّين وأعاد تأكيد مهمتهم القديمة، كما لم يرد أنه ألغى مهامهم، ذلك لأن ضبط التقويم كان من المفترض أن تقوم به الأمة المؤمنة ممثلة في أولي أمرها، ولم يرد أنه أوقف العمل بالتقويم العربي القديم، كل ما أكد عليه هو التأكيد على حرمة الأشهر الحرم، وهذا الأمر هو الذي حرصوا من بعد على تجاهله وإبطاله.
ومن المعلوم أن الرسول لم يمكث فيهم كثيرًا بعد حجة الوداع، وأن القرشيين تمردوا عليه من بعدها، ولم يمكنوه من كتابة كتاب لا يضلون بعده أبدا.
وكل ذلك يشير إلى أنهم تركوا الشهور تجري على أعنتها، ومن الواضح أن مسألة التقويم لم تعد تشغلهم، وانعدمت الحاجة إليه لما يلي:
1. انخراطهم فيما يُسمى بحروب الردة ثم بالحروب الطاحنة مع الفرس والروم، والتي أدت إلى تدفق ثروات أسطورية على شبه الجزيرة العربية.
2. اندثار رحلتي الشتاء والصيف.
3. انعدام الحاجة إلى عمل الأسواق، وبذلك اندثرت، واندثر ذكرها.
4. اندثرت الحاجة إلى الزراعة التي كانت توجد في مناطق محدودة في نجد والحجاز
5. استمرار كل شعب من الشعوب العريقة التي غزوا بلادها في استعمال تقويمه القديم، ولم يرد أبدًا أن العرب حاولوا فرض تقويمهم على هذه الشعوب
فالرسول لم يحاول أن ينزع من أي قبيلة ما كانت مختصة به أو جرت عادة العرب أن يوكل إليها، وكان ما يختص بالتقويم والنسيء في بطن من بطون العرب، وكان تدخله الوحيد هو ليبيِّن أن حجته حدثت في شهر ذي الحجة الحقيقي، وأنه يجب اعتماد هذا الشهر من حينها فصاعدا كشهر صحيح؛ أي إن شهر ذي الحجة –وهو من الأشهر الحرم- قد عاد إلى موضعه الطبيعي بعد كل تلاعباتهم، هذا الموضع الطبيعي لا يمكن إلا أن يكون مرتبطا بمناخ معين، فلابد من مرجع ثابت للتحديد، ولو كان التقويم قمريا بحتا لما كان هناك موضع محدد يمكن القول بأن شهر ذي الحجة يجب أن يأتي فيه!
وهذا مثل القول بأن شهر رمضان الذي أتى في سنة 1974 م كان شهرًا صحيحا رغم خطأ اللاتقويم المستحدث المسمى بالهجري، وكان يمكن عندها اعتماده هكذا، والقول بأن الزمان قد استدار كهيئته، والبدء في استعمال التقويم الصحيح منذ ذلك الحين.
لذلك فقول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ "إِنَّ الزَّمَانَ قَدِ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ" يعني أن سلسلة تراكمات تلاعبهم بالأشهر الحرام قد تمخضت عن عودة شهر ذي الحجة وبالتالي كافة الأشهر العربية إلى مواضعها المناخية الصحيحة، ومن الظاهر أن ذلك كان أمرًا واضحا لهم فلم يسأل أحد عن كيفية التيقن من استدارة الزمان.
ومن المعلوم أن أي شهر في التقويم الهجري المستعمل يعود ويتطابق مع التقويم الصحيح لثلاث سنين متتالية من ضمن فترة 32.6 سنة، ولذلك أيضًا يمكن القول مثلا عندما تعود بداية رمضان لتكون في سبتمبر في الخريف أو عندما يأتي رمضان متضمنا الاعتدال الخريفي إِنَّ الزَّمَانَ قَدِ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ الأصلية أو الصحيحة.
ونتائج النظر في الروايات والآثار المتعلقة بالنسيء هي كما يلي:
1. النَّسِيءُ الذي كانوا يفعلونه والذي هو زِيَادَةٌ فِي الكُفْرِ هو ما يؤدي إلى التلاعب بالأشهر الحرم، ولا يجوز إعطاء كلمة النسيء أي معنى آخر كما زعم بعض المنادين بإصلاح التقويم، فلقد أصبح النسيء في النهاية يعني تأخير حرمة الشهر الحرام.
2. أدى حرصهم على الحفاظ على عدد الأشهر الحرم المعلوم رغم تلاعبهم بها إلى تغير عدد شهور السنة أحيانا، وساعد على ذلك أنه لم يكن لديهم تأريخ جادّ صارم يحظى بإجماعهم.
3. أن الحج لم يكن فقط في ذي الحجة، ولا يجوز إرجاع ذلك إلى النسيء وحده.
4. أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ حجَّ في شهر ذي الحجة الحقيقي، وأعلن عليهم إِنَّ الزَّمَانَ قَدِ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ، وهذا يعني بالضرورة أن لكل شهر عربي هويته وخاصيته وتميزه، هذا التميز لا يكون بالطبع إلا من حيث المناخ، وهذا يعني أن التقويم القمري المحض باطل، ففي التقويم القمري لا يتميز شهر عن آخر بشيء، فيمكن أن يأتي شهرا الربيع مثلا في الصيف أو في الشتاء.
5. لم يغير النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ من التقويم الذي كانوا عليه شيئا، وإنما أكَّد على ضرورة تجنب النسيء من بعد وعلى ضرورة الحفاظ على عدة شهور السنة، وأنه يجب البناء على حقانية شهر ذي الحجة الذي أدى فيه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ الحج، وهذا يتضمن ضرورة اتخاذه مرجعا ونقطة أساسية للتقويم الصحيح.
6. طالما أن النسيء قد تم تعريفه في القرءان بالسياق الذي ورد فيه فلا يحق لأحد أن يعطيه معاني اصطلاحية أخرى.
7. عملية التقويم المعلومة والمتبعة في كل الحضارات من الأمور التي لم يرد ذكر صريح لها لكونها بديهية.
إن النسيء المذموم لا يعني إلا تأخير شهر حرام، وذلك يتم بتحليله وتحريم غيره، وكانوا حريصين على عدد الأشهر الحرم، ولو أدى ذلك إلى تغيير عدد شهور السنة، وهذا ما تمَّ النهي عنه بالتأكيد على أن عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا.
وبافتراض أن العرب استعملت نفس المصطلح للأمرين، تحليل الشهر الحرام وإضافة شهر التقويم، فلقد أوضح القرءان المقصود بالنسيء المذموم، وهو خاص فقط بالتلاعب بالأشهر الحرم، وقد ثبت أنهم كانوا يفعلون ذلك، وأنه كان يوجد فيهم من يُسمَّى بالناسئ "مأخوذة من كلمة يهودية أفضل ترجمة لها آمر أو أمير ديني"، وكان لا رادّ لحكمه في هذا الأمر.
*******
1
عدد المنشورات : ٦٥٠