أهل الكتاب
تغلب مسيحية بولس والمجامع
توقف اضطهاد الإمبراطورية الرومانية للمسيحيين في القرن الرابع عندما أصدر قسطنطين الأول مرسوما للتسامح في 313، ثم أصدر الامبراطور ثيودوسيوس الأول سنة 380 قانونا باعتبار مسيحية مجمع نيقية الديانة الرسمية للإمبراطورية الرومانية وجعل منها دينا وحيدا للامبراطورية في العام 391، تم التحريض على إحراق مكتبة الإسكندرية لكون فيها كتبا ووثائق تحوي أفكارًا وفلسفات ومؤلفات وثنية تخالف العقيدة المسيحية التي تبناها الإمبراطور كدين رسمي ووحيد في الإمبراطورية الرومانية.
أمر الإمبراطور بنقض هياكل الإسكندرية التي كانت منبعا للفساد والمكايد في زعمهم، وعهد إلى تاوافيلوس بطريرك الإسكندرية بتنفيذ هذا الأمر وأمر الوالي أن يمكن الأسقف من ذلك وأن يُدفع إلى الكنائس كل ما كان في هياكل الأصنام من الزينات والتماثيل لتباع وينفق ثمنها على سد فاقة الفقراء، ابتدأ تاوافيلوس في نقض هيكل سرابيس وكان أجل معبود في الإسكندرية وحطَّم تمثال هذا الإله الذي كان في هيكله وأحرقه، ولم يدع تاوافيلوس هيكلاً في الإسكندرية إلا ودمره ولا تمثال إلا وكسره أو أحرقه وأتبع بذلك هيكل كانوب وغيره من الهياكل في مصر وكتب إلى سائر أساقفة مصر فاقتدوا بغيرته وسقطت الوثنية في مصر مع هياكلها وأصنامها وأقبل كثيرون من الوثنيين إلى الإيمان في تلك الأثناء.
كما أصدر العام 393 ميلادية قرارا ديكتاتوريا قضى بإلغاء الألعاب الأوليمبية باعتبارها مهرجانات وثنية لا تليق بالإمبراطورية الرومانية التي قد نبذت الوثنية واعتنقت المسيحية.
من القرن الرابع على الأقل بدأت المسيحية تلعب دورًا بارزا في تشكيل الحضارة الغربية.
عندما اعتنقت الامبراطورية الرومانية الدين المسيحي دينا رسميا -لتخرجه من كونه دعوة حرة مفتوحة يأتيها من يشاء ويعرض عنها من يشاء- كانت تسعى إلى شرعية لا يصح أن تقوم إلا على أساس ضمانة إلهية، فكانت المسيحية وإلهها الوحيد خير ضمانة لوحدة امبراطورية مترامية الاطراف.
أساس هذا الاندماج بين الكنيسة والدولة، وما استتبعه من رفض كل الآراء المخالفة ونعتها بالهرطقة، جاء في مرسوم تسالونيكي الذي أصدره الامبراطور ثيودوسيوس الكبير سنة 380 ما يأتي: "إن مشيئتنا تقضي بأن تمارس جميع الشعوب الخاضعة لإدارة عرشنا السنّي هذه الديانة التي كان نقلها الرسول الإلهي بولس الى الرومانيين، وعلى نحو ما عليه الديانة نفسها التي لقنّنا إياها، مما يعني أننا، وانسجاما مع التقليد الروماني والعقيدة الانجيلية، نؤمن بألوهية وحيدة للآب والابن والروح القدس، ويتساوى الكل فيها مجدا، وبالثالوث المقدس، ونأمر باعتبار كل الذين يتبعون هذه القاعدة مسيحيين كاثوليكيين، أما الآخرون الذين نعتبرهم بمثابة مجانين ومجردين من أي تعقّل، فسوف يحملون وزر عارهم من اعتقادهم بعقائد بدعية، ولا يطلق على اجتماعاتهم اسم كنيسة، وأن يعانوا اولاً من القصاص الإلهي ومن كل اجراء نتخذه بإلهام من السماء".
يأتي مرسوم ثيودوسيوس في السياق الذي بدأه الإمبراطور قسطنطين الذي ينقل المؤرخ الكنسي يوسابيوس أنه أعلن في مجمع نيقية "أنه يعتبر كل شغب داخل الكنيسة مساويا في الخطر لحرب كاملة".
كان هذا أبشع مرسوم اضطهاد صدر في العالم القديم، تسبب في القضاء على أكثر تراث وآثار الشرق الأدنى، كما قضى على الحضارة الكوزموبوليتانية التي كانت قائمة في الإسكندرية، وكان على العالم أن ينتظر كثيرا ليتم إحياء حضارة كهذه، هذا بالإضافة إلى تسببه في مقتل أعداد من البشر لا حصر لها وتأخر كل ضروب العلوم والتقنيات والطب ... الخ.
في هذا المرسوم تتجلى ثلاثة عناصر ستفسّر الكثير من العنف الذي سيطبع العلاقات داخل الكنيسة لاحقا:
a. الإمبراطور هو من يقرّر دين العامة.
b. أصحاب الرأي المخالف، وكانوا في البداية يشكلون اكثرية عددية بين الاساقفة، إنما ينعتون بالجنون، مما يجرّدهم من كل اهلية مدنية.
c. الدولة مخوّلة بإنزال العقوبات المدنية والجسدية بالمخالفين.
ترتّب على ذلك أن مجتمع الامبراطورية الرومانية صار مؤلفا من رعايا، ومن مؤمنين، لا مواطن كاملاً إلا المسيحي! اما الوثنيون والهراطقة والمرتدّون واليهود فمنبوذون خارج الجماعة، وصار القانون يقضي عليهم بعدد من حالات عدم الأهلية، الى حد حرمانهم من حق الإرث بالوصية في القرن السادس، اللامؤمن ليس مواطنا، والمجامع الكنسية ستصير، لأمد طويل، مصدرًا للقانون لا يقل أهمية عن تشريع العاهل السياسي.
وبعد مجمع نيقية، تحوّل زعماء الكنيسة إلى موظفين إمبراطوريين، والإمبراطور نفسه صار حَكَمًا في كل مسائل الخلاف، يدعو الى المجامع ويترأسها، على قاعدة "إله واحد في السماء، إمبراطور واحد في الأرض". لم تعد الهرطقة، كما في اليونانية الكلاسيكية، عقيدة او مدرسة خاصة، بل باتت عقيدة تتعارض مباشرة مع الحقيقة الموحاة من الله، والمكرّسة من الكنيسة، والمؤيدة بسلطان الدولة.
وعندما تصبح العقيدة جزءًا من نظام الدولة العام يغدو عدم التسامح فضيلة من فضائل الدولة التي تحافظ على النظام العام، وتصبح الاختلاف في أمرٍ ديني جريمة وخيانة تستوجب العقاب، فيقوم شارلمان، مثلاً، بإنزال عقوبة الموت بالساكسونيين الذين يرفضون المعمودية، ويصبح من لا يقول بقول مجمع نيقية أو خلقيدونية خارجا على الدولة، متمردًا، وعاصيا، كأي ثائر سياسي، بل سيُقذَف بنفس التهم الأساقفة الذين سيرفضون من بعد قرارات أي مجمع من المجامع واضطهد أتباعه مثلما حدث مع أثناسيوس والمصريين الذين رفضوا مجمع خلقيدونية.
ومما حدث نتيجةً لاتحاد الكنيسة والدولة وتحالفهما ضد الإنسان:
1. تعرض أتباع آريوس لاضطهاد شديد وقمع بعد قرارات مجمع نيقية.
2. تعرض أثناسيوس (واضع قانون الإيمان) وخلفاؤه لاضطهاد متعدد الأبعاد بعد قرارات مجمع خلقيدونية.
3. في فلسطين: قام الجند الرومان بوضع حدّ لثورة الرهبان الآراميين السريان، باعتبارها شغبا ضد الدولة.
4. الكنيسة اليعقوبية أصبحت غير شرعية في نظر الامبراطور البيزنطي، وأبناؤها خارج القانون، وعندما كانت الجيوش البيزنطية تخرج من سوريا يحصل العكس، فيُضطَهد الخلقيدونيون من عرب وآراميين ويونان، ليضطروا الى الخروج مع الجيوش البيزنطية.
5. تعرض الأقباط في مصر لاضطهاد بشع على أيدي الرومان المسيحيين كان أشد وطأة مما تعرضوا له من اضطهاد على أيدي الرومان الوثنيين.
6. إبان الحروب الصليبية، استولت الكنيسة الغربية على البطريركية الارثوذكسية في أورشليم، وجعلتها لاتينية، فلجأ البطريرك سمعان الثاني الى قبرص، وحلَّ مطارنة لاتين على اسقفيات صور وقيصرية والبتراء والناصرة، واستولت البطريركية اللاتينية على جميع الاوقاف الارثوذكسية، ويفرّ بطريرك انطاكية يوحنا الخامس الى القسطنطينية.
7. أطلق ليون الثالث حربه ضد الأيقونات، في إرادة منه للحدّ من نفوذ الرهبان وأديرتهم، فحدثت إثر ذلك هجمات عسكرية على الاديرة، ونفي الرهبان وسجنوا، وقد ثار ضده الإيطاليون وغيرهم.
8. في العصور الوسطى، نشأت محاكم التفتيش، وتوسّعت، ونصَّت على ابقاء من تعتبرهم "اللامؤمنين" في منازلهم، خلال الأعياد الكبرى، وأُجبر البروتستانت واليهود على قبول مراقبين كاثوليك في احتفالاتهم الدينية، لمراقبة عظاتهم، وأُلزم غير الكاثوليك بحمل إشارات مميزة، استهلها مجمع لاتران السنة الـ1215 وأعاد تثبيتها بين 1215 و1370 نحو اثني عشر مجمعا محليا، و9 مراسيم ملكية لتطول اليهود والبغايا والهراطقة والمسلمين.
9. في الشرق، وبعد دخول الإرساليات الكاثوليكية والانجيلية، تفجّرت العلاقات بين الطوائف، فالأرثوذكس يضطهدون الكاثوليك في دمشق وحلب، ويقوم الأرمن الأرثوذكس بالأمر نفسه حيال الارمن الكاثوليك في فلسطين وشمال الشام.
وهكذا أصبح الحال كما يلي:
- اتحاد الكنيسة بالدولة.
- اعتبار المختلف في الرأي مغايرًا في الإنسانية، يستحق الموت أو الإقصاء والحجر.
وهكذا تحول النبأ السار من حلم جميل إلى كابوس مروع وإلى أكبر وسيلة للتسلط على الناس، ذلك التسلط الذي لا يكتفي بالخضوع الخارجي وإنما يطلب من الإنسان الخضوع الكامل ظاهرا وباطنا، ولا يقبل بأي احتجاج باطني.
كان كل رسول يأتي رحمة للناس، لإحياء موات نفوسهم، وليقوموا بالقسط، وليس لتكريس الجور وقهر الناس باسيف، فكان يؤيده ويناصره طائفتان رئيستان:
1. ذوو النفوس الراقية السامية من شتى الطبقات.
2. العبيد والمستضعفون ومن يسميهم الملأ بالأراذل.
وكان الأمر ينتهي بانتصار الرسول والذين آمنوا معه، ويُضطَّر من بقي من الملأ إلى مصانعتهم وإعلان الإيمان ظاهريا، فيتكون حزب من المنافقين.
ولكن سرعان ما كان يتكون ملأ جديد، يجد أن مصلحته متفقة مع مصلحة الملأ القديم، فيتحالفون ضد المؤمنين الحقيقيين وضد الرسالة الأصلية، فتتكون سلطة جديدة تجد أنه يجب أن تضفي على أفعالها لباس الشرعية.
وعندها تجد حثالة من تجار الدين والموتورين يلبون لها طلباتها ويحققون أحلامها، ويختلقون لها دينا بديلا يحل محل الدين الحقيقي القديم، ويستعبد العامة والغوغاء للملأ في صورته الجديدة.
ويظل هذا الدين المزيف يصنع كائنات متخلفة على عينه ويبرمجهم ضد أنفسهم.
*******
إن الدين يأتي ليبني أمة خيرة صالحة، تحمل الأمانة، وتقوم بواجبات الاستخلاف في الأرض، وليس لتقوم باسمه مؤسسة شيطانية طفيلية تضع نفسها حاجزا بين الله وبين عباده، وتختلس لنفسها على الناس سلطاته.
فرجل الدين هو أي إنسان يقوم بواجباته كمؤمن بهذا الدين، ومن يشرح لك كيفية الأداء الشكلي للصلاة أو الحج ليس بأفضل من الطبيب الذي يعالجك ولا المدرس الذي يشرح لك علمًا حقيقيا كالكيمياء مثلا، وفي هذا العصر يمكن الاستغناء عن طبقة تجار الدين باستعمال وسائل التعليم الحديثة والحاسب الإلكتروني.
ولكن الذي لن تستطيع الاستغناء عنه هو الإنسان التقي الراقي على المستوى الجوهري الذي يمكنك أن تتأسى به.
الدين هو سيلة لتحقيق الرحمة والمحبة وليس لنشر وتكريس البغضاء والتسلط والنقمة.
*******
وقد شهد العصر الروماني المسيحي انتشار وتطور الفنون المسيحية لاسيّما العمارة في النمط المعروف باسم "بازيليك" أو "كنيسة كبرى"، وتكاثرت الكنائس والرهبانيات، وأصدر الإمبراطور يوستيانوس قانونه الشهير عام 538 في تنظيم الحياة الكنسيّة وقضايا عديدة والتي جمعها وبوبها من قوانين وتقاليد وافرة سابقة، وكذلك فقد قدمت الكنيسة عددًا من المدارس الفلسفية والأدبية، كما يبدو في مجمل الأدب السرياني واليوناني؛ وقد شاع في ذلك العصر بنوع خاص كافة مظاهر الوثنية القديمة مثل إكرام الأيقونات وذخائر الشهداء والقديسين.
وكانت كل قبيلة أوروبية وثنية تظهر على مسرح التاريخ تبدأ بالهجوم الكاسح على المراكز المسيحية، وكانت الكنائس من أولى أهدافها لاشتهارها بالثراء، وبمجرد قهرهم للمسيحيين القدامى كانوا هم بدورهم يعتنقون المسيحية بجهود الرهبان المبشرين، وكان أول أهداف هؤلاء الرهبان هو زوجات الملوك لقدرتهم على التأثير عليهن واستهوائهن.
ووصلت المسيحية بفضل جهود المبشرين إلى كل مكان على وجه الأرض، وعلى الرغم من أن الدين، لاسيّما في كتابات القديس أوغوسطين، ينصّ على كفالة حرية غير المسيحيين وحقوقهم سواءً كانت دينية أم مدنية إلا أنه على مدى التاريخ حدثت اضطهادات ضد اليهود والوثنيين والمسلمين، وشمل أيضًا الفرق المسيحية الأخرى.
ومع بداية القرن السابع، سيطر الفرس على الهلال الخصيب ومصر، وأجزاء من اسيا الصغرى، وأعلنوا مذهب الطبيعة الواحدة مذهبًا رسميًا، غير أن هرقل استطاع استعادة البلاد في العقد التالي، وإذ أدرك أهمية توحيد الفريقين اختلق صيغة جديدة قائلة بطبيعتين إلهية وإنسانية في يسوع في مشيئة واحدة، وبدأت حلقة جديدة من الاضطهاد الشنيع والإرهاب لفرض عقيدته المقترحة، ثم فشلت محاولته، وقد أدينت من بعد بوصفها هرطقة في مجمع القسطنطينية الثالث عام 681.
ووسط هذا العالم الذي أرهقته الحروب العبثية بين الفرس وبين الروم والمثقل بالاضطهاد المذهبي ظهر الإسلام ليخرجهم من الظلمات إلى النور وليريحهم من شرور أنفسهم وسيئات أعمالهم، وأحرز جنود الإسلام انتصاراتهم الباهرة على إمبراطوريتي الفرس والروم معا، وتحرر الشرق الأوسط وشمال أفريقيا من عسف الإمبراطورية البيزنطية وهوسها العقائدي ليسقط من بعد تحت عسف أموي ثم عباسي أشد فسادا ووطأة وإجرامًا ومجردًّا من أكثر الفضائل الإنسانية، ولم ينته هذا العسف إلا باستقلال دول الشرق الأوسط على أيدي الولاة والذي بدأ باستقلال الأندلس سنة 138 هـ، ثم مصر سنة 254 هـ على يد أحمد بن طولون.
1