نظرات في المذاهب
05
أقسام (السنة) باعتبار سندها
تنقسم السنة باعتبار رواتها عن الرسول إلى ثلاثة أقسام: سنة متواترة، وسنة مشهورة، وسنة آحاد.
فالسنة المتواترة: هي ما رواها عن رسول الله جمع يمتنع عادة أن يتواطأ أفراده على كذب، لكثرتهم وأمانتهم واختلاف وجهاتهم وبيئاتهم، ورواها عن هذا الجمع جمع أكبر منه، حتى وصلت إلينا بسند كل طبقة من رواته، جمع لا يتفقون على كذب، من مبدأ التلقي عن الرسول إلى نهاية الوصول إلينا، ومن هذا القسم السنن العملية في أداء الصلاة وفي الصوم والحج والآذان وغير ذلك من شعائر الإسلام التي تلقّاها المسلمون عن الرسول بالمشاهدة، أو السماع، جموع عن جموع، من غير اختلاف في عصر.
كما سبق القول: تفاصيل مثل هذه الأمور العملية -على أهميتها- هي من الأمور الثانوية مقارنة بما هو مذكور عنها في كتاب الله الذي هو تبيان لكل شيء، فيجب الانشغال بجوهرها وتحقيق المقاصد الحقيقية منها، وهي أساسًا من ملة إبراهيم عليه السلام، وقد قام الرسول بحكم ما معه من تفويض بتحديد بعض أذكارها وتفاصيلها، ولا يجوز الخلاف بشأنها.
والسنة المشهورة في اصطلاحهم هي ما رواها عن رسول الله (صحابي) أو اثنان أو جمع لم يبلغ حد جمع التواتر، ثم رواها عن هذا الراوي أو الرواة جمع من جموع التواتر، ورواها عن هذا الجمع جمع مثله، وعن هذا الجمع جمع مثله، حتى وصلت إلى المدونين بسند، أو لطبقة فيه سمعوا من الرسول قوله أو شاهدوا فعله فرد أو فردان أو أفراد لم يصلوا إلى جمع التواتر، وسائر طبقاته جموع التواتر، ومن هذا القسم بعض الأحاديث التي رواها عن الرسول عمر بن الخطاب أو عبد الله بن عمر، ثم رواها عن أحد هؤلاء جمع لا يتفق أفراده على كذب، مثل حديث: "إنما الأعمال بالنيات"، وحديث: "بني الإسلام على خمس"، وحديث "لا ضرر ولا ضرار".
وسنة الآحاد في اصطلاحهم هي ما رواها عن الرسول آحاد لم تبلغ جموع التواتر بأن رواها عن الرسول واحد أو اثنان أو جمع لم يبلغ حد التواتر، ورواها عن هذا الراوي مثله وهكذا، حتى وصلت إلى المدونين بسند طبقاته آحاد لا جموع التواتر، ومن هذا القسم أكثر الأحاديث التي جمعت في كتب السنة وتسمى خبر الواحد.
والسنة المشهورة ليست قطعية الورود عن الرسول، ولكنها اشتهرت بسبب كثرة من نقلوها عن (الصحابي)، وهي لم تكثر هكذا إلا لأن المتسلطين لم يروا فيها خطرا عليهم، أو رأوا أن من مصلحتهم حصر الدين فيها، ومسألة السند ذاتها مشكوك فيها، ومن المعلوم أنها لم تظهر إلا من بعد اندلاع الفتن وتمزق الأمة وتفريق الدين وتغلب المنافقين على أهل الحق وعملهم على إبادة السابقين الأولين من المؤمنين والقضاء على آثار العصر النبوي.
ولقد قرروا وأقروا بأن خبر الواحد ظني الورود عن الرسول، لأن سنده لا يفيد القطع، ومع ذلك لم يلزموا أنفسهم بما قرروه، وهم إذا ما تلي عليهم خبر الواحد يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّدًا يبكون، ثم يكفرون بما يتعارض معه من آيات القرءان الكريم.
أما السنة العملية المتواترة فيجب الأخذ، وذلك إذا كان لها أصل في القرءان الكريم.
وأما ما يسمونه بـ(السنة المشهورة) أو بـ(سنة الآحاد) فهي ظنية الثبوت بإقرارهم وبإجماع الأمة وبحكم المنطق القويم، فلا يجوز اعتبارها أبدًا أصلا دينيا إلا إذا توفر دليل قرءاني، ورجحان الظن ليس بكافٍ لفرض عقيدة أو لوجوب العمل، ولا يجوز القياس على تحري القبلة، فالكلام هنا على فرض أصل ديني على الناس كافة إلى يوم الدين، أما تنفيذ الأمر بالتوجه إلى المسجد الحرام في الصلاة فهو أمر قطعي ينفذه كل فرد بقدر استطاعته، وهو ليس مكلفا إلا بما هو في وسعه، كذلك لا يجوز القياس على أحكام القضاة بين الناس، فالقاضي لا يجتهد في إحداث أسس وقوانين يحكم بناءً عليها، ولكنه يجتهد في إعمالها وتطبيقها بناءً على ما هو متوفر لديه من معلومات وأدلة وشهادات الشهود، هلا رأيتم مدى التدليس وفداحة المغالطة التي أوقعكم فيها السلف (الصالح)؟!
وما صدر عن رسول الله من أقوال وأفعال إنما يكون حجة على المسلمين واجبا اتّباعه إذا صدر عنه بوصف أنه رسول الله وكان مقصودا به التشريع العام والإقتداء.
والرسول إنسان كسائر الناس، اصطفاه الله رسولًا إليهم قال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ} [الكهف: 110].
لذلك فما صدر عنه بمقتضى طبيعته البشرية من قيام وقعود ومشي ونوم، وأكل وشرب ليس تشريعا، لأن هذا ليس مصدره رسالته، ولكن مصدره بشريته، فقد كان إنسانا عربيا يعيش كما يعيش قومه، ويلتزم بعاداتهم المعيشية، لكن إذا صدر منه فعل إنساني، ودلّ دليل على أن المقصود من فعله الاقتداء به، وكان ما ورد مصدقًا لما في كتاب الله فيلزم الأخذ به.
وما صدر عنه بمقتضى الخبرة الإنسانية والحذق والتجارب في الشئون الدنيوية من اتِّجار، أو زراعة، أو تنظيم جيش، أو تدبير حربي، أو وصف دواء لمرض، أو أمثال هذا، فليس هذا تشريعا أيضا، ذلك لأنه ليس صادرا عن رسالته، وإنما هو صادر عن خبرته الدنيوية، وتقديره الشخصي.
وهناك أيضًا ما صدر عنه ودلّ الدليل الشرعي على أنه خاص به، فلقد كان رسولا نبيا، وكان مكلفا بمهام عديدة خاصة به.
ويراعى أن قضاء الرسول في خصومة بين الناس يشتمل على أمرين: أحدهما إثباته وقائع، وثانيهما: حكمه على تقدير ثبوت الوقائع، فإثباته الوقائع أمر تقديري له وليس بتشريع.
وأما حكمه بعد تقدير ثبوت الوقائع فإنما هو بما أنزل الله، أي بالحق والعدل، وكذلك بالالتزام بالحكم القرءاني المنصوص عليه أو المستنبط من آيات الكتاب، ولهذا روى البخاري ومسلم عن أمّ سلمة أن رسول الله سمع خصومة بباب حجرته فخرج عليهم، وقال: "إنما أنا بشر، وإنه يأتيني الخصوم فلعل بعضهم أن يكون أبلغ من بعض فأحسب أنه صادق فأقضي له بذلك، فمن قضيت له بحق مسلم فإنما هي قطعة من النار فليأخذها أو ليتركها".
فالرسول كان منوطا به أن يحكم بين الناس بما في القرءان من مبادئ وسنن، ولكن الحكم الجزئي الصادر كان يتحدد بناءً على ما هو متوفر من أدلة، ومنها شهادات الشهود ومدى قدرة المتخاصمين على الدفاع عن قضيتهم.
لكل ذلك فليس من التشريع ما صدر عن رسول الله من أقوال وأفعال لكونه إنسانا عربيا يعيش في بيئة معينة في زمن معين أو بحكم خبرته في الأمور الدنيوية أو ما أصدره من أحكام في القضايا الجزئية أو ما ثبت أنه خاص به.
والرسول لم يكن بالطبع مجرد متلقٍ للأحكام، وإنما كان مأمورًا بأن يحكم بين الناس بما أنزله الله عليه من رسالة، وهو كان مبتلىً بذلك لكي يتحقق بكماله المنشود وليبعثه ربه مقامًا محمودا، وقصة اليهودي الذي اتُّهِم ظلمًا بالسرقة تبين حقيقة الأمر، قال تعالى:
{إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا (105) وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (106) وَلَا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا (107) يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا (108) هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَنْ يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا (109) وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا (110) وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْمًا فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (111) وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا (112) وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا (113)} النساء
فالرسول كان مأمورًا بأن يحكم بين الناس في قضاياهم الجزئية بما أنزل الله عليه في الكتاب، وهو بالطبع لم يكون مأمورًا بأن ينتظر نزول الحكم الجزئي في كل قضية، ولكن الوحي الإلهي كان يتدخل عندما تكون كل الأدلة ضد بريء مظلوم ولمصلحة خائنين؛ يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ.
أما ما صدر من أقوال وأفعال بوصف أنه رسول ومقصود به التشريع العام واقتداء المسلمين به فهو حجة على المسلمين وقانون واجب اتّباعه.
لذلك فسنة الرسول الحقيقية هي طريقة الرسول وما كان عليه في حياته، فهي كل ما صدر عنه من قول أو فعل مقصود به التشريع وتقديم الأسوة الحسنة للناس، فهي تجسيد للقرءان، فقد كان هو لقومه القرءان الحي والذِكْر المنزل.
*****
يتحدث الأبناء الضالون Prodigal Sons عن "السنة" وكأنها فيلم وثائقي تم التقاطه للرسول على مدى فترة البعثة أي على مدى 23 سنة، هذا الفيلم يسجل كل أفعاله وأقواله وحركاته وسكناته وتقريراته بل وصمته، وبناء على هذا التصور الباطل بنوا أبنية شامخة وكذَّبوا بآيات القرءان واتخذوه مهجورا مع ترديد بعض عبارات المجاملة التي لا تغني ولا تسمن من جوع!
والحق هو أن أكثر المؤمنين بالبخاري قد آمنوا به دون أن يروه، وبعض هؤلاء الجهلة يظنون أن الرسول هو الذي أملى أحاديثه على البخاري، وبعضهم الآخر يجهل العصر الذي ظهر فيه البخاري، وكلهم يؤمن أن كلام البخاري هو كلام الرسول كما أن القرءان كلام الله، وأن الدين منقسم بين الله وبين رسوله!!!!! فالأمر بطاعة الله عندهم يعني الأمر بالعمل بالقرءان، أما الأمر بطاعة الرسول فيعني الأمر بالعمل بما ورد في المرويات والآثار، والتي هي عندهم السنة، مع اعتبار أن لسنتهم هذه الحكم والقضاء على القرءان ونسخه عند التعارض، ومن الناحية العملية الواقعية فأكثر مادة دينهم مأخوذة من المرويات، وهم لا يأخذون من القرءان إلا ما يوافقها ويبينها ويوضح مشكلها ومبهمها ويفصل مجملها ويقيد مطلقها!!!!
وهم يتحدثون عن "السنة" وكأنها كتاب سماوي كالقرءان والتوراة والإنجيل، فيقولون "ورد في السنة" كما يقولون "ورد في القرءان"، ويقولون "ثبت في السنة" كما يقولون "ثبت في القرءان"!!!
بل إن مكانة هذا الكتاب المزعوم المسمى بالسنة عندهم تعلو بلا جدال على مكانة هذه الكتب، وهم يجعلون له الحكم والقضاء على القرءان ذاته بحجة أن القرءان مجمل يحتاج إلى تفصيل ومطلق يحتاج إلى تقييد، وناقص محتاج إلى إكمال وغير مبين فهو يحتاج إلى بيان، والحق هو ما قاله الله تعالى وليس ما قاله الأبناء الضالون، فالقرءان مبين ومبيِّن ومفصَّل وكامل وتبيان لكل شيء وأنه مهيمن على كل ما سواه من الكتب!
1