الإسلام والأمة والدولة والمذاهب المعاصرة
الإسلام والديمقراطيـة 2
في النظم الديمقراطية فإن الشعب هو الذي يملك نظريا السلطة السيادية على المجلس التشريعي والحكومة، ولكن هذا الشعب لا يمارس هذه السلطة إلا بحالته التي هو عليها ووفق المنظومة المعنوية الحاكمة عليه ومدى وعيه ودرجة نموه على كافة المستويات، فإذا كانت منظومات وآليات التخلف متجذرة فيه وكان هو الذي يمارس السلطة بالفعل فلن يزداد بالديمقراطية إلا تخلفا في حلقة جهنمية.
*******
مقارنة بين ملامح ومزايا النظام الديمقراطي الحقيقي وبين دين الحق:
1. الحكومة الديمقراطية هي تلك التي تمارَس فيها السلطة والمسؤوليات المدنية بواسطة كل المواطنين بصورة مباشرة أو عبر مندوبين عنهم يتم انتخابهم بحرية، وفي الحقيقة إن تمويل عمليات الدعاية اللازمة للمرشحين هي معضلة كبرى في ظل وجود أصحاب مصالح في الداخل والخارج، ولابد من وجود رقابة صارمة شديدة وقواعد للتمويل يتم الالتزام بها بدقة، وكل ذلك لا مجال لتحقيقه في الدول العربية مثلا، وهو في الغرب معلق بخطوط واهية، ولابد من دعم الشركات الكبرى للمرشحين، وهذه الدول مضطرة أيضا للاعتراف بجماعات الضغط وتقنين أوضاعها، ولعل المثل الفادح للظلم الذي يمكن أن يترتب على هذا النظام الدعم الأمريكي المطلق فكيان عدواني استيطاني هو إسرائيل، ولا يفوز هناك في أكثر الأحيان إلا من هو أقدر على تقديم دعم أفضل لإسرائيل.
2. الديمقراطية تتضمن مجموعة من المبادئ والممارسات تحمي حرية الإنسان وفقا للمفهوم الغربي، ولا شك أن مفهومهم لا يتفق تماما مع مفهوم الحرية الخاص بدين الحق، فهم يرون مثلا أن من الحرية الخضوع المطلق للغرائز والرغبات الجنسية مهما كانت شاذة أو مَرَضية، وهم في الواقع يقعون أسرى تجار الفواحش والمروجين لها، وهم يبالغون في التهوين من شأن هذه الأمور، هذا مع أنها قد تؤدي إلى انقراضهم! وهم يعانون الآن بالفعل من نقص العنصر البشري، ويسعون إلى تعويضه باستيراد عناصر بشرية من البلدان الأخرى، هذا في حين أن دين الحق يسهِّل للإنسان سبل الإشباع الآمن لرغباته الجنسية، ولا يرى فيها أي دنس، ولكنه يحرره من الخضوع إلى غرائزه التي لن يكون هناك سبيل إلى إشباعها إذا ما خضع خضوعا مطلقا لها، فدين الحق يوفر القيم والسنن التي تحقق التوازن اللازم لبقاء النوع والرقي الإنساني الجوهري.
3. تقوم الديمقراطية على احترام إرادة الأكثرية وإعطائها حق التشريع، وهذه نقطة خلاف بين دين الحق وبين الديمقراطية، فطبقا لدين الحق فإن حق التشريع في أي مجال هو لأولي الأمر في هذا المجال؛ أي للمؤهلين فيه عن جدارة واستحقاق وفق أسس معلومة ومتفق عليها، وعلى كل الناس أن يسلموا لهم بهذا الحق مثلما يسلمون للأطباء بحق تشخيص أمراضهم وتقرير العلاج الأمثل لها.
4. تقوم الديمقراطية على إعطاء من يمثلون الأكثرية السلطة على كل الناس، وهذه نقطة خلاف بين دين الحق وبين الديمقراطية، ففي دين الحق تُستمد السلطة من التأهيل والجدارة والكفاءة، فلا وجود لسلطة بمعنى التسلط على الناس، ولا وجود لسلطة الأكثرية، فهي مذمومة أينما ذُكرت في القرءان، وإنما يصنع القرار ويصدره من هو مؤهل لذلك من الصفوة من أولي الألباب، وليس من استحوذ على السلطة بالاقتراع أو التصويت أو أية وسيلة أخرى.
5. تتضمن الديمقراطية أسس حماية حقوق الفرد والأقليات، وهي متفقة في ذلك مع دين الحق، والمسلم يتعبد إلى ربه بالحفاظ على حقوق الإنسان واحترام كرامته، وفي ذلك تبجيل لمن خلقه وكرمه وفضله وحمله الأمانة واستخلفه في الأرض.
6. تحول الديمقراطية دون تحوُّل نظام الحكم إلى حكومة مركزية تمتلك كل السلطة، أما دين الحق فلا يعطي سلطة لإنسان على آخر إلا بحكم الجدارة والتأهيل في التخصص أو بحكم صلة شرعية.
7. كما تقوم الديمقراطية بالعمل على نزع صيغة التحكم المركزي بالسلطة ونقلها إلى المستويات المحلية والإقليمية، متفهمة أن الحكومة المحلية ينبغي أن تتصف بسهولة الوصول إليها من قبل الشعب والاستجابة لاحتياجاته قدر الإمكان، وهذا من الديمقراطية اقتراب من دين الحق.
8. تحمي الديمقراطية حقوق الإنسان الأساسية مثل حرية التعبير وحرية المعتقد وحق المساواة أمام القانون، وفي هذا فهي تتفق مع دين الحق، ولكن دين الحق يحمي الناس بقوة من شر بعضهم البعض.
9. تتيح الديمقراطية للناس كافة المشاركة بصورة كاملة في الحياة السياسية والاقتصادية والثقافية للمجتمع، وهي في ذلك متفقة مع دين الحق الذي يلزم الناس بالإيجابية والقيام بمهامهم كحاملين للأمانة وخلفاء في الأرض.
10. تجري الديمقراطيات انتخابات دورية حرة ونزيهة تتيح المشاركة الحرة فيها لجميع مواطنيها، فالانتخابات الديمقراطية لا يمكن أن تكون واجهة لدكتاتور أو حزب منفرد يتخفى وراءها، بل ينبغي أن تكون منافسة حقيقية على الفوز بتأييد الشعب، أما في دين الحق فيأخذ بنظام أولي الأمر، وفي كل مجال من المجالات يتم ترقية وتصعيد أولي الأمر وفقا لمعايير متفق عليها مثلما يحدث في المجال الأكاديمي أو المجال العسكري، وبالتالي يتم توفير طاقات وموارد الأمة التي تهدر في كل ما يتعلق بالتطبيق الديمقراطي بأحزابه وانتخاباته، كما يتم تجفيف الكثير من منابع الفساد.
11. في النظام الديمقراطي يتم اعتماد القرار وجعله ملزما عن طريق البرلمان، أما في دين الحق فيتم الوصول إلى القرار الأمثل في مجال بالشورى بين أولي الأمر في هذا المجال.
12. تُخضع الديمقراطية الحكومات لحكم القانون وتؤكد على أن كل مواطنيها يلقون الحماية بدرجة متساوية في ظل القانون وأن حقوقهم يحميها النظام القانوني، وهذا متفق مع دين الحق.
13. المواطنون في ظل الديمقراطية لا يتمتعون بالحقوق فحسب، بل إن عليهم مسؤولية المشاركة في النظام السياسي، الذي يحمي بدوره حقوقهم وحرياتهم، وهذا متفق مع دين الحق.
14. تلتزم المجتمعات الديمقراطية بقيم التسامح والتعاون والتوصل إلى الحلول الوسط، فالديمقراطيات تدرك أن الوصول إلى اتفاق عام على قضية خلافية يتطلب الوصول إلى الحلول الوسط التي قد لا تكون سهلة المنال دائما، ودين الحق يقدم منظومة من القيم والمبادئ لتحقيق التعايش السلمي بين الناس، ويجعل ذلك من مقاصده العظمى، أما الرأي في القضايا الخلافية في مجالٍ ما فهو يكون لأولي الأمر المؤهلين في هذا المجال، وآلية الوصول إلى الرأي الأمثل هي الشورى، والتي يقدم كل واحد منهم فيها حججه وبراهينه.
*******
إن من أفضل مزايا النظام الديمقراطي أنه أقل فسادا من غيره، فهو يجعل من الأحزاب المتنافسة على السلطة رقباء مجانيين على بعضهم البعض فضلا عما يوفره مبدأ الفصل بين السلطات والصحافة الحرة والشفافية.
*******
الديمقراطية هي شكل من أشكال الحكم السياسي قائمٌ بالإجمال علَى التداول السلمي للسلطة وحكم الأكثريّة بينما الليبرالية تؤكد على حماية حقوق الأفراد والأقليات، وهذا نوع من تقييد الأغلبية في التعامل مع الأقليات والأفراد بخلاف الأنظمة الديمقراطية التي لا تشتمل على دستور يلزم مثل هذه الحماية والتي تدعى بالديمقراطيات الليبرالية، فهنالك تقارب بينهما في أمور وتباعد في اُخرى يظهر في العلاقة بين الديمقراطية والليبرالية كما قد تختلف العلاقة بين الديمقراطية والعلمانية باختلاف رأي الأغلبية.
فالديمقراطية هي حُكمُ الأكثريّة لكن النوع الشائع منها (أي الديمقراطية الليبرالية) يوفر حمايةُ حقوق الأقليات والأفراد عن طريق تثبيت قوانين بهذا الخصوص بالدستور.
*******
إنه لابد للديمقراطية الحقيقية من الليبرالية، وإلا فإنها لن تعني إلا دكتاتورية الأكثرية، وستتحول إلى وسيلة لقمع الأقليات والمعارضة وقهرهم باسم القانون، فالليبرالية تضمن للأقليات والمعارضة السلمية حقوقهم وتحميهم من أن يضاروا بسبب اختلافهم مع الأكثرية، ولا يحقق ذلك في الغرب إلا الرقي الحضاري، وهي غير متوفر في البلدان العربية مثلا.
أما في دين الحق فاحترام حقوق الأقليات هو من احترام حقوق الإنسان وكرامته، والتي هي من لوازم أركان دينية عديدة ومن مقاصد الدين العظمى.
وفي النظام الديمقراطي لابد من التوازن بين السلطات التشريعيّة والتنفيذيّة والقضائِيّة فضلا عن الفصل فيما بينها، وهذا ما يحققه نظام أولي الأمر الإسلامي بطريقة تلقائية.
ولابد من أن يحقق النظام الديمقراطي التوازن بين المناطق والقبائِل والأعراق، وهذا يتمثل في اللامركزيّة وفي نظم التمثيل النيابي، وهذا يحققه دين الحق عن طريق أركانه الكبرى الملزمة للأمة وعن طريق مقاصده العظمى.
وكذلك لابد من العلمانية واحترام حقوق المواطنة للنظام الديمقراطي الحقيقي، فلا يجوز تسخير موارد الشعب لتقديم خدمات ومزايا مجانية لإحدى الطوائف الدينية على حساب الطوائف الأخرى، ودين الحق يعتبر كل المواطنين في بلدٍ ما شركاء في ملكية وطنهم، ولقد عبر القرءان عن مفهوم الوطن بتفاصيله ولوازمه، واحترام حقوق المواطنة هو من الحكم بالعدل والقيام بالقسط وتأدية الأمانات إلى أهلها واحترام حقوق الإنسان وكرامته.
*******
الشرعية سياسية للحكومات في الديمقراطية تتمثل في مدى قبول الشعب بها، وباستثناء من لديهم اعتراضات على مفهوم الدولة السلطوية والمتحررين (Libertarians) فإن أكثر الناس مستعدون للقبول بحكوماتهم إذا دعت الضرورة، والحق هو أن تدني مستوى الأكثرية يجعل من المستحيل وجود مجتمع بدون دولة.
والفشل في تحقيق الشرعية السياسية في الدول الحديثة عادة ما يرتبط بالانفصالية والنزاعات العرقية والدينية أو بالاضطهاد وليس بالاختلافات السياسية.
ولابد للديمقراطية من وجود درجة عالية من الرقي والتسامح، ذلك لأن العملية الانتخابية الدورية ستقسم السكان بالضرورة إلى فائز ومهزوم، لذلك فإن الثقافة الديمقراطية الناجحة تتضمن قبول الحزب المهزوم ومؤيديه بحكم الناخبين وسماحهم بالانتقال السلمي للسلطة، فقد يختلف المتنافسون السياسيون ولكن لابد أن يعترف كل طرف للآخر بدوره الشرعي، ، وهذا الشكل من أشكال الشرعية ينطوي بداهةً على أن كافة الأطراف تتشارك في القيم الأساسية الشائعة، وعلى الناخبين أن يعلموا بأن الحكومة الجديدة لن تتبع سياسات قد يجدونها بغيضة، لأن القيم المشتركة ناهيك عن الديمقراطية تضمن عدم حدوث ذلك، والحق هو أن رقي الشعب وسيادة منظومة قيم واحدة عليه تقلص الفروق بين الجماعات السياسية الممكنة إلى أدنى حد ممكن، ولكن من ناحية أخرى فإن مجموعات الضغط القوية قد تمحو أو تقلل إلى أدنى حدّ هي أيضا الفروق والاختلافات بين الأحزاب في أكثر المسائل أهمية، وبالتالي تتحول الممارسة الديمقراطية إلى خدعة كبيرة، ولا يتبقى من مزاياها إلا هامش صغير أكثره متعلق بالأمور الفردية والثانوية، ولكن يتبقى أيضا قوة الرقابة حيث كل واحد مشتغل بالعمل السياسي يكون رقيبا على الآخرين مما يقلل من الفساد إلى أدنى حد ممكن.
والمظاهر الديمقراطية مثل وجود الأحزاب والانتخابات الحرة لوحدها ليست كافية لكي يصبح بلد ما ديمقراطيا، لابد من تغير المنظومة المعنوية السائدة، ولابد أن يتجسد ذلك في تغير مناسب في ثقافة مؤسسات الدولة والتعليم ووسائل الإعلام، وتختلف الشعوب في إمكانية تحقق ذلك أصلا، وفي الوقت اللازم لتحقيقه إذا كان ممكنا.
والذي يعنينا أساسا هو الديمقراطية الليبرالية، وهي شكل من أشكال الديمقراطية تكون فيها السلطة الحاكمة خاضعة لسلطة القانون ومبدأ فصل السلطات واحترام حقوق الإنسان والمواطنة، ويضمن دستور الدولة للمواطنين (وبالتالي للأقليات أيضا) حقوقا لا يمكن انتهاكها.
*******
إن منظومة القيم الإسلامية تتفق في كثير من الأمور مع المنظومة العلمانية الليبرالية السائدة في النظم الديمقراطية الحقيقية، ولكنها تختلف أيضا عنها في الأمور الجوهرية الأساسية.
فالمنظومة الليبرالية تعتبر الشعب بحالته التي هو عليها مصدر السيادة والتشريع والسلطات والقيم، بينما مصدر القيم في الإسلام هو كتاب الله، وبصفة خاصة منظومة أسماء الله الحسنى، والإسلام يتضمن ما يؤدي إلى الرقي بالكيانات الإنسانية وتزكيتها، ومنظومة القيم الإسلامية لا تهمل شأن الأمور الدنيوية، ولكنها لا تنكر الأمور الجوهرية مثلما تفعل المنظومة الليبرالية، وكون المنظومة الليبرالية لا تمنع من ممارسة الدين لا يعني أنها تأخذ في الاعتبار الأمور الجوهرية المتعلقة بمكانة الإنسان في الكون.
*******
ليس من الحقانية ولا من الموضوعية المقارنة بين جزء من نظام وبين نظام آخر بصورته الكاملة، فالجزء لا يمكن أن تتضح مفاهيمه ودلالاته إلا عبر معرفة موقعه ووزنه النسبي من نسيج النظام الذي ينتمي إليه، يمكن المقارنة بين الإسلام وبين الليبرالية كنظامين لرؤية الكون وكمصدرين للقيم، وتصح المقارنة أيضا عندما يتم مقارنة جزء من نظام مع جزء يقابله من النظام الآخر.
*******
إن الديمقراطية طبقاً للتعريف الشائع هي حكم الشعب بالشعب لصالح الشعب، وهذا ما لم وما لن يتحقق أبدا إلا في تجمع صغير من الناس مثلما كان الحال في المجتمعات البدائية أو في الكيان المعروف بالمدينة-الدولة؛ City-state، وهذا التعريف يمثل بالأحرى المقصد من الديمقراطية، أو هو أمل لا سبيل إلى تحقيقه، ولا يجوز تعريف الأمر بالمقصد منه، وكم من فئة ادعت أنها هي الشعب وأن لها وحدها حق التحدث باسم الشعب، والذي يحدث عادة هو أن فئة معينة تمثل أصحاب مصالح مشتركة هي التي تملي إرادتها على هذا الشعب وتسيره وفق مصالحها هي الخاصة.
وعلى سبيل المثال فلم يكن من صالح الشعب الأمريكي مثلًا الزج به في حرب فيتنام ولا في العراق، وليس من مصلحته مناصرة إسرائيل، بل إن مناصرة إسرائيل هي ضد مصالح أمريكا والشعب الأمريكي وقد تؤدي في النهاية إلى تفتيت أمريكا أو إضعافها على الأقل، ولكن توجد فئة تمكنت من فرض إرادتها باستعمال شتى الوسائل على سائر الشعب هناك،والقوانين والسنن الإلهية الكونية تحتم أن يدفع الكيان الأمريكي ثمن كل الجرائم التي ساقه إلى اقترافها قادته أو جماعات الضغط التي تملي إرادتها عليه.
فالديمقراطية في الحقيقة هي جماع قيم وآليات لضمان سلمية الصراع بين مراكز قوي مختلفة تود تحقيق مقاصدها وضمان مصالحها الخاصة.
*******
1