منظومة القيم الإسلامية
سورة المسد
سورة المسد
تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ{1} مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ{2} سَيَصْلَى نَاراً ذَاتَ لَهَبٍ{3} وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ{4} فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِّن مَّسَدٍ{5}
إن أبا لهب كان عم النبيصَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآله وسَلَّمَ ومع ذلك كان أول من تصدى للدعوة الإسلامية والداعي إليها وانحاز إلى أعدائها، هذا مع أنه كان من الأولى له أن يكون أول من يؤازرها هو ومشايخ بني هاشم، ولكن أحدا منهم لم يسارع إلى الإيمان، ولقد كان في ذلك دحض لمزاعم من سيقول من بعد إن أمر الرسالة هو حيلة دبرها بنو هاشم لاستعادة سلطانهم على قريش وتحدي نفوذ الأمويين، ورغم ذلك قالها القرشيون وعملوا على التصدي للعترة النبوية حتى يظل الأمر –كما كانوا يتمنون- دولة بين بطون قريش، ولكن الذي حدث أنه صار حكرا على الأمويين آخر من أسلم وأول من بدَّل وغيَّر وتآمر وانقلب على عقبيه.
ولقد قُضي على أبى لهب –دونما إكراه- بالهلاك والخسران المبين فلم يغن عنه ماله شيئا ولا ما كسب، فسورة اللهب تبين شيئا عن علم الله السابق وتقديره للأمور، إنه كان لأبى اللهب الإرادة والاختيار وأُمهل ما يربو على أربعة عشر عاما عله يثوب إلى رشده، فهو لم يُجبَر ولم يُكره على ما اختاره من ضلال وكفر، ولكنه أتى أمرًا إدًّا ارتدت عليه آثاره فطُبِع على قلبه.
والله سبحانه كان يعلم مسبقا بعاقبة أمر أبى لهب، ولم يستطع مخلوق أن يغير شيئًا من هذا الأمر.
إنه ثمة أعمال تؤدي إلى عواقب وخيمة وتغيِّر مجرى الأحداث تغييرا حاسما في اتجاه يسبب الأذى والشقاء للناس، وتسبب أيضا بالضرورة عواقب وخيمة على من اقترف شيئا من هذه الأعمال، فقد تجلب عليه شقاء الأبد، ومن ذلك ما أقدم عليه أبو لهب عندما جمع الرسول الناس ليدعوهم إلى الله، وقد رووا أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ خرج إلى البطحاء، فصعد الجبل فنادى:" يا صباحاه " فاجتمعت إليه قريش، فقال: أرأيتم إن حدثتكم أن العدو مصبحكم أو ممسيكم؟ أكنتم مصدقي؟ قالوا: نعم، قال: " فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد"، فقال أبو لهب: "تبَّا لك سائر اليوم! ألهذا جمعتنا ألهذا جمعتنا؟ تبا لك"، فأنزل الله السورة.
هذا العمل من أبي لهب غلب على الناس على أمرهم، ولم يترك لهم المجال الكافي ليتفكروا أو ليطلبوا مزيدا من العلم عن هذا النبأ الجديد، ومن المعلوم أن المبادرات في التجمعات البشرية تحدث نوعا من التأثير الجماعي الرهيب على الناس ولا تترك لهم مجالا للتفكير السليم، ومؤججو الفتن يعلمون ذلك جيدا ويعملون دائما على حشد الناس ثم استغلال سيكولوجيات التأثير على الحشود.
فقد كان تطاول أبى لهب على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ والذي أدى إلى إحباط مسعاه لهداية الناس عندما جمعهم كان العمل الذي بسببه وبسبب آثاره انتهى أمر أبى لهب وقُضي عليه بالخسران المبين، فلقد خُتم على قلبه بسبب هذا العمل، ومن كل ذلك يتضح أن قرابة أبى لهب للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ لم تشفع له ولم تغن عنه من الله شيئا، وليس في ذلك أدنى مساس بقدر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بل إن من دلائل عظمة قدره خضوعه التام لربه وقيامه بحقوق أسمائه واحترامه لقوانينه وسننه، ولقد حقق أعظم النجاح مع التزامه التام بذلك النسق الحاكم على عالم الشهادة، ولم يلجأ إلى استعمال خوارق العادات لإثبات صدق رسالته، ولم يطلب إنزال آية من السماء تظل أعناقهم لها خاضعين، بل جاهدهم بما هو مألوف من الوسائل المادية وبما أنزل الله عليه من آيات الكتاب إلى أن تحقق له النصر التام والفتح المبين، ولم يحمل آل بيته على رقاب الناس، ولم يخصهم بأي نفع مادي، بل كان يدافع بهم عن المسلمين، وكان الثلاثة الذين خاطروا بالتصدي لأبطال قريش في بدر من أقربائه ولقد استشهد أحدهم وحمل الاثنان الآخران عبء المعركة، واستشهد أحدهما وهو عمه حمزة في موقعة أحد، وكان اللذان قادا الجيش الذي تصدى لجحافل الروم في مؤتة ابن عمه جعفر وزيد الذي كان بمثابة ابنه قبل تحريم التبني واستشهد الاثنان في المعركة.
***
إن سورة اللهب نبأت الناس بأمر لم يستطع أحدٌ له دفعا، ففي حين أنه قد أسلم في النهاية من كانوا أشد عداء للرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من أبى لهب وأمعن في الكيد للإسلام كأبي سفيان بن حرب فإن أبا لهب لم يؤمن مع أن عزَّ ابن أخيه كان عزا له وكان له كهاشمي أن يفخر به.
والإعجاز البلاغي جلي في قوله تعالى: {مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ}، وتلك الآية تحدد مصير كل ثرى متكبر لا يريد الإذعان للحق وكذلك مصير الدول الثرية المتغطرسة، أنظر كذلك إلى الجلال الذي يشع من قوله تعالى: {سَيَصْلَى نَاراً ذَاتَ لَهَبٍ} وإلى الثقة المطلقة الهائلة التي لا تصدر إلا من عزيز مقتدر عليم بكل شيء مطلع على حقيقة ومآل كل أمر.
وسيظل كل تالٍ لتلك السورة يدرك أن الرسالة لم تكن تدبيرا من بنى هاشم لبسط سيطرتهم على مكة وسيدرك أيضا أن القرابة من الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ لم تغن شيئا عمن أصرَّ على الكفر أو الضلال، لذلك فلن يهوله أن يرى بعض مدعي الانتساب إلى الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَالآن وقد اتبعوا غير سبيل المؤمنين أو تحالفوا مع أعداء الإسلام ضده وضد المسلمين.
لقد عمل أبو لهب على إحباط سعى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ وبادره بقوله (تبا لك ألهذا جمعتنا) فتسبب في تفرق الجمع فضلَّ وأضلَّ حيث كان شيخا كبيرا له قدره في قريش في مجتمع يقدس شيوخه، كما أنه لعظم قدر الرسول تكون فداحة ضلال وسوء عاقبة من عمل على إبطال سعيه ومقاومة رسالته.
وإذا كان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ قد أبي أن يجعل الأمر في بني هاشم لعلمه بقوانين الله وسننه فإنه لم يجعله بالأحرى في قريش أو كنانة أو في غيرها من القبائل كما حاول واضعو المرويات لحساب طواغيت الأمويين والعباسيين أن يوهموا الناس من بعد وأن يلبسوا عليهم أمور دينهم، ولقد تنبأ بأن الأمر سيبقي في قريش ما أقاموا الدين فإن أخلوا بهذا الشرط فسينزع منهم الأمر، كما تنبأ بأن هلاك أمته سيكون على أيدي أغيلمة سفهاء من قريش، ومع ذلك جاء من رجال الكهنوت من جعل حصر ولاية الأمر في قريش اصلا من أصول الدين وسنة من سنن الوجود، أما الشافعي فلقد تفوق على الجميع عندما قال إن لم يوجد قرشي لولاية الأمر فليعتبر الأقرب فالأقرب !!
ومن محدثات أعداء الإسلام والملحدين الجدد قولهم: "ولماذا يشغل ربكم نفسه بأمر شخص كافر؟ ولماذا بدلا من أن ينشغل بتهديده لم يقض عليه؟"
والحق هو أن الله تعالى لا يفعل إلا ما اقتضته أسماؤه التي هي لوازم ذاته، وهي التي اقتضت سننه التي أعلنها في كتابه، لقد جعل الإنسان مخيرا في أمر الكفر والإيمان، وأعلن في كتابه أن استعمال آيات مادية لحمل الناس على الإيمان قد تم نسخه، ولذلك قال:
{إِن نَّشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِم مِّن السَّمَاء آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ}الشعراء4، {وَيَقُولُونَ لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلّهِ فَانْتَظِرُواْ إِنِّي مَعَكُم مِّنَ الْمُنتَظِرِينَ}يونس20، {وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ}الرعد7، {وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ قُلْ إِنَّ اللّهَ يُضِلُّ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ}الرعد27، {وَقَالُوا لَوْلَا أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِّن رَّبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِندَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُّبِينٌ}العنكبوت50
فلو قُضى على أبي لهب بعد تصديه الصارخ والصادم للدعوة لكانت لهم آية تحتم إما أن يؤمنوا وإما أن يعذبوا عذابًا شديدا إن لم يؤمنوا، فتلك هي السنة فيمن رفض الإيمان بعد رؤية الآية البينة، قال تعالى:
{قَالَ اللّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَن يَكْفُرْ بَعْدُ مِنكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَاباً لاَّ أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِّنَ الْعَالَمِينَ} المائدة 115.
وقلما آمن قوم مهما رأوا من آيات، قال تعالى:
{وَإِن يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُّسْتَمِرٌّ} القمر2، {وَمَا مَنَعَنَا أَن نُّرْسِلَ بِالآيَاتِ إِلاَّ أَن كَذَّبَ بِهَا الأَوَّلُونَ وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُواْ بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِالآيَاتِ إِلاَّ تَخْوِيفا}الإسراء59، {فَلَمَّا جَاءتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ }النمل13.
فيكفي المؤمنين الآن أن يعلموا الأمر كما حدث وأن يأخذوا العبرة مما تحقق، ولقد هلك أبو لهب ولم يعد أحد يذكره إلا داعيا عليه رغم أنه كان من الذؤابة العليا من قريش في حين علا شأن كل من أسلم من أهل القرن الأول ولو كانوا عبيدا أو كانوا من أذل أفرع قريش!
والسورة تؤكد الحقائق المذكورة في القرءان والتي يفضل الناس عادة الإعراض عنها لشتى الأسباب، هذه الحقائق مذكورة في آيات بينات محكمات منها:
{فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلاَ أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلاَ يَتَسَاءلُون} [المؤمنون:101]، {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَاِمْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلاَ النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِين} [التحريم:10]، {وَاتَّقُواْ يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُون} [البقرة:281]، {فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لاَّ رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُون}[آل عمران:25]، {وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَغُلَّ وَمَن يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُون}[آل عمران:161]، {إِنَّ اللّهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِن لَّدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء:40]، {يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن نَّفْسِهَا وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُون}[النحل:111]، {وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُون} [الجاثية:22]، {يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ (88) إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (89)} الشعراء
*******
عندما يظهر نبي أو وارث نبي أو مجدد ويبدأ عمله بين الناس فإن تأثير أول من يتصدون له ويحاولون إحباط عمله يكون شديدا، لذلك يُعاقب هؤلاء عقابًا أليما، وقد يحق القول عليهم فيفقدون فرصتهم للنجاة إلى الأبد مثلما حدث لأبي لهب، ولا يبادر بالتصدي لصفوة الله تعالى من خلقه إلا من تلبسه شيطان مريد وتمكن من توريطه في أمر كهذا، وهو لم يتلبسه مثل هذا الشيطان إلا لسوء عمله وخبث طويته، فهو المتسبب الأصلي لما حاق به.
*******
ما هو الإثم الأكبر الذي استحق به أبو لهب أن يُحكم عليه حكمًا باتًّا، وأن يُبشر بنارٍ ذات لهب، رغم أنه كان مقدرا أنه سيعيش بعد ذلك مدة طويلة، وكان من الممكن أن يسلم كما أسلم من كانوا شرًا منه؟
الإثم الأكبر أنه اندفع وصرخ بعبارة أضلّ بها نفسه وغيره، وتسبب في تغيير مجرى تاريخ الدعوة، ولو تمهل قليلا وتدبر أمره لنجا من هذا المصير، فالتصرف الذي يؤدي إلى إضلال أمة وخيم العاقبة.
ويقول بعض الكافرين والمتشككين: "ولماذا يدعو عليه ربكم؟ إنه مجرد مخلوقٍ من مخلوقاته! ألم يكن يستطيع أن يقضي عليه لتوِّه؟!"
هؤلاء يريدون ربًّا سريع الغضب، يخالف سمات نفسه ويستخفه فعله!!!
والحقّ هو ما يلي:
1. الله تعالى غني عن العالمين.
2. الله تعالى حليم، فلا يسرع إليه غضب بالمفهوم البشري.
3. الله تعالى لو شاء لآمن الناس جميعًا، ولكنه خلق الإنسان ذا إرادة حرة واختيار، وهو يعامله وفق ما خلقه.
4. الله تعالى لم يشأ أن ينزل عليهم آية تخضع لها أَعْنَاقُهُمْ.
5. هناك من سيصر على الكفر حتى إن رأى الآيات المبهرة، فمثل ذلك سيضاعف عليه العذاب أضعافا مضاعفة، فعدم نزول الآيات المبهرة هو رحمة به.
*******
1