ثورة يناير (مجموعة قصصية)
يحيى الوطني 4
أيقن أن السعيد هو من أفلح في إقامة صلة بربه وتوطيدها، وأن الشقي التعس هو من لم يحاول معرفة ربه، أما المحروم فهو من لم يذق حلاوة حبه ولم ينعم ولو للحظة بالإحساس بقربه.
الآن عرف الطريق، صار شغله الشاغل كيف يقوِّي صلته بربه، تلك الصلة هي جوهر الدين ولبه، صار التزكي والذكر بالنسبة له كل الدين، إنهما مقاصد ووسائل في الوقت ذاته، أخذ يذكر الله قائمًا وقاعدا وعلى جنبه، عقد عزمه على ألا يغفل عنه ما استطاع إلى ذلك سبيلا، أخذ يتزكى بذلك ويجني ثمار ذلك، أخذ يدرك حقيقة أن ربه أقرب إليه من نفسه، أفزعه ذلك، وارتجف له كيانه.
أكسبه كل ذلك نورا في وجهه وبريقًا لا يخفى في عينيه، أصبح له في قلوب كل من يلقاه ودًّا، كان كل من يتعامل معه يردد في نفسه: كلا، لا يمكن أن يكون هذا من البشر، إنه ملك كريم، إنه ليس من هذا العالم، كان من يراه وسط جمع من زملائه يقول لأول وهلة: إن هذا بالتأكيد ليس منكم.
اشتد صفاء نفسه وشفافيتها حتى وكأن جسمه صار عبئا عليها، اشتد مقته للصفات الذميمة، كان يؤذيه أي صوتٍ مرتفع، ويرتجف عندما يسمع كلاما بذيئا، كان أشد حياء من العذارى الطاهرات، كان يكره الظلم والطغيان والفساد والكذب والتهالك على الدنيا بكيانه كله، كان يشمئز من هؤلاء الطلبة الذين يريدون إثبات رجولتهم بالوقاحة والغلظة وسوء الخلق والسلوك المقزز وتبادل الشتائم البذيئة وسبّ الدين، كان أخشى ما يخشاه أن يمسه نصيب منها، كان ينقصه القدرة على التكيف مع الواقع، ربما هو مصمم ليكون كذلك، لم تفلح أية جهود لجعله يتقبل ما يسمى بالأمر الواقع، لقد كان رغم كيانه النحيل المتهافت صلبًا في كل ما يتعلق بالأخلاق والمبادئ.
أدرك أنه في سعيه الدؤوب نحو الفلاح والكمال فإن عدوه الأكبر هو نفسه، شن عليها حربًا بلا هوادة ولا رحمة أذاقها فيه ما الموت أيسر بعضه، كان كلما استعصى عليه أمر نفسه استعان عليها بتذكر ما يعرفه من سمات ربه.
نتيجة لذلك ونتيجة لمعاناته اليومية مع الناس بدأت تنابه حالات نفسية من الاضطراب الوجداني والحواز والوسواس القهري والهلاوس أثارت قلق ثم رعب والديه، كان يكرر الوضوء حتى تبتل أكثر ملابسه، كان يصلى الصلاة ويعيدها عدة مرات، كان يخشى التلفظ بأي قول، آثر الصمت ثم الصمت، كان يُرى مبتهجًا ثم يكتئب فجأة بدون سبب ظاهر، كان ربما قضى كل ليله واقفًا بدون حركة فوق سطح المنزل أو على شاطئ النيل في ليل قارس البرد، ربما ظل سائرا على شاطئ البحر في الإسكندرية رغم البرد والمطر إلى أبعد ما يستطيع، كانت الآلام هي السياط التي تسوقه سوقا إلى سعده، كانت الآمال هي التي تحدوه في سعيه نحو تحقيق مجده، لكم تلقى من لطمات مذلة، ولكم تهاوى في الطريق، ولكنه لم ييأس أبدًا من روح ربه.
كانت أفعاله تبدو غريبة فوضوية غير مفهومة، كان يبدو وكأنه يسير وفق برنامج داخلي خاصٍّ به لا صلة له بالعالم الواقعي، أليس هذا هو الجنون بعينه؟ بذلك أيقن تقريبًا كل من عرفوه أو بالأحرى لم يعرفوه!
ولكنه كان دائمًا شديد التمسك بما يعرفه من القيم والأخلاق الدينية، لكم بدا زاهدًا فيما يتقاتل الناس ويتفانون لأجله، لكم أرَّقه السعي نحو الكمال، لكم سهر الليالي متطلعا إلى الغيب المطلق، لكم بلل موضع سجوده بدموع عينيه، لكم أضاع ما هو ميسر وممكن في سبيل المستحيل.
لكم تألَّم وعانى في صمت، حتى فاجأته اللحظة السعيدة، ها قد وصل إلى المرفأ المقدس، يا لها من لحظة لا مثيل لها، لحظة لا يمكن لبيان أن يوفيها حقها، إنها الفرحة التي تنبع من أعماق الأعماق ليفيض على كيانه كله، خُيِّل إليه عندها أنه لم يكن من قبل حيًّا.
رأي كل ما كان يحول بينه وبين ربه كظلمات في بحر لجي يغشاه موج من فوقه موج، أو كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماءً حتى إذا جاءه لم يجده شيئا، وجد نفسه خارجا لتوه من نيران الجحيم، خاف أن يعود إليها، نودي أنه قد وردها الورود المقدر عليه وأنه قد آن الأوان لتطمئن نفسه وليفرح وليبتهج قلبه.
أخذ يعرج إلى حيث لا حيث وأضواء باهرة تلوح له وروائح عطرة تسكره وحور عين يهتفن باسمه وأنغام عذبة تملأ الأرجاء وسمعه، ولكنه لم يحد أبدًا عن مطلبه الأسمى، ما زاغ شيء من حواسه وما طغى، وجد ربه فوفاه حسابه، ها هو ذا يجد نفسه أمامه، سمع النداء الحلو: "إن الله يحبك، فهل تحبه كما يحبك؟" سجدت له كل ذرة من كيانه، شدت باسمه وسبحت بحمده، عرف حقيقة نفسه.
فرح به عالمه الصغير وابتهج به ومعه، أحس بأن كل ما في غرفته التي طالما عانى فيها يهنئه، رأي كل ما في العالم الكبير يبارك له ويرنو بحب إليه ويشدو فرحًا به!
ها هي نفس فريدة مطمئنة قد تخلصت من كل التناقضات ومن أسر المفرغ من الحلقات، وعبرت بسلام بحر الظلمات ورجعت إلى ربها راضية مرضية، عندها أدرك أن شيئا من معاناته الطويلة وحيرته المؤرقة وسهاده المعذب وعذابه الأليم وجهوده المضنية لم يكن سدى ولم يذهب هباء، عرف أنه ما ضاع منه شيء بل وجد كل شيء، وفاز بكل شيء.
ولكن ماذا عن الناس؟ رأى كلا منهم يخوض في جهنمه الخاصة به في طريقه المنظور فيه في كل وقت وحين، ولكنه رأى كل الطرق مؤدية بهم إلى ربهم وإن طال المدى وبعُد الطريق واستلزم ما لا نهاية له من الدهور، إن عالمهم كله ساعٍ إلى ربه دائر في فلكه، نُودِي: "وأن إلى ربك المنتهى، ما خلقتهم عبثا ولن أتركهم سدى، كلهم عبادي، خلقتهم لأحقق بهم مقاصدي ومرادي".
أدركَ وعاينَ أن الله هو الحق، وأن كل شيء ما خلاه باطل، وأن الله هو العليّ الكبير، وأنه قيوم كل شيء، رأى كل الكيانات تسبِّح بحمده وتعمل بأمره ويسكرها حبه، لاح له معنى أنه هو الذي على العرش استوى، تلاشى في نظره كل أمر دنيوي وصار محض العدم، أصبح العالم عنده معرضا يطالع فيه آيات الله.
لم يلحظ أقرب الناس إليه أي تغير في كيانه أو في أي أمر من أموره، لقد كان دائمًا كتوما صامتا، كان يحيا دائمًا في عالمه الخاص المكون من الغيبيات والمعاني والأفكار والتصورات والسمات وما هو مجرد من الكيانات.
كان ذكاؤه المعهود هو في التعامل مع هذه الكيانات، كانت كل التغيرات الجوهرية الكبرى والمزلزلة تحدث في أعماقه ولا يظهر منها إلا النزر اليسير على صفحة ذاته، أما في تعاملاته الأخرى فلقد ظل دائمًا مثالًا للحياء والطيبة بل والسذاجة.
كان الإسلام والعروبة ومصر من تلك الكيانات التي تشغل درجة عالية في عالمه المشار إليه، لم يكن العالم الواقعي يشغله كثيرا، كان ينظر إلى أمور تلك الدنيا التي تشغل كل الناس كأمور يجب الانتهاء منها بأسرع ما يمكن وبأقل قدر من الخسائر ليعود توًّا إلى عالمه.
لم يكن لأحد ممن يعرفه أن يفرط في الحديث عن جزئيات الحياة اليومية في حضرته وإلا لتفلت منه أو لصرفه بجفاء عنه، أما من يريد أن يجذب انتباهه فعليه أن يذكر كيانًا من كيانات عالمه كالعروبة أو مصر مثلا، عندها كانت المعلومات والآراء تتدفق من فمه كنهر فائض، لذلك لم تشغله أموره الشخصية عن الانشغال بالشأن العام طالما تعلق بكيان من تلك الكيانات.
كان بطبعه أميل إلى الدراسات الفلسفية والأدبية، التحق بكلية الآداب، تخصص في دراسة التاريخ الذي كان يعشقه، كان يريد الانتفاع من معرفته السابقة بالتاريخ ليوفر أكبر قدر من وقته لأموره الخاصة، تعمقت معرفته بالتاريخ ولكن كل ذلك لم يغير شيئا من آرائه وقناعاته الأولية الخاصة بمصر ومستقبلها، وإنما زادها عمقا وثراء، كانت الأساسات والجذور والهياكل العامة راسخة عنده، وكانت كل معلومة جديدة تأخذ مكانها بسلاسة في بنيانها القائم في نفسه، فكان من السهل أن يستدعيها كلما احتاجها.
أما غيره فقد كان يعلم أنهم أشبه بأرض لا تمسك ماءً، فهما أفيض عليهم من المعلومات فإنها سرعان ما تضيع وتتبدد.
سرعان ما وجد من بين زملائه من يتفق معه تماما في قناعاته، لم يتمخض ذلك عن تنسيقٍ ما فيما بينهم وبينه، كان دائما أعجز من أن يقيم علاقة مع الآخرين إلا إذا كان ثمة إلحاح شديد منهم هم.
1