نظرات في المذاهب
55
التعارض
بالطبع لا يمكن أن يوجد أي تعارض في كتاب الله، ولا بين أي أقوال مستخلصة منه وفق منهج قرءاني صارم، أما قولهم بوجود تعارض فهو إقرار منهم بفساد مذاهبهم ومناهجهم.
وها هو ملخص لمسألة التعارض عندهم.
التعارض لغة: التقابل والتمانع.
واصطلاحًا: تقابل الدليلين بحيث يخالف أحدهما الآخر.
قالوا: ((وأقسام التعارض أربعة:
الأول: أن يكون بين دليلين عامين وله أربع حالات:
1 - أن يمكن الجمع بينهما بحيث يحمل كل منهما على حال لا يناقض الآخر فيها فيجب الجمع.
مثال ذلك: قوله تعالى لنبيه صلّى الله عليه وسلّم:
{وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} (الشورى: الآية52)
وقوله:
{إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} (القصص: الآية56)
والجمع بينهما أن الآية الأولى يراد بها هداية الدلالة إلى الحق وهذه ثابتة للرسول صلّى الله عليه وسلّم.
والآية الثانية يراد بها هداية التوفيق للعمل، وهذه بيد الله تعالى لا يملكها الرسول صلّى الله عليه وسلّم ولا غيره.
2 - فإن لم يمكن الجمع، فالمتأخر ناسخ إن علم التاريخ فيعمل به دون الأول.
مثال ذلك: قوله تعالى في الصيام:
(فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ)(البقرة: الآية184)
فهذه الآية تفيد التخيير بين الإطعام والصيام مع ترجيح الصيام، وقوله تعالى:
(فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَر) (البقرة: الآية185)
تفيد تعيين الصيام أداء في حق غير المريض والمسافر، وقضاءً في حقهما، لكنها متأخرة عن الأولى، فتكون ناسخة لها كما يدل على ذلك حديث سلمة بن الأكوع الثابت في "الصحيحين" وغيرهما.
3 - فإن لم يعلم التاريخ عمل بالراجح إن كان هناك مرجح.
مثال ذلك: قوله صلّى الله عليه وسلّم: "من مس ذكره فليتوضأ" وسئل صلّى الله عليه وسلّم عن الرجل يمس ذكره؛ أعليه الوضوء؟ قال: "لا إنما هو بضعة منك"، فيرجح الأول؛ لأنه أحوط، ولأنه أكثر طرقا، ومصححوه أكثر، ولأنه ناقل عن الأصل، ففيه زيادة علم.
4 - فإن لم يوجد مرجح وجب التوقف، ولا يوجد له مثال صحيح.
القسم الثاني: أن يكون التعارض بين خاصين، فله أربع حـالات أيـضًـــا:
1 - أن يمكن الجمع بينهما فيجب الجمع.
2 - فإن لم يمكن الجمع، فالثاني ناسخ إن علم التاريخ.
مثاله: قوله تعالى:
(يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ)(الأحزاب: الآية50)،
وقوله:
(لا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُن)(الأحزاب: الآية52)،
فالثانية ناسخة للأولى على أحد الأقوال.
3 - فإن لم يمكن النسخ عمل بالراجح إن كان هناك مرجح.
4 - فإن لم يوجد مرجح وجب التوقف، ولا يوجد له مثال صحيح.
القسم الثالث: أن يكون التعارض بين عام وخاص فيخصص العام بالخاص.
القسم الرابع: أن يكون التعارض بين نصين أحدهما أعم من الآخر من وجه وأخص من وجه، فله ثلاث حالات:
1 - أن يقوم دليل على تخصيص عموم أحدهما بالآخر فيخصص به.
مثاله: قوله تعالى:
(وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً)(البقرة: الآية234)،
وقوله:
(وَأُولاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ )(الطلاق: الآية4)
فالأولى خاصة في المتوفى عنها عامة في الحامل وغيرها . والثانية خاصة في الحامل عامة في المتوفى عنها، وغيرها لكن دل الدليل على تخصيص عموم الأولى بالثانية، وذلك أن سبيعة الأسلمية وضعت بعد وفاة زوجها بليال فأذن لها النبي صلّى الله عليه وسلّم أن تتزوج، وعلى هذا فتكون عدة الحامل إلى وضع الحمل سواء كانت متوفى عنها أم غيرها.
2 - وإن لم يقم دليل على تخصيص عموم أحدهما بالآخر عمل بالراجح.
مثال ذلك: قوله صلّى الله عليه وسلّم: "إذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يصلي ركعتين" وقوله: "لا صلاة بعد الصبح حتى تطلع الشمس، ولا صلاة بعد العصر حتى تغرب الشمس".
فالأول خاص في تحية المسجد عام في الوقت، والثاني خاص في الوقت عام في الصلاة، يشمل تحية المسجد وغيرها لكن الراجح تخصيص عموم الثاني بالأول، فتجوز تحية المسجد في الأوقات المنهي عن عموم الصلاة فيها، وإنما رجحنا ذلك لأن تخصيص عموم الثاني قد ثبت بغير تحية المسجد؛ كقضاء المفروضة وإعادة الجماعة؛ فضعف عمومه.
3 - وإن لم يقم دليل ولا مرجح لتخصيص عموم أحدهما بالثاني، وجب العمل بكل منهما فيما لا يتعارضان فيه، والتوقف في الصورة التي يتعارضان فيها.
لكن لا يمكن التعارض بين النصوص في نفس الأمر على وجه لا يمكن فيه الجمع، ولا النسخ، ولا الترجيح؛ لأن النصوص لا تتناقض، والرسول صلّى الله عليه وسلّم قد بيّن وبلّغ، ولكن قد يقع ذلك بحسب نظر المجتهد لقصوره)).
إنه بعد هذه الصولات والجولات والتي هي تحت عنوان التعارض يقولون: لكن لا يمكن التعارض بين النصوص في نفس الأمر على وجه لا يمكن فيه الجمع، ولا النسخ، ولا الترجيح؛ لأن النصوص لا تتناقض، والرسول صلّى الله عليه وسلّم قد بيّن وبلّغ، ولكن قد يقع ذلك بحسب نظر المجتهد لقصوره
هذه الخلاصة تكشف أهمية موضوع النسخ عندهم، فهو وسيلتهم للتغلب على ما يتوهمونه من تعارض بين آيات القرءان، الذي هم مطالبون بالإيمان بأنه كِتَابٌ عَزِيزٌ، لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ.
وكان خيرًا لهم أن يسلموا أصلًا بأنه لا باطل في القرءان، وأن الآيات التي تتحدث عن مسألةٍ ما متسقة ومتكاملة، فمشكلتهم أنهم يقتطعون الآية، وربما جزءًا من آية، من كافة سياقاتها، ثم يفسرونها، فيكتشفون أن تفسيرهم لها يتعارض مع تفسيرهم لآية أخرى، وأسهل حل لهذا الإشكال عندهم أن يهرعوا على القول بالنسخ.
وقولهم "فإن لم يمكن الجمع، فالثاني ناسخ إن عُلِم التاريخ" هو إقرار بوجود تعارض، أي اختلاف، بين الآيات لم يمكنهم دفعه، وفي ذلك تكذيب بما ذكره الله تعالى في كتابه.
وقولهم "إن عُلِم التاريخ" إقرار بأنه لا مشكلة عندهم في إخضاع آيات القرءان للآثار الظنية.
إن الأخذ بالمنهج القرءاني يجتث القول بوجود اختلاف في القرءان من جذوره، ويجتث معه قولهم بوجود آيات قرءانية منسوخة
1