أمور دين الحق
حقيقة الخلافـة
حقيقة الخلافـة
إن الله تعالى هو الذي له الكمالُ المطلقُ الذي من لوازمه الأسماء الحسنى، والإنسان قد جُعل خليفةً في الأرض بسبب قابليته لتعلم هذه الأسماء وقبول آثارها والإظهار التفصيلي لكمالاتها، لذلك فهو مستخلف في الصفات التي هي مقتضيات الأسماء الحسنى، وعليه أن يظهر بآثارها بالنسبة لغيره من البشر ولما هو دونه من كائنات الأرض، فهو بذلك مأمور بالاتصاف ما أمكن بصفات الكمال الممكن، وأصل تلك الصفات هو الأسماء الحسنى، فعلى سبيل المثال عليه أن يظهر بالحكمةِ والعلم والرحمة والرأفة واللطف والود والرأفة لتلك الكائنات.
ومن لوازم الاستخلاف أن يتعرف الإنسان على ما جُعِل مستخلفا فيه وأن يعظم ما استخلفه ربُّه فيه، فذلك إجلال لمن استخلفه وشكر لعظيم نعمته، ولا يليق بمن تلقى إحسانًا كبيرا أن يعرض عما تلقاه أو أن يزدريه أو ألا يأبه به فإن ذلك من إساءة الأدب مع الرب الجليل الذي سخَّر كل شيء للإنسان وأسجد له ملائكته وطرد من أبى السجود له، فالإنسان مطالب بأن يعلم ما هو مستخلف فيه وبأن يقوم بواجبات الاستخلاف ومقتضياته وإلا فإنه يخلع نفسه بنفسه ويتحول إلى دابة من الدواب التي كان عليه أن يقوم بحقوقها.
والاستخلاف في الأرض يقتضي أن يوقِّر الإنسان كل صور الحياة وكل ما خلقه الله تعالى وأن يتعرف عليه وأن يطالع آيات الله تعالي فيه، ويترتب على ذلك ضرورة الإحجام عن الإفساد في الأرض، قال تعالي: {وَلا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنْ الْمُحْسِنِينَ(56)} (الأعراف)، {وَلا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ(85)} (الأعراف)، {وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ(205)} (البقرة).
والكفّ عن الإفساد في الأرض يقتضي الكف عن الإسراف في الصيد أو إبادة دواب الأرض بدون مبرر أو حق، كما أن عليه ألا يضيِّق على تلك الدواب أسباب عيشها وموارد رزقها بتجفيف الأنهار أو إبادة الغابات، وعليه أيضا ألا يقدم على ما من شأنه الإخلال بالتوازن البيئي، وكذلك عليه أن يرحم دواب الأرض التي يستأنسها وأن يوصل إليها رزقها برفق، كما أن عليه الحفاظ على البيئة وعلى نباتات الأرض، فالعدوان منهيٌّ عنه نهيًا باتًّا.
والإفساد في الأرض بتلويث البيئة والقضاء على موارد الأرض هو عدوان بشع على حقوق الأجيال القادمة من البشر فضلا عن حقوق سائر الكائنات الأرضية، والله سبحانه الذي خلق كل شيء وأتقن صنعه لا يحب من يفسدُ ما خلق، ولا يحب المعتدين.
*******
القرءان هو المصدر الأوحد للمصطلحات الدينية، ومفهوم مصطلح الخلافة في القرءان لا علاقة له بالمفهوم الذي أحدثه الناس من بعد ثم فرضوه على الإسلام والمسلمين، هناك خلافة عامة لكل إنسان من حيث هو إنسان، وخلافة خاصة للذين آمنوا وعملوا الصالحات، ولا توجد خلافة لشخص بعينه بمعنى أن يكون حاكمًا مطلقا على الناس كما حدث من بعد السقيفة إلى الآن باستثناءات قليلة.
أما استخلاف شخص بعينه فيكون بالجعل الإلهي مثلما حدث مع داود عليه السلام، وكان نبيا، أو تكون بنص صريح من الرسول النبي في مهمة محددة مثلما حدث مع هارون عندما استخلفه موسى في قومه، ومع عليّ بن أبي طالب عندما استخلفه الرسول في الولاية الدينية وولاية أمر الأمة (وليس حكم دولة).
والاستخلاف لا يضمن أية عصمة من الخطأ أو الذنوب للمستخلف حتى وإن كان نبيا، قال تعالى:
{يا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلاَ تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَاب} [ص:26]
فهذا الكلام الموجه إلى نبي وما فيه من تحذير ونهي وتهديد لم يكن عبثا، وقال تعالى:
{..... وَقَالَ مُوسَى لأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلاَ تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِين} [الأعراف:142]
وبالطبع لم يكن هذا الكلام بما فيه من أمر ونهي وتحذير عبثا.
وكل أقوال منسوبة إلى الرسول تتضمن المفهوم المحدث والخاطئ للخلافة لا تصح نسبتها إليه وهي أقوال باطلة بطلانا تاما!
وقد أثبت التاريخ دائما أن أي اعتداء على مصطلح قرءاني تكون عاقبته وخيمة ويترتب عليه هلاك الملايين ممن يتبعونه ويتمسكون به! ذلك لأن أخذ الله تعالى أليم شديد!
*******
إن المشكلة هي في ظنكم أن الرسول كان ملكًا أو إمبراطورا على مملكة أو إمبراطورية، بل أنتم ترددون ما قذفه به أعداؤه ونفاه عنه وبرأه منه ربه، فهو لم يكن عليهم حفيظًا ولا مصيطرا ولا جبارا ولا وكيلا ولا ملكا ولا إمبراطورا، الرسول أسس أمة لها ولي أمر ديني، واستخلف الإمام عليّا في ولاية الأمر على هذه الأمة، وليس ليكون حاكمًا مطلقا Absolute ruler، ولا ليكون ملكا بالحق الإلهي Divine right of kings، ولا ليؤسس حكومة دينية Theocratic government، ولو كان يريد تأسيس أسرة حاكمة لقبل بالعرض القرشي في مكة، ولما كانت الحروب والمعاناة الطويلة.
أما سياساته مع غير العرب فمعروفه: إرسال رسل مسالمين بخطابات منه لدعوة ملوكهم وعظمائهم إلى الإسلام، فإن تولوا فإنه كان يشهدهم على إسلام الأمة.
وقد ترك أمته إلى أنفسهم يدبرون أمورهم بأنفسهم، بعد أن علمهم وزكَّاهم، وهو لم يكن أباهم ليتركهم صبية بلا عائل، ليتساءل بعضهم: هل من المعقول أن يتركهم هكذا بلا وريث؟ لم يكن تعيين وريث من مهامه أصلا، وهو لم يكن ملكا ليورث الأمة لأحد من بعده.
كان للرسول حق الطاعة على الناس كنبي مرسل، ورفض طاعته، كان ومازال، إثمًا دينيا من كبائر الإثم، ووجود آيات تأمر بطاعته من حيث إنه رسول تنفي تماما أية سلطة له على الناس خارج إطار الرسالة والنبوة.
كان يكفي أن ينص القرءان على أنه ملك مثلا أو زعيم دولة لتجب عليهم طاعته بلا وجود حشد من الآيات يأمر بطاعته ويحذر من المخالفة عن أمره، مهام الرسول محددة بعناية في القرءان، وليس منها أبدا تأسيس دولة ولا حكم دولة بالمعنى القديم أو المحدث، وهذا ما يتسق تماما مع سمات الإسلام كدين عالمي خاتم لا يجمد ما هو بحكم طبيعته سيال متطور.
مهمة الرسول كانت إعداد أمة مؤمنة عن طريق الدعوة والتعليم والتزكية، وهو لم يكن على الناس -بنصّ القرءان- وكيلا أو حفيظا أو مصيطرا أو جبارا، فالقرءان ينفي عنه بذلك كل لوازم الرئاسة أو الملك.
وقد قال الله له: {فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ}، فهذا القول القرءاني ينفي تمامًا أية سلطة له خارج نطاق الرسالة، فحتى في هذا العمل السيادي لا يملك على المؤمنين إلا سلطة الحث والتحريض، هذا رغم أنهم مؤمنون.
فالرسول بحكم أن رسالته عالمية وخاتمة، لم يكن من مهامه تأسيس دولة بأي صورة من الصور، وهو ليس مسؤولا عما حدث في السقيفة، بل كان ما حدث ضد وصيته، فهو لم يأمر بتكوين دولة قرشية تكون دولة بين بطون قريش، ولو أمر بذلك لما هرعوا على السقيفة، ولما تلاسنوا وتنازعوا هناك، ولما رفض أكثر الناس ما نتج عن السقيفة، ولو كان يريد أن يتولى أمر الأمة أبو بكر أو عمر لما أرسلهما في مرضه الذي كان يعلم عاقبته إلى خارج المدينة كجنديين تحت إمرة الشاب الصغير أسامة بن زيد، ولما أوصى وصية مشددة بإنفاذ بعثه؛ أي بوجوب أن يرحل الجيش وهما فيه إلى الشام، بل لعن من تخلف عن جيشه، أما ظهورهما في المدينة رغم كل ذلك فلا يعني إلا أنهما تسللا من المعسكر!
هلًّا سألتم أنفسكم كيف يعهد الرسول إليهما بقيادة أمته، وهو لم يأتمنهما على قيادة جيش؟
فالنبيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ لم يأمر بما كان يعلم أنه سيؤدي إلى تسلط قرشيين لا يرقبون في عترته إلًّا ولا ذمة، وقد أقامت السيدة فاطمة الحجة على الأمة، وكشفت للناس حقائق الأمور، ولو أطاعوها لكان خيرًا لهم.
الدين الخاتم لا يمكن أن يجمد ما هو بحكم طبيعته سيال ومتطور، أما المخالفة عن قيمه فقد نتج عنها منذ السقيفة سفك بحور من الدماء والإفساد في الأرض واستعباد الناس، ومازالت تلك المخالفة تؤتي أكلها حينًا من بعد حين، وتضرب الأمة بما ينتج من شياطين ومجرمين سيكوباتيين مولعين بسفك الدماء وطغاة مستبدين مفترسين.
الأمة شيء، والكيان السياسي شيء آخر، الأمة جماعة من الناس يجمعها وحدة القصد ومنظومة قيم، الأمة هي الباقية، وهي يمكن أن يكون لها كيان سياسي، أو تتعايش تعايشا سلميا إيجابيا مثمرا مع غيرها في كيان سياسي.
أما الكيان السياسي فهو سيال متغير متطور، وكل شعبٍ يضفي عليه طابعة الخاص، أما محاولة دمج هذه الشعوب المختلفة، حتى وإن اتحدت في الدين أو المذهب أو اللغة، فكانت لا تتم على مدى التاريخ، إلا بعد حروب مهلكة.
*******
هناك خلافة عامة في الأرض، وهي للنوع الإنساني، وفي القرءان لوازمها وتفاصيلها.
وهناك خلافة خاصة بكل فرد على حدة، فهو مستخلف في جسمه وماله وكل من له ولاية عليه.
وهناك خلافة خاصة على الناس للقيام بمهام خاصة، وهي تكون بالأمر الإلهي، فداود كان خليفة بالنص الصريح.
والرسول كان خليفة، وخلافته معبر عنها بولايته لأمور قومه.
ولا دخل للخلافة البشرية، أي التي قررها، ووضعها بشر بكل ذلك.
*******
1