top of page

نظرات في المذاهب

25c

المُتَشَابِه3

إن لكل الآيات التي أضيفت فيها العين أو الأعين لله معانيها الظاهرة الواضحة ولم يكن المراد منها أبداً إثبات الجارحة المعلومة لله، فمن أراد منها إثبات وجود أعين في الكيان الإلهي كما توجد العينان في وجه الإنسان فقد تقوَّل على الله وكذب بآياته، هذا مع العلم بأن كل أعين الكائنات هي له من حيث أنه خالقها ومالكها ووارث إدراكاتها.

*******

قال ابن حنبل: "إنما التشبيه أن يقال يد كيد أو وجه كوجه، فأما إثبات يد ليست كالأيدي، ووجه ليس كالوجوه فهو كإثبات ذات ليست كالذوات، وحياة ليست كغيرها من الحياة، وسمع وبصر ليس كالأسماع والأبصار".

فذلك نص صريح منه على أنه يثبت اليد بالمفهوم الدارج وإن كان ينفي مشابهة اليد ليد المخلوقين، وهذا لا يغني شيئا، فلا يمكن مثلا أن تتشابه يد إنسان مع يد إنسان آخر، ويحق للإنسان مثلا أن يقول ليس كمثل يدي يد مثلما أنه ليس كمثل بصماتي بصمات وليس كمثلي إنسان آخر، ولو نطق الهرّ مثلا لقال نفس القول، إنه يجب أن يعلم كل إنسان أن الله تعالى عندما ينفي شيئا عن نفسه فنفيه قوي مطلق وأن الكيان الإلهي ليس كمثله أي شيء على الإطلاق وأن حقيقته لن تخطر أبدًا ببال مخلوق ولا حقيقة أي سمة من سماته.

إنه يجب إدراك أن الله سبحانه يتعالى علوا مطلقا على كافة التصورات والمفاهيم البشرية وأن لغات البشر لا تصلح للتعبير عن حقيقته المطلقة العلوية، ولا يجوز استعمال الآيات المتشابهات وسيلة للتمذهب وتفريق الدين.

إن لغات البشر لم تصلح للتعبير عن حقائق وخصائص الكيانات الدقيقة كالإلكترون أو الكوارك أو الجلون واضطر الإنسان مثلا إلى القول بأن للكوارك ستة أنواع تسمى بالنكهات وهي: العلوي، السفلي، الساحر، الغريب، القمي، والقعري، وكل هذه الصفات لا توجد لها أدنى علاقة بمعانيها الأصلية، ومن قبل اضطروا للقول بأن للجسيمات طبيعة مزدوجة؛ جسيمية وموجية.

فالتشابه Ambiguity ينشأ من استعمال اللغة المألوفة للناس للتعبير عن حقائق غير مألوفة لهم.

*******

يقول الله تعالى: 

{وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابا ثِقَالاً سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}الأعراف:57، ويقول: {وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورا} الفرقان:48، ويقول: {أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} النمل:63.

إن القرءان قد أنزل بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ، والآيات تعبر في أسلوب عربي بليغ عن بعض الأفعال الإلهية التي هي تجليات للرحمة الإلهية فالغيث من تجليات الرحمة وبين يدي الرحمة أي قبيل نزول الغيث فليس لرحمة الله يديْن بالمعنى اللغوي الدارج.

وكذلك وصف الله القرءان بما ورد في الآيات الآتية:

{قُلْ مَن كَانَ عَدُوّاً لِّجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللّهِ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ}البقرة97، {نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنزَلَ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ }آل عمران3، {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ عَمَّا جَاءكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً وَلَوْ شَاء اللّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَـكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُم فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ إِلَى الله مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ }المائدة48، {وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللَّهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ }فاطر31، {قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَاباً أُنزِلَ مِن بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُّسْتَقِيمٍ}الأحقاف30.

فالقرءان مصدق لما بين يديه أي مصدق للتوراة والإنجيل إذ تقدماه في الظهور وكانا متاحين للناس عند نزوله، ولا يجوز لأحدهم أن يقول مثلا إن للقرءان يدين بلا كيف ولا تشبيه، أو للقرءان يدين كما يليق بذاته.

*******

من حيث عالم الشهادة فالمفردة اللسانية توضع عادة في البداية للدلالة على أمر مادي حسي، وبارتقاء الإنسان ترتقي اللغة معه ويتسع استعمال المفردة أو اللفظ فتستعمل للدلالة على أمر آخر قد يكون معنوياً لعلاقة لزوم بين الأمرين، وقد يكتسب اللفظ دلالة اصطلاحية إضافية أي دلالة شرعية دينية، وتوجد لبعض الألفاظ في الكتاب العزيز كافة الاستعمالات مثل لفظي الصلاة والزكاة، ويوجد للكثير من الألفاظ استعمالان أو أكثر.

وعلى سبيل المثال فلفظ اليد في اللسان العربي موضوع أصلًا للدلالة على الجارحة المعلومة، وهو مستعمل على سبيل التوسع وطبقًا للأسلوب اللغوي المستعمل للدلالة على بعض السمات المتعدية والتي لها مجالات للفعل والعمل والتأثير الإيجابي وعلى ما يمكن أن يصدر عن الكائن بمقتضى هذه السمات، ومن هذه السمات القدرة والقوة والنصر والتأييد والعون والإنعام والإنفاق والتفضل والملك والسلطة والهيمنة والكرم والبسط والعطاء والأخذ والبطش وغير ذلك، ولقد نص القرءان على أن كل إنسان سيحاسب على ما قدمت يداه، قال تعالى:

{وَلَن يَتَمَنَّوْهُ أَبَدا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمينَ }البقرة95، {ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ} آل عمران182، {فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَآؤُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ إِحْسَانا وَتَوْفِيقا}النساء62، {ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ}الأنفال51، {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْراً وَإِن تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَن يَهْتَدُوا إِذاً أَبَداً}الكهف57، {ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ }الحج10، {وَلَوْلَا أَن تُصِيبَهُم مُّصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ}القصص47، {وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِهَا وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ }الروم36، {فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ وَإِنَّا إِذَا أَذَقْنَا الْإِنسَانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِهَا وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنسَانَ كَفُورٌ }الشورى48، {وَلَا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَداً بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ }الجمعة7، {إِنَّا أَنذَرْنَاكُمْ عَذَابا قَرِيبا يَوْمَ يَنظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَاباً }النبأ40.

فالمقصود بـ(مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ) كل ما اقترفه الإنسان من أعمال اختيارية كردّ فعل على الأوامر الدينية، وليس على ما فعله بيديه فقط.

أما استعمال اللفظ (يد) بكافة صوره مضافا إلى لفظ الجلالة فهو يدل على أن لله كيانا حقيقيا له الفعالية المطلقة والتأثير والإيجابية وللدلالة على تنزه الله عن تصورات البشر وللإشارة إلى استعماله لآلاته من الملائكة وغيرهم.

ووصف اليدين بصفة ما إنما هو وصف لمن أضيفتا إليه، فوصف اليدين بأنهما مبسوطتان مفسر بقوله تعالى: ينفق كيف يشاء، ووصف اليدين بأنهما مغلولتان يشير إلى عجز من أضيفتا إليه عن الإنفاق أو امتناعه عنه.

أما قوله تعالى: 

{إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَن نَّكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً }الفتح10،

 فهو ليس نصًّا في إثبات صفة اليد كما يقول السلفية وإنما هو تشريف للرسول وبيان بمدى خطورة المبايعة وعظم تبعاتها، وكل ذلك مفسر بقوله تعالى: {فَمَن نَّكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً}.

ولو كانت اليد صفة لازمة للذات لا تنفك عنها كما يقولون لما تحدثت عنها الآية هكذا ولما تغيرت أبداً عما كانت عليه.

*****

إن من لوازم التجسيم إثبات الجهة إثبات الأبعاض والجوارح المعلومة أو الارتباط بالأمور الزمانية والمكانية أو التشبيه الصريح أو المبهم بالأمور المادية وكلها أمور قد قال بها السلفية؛ فهم يقولون إنهم يثبتون المعنى المعلوم، وكان عليهم أن يعلموا أن انتساب العبارة اللغوية إلى الله تعالى يكسبها بالضرورة معاني فوق التصور البشري ويجعلها تجل عن المعاني الدارجة.

*****

إن للمفردة (وجه) معاني عديدة في لسان العرب، أي كانت معلومة للعرب قبل الرسالة، لذلك فالمقصود بهذا اللفظ إنما يحدده السياق الذي ورد فيه، فلا يجوز القطع بأنه دائما هو الجزء المعلوم من الجسم، قال تعالى:

{بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِندَ رَبِّهِ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} البقرة112، {وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِّمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لله وَهُوَ مُحْسِنٌ واتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَاتَّخَذَ اللّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً}النساء125، {إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفاً وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} الأنعام79، {وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ}يونس105، {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} الروم30.

فالمقصود أنه أخلص كيانه كله لله وليس وجهه فقط، وخص الوجه لأنه أشرف الأعضاء وسيدها، وهو الذي يتضمن معظم الكيان المادي المناظر للقلب الإنساني.

قال تعالى: 

{فَإنْ حَآجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُل لِّلَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ وَالأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُواْ فَقَدِ اهْتَدَواْ وَّإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاَغُ وَاللّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} آل عمران20 {وَمَن يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} لقمان22

والمقصود أنه أسلم كيانه كله لله وليس وجهه فقط، وخص الوجه لأنه أشرف الأعضاء؛ فغيره أولى.

قال تعالى: 

{وَلِلّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللّهِ إِنَّ اللّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} البقرة115

، إشارة إلى إحاطته بكل الجهات أي بالمكان، وبالتالي فهو منزه عنه، والآية إشارة أيضًا إلى إحاطته بكل المحسوسات والمعنويات والظواهر والبواطن، فلا مفر منه إلا إليه، فمن فر من رضاه فسيقع في غضبه، وكل من طلب أمراً فإنما هو من آثار ومقتضيات اسم من أسمائه.

قال تعالى: 

{لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَـكِنَّ اللّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَلأنفُسِكُمْ وَمَا تُنفِقُونَ إِلاَّ ابْتِغَاء وَجْهِ اللّهِ وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ}البقرة272، {وَلاَ تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِم مِّن شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ}الأنعام52، {وَالَّذِينَ صَبَرُواْ ابْتِغَاء وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَأَنفَقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلاَنِيَةً وَيَدْرَؤُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ }الرعد22، {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً }الكهف28، {فَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذَلِكَ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ }الروم38، {وَمَا آتَيْتُم مِّن رِّباً لِّيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِندَ اللَّهِ وَمَا آتَيْتُم مِّن زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ }الروم39، {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لَّا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ }الروم43، {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء وَلَا شُكُوراً }الإنسان9، {إِلَّا ابْتِغَاء وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى} الليل20.

أي إنهم حال صدور أي عمل صالح منهم مثل إنفاق المال أو الدعاء أو الصبر يكونون مخلصين تماما لربهم لا يبتغون ثناءً من الناس.

قال تعالى فيما يرويه على لسان إخوة يوسف: 

{اقْتُلُواْ يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضاً يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُواْ مِن بَعْدِهِ قَوْماً صَالِحِينَ} يوسف9.

والمراد بالتعبير "يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ" أنه سيقبل عليكم ولن يلتفت من بعد لغيركم لأنه لن يجد من يشغله عنكم.

قال تعالى: 

{وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} الحج11

فالمقصود بالتعبير "انقلب على وجهه" أنه رجع إلى الكفر، فالتعبير مجازي؛ فهو لن ينقلب على وجهه بالمعنى الحسي الدارج المعلوم.

قال تعالى: 

{وَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} القصص88، {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ{26} وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ} الرحمن.

الوجه هاهنا هو الذات أي الكيان الإلهي، والذي يتوجه إليه بالعبادة المحض أكابر المقربين، فلا يجوز أن يكون غير ذلك وإلا للزم هلاك اليد والساق والرجل والقدم.... وغير ذلك مما أثبته السلفية، وإذا كان الوجه صفة كما يقولون للزم هلاك سائر الصفات الأخرى، وهم –بلا ريب- من القائلين بالصفات.

*****

من الواضح البين أن لفظ الوجه لم يستعمل أبدا للإشارة إلى عضو في كيان أو إلى جزء من كيان، فالمفردة (وجه) عندما تضاف إلى الله تشير إلى الكيان الكبير العظيم الذي له كل الأسماء أي السمات والقوى والإمكانات والذي له الإحاطة بكل شيء والذي له مع ذلك الغيب المطلق، ولذلك لا يجوز القول بأنه محض صفة، فالوجه هو ما يواجه به كل ما هو من دونه، فهو يشير إلى جماع الأسماء الحسنى، أما من يرد بعمله وجه الله فهو من لا يريد بعمله ما هو من دونه، فالتعبير (يُرِيدُونَ وَجْهَهُ) إشارة إلى أعلى درجة من درجات الإخلاص.

قال تعالى: 

{وَلِلّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللّهِ إِنَّ اللّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} البقرة115،

إشارة إلى إحاطته بكل الجهات أي بالمكان، وبالتالي فهو منزه عنه، والآية إشارة أيضًا إلى إحاطته بكل المحسوسات والمعنويات والظواهر والبواطن، فلا مفر منه إلا إليه، فمن فر من رضاه فسيقع في غضبه، وكل من طلب أمرًا فإنما هو من آثار ومقتضيات اسم من أسمائه.

قال تعالى: 

{وَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} القصص88، {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ{26} وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ}الرحمن.

الوجه هاهنا هو الذات أي الكيان الإلهي، والذي يتوجه إليه بالعبادة المحض أكابر المقربين، فلا يجوز أن يكون غير ذلك وإلا للزم هلاك اليد والساق والرجل والقدم.... وغير ذلك مما أثبته السلفية، وإذا كان الوجه صفة كما يقولون للزم هلاك سائر الصفات الأخرى، وهم –بلا ريب- من القائلين بالصفات.

قال تعالى:

{إِنَّ رَبَّكُمُ اللّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ}الأعراف54، {فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُلْ حَسْبِيَ اللّهُ لا إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} التوبة129، {إِنَّ رَبَّكُمُ اللّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الأَمْرَ مَا مِن شَفِيعٍ إِلاَّ مِن بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اللّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ}يونس3، {وَهُوَ الَّذِي خَلَق السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاء لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَلَئِن قُلْتَ إِنَّكُم مَّبْعُوثُونَ مِن بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِنْ هَـذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ}هود7، {اللّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُّسَمًّى يُدَبِّرُ الأَمْرَ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لَعَلَّكُم بِلِقَاء رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ}الرعد2، {قُل لَّوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذاً لاَّبْتَغَوْاْ إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلاً }الإسراء42، {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى }طه5، {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ}الأنبياء22، {قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ }المؤمنون86، {فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ }المؤمنون116، {الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيراً }الفرقان59، {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ}النمل26، {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُم مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ} السجدة4، {وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُم بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ }الزمر75، {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ }غافر7، {رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنذِرَ يَوْمَ التَّلَاقِ }غافر15، {سُبْحَانَ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ}الزخرف82، {هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَاء وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} الحديد4، {وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ }الحاقة17، {ذِي قُوَّةٍ عِندَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ} التكوير20، {ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ}البروج15.

إنه بالنظر في الآيات المذكورة لا يجوز الاكتفاء بالقول بأنه سبحانه على العرش، ولكن يجب القول بأنه استوى على العرش.

ويحاول السلفية إثبات عرش مادي حسي لذات الله وإثبات استقرار الله على هذا العرش، وهم يرون الاستواء استقرارا أو جلوسا، وهم يقولون دائما إن الاستواء معلوم، بمعنى أنهم يريدون الأخذ بالمعنى الدارج المألوف والمعروف للناس، وللخروج من الورطة التي يوقعهم فيها مثل هذا القول فإنهم يتحفظون قائلين: "والكيف مجهول" أو "هو استواء يليق بجلاله وعظمته"، ومثل هذا القول يتضمن في الحقيقة نفي ما حاولوا إثباته، فهم بذلك لم يقولوا شيئا إذا كانوا جادين في تحفظهم، ولكنهم للأسف ينطلقون من تصور مادي حسي للذات الإلهية.

ولقد أخطأ المتكلمون بقولهم بأن تأويل (استوى) هو استولى، كما أخطأ السلفية في قولهم بأن استوى لها المعاني: استقر أو علا أو ارتفع أو صعد عندما تنسب إلى الله تعالى، والحق هو أن الاستواء على العرش هو شأن إلهي مفسر بمجموع ما ورد في الآيات التي جاء فيها هذا الاصطلاح، والمعاني التي تتضمنها الآيات هي ما يجب أن يعرفه كل مسلم وأن يعمل بمقتضاه.

ويجب العلم بأن الاستواء على العرش ليس مثلا كالاستواء إلى السماء، قال تعالى:

{هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } البقرة29، {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ}فصلت11.

1

bottom of page