نظرات ونظريات في اللغة العربية
ناظر المدرسة واللفظ المشكِّك
ناظر المدرسة واللفظ المشكِّك
جاء أحدهم إلى حضرة الناظر بقطعتين من الثلج والعاج، وقال له:
هل لفظ البياض مُتَوَاطِئٌ نَظَرًا إلَى جِهَةِ اشْتِرَاكِ هاتين القطعتين فِي أَصْلِ الْمَعْنَى، وهو البياض، أَوْ غَيْرُ مُتَوَاطِئٍ نَظَرًا إلَى جِهَةِ الِاخْتِلَافِ؟ فالبياض مختلف فيهما!
أُخِذ الناظر! شعر وكأن مطرقة هوت على رأسه، أخذ ينظر إلى القطعتين بذهول، لم يستطع أن يرد، لم يعد يرى من يقف أمامه، أشفق عليه السائل، تركه وانصرف.
مزقت الحيرة حضرة الناظر، حتى امتنع عن الطعام والشراب، هزل جسمه ووهن عظمه وأثقله طول التفكير في هذا الأمر الجلل.
اعتاد أن يقف كل يوم، ثم كل ساعة، أمام القطعتين من الثلج والعاج، ثم يقلب النظر بينهما، صارخًا: متواطئ؟ بل مختلف! متواطئ؟ بل مختلف! ..... الخ.
رآه ابنه، الطالب في المرحلة الثانوية، في حيرته هذه فقال له:
- ما بك يا أبي؟
- إنني يا بنيّ في حيرة من أمر البياض في هاتين القطعتين!
- ولماذا؟
- هل لفظ البياض مُتَوَاطِئٌ نَظَرًا إلَى جِهَةِ اشْتِرَاكِ هاتين القطعتين فِي أَصْلِ الْمَعْنَى، وهو البياض، أَوْ غَيْرُ مُتَوَاطِئٍ نَظَرًا إلَى جِهَةِ الِاخْتِلَافِ، فالبياض مختلف فيهما!
- هل شجارك المستمر مع أمي أثَّر عليك يا والدي؟
- إنني جادّ يا ولدي، بل إن الشك المستمر في هذا الأمر، الذي شككني باعتباري ناظرا لا يًشق له غبار، هو من أسباب شجاري المستمر مع أمك، فكلما طرحت عليها هذا السؤال تأخذ في السخرية مني، فأجد نفسي مضطرا إلى إسكاتها بلكمة خطافية سريعة في فكها الأيمن متبوعة بلكمة مباشرة قوية في فكها الأيسر.
شعر الولد وكأن اللكمتين نزلتا على فكيه هو، فتحسسهما في حركة لا شعورية، ثم قال، وهو يرتجف
- ولماذا كل ذلك؟
- حتى تتفهم مدى خطورة الأمر!
- الذي أعلمه يا والدي أنه، كما نرى معًا، الثلج أشد بياضًا من العاج، وهذا ما يمكن قوله، فلا توجد أي مشكلة أو داعٍ للشك!
- حقًّا؟
- نعم، والمهم معرفة السبب العلمي لهذا الاختلاف
- وهل عرفوه؟
- نعم، نعم، درسناه في الفيزياء، هو طبيعة المادة التي تسبب انعكاس الضوء ووصوله إلى أعيننا، فكل مادة تختلف عن الأخرى في قدرتها على امتصاص الضوء وامتصاص أو عكس الموجات المكونة له.
- فما هو البياض؟
- لا يوجد في الطبيعة شيء اسمه البياض يمكن الإمساك به، هناك مواد تعكس كل ألوان الطيف إلى أعيننا، فيقوم المخ بالاشتراك مع الجهاز البشري بترجمة هذا الإحساس في صورة اللون الأبيض، فلا وجود له إلا في أذهاننا.
- جميل، جميل، هذا ما نسميه صورة ذهنية، ولكن كل ذلك ليس بإجابة شافية عن السؤال
- ذكِّرني به
- هل الأبيض في القطعتين متواطئ لوحدة الحقيقة فيه، أو مشترك لما بينهما من التفاوت؟
- نعم؟
- متواطئ أو مشترك؟؟!! متواطئ أو مشترك؟؟! متواطئ أو مشترك؟؟! متواطئ أو مشترك؟؟!
لمح الولد يد أبيه الفولاذية تشرع في الحركة، أدرك بسرعة حقيقة الأمر، أطلق ساقيه للريح، وهو يصرخ: أدركيني يا أماااااه!!!
اشتد الحال بالناظر حتى أنه كان يصرخ في وجه كل من لقيه: متواطئ أم مشترك؟
قضى نحبه وهو يردد: أنا الناظر المشكَّك، متواطئ أم مشترك؟!
ومن هنا أطلقوا على الألفاظ الكلية مثل الأبيض مشكِّك لأنه شكك الناظر في المسألة، تخليدًا لذكرى هذا الناظر المُشكَّك، أما الناظر نفسه فقد أطلقوا عليه "الناظر الذي شككه لفظ الأبيض".
والصياغة الكاملة لهذه الحقيقة الخطيرة هي كما يلي:
واللفظ الكلي هو مُشَكِّكٌ إنْ تَفَاوَتَ مَعْنَاهُ فِي أَفْرَادِهِ بِالشِّدَّةِ أَوْ التَّقَدُّمِ كَالْبَيَاضِ فَإِنَّ مَعْنَاهُ فِي الثَّلْجِ أَشَدُّ مِنْهُ فِي الْعَاجِ، وَالْوُجُودِ فَإِنَّ مَعْنَاهُ فِي الْوَاجِبِ قَبْلَهُ فِي الْمُمْكِنِ، وقد سُمِّيَ مُشَكِّكًا لِتَشْكِيكِهِ النَّاظِرَ فِيهِ فِي أَنَّهُ مُتَوَاطِئٌ نَظَرًا إلَى جِهَةِ اشْتِرَاكِ الْأَفْرَادِ فِي أَصْلِ الْمَعْنَى، أَوْ غَيْرُ مُتَوَاطِئٍ نَظَرًا إلَى جِهَةِ الِاخْتِلَافِ".
وهكذا تم تخليد ذكرى الناظر ما بقي دارس للغة العربية.
جاء من بعده من قالوا: "ونحن نشك أيضًا في النور، فإنه يطلق على الشمس والسراج، ولا يخفى ما بينهما من التفاوت، فهل هو متواطئ لوحدة الحقيقة فيه، أو مشترك لما بينهما من التفاوت؟
ثم جاء آخرون وقالوا: الوجود أيضًا مشكِّك، فواجب الوجود يختلف عن ممكن الوجود لأنه يتقدمه.
قيل لهم: لقد سبقكم حضرة الناظر!
*******
1