top of page

قرية متميزة (مجموعة قصصية)

مدينة خسيسة 1

كانت توجد مدينة تقع في موقع نادر ساحر، كانت أشبه بالواحة الجميلة وسط الصحاري المقفرة، كانت في الزمن القديم منتجعًا راقيا، ولكن جار عليها الزمن وفقدت مكانتها القديمة، هجرها أكثر سكانها من الطيبين المتحضرين، لم يبق منهم إلا قلة غير مؤثرة ومغلوبة على أمرها.

أصبح أكثر سكانها من الجهلة والسفلة والمتخلفين، تسبب احتكاكهم المستمر ببعضهم وتفاعلهم فيما بينهم في تكريس سوء أخلاقهم وتردي أحوالهم.

كانوا يتباهون بسوء الخلق وممارسة كافة الرذائل، لم يكن للدين في حياتهم أي شأن أو تأثير، بل كانوا يتبادلون سبَّه بمناسبة وغير مناسبة، كان سبّ الدين أكثر ما يتبادلونه فيما بينهم في الأفراح والأتراح، وفي الجدّ والمزاح، وفي المشاجرات والمجاملات، كانت علامة رفع الكلفة وتوطُّد الصداقة بين اثنين منهم أن يسبّ أحدهما للآخر دينه وهو يضحك أو يبتسم، أما علامة إعلان العداء والتأهب للقتال فهو أن يسب له دينه وهو يزمجر ويكشر عن أنيابه ويتطاير من عينيه الشرر.

كان يظهر من بينهم من حين لآخر من يؤرقه تردي أوضاعهم وتدهور أحوالهم فيكادون يكونون عليه لبدا أو يمزقونه إربا، وفي النهاية يُضطر إلى الفرار من وجوههم وهجر مدينتهم، ثم تُصبح سيرته من بعد تُروى ليأخذوا منها العظة والعبرة ويعلم الكبير والصغير أن تغيير الحال من المحال.

أما مسجد القرية فكان شبه مهجور، لا يعرفه الناس إلا في الجنائز وعند صلاة الجمعة، لم يكن خطيبهم نفسه يعرف شيئا عن الدين، كان كل ما يعرفه هو أن يدعو على أعداء مجهولين لم يرهم هو ولا أحد من أهل المدينة، ولكنهم كانوا يستبسلون معه في الدعاء خاصة عندما يدعو ربه أن يغنمهم أطفالهم ونساءهم، كان بعضهم لشدة استبساله في الدعاء وتخيله في نفسه مدى حسن نساء هؤلاء الأعداء المجهولين يُنزل ثم يكمل صلاته بلا حرج.

وما إن تنتهي الصلاة إلا ويندفع طوفان رهيب نحو الباب، والويل لمن يوقعه حظه التعس أمام هذا الطوفان، حدث ذات مرة أن تعثر طفل أمامهم وهم يتدافعون نحو الباب فسحقته أقدامهم. 

كان يوجد في المدينة جزارة اسمها جزارة الأمانة، كان يديرها جزار متمرس، كان هذا الجزار منفردا بهذه المدينة، تمكن من فرض نفوذه ومطاردة كل من تسول له نفسه منافسته والقضاء عليه بقسوة.

كانت أسرته التي تربى فيها من القلة المتمسكة بشيء من الفضيلة، كان في بدايته أمينا لكون من علمه المهنة قد أفهمه أن الأمانة هي التي تربح في النهاية، كما تعلم من أسرته أن عقاب الغش مُعجَّل.

ولكنه ذات مرة اشتد به الإملاق، كان يدرك جيدا أساليب الغش، ولكنه كان يتعفف عنها، ويرتجف من مجرد التفكير في اقتراف شيءٍ منها.

لجأ إلى الناس، وخاصة أولئك الذين كان قد أحسن إليهم في مواطن عديدة، لم يجد منهم إلا الإعراض والازدراء، بدأن نقمته تشتد على الناس، أخذ يلتمس لنفسه العذر في القصاص والانتقام لنفسه منهم.

لجأ إلى شيء من الغش وهو يرتعد، كان يتصور أنه سينكشف سريعًا أمره، وأنه سينزل به عقاب عاجل، أرهقه السهاد طوال ليلته الأولى بعد الغش، ولما لم يحدث له أي شيء أخذ السهاد يقل يوما بعد يوم، أما هو فتشجع، أخذ غشه يتزايد، حتى أصبح دأبه وديدنه.

أخذت أرباحه تتصاعد، كان يبرر ذلك لنفسه أولا بشدة الاحتياج، ولكن لما أثرى لم يكف عن الغش والتطفيف وإنما زاد فيهما، واختلق لنفسه مبررات جديدة مع وعد قطعه على نفسه بالكف عن ذلك إذا وصلت أرصدته في البنوك إلى مبلغ معين، فلما حقق هدفه تمادى في الغش والتطفيف بحجة انخفاض قيمة العملة، وفي النهاية وقع أسير حب الغش والتطفيف، أصبح يجد لذته في خداع الناس وأكل أموالهم بالباطل.

1

bottom of page