نظرات في المذاهب
49
شروط الأخذ بمفهوم المخالفة2
3. مفهوم الشرط
مفهوم الشرط هو ثبوت نقيض الحكم المقيد بشرط عند عدم هذا الشرط.
تعريف الشرط عند المتكلمين: "ما يتوقف عليه المشروط ولا يكون داخلا في المشروط ولا مؤثرا فيه".
أما عند النحاة فالشرط هو "ما دخل عليه أحد الحرفين (إن) أو (إذا) أو ما تقوم مقامها مما يدل على سببية الأول، ومسببية الثاني". والشرط اللغوي هو المقصود هنا، وبالتالي يكون تعريف هذا المفهوم بأنه: "دلالة اللفظ المفيد لحكم معلق على شرط ثبوت نقيض ذلك الحكم في السكوت عنه عند عدم الشرط".
فالمراد هنا هو الشرط النحويُّ، لا الشرط الشرعي ولا العقلي، والشرط النحوي: ما دخل عليه أحد الحرفَين: (إن) أو (إذا)، أو ما يقوم مقامهما مما يدلُّ على سببية الأول في الثاني، ومِن أمثلة ذلك: قوله تعالى:
{وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنفِقُوا عَلَيْهِنَّ} [الطلاق:6] ،
يُفهم منه أن غير الحوامل لا نفقةَ لهنَّ.
نقول: الآية الكاملة هي:
{أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنتُم مِّن وُجْدِكُمْ وَلاَ تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِن كُنَّ أُولاَتِ حَمْلٍ فَأَنفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُم بِمَعْرُوفٍ وَإِن تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى} [الطلاق:6]
يقولون: "تدل الآية بمنطوقها على وجوب نفقة العدة للمطلقة طلاقا بائنا إذا كانت حاملا، وتدل بمفهومها المخالف على عدم وجوب النفقة للمعتدة غير الحامل، والمفهوم المخالف في الآية: مفهوم الشرط أن الحكم فيها مرتب على شرط بأداة (إن) في قوله تعالى
{وَإِن كُنَّ أُولاَتِ حَمْلٍ فَأَنفِقُوا عَلَيْهِنَّ....}
والآية تنص وتؤكد على وجوب الإنفاق على أولات الحمل، ولا يوجد أي نهي عن الإنفاق على غيرهن، وحكم غيرهن فهو الائتمار بالمعروف، كما هو منصوص عليه في الآية، وإلا فهو فعلى أولي الأمر أن يحكموا بين الأطراف المختلفة بالقسط والعدل.
قال تعالى:
{وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلا أَن يَنكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِن مِّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم مِّن فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ وَاللّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ فَانكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ ....} [النساء:25]
في المثال السابق الشرط هو العجز عن نكاح الحرة وأن يكون النكاح بإذن أهلهن، فمفهوم المخالفة يعني أنه إذا انتفى العجز أو لم يأذن أهلهن كانت الأمة محرم نكاحها.
الحقّ أن الأمر القرءاني واضح تماما، والأمر لا يحتاج إلى جعل مفهوم المخالفة أمرًا شرعيا لتنفيذه، هل يجب عند القول مثلا "عند إقامة الصلاة يجب أن تكون على وضوء" أن تقول أيضًا "وهذا يعني أنك إذا لم تكن متوضئًا لا تصلِّ"؟ إنه بمثل هذا المنطق سيتم مضاعفة كمية الكلام في الفروع دون تقديم أي جديد!
والآية لا تنص على تحريم نكاح الفتيات المؤمنات في حالة القدرة على نكاح المحصنات، وإنما تنص على وجوب النكاح بصفة عامة، وتعطي أولوية للْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ، وتقدم حلًّا للعاجزين عن نكاح المحصنات المؤمنات.
وكقوله تعالى:
{وَآتُواْ النَّسَاء صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَيْءٍ مِّنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَّرِيئًا} [النساء:4].
قالوا: "فمفهوم المخالفة هو أنه إذا لم تطب نفس الزوجة عن شيء من مهرها فليس لكم أن تأكلوه".
قلنا: لا حاجة لمفهوم المخالفة لإثبات حق الزوجة في مالها الخاص ولا في ألا يتصرف فيه أحد إلا بإذنها، فحق الإنسان في ماله من حقوقه الثابتة بما هو أقوى بكثير من مفهوم المخالفة، والقائلون بمفهوم المخالفة هم من القائلين بأن الحفاظ على المال من مقاصد الشريعة الضرورية.
*****
4. مفهوم الغاية
مفهوم الغاية: وهو انتفاء الحكم المقيد بغاية وثبوت نقيضه بعد هذه الغاية.
فهي دلالة النص الذي قُيِّد بغاية على انتفاء ما جاء به من حكم بعد هذه الغاية وثبوت نقيضه عند ذلك ثم يوضح هذا المفهوم بقوله: "فإن كلمة (حتى) و(إلى) لانتهاء الغاية، والتقييد بحرف الغاية -وكما هو معلوم من الوضع اللغوي- يدل على انتفاء الحكم عما وراء الغاية.
فمفهوم الغاية يعني مدّ الحكم إلى غاية بصيغة (إلى) أو (حتى)؛ فيكون ما بعد الغاية مخالفًا في الحكم لما قبلها، وهذه الدلالة لغوية، ومن أمثلته: قوله تعالى
{...وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّواْ الصِّيَامَ إِلَى الَّليْلِ ..... } [البقرة:187]،
يدلُّ على أن الصيام لا يكون في الليل، وعلى وجوب الامتناع عن الأكل والشرب بعد الغاية المذكورة بعد (حتى).
قالوا: ((دلت هذه الآية بمنطوقها في الجزء الأول منها على إباحة الأكل والشرب في ليل رمضان، ومدت تلك الإباحة حتى طلوع الفجر.
ودلت بمفهومها المخالف على أن الأكل والشرب حرام بعد هذه الغاية، وهي طلوع الفجر. وما أدرك هنا من مفهوم مخالف منشؤه ربط الحِلِّ بزمن معين وغاية محددة بلفظ حتى)).
وقد فاتهم أن مفهوم المخالفة قد يعني أيضًا أنه غير مباح لهم أي فعل إلا الأكل والشرب حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ.
وأضافوا: ((ودلت الآية في جزئها الأخير بمنطوقها على وجوب مد الصيام إلى الليل، ودلت بمفهومها المخالف على عدم وجوب الصيام في الليل، والمفهوم المخالف هنا مفهوم غاية لأن "إلى" تستخدم للغاية)).
والحق أن العبارة بذاتها وافية تماما للمطلوب منها بدون أي حاجة إلى مفهوم المخالفة.
وكل هذا الكلام يدل على رغبتهم في الاستكثار من القواعد والمصطلحات والكلام وتقديم أمثلة بدون مبرر، ولو طبقوا ما يسمونه بمفهوم المخالفة هاهنا بطريقة أخرى لمنعوا أي فعلٍ آخر غير الأكل والشرب!!!!
ولو كان اهتمامهم بالأمر في ذاته لكفى توصيفه للناس بما هو موجود، فالقرءان يخاطب قوًما يفقهون ويعقلون ويسمعون ويجيدون اللسان العربي.
من جديد، ما هو الحكم المستنتج من مفهوم المخالفة؟ الأمر هو بإتمام الصيام إلى الليل، ولا توجد أية ضرورة إلى النص الحرفي على أنه لا صيام في الليل، القرءان يخاطب قومًا يدركون أساسيات المنطق، ويعقلون -على الأقل- أبسط الأشياء، ولا يخاطب تلموديين على شاكلة بني إسرائيل.
*****
رووا أن الرسول قال: "لا زكاة في مال حتى يحول عليه الحول".
قالوا: ((يدل الحديث بمنطوقه على عدم وجوب الزكاة في المال قبل حولان الحول.
ويدل بمفهوم المخالفة على وجوب الزكاة بعد انتهاء الحول.
وهو ما يفهم من مد الحكم إلى غاية بإحدى أدوات الغاية وهي: (إلى، حتى، اللام).
مثاله: حديث: «لا زكاة في مال حتى يحول عليه الحول)).
لا حاجة لمفهوم المخالفة لإثبات ما هو واضح من العبارة، والحول أمرٌ نسبي، فالحول بالنسبة للمحاصيل الزراعية ينتهي بالحصاد ليبدأ موسم جديد.
*****
5. مفهوم العدد
قالوا: ((مفهوم العدد هو انتفاء الحكم لعدد غير العدد المذكور، وهو تعليق الحكم بعدد مخصوص فإنه يدل على انتفاء الحكم فيما عدا ذلك العدد زائدا كان أو ناقصا.
فهو تعليق الحكم بعدد مخصوص؛ بحيث يَنتفي الحكم إذا تغيَّر ذلك العدد، وأغلب ما يكون في المقدَّرات الشرعية؛ كالعقوبات والكفارات وفرائض الإرث.
فقوله تعالى:
{فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَة} [النور: 4]
دالّ بمنطوقه على الثمانين، وبمفهومه على عدم إجزاء ما نقص عنها، وعلى المنع من الزيادة عليها، والذي يظهر أن هذا داخل في مفهوم الصفة؛ لأن المقدار أحد صفات الشيء.
فمفهوم المخالفة الأقل والأكثر من ثمانين، فلا يجوز ذلك بمقتضى المفهوم.
وكقوله تعالى:
{فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّام} [البقرة: 196]،
مفهوم المخالفة الأقل والأكثر من ثلاثة، فلا يجوز ذلك أيضًا بمقتضى المفهوم)).
وهذا الكلام يدل على رغبتهم في الاستكثار من القواعد والمصطلحات والأمثلة بدون مبرر.
ذلك لأنه من البديهي أن العقوبة يجب أن تكون محددة بعدد، وأنه يجب الالتزام بهذا العدد دون زيادة أو نقصان، وذلك دون أدنى حاجة إلى مفهوم المخالفة الخاص بالعدد.
قال تعالى:
{وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلاَ تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُون} [النور:4]
التقدير بالعدد تحديد للمعدود، لا تجوز معه الزيادة أو النقص، وإلا لما كان للتقدير معنى، فكان مفهوم المخالفة عدم جواز الزيادة على ذلك العدد أو النقصان عنه، حيث أن الزيادة يكون فيها ظلم يلحق بالمحكوم عليه، بإيذائه أو إضراره فوق ما ينبغي من إحقاق الحق، وأما النقص فإهدار للعقوبة جزئيا، لأن مؤداه أن العقوبة لم توقع بكاملها.
فالزيادة في العقوبة عن العدد المقدَّر ظلمٌ يَلحق المحكومَ عليه، ويَتنافى مع العدل الواجب، وكذا النقص عنه إهدار للعُقوبة ومخالفة للنص.
دراسة احتمالات مخالفة الحكم ليست هي القضية، واللازم هو الالتزام بالنص القرءاني، وأين هو الحكم الذي يقول به مفهوم المخالفة؟ أم إنها الرغبة في الكلام فقط!!
وهل إذا قال الطبيب للمريض: "تناول هذا الدواء ثلاث مرات في اليوم" يكون مضطرًا لأن يقول له: "وطبقًا لمفهوم المخالفة الشرعي فهذا يعني أنه لا يجوز لك أن تتناوله مرة أو مرتين أو أربع مرات أو خمس أو ست أو سبع أو ثمان .........................الخ"؟
*****
6. مفهوم اللقب
اللقب هو الاسم الذي عُبِّر به عن الذات، علمًا كان أو وصفا أو اسم جنس، ومفهومه هو انتفاء الحكم المتعلق به عن غيره، وثبوت نقيضه لغيره.
هو دلالة منطوق اسم الجنس أو اسم العلم على نفي حكمه المذكور عما عداه. وهو تعلق الحكم بالاسم العلم أو النوع
أما اللقب الجامد فليس بقيد بل هو موضوع الحكم، مثل حديث الرسول عليه الصلاة والسلام" في البُر صدقة" فإنه لا يؤخذ بمفهوم المخالفة نفي الصدقة في غير البُر.
وهو ما يفهم من تخصيص الاسم المجرد بالحكم من نفي الحكم عما عداه.
وسواء أكان الاسم لإنسان أو حيوان، اسم علم أم اسم جنس
وأما مفهوم اللقب فليس بحجة على الصحيح عند جماهير العلماء؛ لأنه لو كان حجة لكان الثناء على النبي صلى الله عليه وآله وسلم ووصفه بالرسالة قدحا في بقية الرسل وإنكارا لرسالتهم.
ولأن الاسم لا يشعر بالتعليل، ولهذا لا يدل ذكره على نفي الحكم عن غيره.
ولأن الاحتكام في ذلك إلى لغة العرب، واللغة لا تدل على أن ذكر الاسم والنص على حكمه دليل على نفي الحكم عن غيره
فقد اتفقوا على عدم الاحتجاج بالنص على مفهوم المخالفة في مفهوم اللقب، والمراد باللقب اللفظ الجامد الذي ورد في النص اسما وعلما على الذات المسند إليها الحكم المذكور فيه. ففي حديث: "في البر صدقة" لفظ البر اسم للحب المعروف الذي أوجبت فيه زكاة، ولا يفهم لغة ولا شرعا ولا عرفا أن في ذكر البر احتراز عما عداه من الحبوب، ولا أنّ ذكر الغنم احتراز عما عداها من السوائم، ولا أن إيجاب صدقة في البر يفهم منه أن لا صدقة في الشعير والذرة وغيرها من الحبوب، ولا أن إيجاب زكاة في الغنم يفهم منه أن لا زكاة في الإبل والبقر وغيرهما. فلهذا اتفق الأصوليين على عدم الاحتجاج بمفهوم المخالفة في اللقب، لأنه لا يقصد بذكره تقييد ولا تخصيص ولا احتراز عما عداه.
نقول: هم يفتعلون المشكلة ثم يحاولون التملص منها، إن الأمر بإيتاء الزكاة عام، وقد تركه القرءان كذلك لكي يتم تطبيقه في كل عصر ومصر بما يلائم ظروف العصر والمصر، والرسول كان يحمل رسالة خاصة بقومه، كما ذكر القرءان، بالإضافة إلى الرسالة العالمية العامة، ولا تعارض بين الأمرين، فالرسالة الخاصة كانت تلائم عصرهم وسقفهم الحضاري، ولكنهم أصروا على تتبع الآثار فوجدوا الأقوال التي كانت مناسبة لبيئة العرب البدائية في القرن السابع الميلادي فجعلوها تفصيلا للأمر القرءاني، ولما كانت هذه الأقوال غير ملائمة لأي بيئة أخرى فقد أصبح لزاما عليهم أن يحاولوا إيجاد مخرج مقبول، بينما تشبث آخرون بهذه الأقوال وجعلوها هي الدين واعتبروا كل من يقول بغيرها من منكري السنة! إن تنفيذ ركن إيتاء الزكاة وفقًا لما هو في كتب اللافقه هو من أكبر ملامح الدين الأعرابي الأموي.
والإقرار يأن أكثرهم أو جلهم يقولون بعدم حجية مفهوم اللقب هو إقرار منهم بعدم حجية أو مشروعية مفهوم المخالفة كله، ولكنهم قلما يحاولون تحقيق الاتساق المنطقي في قواعدهم وكلامهم.
*****
من الأمثلة على بطلان مفهوم المخالفة الخاص باللقب:
القول بأن اينشتين عالم في الفيزياء النظرية لا ينفي هذه الصفة عن غيره من علماء الفيزياء، ودين المتوفى يؤدي من تركته لا يفهم منه أن غير دينه كنفقة تجهيزه ووصاياه النافذة لا تؤدي من تركته، والبيع ينقل الملكية لا يفهم منه أن غير البيع لا ينقله، وأن بيع الحقوق في تركة إنسان على قيد الحياة ولو برضاه غير باطل.
*****
والحق هو أنه بمقتضى ما سلموا به من طرق دلالة اللفظ على المعنى فإن إثبات نقيض حكم المنطوق به للمسكوت عنه لا يدخل تحت أي طريق من هذه الطرق، فلا يكون مدلولا للفظ، ولا يوجد ما يثبته من القرءان أو من المنطق، فلا توجد وسيلة لإثبات مفهوم المخالفة.
ولابد للقيد في العبارات التي ورد فيها من فائدة، ولكن الفائدة هي السكوت عما خلا من القيد، فليس شرطا أن يكون هناك حكم بالمعنى القانوني على كل فعل، هناك منطقة العفو والإباحة الأصلية، أو ربما يمكن أن يوجد حكمه في نصوص أخرى، وبالطبع لا يجوز الاعتداد بأخبار الاحاد لتقرير أصل تشريعي.
ويجب العلم بأن من سمات الإسلام الاقتصاد في التشريع، ولذلك لا يجوز محاولة إثبات أصول تشريعية إلا بالاستناد إلى برهان قرءاني مبين.
ومن الواضح أن المولعين بالأحكام وبوضع الإصر والأغلال على كاهل الناس لم يستطيعوا استثمار مفهوم المخالفة جيدًا، ذلك لأنه توجد أنواع أكثر بكثير مما قرروه، بل إنه لا تكاد توجد جملة إلا ولها مفهومها المخالف، ولو كانوا أبرع قليلا لتمكنوا بفضل مفهوم المخالفة من مضاعفة حجم كتب اللافقه الضخمة عدة مرات، وعلى العموم، مازال الباب مفتوحا، والمدارس اللافقهية تنتشر الآن وتتكاثر كالبكتريا شرقًا وغربًا، ويمكنها استثمار مفهوم المخالفة الاستثمار الأمثل لزيادة شقاء الجنس البشري.
والحق أن تقريرههم لبعض الأمور ونفيها عن البعض الآخر يقوض حجية هذا المفهوم تقويضًا، فالحجية تستلزم الاتساق مع التعريف.
وقد اختلف الأصوليون في الاحتجاج بمفهوم المخالفة في الوصف والشرط والغاية والعدد في النصوص الشرعية خاصة.
فذهب جمهور الأصوليين إلى أن النص الشرعي الدال على حكم في واقعة؛ إذا قيد بوصف أو شرط بشرط أو حدد بغاية أو عدد، يكون حجة على ثبوت حكمه في الواقعة التي وردت فيه بالوصف أو الشرط أو الغاية أو العدد الذي ذكر فيه، ويكون حجة على ثبوت نقيض حكمه في الواقعة التي وردت فيه إذا كانت على خلاف الوصف، أو الشرط، أو الغاية، أو العدد الذي ذكر فيه. ويسمى حكمه الأول منطوقه، ويسمى حكمه الثاني مفهومه المخالف.
وذهب الأصوليون من الحنفية إلى أن النص الشرعي الدال على حكم في واقعة، إذا قيد بوصف أو شرط بشرط، أو حدد بغاية أو عدد، لا يكون حجة إلا على حكمه في واقعته، التي ذكرت فيه بالوصف أو الشرط أو الغاية أو العدد الذي ذكر فيه، وأما الواقعة التي انتفى عنها ما ورد فيه من قيد، فلا يكون حجة على حكم فيها، بل يكون النص ساكتا عن بيان حكمها، فيبحث عن حكمها بأي دليل من الأدلة الشرعية التي منها ما يجمعه مفهوم المصاحبة من أسس، منها البراءة الأصلية، الأصل في الدماء والأعراض الحرمة، الأصل في خصوصيات الآخرين الحرمة.
استدل الجمهور على ما ذهبوا إليه بعده أدلة، أظهرها اثنان:
الأول: أن المتبادر إلى الفهم من أساليب العرب وعرفهم في استعمال عباراتهم؛ أن تقييد الحكم بوصف أو شرط، أو تحديده بغاية أو عدد، يدل على إثبات الحكم حيث يوجد القيد، وعلى نفيه حيث ينتفي، فمن قال: هب ابنك ساعة إذا نجح، يفهم منه لا تهبه إذا لم ينجح.
والثاني: أن القيود التي ترد في النصوص، لابد أن تكون لحكمة، لأن الشارع لا يقيد بوصف أو شرط أو غاية أو عدد عبثا. وأظهر ما يتبادر إلى الفهم أن تكون هذه الحكمة تخصيص الحكم بما وجد فيه القيد. والتخصيص يقتضي نفي الحكم عما لم يوجد فيه القيد. ولا فرق في هذا بين النص الشرعي وغيره من عبارات الناس، إلا إذا دلت قرينة على أن الوصف أو الشرط أو الشرط أو غيرهما، ليس للقيد بل لغرض آخر مثل التفخيم أو المدح أو الذم أو الجري على الغالب، فلا يحتج بمفهوم المخالفة له.
واستدل الأصوليون من الحنفية على مذهبهم بعدة أدلة، أظهرها اثنان:
الأول: إنه ليس مطردا في الأساليب العربية أن تقييد الحكم بوصف أو شرط أو تحديد، بغاية أو عدد، يدل على إثبات الحكم حيث يوجد القيد وعلى نفيه حيث ينتفي.
وكثيرا ما ترد العبارة مقيدة، ويتردد السامع في فهم حكم ما فيه انتفى فيه القيد، ويسأل المتكلم عنه ولا يستنكر عليه السؤال. فمن قال: إذا سألك صباحا فاقض حاجته، لا ينكر على سامعه إذا استفهم عمن سأله مساء. وإذا كانت الدلالة على نفي الحكم حيث ينتفي القيد غير مقطوع بها، فلا يكون النص الشرعي حجة عليه لأن النصوص الشرعية يجب الاحتياط في الاحتجاج بها، ولا تكون حجة بمجرد الاحتمال.
والثاني: أن كثيرا من النصوص الشرعية التي دلت على أحكام وقيدت بقيود، لم ينتف حكمها حيث انتفى القيد، بل ثبت حكم النص للواقعة التي فيها القيد، وللواقعة التي انتقى عنها. فالصلاة في السفر تقصر إن خاف المصلون فتنة الذين كفروا وإن لم يخافوا، مع أن النص شرط القصر بهذا الشرط:
{إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ} [النساء: 101].
والربيبة تحرم على زوج أمها إذا كانت في حجره، وإذا لم تكن في حجره، مع أن النص قيد التحريم بهذا الوصف:
{وَرَبَائِبُكُمُ اللاَّتِي فِي حُجُورِكُم} [النساء: 23].
فالاحتياط في فهم النص الشرعي يوجب ألا يحتج به على نفي الحكم إذا انتفى القيد. وكثير من النصوص، بعد أن ذكرت الحكم المقيد، نصت على مفهوم المخالفة له، مثل قوله تعالى:
{مِّن نِّسَآئِكُمُ اللاَّتِي دَخَلْتُم بِهِنَّ فَإِن لَّمْ تَكُونُواْ دَخَلْتُم بِهِنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} [النساء: 23]،
وقوله:
{وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّىَ يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللّهُ} [البقرة: 222]،
وهذا دليل على أنه غير مفهوم قطعًا من النص السابق، وإلا ما ذكره ثانيا.
ويظهر أثر هذا الخلاف في مثل قوله تعالى في توريث بنات المتوفي:
{فَإِن كُنَّ نِسَاء فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ} [النساء: 11]،
مع قول الرسول لأخي سعد بن الربيع: "أَعْطِ ابْنَتَيْ سَعْدٍ الثُّلُثَيْنِ، وَأَعْطِ أُمَّهُمَا الثُّمُنَ، وَمَا بَقِيَ فَهُوَ لَكَ".
فعلى مذهب الجمهور يوجد تعارض بين مفهوم المخالفة للآية، وهو أن الواحدة والاثنتين لا يرثن الثلثين، وبين منطوق هذا الحديث الذي ورث البنتين الثلثين، ويرجح المنطوق.
وعلى مذهب الأصوليين من الحنفية لا تعارض، لأن الحديث بيَّن حكم واقعة مسكوت عنها في آية توريث البنات.
ومذهب الحنفية أقرب إلى الصحة، فالحكم متروك لتقدير وليّ الأمر، فهو يقدر الحكم الأصلح، ولقد بيَّن لهم الرسول الحكم الأصلح بالنسبة لهذه الحالة.
أما الجمهور فكان عليهم أن يتورعوا عن القول بترجيح مروية على آية قرءانية طالما أجمعوا على أن الآية تقول بخلافه، ولو بمفهوم المخالفة الذي يأخذون به.
وفي مثل قوله تعالى في قصر الصلاة في السفر:
{إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ} [النساء: 101]،
مع قصر الرسول الصلاة في السفر حال الآمن وعدم خوف فتنة الذين كفروا، فعلى مذهب الجمهور يوجد تعارض بين مفهوم المخالفة ومنطوق الحديث، وعلى مذهب الأصوليين من الحنفية لا تعارض.
ومرة ثانية لا يوجد أي تعارض، فلم يكن للجمهور أن يفرض مفهوم المخالفة كقاعدة لاستخلاص حكم من القرءان، ثم يرجح على القرءان مروية، والحق أنه توجد حالتان؛ حالة السفر المطلق، وحالة وجود عدو قريب غير مأمون الجانب، وإنما كان الحكم واحدا في الحالتين، وهو قصر الصلاة، وهذا كمثل تقرير نفس الكفارة لفعلين مختلفين.
ومذهب الحنفية أقرب إلى الصحة، ومن المعلوم أن تفاصيل أداء الصلاة مأخوذة من السنة العملية للرسول، وأصلها بدورها من ملة إبراهيم، بعد أن أضاف إليها الرسول ما أضافه بموجب السلطة التي كانت منوطة به بإذن ربه.
والحكم الوارد في الآية هو حكم خاص، فهو لا يبطل الحكم العام، وإنما يؤكده للحالة الخاصة، كل ما في الأمر أن مفهوم المخالفة ليس كافيًا لتقرير حكم.
والنص القرءاني حجة بالطبع على مفهوم المخالفة للوصف أو الشرط أو الغاية أو العدد، ولكن بعد البحث وإمعان النظر والتحقق من أن القيد الوارد في النص، إنما ورد للتخصيص والاحتراز به عما عداه، ولم يرد لحكمة أخرى، ولم يعارض هذا المفهوم بمنطوق نص آخر.
*****
قالوا: ((قوله تعالى:
{قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَا أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّما عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَما مَّسْفُوحا} [الأنعام: 145]،
منطوقة تحريم الدم المسفوح، وأما تحليل الدم غير المسفوح فهو مفهوم مخالف لمنطوقه ولا دلالة لهذه الآية عليه، بل يعرف بالإباحة الأصلية أو بأي دليل شرعي، مثل قول الرسول: "أحلت لكم ميتتان ودمان، أما الميتتان فالسمك والجراد، وأما الدمان فالكبد والطحال")).
ولكن الدليل القرءاني على تحريم الدم بصفة عامة موجود، قال تعالى:
{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالْدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ ....} [المائدة:3]
وتحريم الخاص لا ينفي تحريم العام، بل يؤكده بالنسبة لهذا الخاص.
أما اللفظ "سمك" فهو غير قرءاني مما يلقي بظلال من الشك على صحة نسبة هذا القول إلى الرسول، والقرءان يستعمل لفظ الحوت ومصطلح "صيد البحر" للدلالة على ما يمكن صيده من المأكولات البحرية، وصيد البحر حلال بنص القرءان، والقول المنسوب إلى الرسول بافتراض صحة النسبة هو بمقتضى استعمال قومه الدارج للغة، والقول يدل على أنهم كانوا يعتبرون الكبد والطحال من الدم، ومن المعلوم أنهما من اللحم كسائر اللحم.
1