الإسلام وقضايا ملحة ومعاصرة
الإسلام والعلمانية 2
ولما كان مصطلح العلمانية قد أصبح مشبعًا بدلالات مختلفة ومبهمة تتضمن كثيرًا من اللبس وقد تسبب كثيرًا من المشاكل في ظل انتشار الجهل والتخلف والحماقة فإنه قد يكون من الأفضل استخدام مصطلح المدنية، وكنظام يأخذ به القائمون على الأمر في بلد ما فالنظام المدني يتسم بما يلي:
1- لا يسعى إلى إكراه الناس على دين معين أو مذهب معين.
2- لا يعتبر دينًا أو مذهبًا هو الدين أو المذهب الرسمي، ولا يحابي معتنقيه.
3- يسمح لأتباع أي دين بممارسته ونشر الكتب التي تتحدث عنه ودعوة الناس إليه.
4- يحمي أتباع أي دين أو مذهب من إجرام الآخرين، ويحمي الآخرين من إجرامهم.
5- يقوم بالقسط ويحكم بالعدل.
6- يؤدي الأمانات إلى أهلها.
7- السيادة فيه للقانون المتفق عليه.
8- يقر بتساوي الناس أمام القانون.
9- لا ينفق أموال الناس لتمويل أي مؤسسة دينية أو مذهبية.
10- لا يسمح لطائفة بالتكسب بالدين.
11- لا يمول تجار الدين من أموال دافعي الضرائب
12- يحترم حرية الرأي على أن يتكفل أصحاب كل رأي بأن يتحملوا تكاليف الدعوة إليه.
13- لا يسمح لمجموعة معينة بأن تحتكر الدين لنفسها ولا أن تعتبر نفسها المتحدثة باسمه ولا أن تستغله لتحقيق مآربها الخاصة.
14- توجد فيه آليات سلمية تسمح بصياغة القوانين وتعديلها بالشورى بين أولي الأمر من كافة الأطراف.
*******
يقول سدنة المذاهب وعبيد نعال السلف:
"إن العلمانية تعني - بداهة- الحكم بغير ما أنزل الله وتحكيم غير شريعة الله وقبول الحكم والتشريع والطاعة والاتباع للطواغيت من دون الله، فهذا معنى قيام الحياة على غير الدين أو بعبارة أخرى فصل الدين عن الدولة، أو فصل الدين عن السياسة، ومن ثم فهي- بالبديهة أيضا- نظام جاهلي لا مكان لمعتقده ولا لنظامه ولا لشرائعه في دائرة الإسلام بل هو نظام كافر".
وهم لذلك يتعجبون من تردد الناس في الحكم على الأنظمة العلمانية بالكفر!!
إن ما رمى به هؤلاء السدنة العلمانية هو بالضبط ما تعاني منه تلك الأمة منذ أن تسلط أهل البغي وزعيمهم معاوية عليها، فمنذ ذلك الحين والأمة تُحكم بغير ما أنزل الله وبغير شريعة الله ويتبع معظم أبنائها الطواغيت من دون الله، أما سدنة المذاهب فهم أنفسهم من يقدسون معاوية الذي سنَّ للناس كل ذلك ويلزمون الناس بالخضوع المطلق لكل من اقتدى به ممن تسلط على المسلمين، فهل يرى هؤلاء أن معاوية كان يحكم بما أنزل الله عندما:
1- حوَّل الخلافة إلى ملك استبدادي وتسلط.
2- رفع قميص عثمان وخرج على إمام الأمة وسفك دماء المسلمين.
3- استمر في القتال رغم أن جيشه قتل عمار بن ياسر وتبين له بذلك أنه يقود الفئة الباغية.
4- أعطى مصر طعمة لعمرو بن العاص طوال حياته ثمناً لتأييده، مما جعل عمرو يترك لورثته أطنانا من الذهب رفضوا أن يأخذوا منها شيئا فأخذها هو!!!
5- قرر لعن الإمام علي وأنصاره في المساجد.
6- قتل حجر بن عدي وصحبه ولم يقبل فيهم شفاعة لمجرد أنهم احتجوا على سب أئمة المسلمين على المنابر، وقتل حجر وحده كافٍ بنص الكتاب لتخليد معاوية في النار.
7- اعتبر مال المسلمين ماله الخاص وأغدقه على أنصاره وأنفقه لإفساد الذمم.
8- اعتبر الأمة متاعا يورث وفرض ابنه متسلطا على الأمة من بعده بالقهر والاسترهاب.
9- أطلق يد زياد بن أبيه ليحكم الناس بالقهر والترويع والاسترهاب.
10- أرسل بسر بن أرطأة إلى الحجاز واليمن فعاث في الأرض فسادا واقترف من الجرائم ما يندي له جبين الإنسانية.
11- تخلص من خصومه باتباع كافة السبل الشيطانية.
وهل يرى سدنة المذاهب وتجار الدين أن من نشروا وشجعوا تجارة الرقيق واستعباد الناس وكانوا يقتنون في قصورهم آلاف الجواري والغلمان ويتركون الناس هملاً بلا رعاية ولا تعليم كانوا يحكمون بالشريعة؟ إن أي نظام علماني هو أفضل بكثير من النظام الطاغوتي الإجرامي الذي أسسه معاوية ومن جاءوا من بعده يهرعون على آثاره ويبدؤون من حيث انتهى ويتفوقون عليه.
إن النظم العلمانية التي يهاجمونها لم تفعل في شعوبها ما فعله معاوية ومن ورثه، هذا رغم أن معاوية كان أفضل ممن جاء من بعده!! وهي إن فعلت شيئاً مما فعل فهي لا تتمسح في الدين ولا تتجر به ولا تدعي أنها فعلت ذلك باسم الدين، سيقولون إن معاوية كان (صحابيا)، ورغم أنه لا يوجد في كتاب الله مرتبة دينية بهذا الاسم فإنه لا يجوز لمن حاز أعلى المراتب الدينية أن ينتهك الأوامر الشرعية، بل لقد نص الكتاب على أن العذاب يتضاعف بقدر علو المرتبة أو المكانة الدينية، سيقولون بفجرهم المعهود والذي احتار فيه الشيطان نفسه إنه كان مجتهداً وأخطأ، وتلك حجة يستطيع أن يتعلل بها أي مجرم للإفساد في الأرض وسفك الدماء واختلاس أموال الناس.
سيقولون إن معاوية فتح قبرص وحاول فتح القسطنطينية فتلقى هزيمة ساحقة، وقد فتح جنكيز خان البلاد من المحيط الهادي إلى بولندا وحدود مصر ولم يعبد نعله أحد، ومن لمعلوم أنه ليس لمعاوية أي إسهام يُعتد به في حركة (الفتوحات)، وإنما هو الذي استولى على ما حققه غيره، ولولا الفتن الهائلة التي أججها معاوية وقُتِل فيها عشرات الألوف من خيرة المسلمين لبلغ دين الله تعالى المشارق والمغارب.
*******
إن النظم العلمانية لم تقتل من المسلمين مثل من قتلهم المتسلطون على الناس باسم الدين بدءا من معاوية وانتهاءً بآخر السلاطين العثمانيين، وهي تحاول أن تخرج المسلمين من الهاوية السحيقة التي ألقاهم فيها أتباع وعبيد معاوية ومن ناصرهم من سدنة المذاهب، ولا يجوز أن تحسب على العلمانية النظم المتخلفة المتسلطة على الشعوب المحسوبة على الإسلام، فالعلمانية عنصر من عناصر نظام مترابط يضم الليبرالية وغيرها من قيم الحضارة الحديثة.
*******
إن جرائم المتسلطين على الناس باسم العلمانية كالصنم التركي العتيد كمال أتاتورك لا تحسب على العلمانية وإنما على من يطبقونها، فالمشكلة هي أن من برمجوا على منظومة شيطانية من أركانها الجهل والانحطاط والتخلف...الخ لن يفلحوا أبدا مهما كان مدى رقي وفعالية النظام الذي يدعون أنهم يتسلطون على الناس باسمه، فليس من العلمانية معاداة الدين ولا منع الناس من استعمال الأحرف العربية أو اللسان العربي ولا إرغام الناس على ارتداء ملابس معينة، فلا يجوز اتخاذ تصرفات الطاغية المجرم أتاتورك حجة على العلمانية، ولا يجوز في الوقت ذاته إنكار ما قدمه أتاتورك من خدمات لوطنه لكونه كان علمانيا متطرفا، فلقد أنقذها من الخلفاء الخونة المنبطحين وهزم كل أعدائها، ولولاه لكانت تركيا الآن مقاطعة يونانية.
*******
إن كافة ألوان العلمانية هي حلقات في جهاد الإنسان وسعيه إلى المعرفة الخالصة للحقائق وإلى القيام بالقسط والحكم بالعدل بعد أن تسلط الشياطين على الناس وأضلوهم عن حقيقة الدين وجعلوا من الدين الذي نزل للرقي بالإنسان عقبة في سبيل تطور الإنسان ومخدرا للشعوب ومكرساً لكل ما جاء لنقضه وتقويضه، ولقد كان من أول من استزلوهم فأطاعوهم من أرادوا العلو على الناس باسم الدين دون امتلاك أية شرعية أو أية كفاءة ذاتية ودون بذل الجهد اللازم.
والعلمانية لا تقصد بتنحية الأسئلة الميتافيزيقية الكبرى إهمالها ولا التقليل من شأنها، ولم يكن ذلك بعد أن فشلت في الإجابة عن هذه الأسئلة ولا لأنها وجدت أن تنحيتها لازمة لئلا تُعكِّر عليها نشاطها وسريانها، ولكنها تقصد حماية الناس من شر من يريدون استغلال الاختلاف حول هذه الأسئلة لاقتراف شتى ألوان الإثم والبغي والعدوان وسفك الدماء والإفساد في الأرض وازدراء كرامة الإنسان وحرمانه من حقوقه لمجرد أن ما يؤمن به يختلف ولو قليلا عما لديهم، ولقد هلك في الحروب بين الكاثوليك وبين البروتستانت في أوروبا عشرات الملايين من الناس بسبب الخلاف حول مسائل لم يكن أكثر من هلك في الصراع يعلم عنها شيئا!
فالعلمانية كانت هي النظام اللازم ليتعايش الناس مع اختلافاتهم بشأن الأمور الدينية الغيبية وليس لإلغائها، وإذا كان ما لدى شتى الأديان والمذاهب الضالة قد تبدد أمام وهج العلمانية فلقد كان ذلك لما تتضمنه من ضلال ولفشلها في تلبية احتياجات الإنسان والحفاظ على حقوقه وكرامته، وهذا الأمر ينطبق على شتى المذاهب المحسوبة على الإسلام، بل لقد كان الفشل في الشرق أفدح وأسوأ من الفشل في الغرب، ذلك لأن الدين في الغرب كان ملزماً للناس كافة وعلى رأسهم ملوكهم، أما الدين في الشرق فمنذ أن تسلط على الأمة أهل البغي واستبدل سدنتهم لهم به المذاهب الأثرية السنية فقد أصبح في خدمة هذا المتسلط وطوع أمره وليس حاكما عليه، بل أصبح سيفا بيده يضرب به خصومه ويطيح برءوسهم!!
ولذلك ففي حين لم يتمكن عبيد الجهل والظلام في الغرب من التصدي لدعاة الإصلاح الذين بدأ انطلاقهم من النصوص الأصلية عندهم لدينهم فإن دعاة الإصلاح في الشرق وجدوا أن عبيد المذاهب الضالة يتصدون لهم باسم الدين –الذي هو في الحقيقة مذهبهم الشركي الضال- بكل ما له من سلطان على الناس، ولذلك ففي حين نجح دعاة الإصلاح في الغرب في تحقيق آمالهم ولو على المستوى الدنيوي فقط فلقد توقف التطور في الشرق على كافة الأصعدة باسم ما يظنون أنه الدين وحماية للدين فخسر التعساء في هذا الشرق دنياهم كما خسروا من قبل دينهم.
*******
إن المقصود بعلمانية الدين هو ذلك الجانب الذي يتضمن السمات المشتركة بين دين الحق وبين العلمانية على أن يؤخذ في الاعتبار الطبيعة الخاصة لكل منهما واختلاف الغايات والمقاصد، ولا يمكن أن يتحول دين الحق إلى علمانية، ذلك لأنه لا يمكن أن تتحول عنده الوسائل إلى مقاصد ولا أن يستبدل الفاني بالباقي.
*******
يقول بعضهم إن المسلمين ليسوا بحاجة إلى العلمانية لأنه لا توجد مشكلة لهم مع الدين، والحق هو أنه توجد لدى المسلمين مشاكل لا حصر لها مع المذاهب التي يتصورون أنها الدين، وعلى سبيل المثال فمنذ أن تجذر الدين الأعرابي الأموي في نفوس المسلمين فإن حضارتهم وأسباب قوتهم أخذت في الانهيار التراكمي السريع حتى أن بعض الهمج الرعاع المتخلفين القادمين من أوروبا تمكنوا من إلحاق هزائم مريرة بهم بدءا من القرن الخامس الهجري بينما كاد بعض همج أقاصي آسيا يستأصلون شأفتهم في القرن السابع، ولقد كان الإسلام يجتذب بسماحته بعض القبائل التركية مثلا في وسط آسيا ولكنهم بمجرد تمكن هذا المذهب منهم سرعان ما تتلاشي قوتهم ويتمزقون شر ممزق، ومن المعلوم أن الله تعالى لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم، إن المذاهب السائدة لا تملك بالفعل مناهج لتزكية النفس ولا لتوطيد صلة الإنسان بربه ولا للحفاظ على قوة الأمة ووحدتها، وهي باختصار قد استبعدت من الدين أركانه الجوهرية ومقاصده وألزمت الناس بالخضوع المطلق لكل من قهرهم بسيفه مهما جار وبغى وظلم طالما تركهم يصلون، إن الحالة التي وصل إليها المسلمون بسبب المذاهب التي فرقت دينهم ومزقتهم وقضت على أسباب قوتهم هي التي أغرت بهم أعداءهم وهي التي تحول بينهم وبين التقدم.
ومن المعلوم أيضا أن المذاهب الأثرية والسنية السائدة كانت دائما ألد أعداء العلوم الطبيعية والفلسفة والتفكير العلمي المنهجي الحر، وأنها تتفوق على مسيحية القرون الوسطى في أنها تمنع وجودهم أصلا وتتضمن كافة الآليات الكفيلة بالقضاء عليهم إذا ما وُجدوا رغم كل ذلك، ولذلك لم يُضطروا إلى حرق العلماء كما كان يحدث عند الأوروبيين الصادقين في إيمانهم أو كفرهم، والذين لا يعرفون النفاق الذي هو الخلق الأعظم المميز لهذه الأمة.
*******
إن العلمانية السليمة التي يرجى منها الخير هي التي تحمي الناس من شرور المتكسبين بالدين ومن يريدون التسلط باسم الدين ومن شرور المذاهب التي حلت محل الدين، وهي التي توفر للناس كافة حرية التفكر والتدبر وإعلان الآراء على الناس مع توفير الحماية للجميع من شر الجهلة والغوغاء والمهيجين والمتعصبين، أما المجرم المعتدي الأثيم فهو من يسعى إلى الحيلولة بين الدين وبين حياة الناس.
*******
إن العلمانية ليست بأي حال من الأحوال بديلاً عن الدين، ولا يمكن أن يندرج الأمران تحت نوع واحد أبدا، إن العلمانية مجرد نظام وآليات ومبادئ تسمح بالتعايش السلمي بين العقائد والأديان والمذاهب والاتجاهات في بلد واحد خاصة وأن كل عنصر من العناصر المذكورة يدعي أن لديه كل الحقيقة أو أنه الفرقة الناجية وأن كل الآخرين هالكون وضالون، فما هو البديل العملي الآن؟ إن أتباع المذهب السني السلفي مثلا يعتبرون أنفسهم يمثلون الإسلام أما الآخرون من أتباع المذاهب الإسلامية الأخرى بما فيها نفس المذهب السني فهم مبتدعة محدثون مارقون، أما أهل الكتاب فهم كفار يجب إلزامهم بأحكام الصغار، كما أنهم يؤمنون بأنه يجب قتال كل من لم يكن مثلهم من الدول الأخرى المجاورة دولة تلو أخرى حتى يسلموا أو تحتل بلادهم ويدفعوا الجزية عن يد وهم صاغرون ويتحولوا إلى أهل ذمة ويلزموا بأحكام الصغار أو يستمر القتال، أما من لم يكن مثلهم من المسلمين فإنه يستتاب وإلا فيجب قتله إذا ما أصر على البقاء على مذهبه البدعي، وهو بذلك في نظرهم أسوأ حالا من أهل الكتاب، وبالتالي فإن تسلط مثل هذا المذهب بكافة صوره يعني القضاء على كل المسلمين الآخرين وهم الأغلبية الساحقة في أي بلد تسلطوا عليه، فهل الإسلام الحقيقي يدعو إلى ذلك فعلاً؟ كلا بكل تأكيد، ولكنهم يؤمنون إيمانا لا يتزعزع بأن لديهم الإسلام الحقيقي، فالعلمانية هي النظام الوحيد الذي يمكن أن يحمي المسلمين وسائر البشرية من شر هؤلاء الهمج المجرمين المتوحشين، وهي التي ستوفر المجال للحوار وتبادل الآراء وإيجاد حالة من الرقي والحضارة تسمح للجميع بالتخلي عما يفرقهم والاهتداء إلى دين الحق والعمل به.
وعلى المسلمين في المجتمع العلماني أن يكونوا أمة واحدة، ولا يوجد في مجتمع كهذا ما يحول بينهم وبين ذلك، والنظام العلماني هو الذي يسمح بأن يتفق الجميع سلمياً على دستور أو ميثاق يحفظ للجميع حقوقهم ولا يسمح لطائفة بالعلو والتطاول على الآخرين لأسباب لا يعترف الآخرون بها أو لا يرون أنها مبرر لحرمانهم من حقوقهم، فالنظام العلماني يلزم الهندوسي الذي يعبد البقرة في الهند مثلاً بأن يحترم حقوق المسلم الذي يأكلها، ولا بديل الآن إلا حروب أهلية دموية ومجازر متبادلة، وفي العراق مثلاً لا يمكن أن يتعايش الشيعي الذي يتطاول على جل (الصحابة) مع السني الذي يكاد يتخذهم أربابا، ولا يمكن أن يتعايش العربي الذي يؤمن بتفوقه العنصري مع الكردي الذي يريد الأخذ بثاراته القديمة والاستقلال بوطن، فلا بديل لهم هناك عن نظام علماني حقيقي.
*******
إنه في العصر الحديث حيث لا مفر من وجود الدولة العلمانية يجب أن تتفق كافة طوائف الشعب على مرجعية واحدة تتضمن مجموعة من المبادئ المتسقة فيما بينها يمكن العودة إليها واستمداد القوانين وآليات التعامل منها وتتجسد في دستور يمثل ما هو متفق عليه من المبادئ.
*******
إن العلمانية الصحيحة تحترم الأديان والمذاهب، فهي لا تمنع الفرد إطلاقا من الإيمان بالله، ولا أن يعتنق دينًا معينا ولا أن يلتزم به، ولا أن يظهر ذلك أو يعلنه بطريقة أو بأخرى، بل إنها لا تمنعه حتى من الدعوة إلى دينه. كذلك توفر للفرد الحرية في تربية أطفاله حسب معتقده، فهي تبقى كل فرد حراً في الانتماء إلى دينٍ من اختياره، وهي تتصدى للإكراه في الدين وتحرمه، وهي لا تمنع الفرد من التعبير عن انتمائه هذا أمام الملأ، ما دام هذا التعبير لا يضر بحرية الآخرين ولا ينتهك القانون ولا يهدد النظام العام، وهي لا تمنع المؤمن من المشاركة في الحياة الجماعية التي تفرضها عليه صفته كمواطن، ولا تنال من حقوقه الأساسية بحجة انتمائه إلى دين معين، وعلى المجتمع الإسلامي في أية دولة أن يعمل على تحقيق مقاصد الدين بالقيام بأركان الدين على أن يحسن الموازنة بين الأمور وأن يعلم أنه غير مكلف إلا بما هو في وسعه.
والمسلم الذي لا يرى بديلا في الظروف الراهنة عن النظام العلماني حكمه حكم المضطر، وهو يؤمن إيمانا تاما بأن حكم الله هو الأحسن لقوم يؤمنون وبأن الحكم لله، فهذا المسلم هو أشرف وأفضل من سدنة ومؤسسي الدين السلفي الذين جعلوا من قواعد مذهبهم الخضوع المطلق لكل من قهر الأمة بسيفه وإن طغى وبغى وفسق وجار وأفسد في الأرض وألزموا كل مسلم بألا ينام إلا وهو يراه إماما عليه وإلا فإنه يكون قد خلع الربقة وفارق الملة، ويلاحظ أن كل طوائف الدين السني على اختلافهم حتى في أمور العقيدة قد أجمعوا على ذلك، وإلى هؤلاء هذا السؤال: لماذا يكون الولاء لمتسلط فاسق فاجر ظالم فاسد أمرا واجبا لا تجوز مخالفته لمجرد أنه يسمي نفسه خليفة يمكن أن تنعقد له البيعة بفردين في حين تحرم طاعة قائم بالأمر مسلم يحكم بالعدل ويقوم بالقسط ويحترم القانون وهو منتخب من أغلبية الناس لمجرد أنه يسمي نفسه رئيسا أو لأن نظام حكمه نظام علماني؟ سيقولون إنه يسمح بمظاهر الفسق في المجتمع ويسمح بتعاطي الخمور والاتجار بها ولا يطبق العقوبات الشرعية، ولكنكم أنتم الذين سمحتم بأن يكون المتسلط نفسه فاسقا جائرا فلم يحدث على مدى التاريخ أن حوكم خليفة أموي أو عباسي بسبب الجرائم الكبرى التي اقترفها في حق الدين أو في حق الأمة، ولقد عاش معظم الخلفاء العباسيين والأمويين يتقلبون في أوحال الدنيا ويفسدون في الأرض ويسفكون الدماء ولا يقتلهم أو يمثِّل بهم إلا عبيدهم وحرسهم، ومع ذلك فقد زعم شويخص من أئمة السنة -الذي ربما لا توجد كلمة في قاموس الشتائم تصلح لوصفه- أن الأصل في أفعال الإمام (أي الخليفة الأموي أو العباسي) العدالة، وعلى من يزعم خلاف ذلك أن يأتي ببينة، وكان ذلك في سياق دفاعه عن زعيم أهل البغي، لقد زعم هذا الشويخص لكل متسلط الإمامة وزعم له ما يفوق ما زعمه فرعون لنفسه.
*******
إن العلمانية الصحيحة لا تلزم المرء بدين أو بمذهب معين، ولا تلزمه بأن يكون ملحدا في حياته العامة ولا تتخذ من الإلحاد عقيدة رسمية للدولة، ولكنها تحكم بالعدل وتقوم بالقسط وتجعل الجميع متساوين أمام القانون، فلا يأخذ أحد حق غيره بسبب انتمائه الديني إلى عقيدة القائمين على الأمر أو الأغلبية من المواطنين، ولا يميز طائفة على باقي الطوائف بزعم أنها تعتنق الدين الصحيح، ولا يعطيها حقّ انتهاك حقوق الآخرين باسم هذا الزعم.
*******
سؤال:
كيف تنادي بتطبيق الشريعة وأيضا بتطبيق العلمانية؟
الشريعة التي ننادي بتطبيقها هي شريعة دين الحق، ودين الحق يملك أسمى منظومة قيم وقوانين عرفها الإنسان، وهو يقدس حقوق وكرامة الإنسان ويعتبره خليفة ومكرما ومفضلا، ومن مقاصده تزويد الناس بكل ما يلزم للتعايش السلمي فيما بينهم، وهو رحمة للعالمين، ومن البديهي أن دين الحق بريء من المذاهب التي حلَّت محله.
ولكن لأسباب عديدة سيجد هذا الدين مقاومة شرسة من أتباع شتى الأديان والمذاهب والاتجاهات، وخاصة من المذاهب التي حلت محله، وأقرب النظم التي تحقق مقاصده للناس هي النظام العلماني، وهو الذي يتيح للناس التعرف على دين الحق فيزول بذلك سبب من الأسباب التي تصدّ الناس عنه.
والنظام العلماني لا يتدخل في التشريعات التي تمس حرية الأفراد وأمورهم الشخصية، ولا يلزم المسلم باقتراف ما هو مخالف لدينه، أما المذاهب الدموية الإجرامية التي حلت محلّ الإسلام فهي تستبيح دم ومال المسلم الذي يخالفهم ولو في شيء بسيط من شركياتهم وكفرهم.
لذلك فالمنادة بالعلمانية هي عمل بقاعدة: درء الكوارث مقدم على جلب المنافع، فوجود الأديان الشركية الإقصائية الإجرامية التي حلت محل الإسلام هو سلسة كوارث ماحقة متعددة الأبعاد:
A chain of multidimensional disasters، Une chaîne de catastrophes multidimensionnelles.
ويجب العلم بأن دين الحق يتضمن نسقين من الأركان: أركان ملزمة للفرد، وأركان ملزمة لأمة المسلمين في حال وجودها وامتلاكها لمقدراتها، وهذه الأمة غير موجودة الآن، وإنما يوجد جماعات متناثرة لا تتبع إلا ما ألفت عليه آباءها، بل إنه من بعد أن قضى الأمويون على خير أمة أخرجت للناس وأسسوا المذهب الأموي لم تظهر أمة إسلامية كاملة أبدا، بل نشأت نظم إجرامية أفسدت في الأرض وأساءت إلى الإسلام وجلبوا الكوارث على المسلمين، ومازال المحسوبون على الإسلام يدفعون إلى الآن ثمن جرائمهم.
ولا يحق لفرد أن يعطي لنفسه حق الأمة على سائر الأفراد، وهو غير مكلف بصفة عامة بالأركان التي لا يمكن إلا لأمة أن تقوم بها، وعدم الإحاطة بذلك هو من الأمور التي استغلها شياطين الإنس والجن لتحريض المسلمين على إبادة بعضهم البعض.
*******
1